خطرة الطيف

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

خطرة الطيف

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: أحمد مختار العبّادي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٣

٧٦٠ ه‍ ، واضطر إلى الفرار إلى المغرب صحبة وزيره ابن الخطيب وبعض أفراد حاشيته ومماليكه. وقد دوّن ابن الخطيب هذه الرحلة في كتابه المعروف باسم : (نفاضة الجراب في علالة الاغتراب) (١٥)

هذا الكتاب يعتبر من مؤلفات ابن الخطيب الجليلة ، وقد نصّ على ذلك هو نفسه في متن هذا الكتاب (١٦) ، وفي بعض مؤلفاته الأخرى (١٧) ، كما أشار بذلك أيضا بعض المؤرخين القدامى والمحدثين ممن سيأتي ذكرهم فيما بعد إن شاء الله. على أن ابن الخطيب لم يحدّد التاريخ الذي دوّن فيه كتابه هذا ، وقد ورد في كتاب الإحاطة للمؤلف نفسه ، عبارة (في آخر لوحة ٥٠٠) (١٨) لا أشكّ أنها من وضع الناسخ ، يقول فيها : (... من كتاب نفاضة الجراب لابن الخطيب المذكور رحمه‌الله ، الذي ألّفه بالعدوة (أي عدوة المغرب) بعد صرفه عن الأندلس واستقراره بالعدوة بآخرة من عمره وقرب وفاته ، ولذلك سمّاه نفاضة الجراب). وواضح من هذه العبارة أن ناسخ الإحاطة يريد أن يقول إن تأليف نفاضة الجراب حدث ببلاد المغرب في الفترة التي بين ٧٧٣ ـ ٧٧٦ ه‍ وهي الفترة الأخيرة من حياة ابن الخطيب التي انتهت بمقتله هناك. غير أن شواهد الأمور تدل دلالة قاطعة على أن تأليف هذا الكتاب كان في فترة أخرى متقدمة قضاها ابن الخطيب بالمغرب أيضا حينما نفي مع سلطانه المخلوع محمد الغني بالله ، وهي الفترة التي بين ٧٦٠ إلى ٧٦٣ ه‍. والأدلة على ذلك كثيرة نكتفي منها بالآتي :

(أولا) جميع حوادث هذا الكتاب سواء أكانت تاريخيّة أو أدبيّة أو اجتماعيّة لا تتعدّى نطاق بلاد المغرب في هذه المدّة بالذّات ، أو بعبارة

__________________

(١٥) مخطوط بالاسكوريال رقم ١٧٥٥

(١٦) نفاضة الجراب لوحة ١٥٩

(١٧) الإحاطة ج ١ ، ص ٢٣٧ ـ ٢٣٩ ، ج ٢ ، ص ٢١٦ (طبعة القاهرة ١٣١٩ ه‍) ، الإحاطة نسخة الاسكوريال لوحات ٣٤٦ ، ٤٣٣ ، ٥٠٠ ، انظر كذلك (اللمحة البدرية في الدولة النصرية ص ٩١).

(١٨) نسخة الاسكوريال رقم ١٦٧٣

٢١

أخرى ، هذا الكتاب يعدّ بمثابة مذكّرات شخصيّة للمؤلّف عن المدة التي قضاها منفيّا بدولة بني مرين قبل عودته ثانية إلى غرناطه لتسلّم مهام منصبه من جديد.

(ثانيا) ابن الخطيب في كتابه المعروف باسم (اللمحة البدرية في الدولة النصرية) يشير إلى أنه بدأ تدوين هذا الكتاب في منفاه بالمغرب وانتهى منه في أول عام ٧٦٥ ه‍ ، ثم ينصح القارئ بالرجوع إلى كتابه (نفاضة الجراب) للاستزادة من التفاصيل والأخبار (١٩) وهذا يدل على أن تأليف النفاضه كان قبل عام ٧٦٥ ه‍ أي خلال الفترة التي أشرنا إليها آنفا.

هذا عن تاريخ تأليف الكتاب أما عن عدد أجزائه ، فابن الخطيب يشير في آخر النسخة التي لدينا ، أن الكتاب يقع في ثلاثة أسفار (٢٠) ولكنه يعود فيناقض نفسه في كتاب الإحاطة فيقول : (ونفاضة الجراب في أربعة أسفار جليلة) (٢١) ولقد أيّد هذا العدد الأخير من جاء بعده من المؤرخين سواء أكانوا قدامى أو محدثين نذكر منهم المقّري في كتابيه نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب (٢٢) ، وأزهار الرياض في أخبار عياض (٢٣) ، كذلك نذكر المستشرق الهولندي دوزي في كتابه عن بنى عباد ملوك إشبيلية (٢٤) وكذلك العالم الإسباني بونس بويجس Pons Boigues في المعجم الذي أفرده للمؤرخين والجغرافيين العرب في إسبانيا (٢٥).

وكيفما كان الأمر في عدد أجزاء هذا الكتاب ، فالمهم هنا أن ما وصلنا منه هو جزء واحد فقط وهو الجزء الثاني باعتراف المؤلّف نفسه في آخر

__________________

(١٩) انظر (ابن الخطيب : اللمحة البدرية ص ٩١ ، ١١٣ ، ١١٩)

(٢٠) نفاضة الجراب لوحة ١٥٩)

(٢١) الإحاطة في أخبار غرناطة لوحة ٤٣٣ (نسخة الاسكوريال)

(٢٢) الجزء التاسع ص ٣٠٤

(٢٣) الجزء الأول ص ١٨٩

(٢٤) انظرR.Dozy : Loci de Abbadidis.Tome (III.P.٧٦١)

(٢٥) راجعFrancisco Pons Boigues : Ensayo Bio. Bibliografico sobre Los Historiadores Y Geografos Arabigo. Espanoles P ٣٤٣

٢٢

كتابه إذ يقول : (انتهى ، ويليه الجزء الثالث).

والجزء الذي وصلنا نسخة وحيدة بمكتبة الاسكوريال تحت رقم ١٧٥٥ وتقع في ١٥٩ ورقة من الحجم الكبير ، كل ورقة تحتوي على تسعة عشر سطرا مكتوبة بخط مغربي لا يقرأ بسهولة.

وكان الراهب اللبناني الغزيري قد سبق أن أشار في فهرسه المكتوب باللاتينية عن الكتب العربية بالاسكوريال ، إلى وجود الجزء الثالث من نفاضة الجراب تحت رقم ١٨١١ (٢٦).

ولقد تبعه في هذا الرأي العالم الإسباني بونس بويجس (٢٧) والمستشرق الألماني بروكلمان (٢٨) ثم جاء المستشرق الفرنسي ليفي بروفنسال في الجزء الخاص الذي أفرده لكتب التاريخ فقط بالاسكوريال مكملا في ذلك فهرسة درنبرج Derenbourg فقال : إن نسخة نفاضة الجراب التي تحمل رقم ١٨١١ غير موجودة إطلاقا ، وإن النسخة الموجودة من هذا الكتاب هي التي تحمل رقم ١٧٥٥ فقط (٢٩). ثم جاء الراهب الإسباني ملتشور انطونياMelchor Antuna الذي كان مديرا لمكتبة الاسكوريال ثم قتله الشيوعيون في الحرب الأهلية الإسبانية منذ عشرين سنة ، فاستبعد فكرة الغزيري بخصوص الجزء الثالث وقال بأنه من المحتمل جدّا أن يكون هذا الجزء نسخة مكرّرة للجزء الثاني الموجود حاليا بالمكتبة ، خصوصا وأن وصف الغزيري للنسختين كان واحدا تقريبا (٣٠).

ثم يأتي المدير الحالي لمكتبة الاسكوريال وهو الأب موراتاP.N.Murata فيتكلّم عن هذه النسخة المفقودة التي تحمل رقم ١٨١١ ، وينفي وجودها نفيا باتا ويقول إن هذا الرقم لم يوجد بمكتبة الاسكوريال في يوم من الأيام بناء على

__________________

(٢٦) انظر : Bibliotheca Arabico Hispana Escurialensis II. Matriti ٠٦٧١ ـ ٠٧٧١. Casiri

(٢٧) راجع (F.Pons Boigues : OP.Cit P ٣٤٣

(٢٨) انظر (Brock : Gesch der Arab Lit II P ٢٦٢)

(٢٩) راجع. (Levi Provencal : Les Manuscrits Arabes de I Escurial. P ١٦٢)

(٣٠) انظر (P. Melchor Antuna; El Poligrafo granadion Ibn al jatib. en la Real (Biblioteca del Escorial Imprenta del Real Monasterio ٦٢٩١ وP.٠٣.١٣

٢٣

الجرد الشامل الذي قام به لمختلف السجلات والمخطوطات (٣١).

وأخيرا وليس آخرا نذهب إلى دائرة المعارف الإسلامية ، فنجد أنها لم تشر إلى كتاب نفاضة الجراب إطلاقا وذلك في المقال الذي أفرده المستشرق زيبولدSeybold عن ابن الخطيب (٣٢).

ويبدو أن اختفاء هذا الكتاب قد حدث في الفترة التي تلت وفاة ابن الخطيب مباشرة. ولعلّ النكبة التي حلّت بهذا المؤرخ الكبير ، لم تكتف بقتله ومصادرة أملاكه ، بل امتدّت أيضا إلى مؤلّفاته ممّا دعا بعض الناس إلى إخفائها. ويدلنا على ذلك ما رواه أحد المؤرخين المعاصرين لابن الخطيب وهو الأمير العلامة أبو الوليد إسماعيل بن يوسف النصري المعروف بابن الأحمر (٣٣) يقول :

(ونفاضة الجراب في أربعة اسفار ، وهو من أحسن تآليفه ، ولم أزل أكثر البحث في هذا التاريخ عنها فلم أقف على عين ولا أثر إلا عدّة أوراق متفرّقة. وقد كنت قبل هذا التاريخ رأيت بعضها (٣٤).

وكيفما كان الأمر فالذي ألاحظه جيدا أن المؤرخين المتأخرين أمثال

__________________

(٣١) هذه العبارة موجودة بخط يده باللغة الإسبانية على هامش مقال انطونيا السالف الذكر وفي العدد المحفوظ بالمكتب نفسها

(٣٢) انظر (Enc.Islam.Art.Ibn al.Khatib)

(٣٣) هذا الأمير من سلالة بني الأحمر ملوك غرناطه. خدم في بلاط بني مرين بمراكش وتوفي بفاس سنة ٨٠٧ ه‍ وقيل في سنة ٨١٠ ه‍ كتب مؤلفات عديدة نذكر منها : ١ ـ نثر الجمان في شعر من نظمني وإياه الزمان. ٢ ـ البقية والمدرك من شعر ابن زمرك. ٣ ـ روضة النسرين في ملوك بني مرين. أما عن الكتاب الأول فلا يزال مخطوطا وتوجد منه نسخه بدار الكتب المصرية تحت رقم ١٨٦٣ ـ أدب. أما عن الكتاب الثاني ، فلا أعلم عنه سوى ما رواه عنه المقّري في أزهار الرياض ج ٢ ص ١١ ـ ١٢ ، أما عن الكتاب الثالث فقد نشره. G. Marcais Gh Bouali : Rawdat En Nissin Paris ٧١٩١ ثم عثر ليفي بروفنسال على نسخ أخرى من هذا الكتاب الأخير. انظرLevi Provencal : Deux nouvcau manuscrits de Rawdat an Nisrin d Ibn al Ahmar Journal; Asiatique Oct ـ Dec ٣٢٩١ نشر كتاب روضة النسرين أخيرا عبد الوهاب بن منصور (الرباط ، المطبعة الملكية ١٩٦٢).

(٣٤) المقّري : أزهار الرياض (ج ١ ، ص ١٨٩)

٢٤

المقّري وابن القاضي والسلاوي قد استفادوا من هذا الكتاب ونقلوا منه بعض أجزائه مع الإشارة إلى ذلك صراحة. وبمقابلة هذه الأجزاء المنقولة على نسخة نفاضة الجراب التي لدينا ، لاحظنا أن جزءا كبيرا منها منقول منها حرفيّا (٣٥) ، أما الجزء الآخر فغير موجود أصلا مما يدل على أن هذا النقل قد جاء من بعض أجزاء الكتاب الأخرى التي تعدّ الآن في حكم المفقودة (٣٦).

هذا ونلاحظ كذلك أن معظم ما نقله المؤرّخون المتأخرون من نفاضة الجراب التي لدينا كان مقصورا على بعض القصائد الشعرية والرسائل الأدبيّة. أما النصوص التاريخية فلا زالت جديدة وفي حاجة إلى نشر ودراسة ومن ضمن هذه النصوص التاريخية القيّمة ، وصف الرحلة التي قام بها المؤلّف في بعض نواحي المغرب الأقصى خلال فترة منفاه كما سبق أن أشرنا.

__________________

(٣٥) الواقع أن ما نقله هؤلاء المؤرخون من نسخة نفاضة الجراب التي لدينا ، كثير جدا خصوصا ما ورد منها في كتاب نفح الطيب للمقّري ، بحيث يضيق المقام هنا عن حصرها. ولهذا آثرت أن أشير إلى ذلك في حينه عند نشر النص ذاته.

(٣٦) أورد المقّري في نفحه (ج ٨ ، ص ٣١٦ ـ ٣١٩) وصفا قيما لمدينة مكناسة الزيتون مشيرا إلى أنه من كتاب نفاضة الجراب. غير أننا بعد مراجعة هذا النص على النسخة التي لدينا لم نجده مدرجا فيها. وفي موضع آخر من نفح الطيب (ج ٧ ، ص ٢٧١) تكلّم المقّري عن قاضي مدينة مكناسة أبو محمد عبد الخالق بن سعيد بن محمد ، وقال إن ابن الخطيب ذكره في نفاضة الجراب ، وقال إنه لقيه بمكناسة الزيتون عام ٧٦١ ه‍. ولكنّي بعد المراجعة أيضا لم أجد ذكرا لاسم هذا القاضي في النسخة التي معي. كذلك كان الحال بالنسبة لابن القاضي في كتاب جذوة الاقتباس فيمن حلّ من الأعلام بمدينة فاس حيث أورد في ص ٧٨ ترجمة وشعرا للعالم المكناس أحمد بن محمد ابن إبراهيم الأوسي كما أورد في ص ١١١ ترجمة للفقيه الحسن بن عثمان التجاني وذلك نقلا عن نفاضة الجراب ، ولكنّني بعد البحث أيضا لم أجد هذه الترجمات وإلى جانب ذلك فهناك شعر كثير نظمه ابن الخطيب بمدينة فاس في ذلك الوقت وأورده المقّري في نفح الطيب نقلا عن نفاضة الجراب ولكنّني لم أجد له ذكرا في النسخة التي لدينا. انظر (نفح الطيب ج ٨ ، ص ١٧٨ ، ج ١٠ ، ص ١٦٠ ـ ١٦١).

كل ما تقدم يتضح لي أن المقري نقل الكلام السابق الذكر من الجزء الأول (المفقود) من نفاضة الجراب حيث يصف ابن الخطيب بداية رحلته من العاصمة فاس ثم يتجه جنوبا إلى مدينة مكناسه عام ٧٦١ ه‍ حيث يتصل بعلمائهما ، ثم يواصل رحلته جنوبا إلى أن يصل إلى جبل هنتاته في إقليم أطلس وهو بداية الجزء الثاني الذي وصل إلينا.

٢٥

وإني أقتصر الآن على نشر هذا النص فقط حرصا على وحدة الموضوع ، راجيا أن أتمكن في المستقبل من نشر بقيّة النصوص على شكل دراسات تاريخية مستقلة ، إن شاء الله.

أما بخصوص هذه الرحلة ، فتجدر الإشارة هنا إلى أن ابن الخطيب كان يعتبر الكتاب كلّه رحلة بل إنه كان يسميه في بعض الأحيان كتاب الرحلة (٣٧) والواقع أن إطلاق كلمة رحلة على جميع أجزاء الكتاب فيه شيء من المبالغة والتعميم لأن الكتاب ، كما هو واضح من عنوانه (نفاضة الجراب) ، عبارة عن خليط عجيب من النثر والشعر والتاريخ. أما وصف الرحلة في حدّ ذاته فيقع في الواحد وعشرين ورقة الأولى من هذا المخطوط.

ويلاحظ من بداية هذا الوصف أن الرحلة ناقصة غير كاملة. إذ إنه يبدأ ، وبدون مقدّمات ، بالصعود إلى جبل هنتاته ، وهو جبل ناء بمنطقة جبال أطلس. فلا شكّ أن بداية هذه الرحلة تقع في الجزء الأوّل المفقود من هذا الكتاب.

ومهما يكن من شيء ، فالنص الذي لدينا يبدأ كما قلنا بصعود ابن الخطيب إلى جبل هنتاته نسبة إلى قبيلة هنتاته (بكسر الهاء أو فتحها) التي كانت تسكنه ، وهي فرع من قبائل مصموده الضاربة في غرب إقليم أطلس (٣٨).

وفي هذا الجبل يصف ابن الخطيب المكان الذي توفي فيه السلطان المريني أبو الحسن علي ، بعد أن ثار عليه ابنه أبو عنان فارس. كذلك يصف معيشة شيوخ قبيلة هنتاته وأنواع المآكل والمشارب التي قدّموها له ، وهو وصف على جانب كبير من الأهمية.

__________________

(٣٧) ابن الخطيب : الإحاطة لوحة ٣٤٦ (نسخة الاسكوريال)

(٣٨) انظر (J. Leon Africano : Descripcion de Africa P. ٠١, Tetuan ٢٥٩١)

٢٦

ويواصل ابن الخطيب رحلته إلى مدينة أغمات ، وهنا يتكلّم عن محاسن هذه المدينة وسذاجة أهلها وعن شخصياتها وآثارها. ومن بين ما ذكره عن مسجدها ومئذنته المخروطية الشكل وهو نص عظيم الأهمية من الناحية المعمارية الأثرية. وقد زار ابن الخطيب في هذه المدينة قبر (٣٩) الملك الشاعر المعتمد بن عباد ملك إشبيلية وأحد ملوك الطوائف الذي نفاه المرابطون إلى هذا المكان بعد أن استولوا على الأندلس في القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي). وقد مدحه الخطيب بقصيدة جميلة نشرها وترجمها المؤرخ الهولندي المعروف دوزي ضمن النصوص التي قدّمها عن أسرة بني عباد (٤٠).

بعد ذلك يعود ابن الخطيب إلى مدينة سلا مارّا في طريقه بمدن مختلفة مثل دكاله وأزمور وآسفي ومراكش. فأخذ يصف هذه المدن وما فيها من مساجد ومدارس ومكتبات وجبّانات ، كما أشار إلى من اتصل به من علمائها وشيوخها. وأخيرا ينتهي به المطاف إلى مدينة سلا Sale على ساحل المحيط الأطلنطي بأقصى المغرب. وهناك استقرّ ابن الخطيب في ضاحيتها المعروفة باسم شاله Chella حيث الجبّانة الملكية لبني مرين (٤١).

يقول المقّري في هذا الصدد : (وفي شاله سلا رابط ابن الخطيب بجوار أضرحة ملوك بنى مرين سائلا لهم من المولى عزوجل الرحمة والغفران) (٤٢).

ولقد عاد عليه هذا العمل بخير جسيم ، إذ تفضّل السلطان المريني أبو سالم فأمر بأن يصرف له من مجبي مدينة سلا مرتّب شهري له ولولده مبلغ خمسمائة دينار ، وأن يعفى من كل مغرم أو ضريبة ، وأن يرفع الاعتراض فيما يجلب له من الأدم والأقوات على اختلافها من حيوان وسواه فيما يستفيد خدامه من عنب وقطن وفاكهة وخضر ... الخ (٤٣).

__________________

(٣٩) انظرE Garcia Gomez. EL Supuesto Sepulcro de Mu tamid de Sevilla en Agmat : AL Andalus (XVIII. ٣٥٩١ (

(٤٠) انظر (R.Dozy Loci de Abbadidis T.II.PP ٢٢٢ ـ ٣٢٢)

(٤١) (Henri Basset et Levi Provencal : Ghella : Une necropole merenide P ٧٥١ Paris ٢٢٩١)

(٤٢) المقري : نفح الطيب (ج ٨ ، ص ٣٢٢)

(٤٣) المقري : نفح الطيب (ج ٨ ، ص ١١٧ ـ ١١٨)

٢٧

وهكذا تنتهي رحلة ابن الخطيب ، ونلاحظ أن أسلوبه الكتابي فيها ، وفي كتاب نفاضة الجراب بصفة عامّة ، يختلف عن أسلوب رحلاته الأخرى ، بمعنى أنه لم يتّخذ طابع فن المقامات المعروف بالسجع والتقفية ، بل كان كلاما مرسلا جزلا في غالب الأحيان (٤٤) غير أن أسلوب ابن الخطيب ، سواء في هذا أو ذاك ، نراه بصفة عامّة بادي التكلّف ، مليئا بالصنعة اللفظية والمحسنات البديعيّة التي كانت سائدة في العالم الإسلامي في ذلك الوقت.

هذا وقبل أن نختم الكلام في هذا الموضوع ، ينبغي أن نشير إلى أن ابن الخطيب كان يزمع القيام برحلة إلى بلاد المشرق لتأدية فريضة الحج والاتصال بالأوساط العلميّة فيها. غير أن أعباء منصبه ـ كما يقول هو ـ قد حالت دون تحقيق مآربه. إلا أن ابن الخطيب قد نفّس عن هذه الرغبة المكبوتة بأن أرسل ابنه أبا الحسن علي إلى المشرق ليأخذ العلم على علماء عصره هناك ، كما أرسل كتبه (٤٥) وأمواله (٤٦) إلى القاهرة ليستفيد بها طلبة العلم هناك.

وبعد فمثل هذه الروح النشطة ، والحيويّة المتدفقة ، ثم هذه الدقّة في الملاحظة التي امتازت بها جميع أوصافه ومشاهداته ، تدلّ جميعا على أن ابن الخطيب رحّالة من الطراز الأول.

ولا يسعني في ختام هذه المقدمة إلا أن أوجّه خالص شكري إلى صديقي الأستاذ الدكتور عبد العزيز الأهواني ، إذ تفضّل بمراجعة بعض نصوص هذا الكتاب مبديا من الملاحظات والنصائح ما دلّ على غزارة علمه وسموّ أخلاقه.

أحمد مختار العبادي

الإسكندرية يناير ١٩٥٨

__________________

(٤٤) المقري : نفح الطيب (ج ٨ ، ص ٣١٦)

(٤٥) ومثال ذلك كتاب الإحاطة في أخبار غرناطة وكتاب روضة التعريف بالحب الشريف. والأول لا زالت توجد منه نسخة برواق المغاربة بالأزهر والثاني موجود بالمكتبة الظاهرية بدمشق راجع كذلك (المقّري : نفح الطيب ج ١٠ ، ص ١٦٤ ـ ١٦٥)

(٤٦) انظر (المقري : نفح الطيب ج ٩ ، ص ٣١١)

٢٨

مسار الرحلة

الرسالة الأولى

خطرة الطيف في رحلة الشتاء والصيف

* الخروج من غرناطة (Granada) يوم الأحد ١٧ محرم ٧٤٨ ه‍ ١٣٤٧ م

* مدينة وادي آش (Guadix) في شمال شرق غرناطة

* بسطة :

Baza

* برشانة :

Purchena

* بيره :

Vera

* ثغر المرية :

Almeria

* بجانة :

Pechina

* مرشانة :

Merchena

* فنيانة :

Finiana

* وادي آش :

Guadix

* غرناطة :

Granada

الرسالة الثانية

مفاخرات مالقة وسلاEl Parangon Entre Malaga y Sale

* مفاضلة بين المدينتين.

٢٩

الرسالة الثالثة

الاختبار في أحوال المعاهد والديار* وصف مدن المغرب الأقصى و ٣٤ مدينة في مملكة غرناطة

الرسالة الرابعة

نفاضة الجراب في علالة الاغتراب

* جبل هنتاته

Hintata mountain

* مدينة أغمات

Agmet

* دكالة

Dokakla

* أزمّور

Azammur

* آسفي

Safi

* مراكش

Marruecos

* سلا

Sale

٣٠

الرسالة الأولى

خطرة الطيف في رحلة الشتاء والصيف

بسم الله الرحمن الرحيم

صلى الله على مولانا محمد وآله وصحبه

خطرة الطيف في رحلة الشتاء والصيف

للكاتب والأديب الناظم الناثر ذي الوزارتين

أبي عبد الله بن الخطيب

تغمّده الله برحمته بمنّه وكرمه (٤٧)(٤٨)

(لوحة ٥١) نحمد الله حمد معترف بحقه ، ونشكره على عوائد فضله ورفقه ، الذي جعل لنا الأرض ذلولا نمشي في مناكبها ، ونأكل من رزقه ،

__________________

(٤٧) تتفق نسخة المخطوط رقم ٤٧٠ التي رمزنا لها بحرف (أ) مع نسخة الريحانة (ب) في عباراتها ومعانيها وروحها مما لا يثير شكّا في أن المؤلف واحد وهو ابن الخطيب كما نصّت على ذلك كلتا الرسالتين. على أننا نلاحظ اختلافا بين النسختين في بعض الألفاظ والعبارات ، كما نلاحظ أن نسخة (أ) رغم كونها مجهولة الناسخ تحتوي على فقرات أكثر من نسخة (ب) ولهذا اتخذناها أصلا للنشر وإن كانت هي الأخرى لم تسلم من الألفاظ المحرّفة. هذا وقد بيّنا في الحواشي ما ورد في النسختين من فروقات وأخطاء

(٤٨) هذا العنوان كما ورد في (ا) وهو أكمل وأوفى من (ب) حيث اقتصر على الصيغة التالية : (ومن ذلك المقامة المسماة بخطرة الطيف ورحلة الشتاء والصيف) هذا وينبغي أن نشير أن كلا من حاجي خليفة وبونس بويجس لم يشيرا إلى هذه الرسالة أصلا ، كما لم يشر إليها ابن الخطيب نفسه ضمن مجموعة مؤلّفاته التي نصّ عليها في كتابيه الإحاطة ، ونفاضة الجراب.

٣١

ونصلي على سيدنا ومولانا محمد خيرته من خلقه ، ونستوهب للمقام المولوي اليوسفي النصري سعدا يتلألأ نور أفقه ، ونصرا يتلى بغرب المعمور وشرقه.

(ونقول) (٤٩).

وقائلة صف لي فديتك رحلة

عنيت بها يا شقة القلب من بعد

فقلت خذيها من لسان بلاغة

كما نظّم الياقوت والدّر في عقد

لما وقع العزم الذي وفّقه (٥٠) الله على مصالح هذه الجزيرة ، والقصد المعرب عن كريم العقيدة وفضل السريرة ، على تفقد بلادها وأقطارها ، وتمهيد أوطانها ، وتيسير أوطارها ، رأى من قلّده الله أمورها ، ووكل إلى حمايته ثغورها ، مولانا وعصمة ديننا ودنيانا أمير المسلمين وظلّ الله على العالمين أبو الحجّاج (٥١) بن مولانا أمير المسلمين وكبير الملوك العادلين (٥٢) الصالحين أبي الوليد (٥٣) إسماعيل بن (٥٤) مولانا الهمام الأعلى ، الذي تروى مفاخره وتتلى ، أبي سعيد (٥٥) حفظ الله منه على الأيام بحر الندى ، وبدر المنتدى ، وسابق الفخر البعيد المدى (٥٦) وشمله برواق عصمته كلّما راح واغتدى ، أن يباشرها بنفسه ، ويجعل آفاقها مطالع شمسه ، نظرا للإسلام وقياما بحقّه ، وعملا على ما يقرّبه ممّن استخلفه على خلقه ، في وجهة خالفها الغمام المنسجم (٥٧) ، وقصبة (٥٨) قضى لها بالسعد من لا ينجم (٥٩) ، فكان البروز إليها (٦٠) يوم

__________________

(٤٩) زيادة عن (ب)

(٥٠) في (ب) وقفه والمتن أصح

(٥١) سقط هذا الاسم في (أ)

(٥٢) في (ب) المجاهدين.

(٥٣) (أبي) ساقطة في (أ).

(٥٤) في (ب) (ابن).

(٥٥) في (أ) ، سعيد بن نصر.

(٥٦) ساقطة في (أ).

(٥٧) في (ب) المثجم.

(٥٨) كذا في (ا) ، (ب) وقد كتبها مولر (ونصبه).

(٥٩) كذا في (ا) ، (ب) وكتبها مولر ينحجم.

(٦٠) لها في (ا)

٣٢

الأحد سابع عشر (شهر) (٦١) المحرم فاتح عام ثمانية وأربعين وسبعمائة.

خرجنا وصفحة الأفق بالغيم منتقبة (٦٢) وأدمع السحب لوداعنا منسكبة نتبع من الراية الحمراء دليلا هاديا ، (وتغترف من وجهتنا الجهادية سناء باديا) (٦٣) ونثق بوعد الله سبحانه في قوله ولا يقطعون واديا. وسلكنا جادّة الماء المفروش نسرّح اللحاظ بين تلك العروش ، ونبتذل (٦٤) ما نحلته عروش الربيع من تلك الفروش ، ومن له بالحضرة حرسها الله شوق حثيث ، وهوى قديم وحديث ، يكثر الالتفات ، ويتذكّر لما فات ويبوح بشجنه ، وينشد مشيرا إلى سكنه.

يوم أزمعت عنك (٦٥) طي البعاد

وعدتني عن (الوداع) (٦٦) العوادي

قال صحبي وقد أطلت التفاتي

أي شيء تركت قلت فؤادي

وربما غلبته لواعج أشواقه ، وشبّت زافراته عن أطواقه ، فعبّر عن وجده ، وخاطب (الحضرة) (٦٧) معربا عن حسن عهده :

ألا عم صباحا أيها الربع واسلم

ودم في جوار الله غير مذمم

ولا عدمت أرجاؤك النور إنها

مطالع أقماري وآفاق أنجم (٦٨)

إذا نسى الناس العهود وأغفلوا

فعهدك في قلبي وذكرك في فم (٦٩)

وإني وإن أزمعت عنك لطية

وقوضت رحلي عنك دون تلوّم

فقلبي لك البيت العتيق مقامه

وشوقي إحرامي ودمعي زمزم

ثم استقلّت بنا الحمول ، وكان بوادي فردس (٧٠) النزول ، منزل خصيب

__________________

(٦١) زياده عن (ا).

(٦٢) في (ب) متنقبه.

(٦٣) هذه العبارة لم ترد في (ب).

(٦٤) وردت في النسختين ونبتدل وصحّتها كما في المتن.

(٦٥) كذا في (ب) وفي الأصل طوع.

(٦٦) كذا في الأصل وفي (ب) البعاد.

(٦٧) في (ا) المعاهد.

(٦٨) في (ب) انجمى.

(٦٩) في (ب) في.

(٧٠) RiO Fardes ، وقد وردت في (ب) (فرذس) والمتن أصح

٣٣

ومحل له (من) (٧١) الحسن نصيب. ولمّا ابتسم ثغر الصباح ، وبشّرت بمقدمة نسمات الرياح ، الغينا (٧٢) عمل السرّاج إلى الاسراج ، وشرعنا في السير الدائب ، وصرفنا إلى وادي آش (٧٣) صروف الركائب. واجتزنا بوادي حمّتها (٧٤) ، وقد متع النهار ، وتأرجت الأزهار ، فشاهدنا به معالم الأعلام ، وحيّينا دار حمدة بالسلام ، وتذاكرنا عمارة نواديها ، وتناشدنا قولها في واديها :

أباح الشوق أسراري بوادي

له في الحسن آثار بوادي

فمن واد يطوف بكل روض

ومن روض يطوف بكل وادي

ومن بين الظباء مهاة رمل

سبت قلبي وقد ملكت فؤادي

لها لحظ ترقّده لأمر

وذاك الأمر يمنعني رقادي

كأن البدر مات له شقيق

فمن حزن تسربل بالحداد (٧٥)

واستقبلنا البلدة حرسها الله في تبريز سلب الأعياد احتفالها ، وغصبها حسنها ، وجمالها نادي بأهل المدينة ، موعدكم يوم الزينة ، فسمحت الحجال برباتها ، والقلوب بحبّاتها ، والمقاصر بحورها ، والمنازل ببدورها. فرأينا تزاحم الكواكب بالمناكب وتدافع البدور بالصدور بيضاء كأسراب الحمائم ،

ملتفعات بروضهن تلفع الأزهار بالكمائم (٧٦) ، حتى (إذا) (٧٧) قضى القوم من سلامهم على إمامهم فرضا ، واستوفينا (٧٨) أعيانهم تمييزا وعرضا ،

__________________

(٧١) في (ا) عن

(٧٢) كذا في (ا ، ب) وقد قرأها مولر القينا

(٧٣) مدينة وادي آش أو وادي إيش واسمها القديم Acci وتعرف اليوم باسم Guadix وتقع هذه المدينة على نهر فردس على مسافة ٥٣ ك. م شمال شرق غرناطه. راجع (الحميري :

الروض المعطار ص ١٩٢ ـ ١٩٣ ، نشر ليفي بروفنسال ١٩٣٧) انظر كذلك ١٨٩.P) Seybold ,Enc ISl.II.

(٧٤) Rio Alhama

(٧٥) هذا البيت زيادة عن (ب)

(٧٦) وردت هذه العبارة في (ب) : متنقبات تنقب الأزهار بالكمايم.

(٧٧) الزيادة عن (ب)

(٧٨) في (١) ، واستوفى.

٣٤

خيّمنا ببعض (رباها (٧٩) المطلة) (٨٠) ، وسرحنا العيون في تلك العمالة المغلة ، والزروع المستغلة ، فحباها الله من بلدة (أنيقة) (٨١) الساحة ، (رحبة المساحة) (٨٢) ، نهرها مطرد ، وطائرها غرد ، تبكي السحاب فيضحك نورها ويدندن النسيم فترقص (٨٣) حورها.

بلد أعارته الحمامة طوقها

وكساه حسن جناحه الطاووس (٨٤)

فكأنما الأنهار فيه مدامة

وكأن ساحات الديار كؤوس

معقلها بادي الجهامة (٨٥) ، تلوح عليه سمة الشهامة ، نفقت سوق النفاق دهرا ، وخطبها الملوك فلم ترض إلا النفوس مهرا ، طالما تعرفت وتنكرت ، وحجتها نعم الأيالة النصرية فأنكرت ، ومسّها طائف من الشيطان ثم تذكرت ، فالحمد لله الذي أن (٨٦) هداها بعد أن تبت يداها ، فجفّ من فتنتها ما نبع ، وانقادت إلى الحق والحق أحق أن يتبع ، وتنافس أهلها في البر الكفيل ، والقرى الجميل (٨٧) فبتنا نثني على مكارمهم الوافية ، وفواضلهم (الكافية) (٨٨) ولم نحفل بقول (ابن) (٨٩) أبي العافيه : (٥٤)

إذا ما مررت بوادي الأشا

فقل رب من لدغة سلم

وكيف السلامة في منزل

فيه (١٢) عصبة من بنى أرقم

ولمّا فاض نهر الصباح على البطاح ونادى منادي الصلاة على الفلاح ،

__________________

(٧٩) كذا في (ب) وقد وردت في (١) : ربما المطلت.

(٨٠) كذا في (ب) وقد وردت في (١) : ربما المطلت.

(٨١) كذا في (ب) وفي (أ) أنيقيه.

(٨٢) الزيادة عن (ب).

(٨٣) في (ب) فيرقص.

(٨٤) في (ب) : وكساه ريش جناحه الطاووس.

(٨٥) كذا في النسختين وقرأها مولر الجمامة.

(٨٦) في (ب) : الذي هداها.

(٨٧) كذا في الأصل وفي (ب) الحفيل وهي أحسن

(٨٨) الزيادة عن (ب)

(٨٩) الزيادة عن (ب)

(٩٠) في (ب) : به ، وهي أصح لاستقامة الوزن معها.

٣٥

قدمنا الرواحل (٩١) لارتياد منزل ، وقمنا (٩٢) عن اتباع آثارها بمعزل نظرا للمدينة في مهمات الأمور. وكان اللحاق بغور (٩٣) ، من بعض تلك الثغور ، أتيناها والنفوس مستبشرة ، والقباب لأهلها منتظرة ، فحمدنا الله على كمال العافية ، وقلنا في غرض تجنيس القافية :

ولما اجتلينا من نجوم قبابنا

سنا كل خفاق الرواق بغور

زرينا على شهب السماء بشهبها

متى شئت يا زهر الثواقب غور (٩٤)

أطلتنا بها ليلة شاتية ، والحفتنا أنواء الأرض مراثية (٩٥) فلمّا شاب مفرق الليل ، وشمّرت (٩٦) والآفاق من بزّتها العبّاسيّة (٩٧) فضول الذيل ، بكرنا نغتم أيام التشريق ، وندوس بأرجلنا حيّات الطريق. وجزنا في كنف اليمن والقبول بحصن الببول (٩٨) ، حسنة الدولة (اليوسفية) (٩٩) ، وإحدى اللطائف (١٠٠) الخفية ، تكفل الرفاق بمأمنها ، وفضح سرية العدو في مكمنها من أبيض كالغارة (١٠١) ضمن الفوز في تلك المفازة (١٠٢) فحيّيناه بأيمن طير وتمثلنا عنده (١٠٣) بقول زهير :

وسكنتها حتى اذا هبّت الصبا

بنعمان لم تهتز في الأيك أغصان

ولم تك (١٠٤) فيها مقلة تعرف الكرى

فإن (١٠٥) زارها طيف مضى وهو غضبان

__________________

(٩١) كذا في (ا) وفي (ب) قمنا للرواحل

(٩٢) في (ب) وأقمنا

(٩٣) Gor

(٩٤) في (ب) غورى.

(٩٥) في (ب) : وألحقتنا أنواء الأرض مؤاتيه

(٩٦) كذا في (ا ، ب) وقرأها مولر وشهرت

(٩٧) يقصد السواد شعار العباسيين

(٩٨) Baul

(٩٩) كذا في (ب) بينما وردت في (ا) التاسفيه والمتن أصح

(١٠٠) في (ا) الطائف

(١٠١) في (ا) كالفاره

(١٠٢) في (ب) المغاره

(١٠٣) في (ا) عندها

(١٠٤) في (ب) يك

(١٠٥) في (ب) فلو

٣٦

وكان ملقى الحران منابت الزعفران بسطة (١٠٦) حرسها الله ، وما بسطة محل خصيب ، وبلدة لها من اسمها نصيب ، بحر الطعام ، وينبوع العيون المتعدّدة بتعدّد أيام العام. ومعدن ما زيّن للناس حبّه من الحرث والأنعام. يالها من عقيلة ، صفحتها صقيلة ، وخريدة ، محاسنها فريدة ، وعشيقة (نزعاتها) (١٠٧) رشيقة ، لبست حلي (١٠٨) الديباج الموشى ، مفضّضة بلجين الضحى ، مذهّبة بنضار العشا (١٠٩) ، وسفرت عن المنظر البهي ، وتبسّمت عن الشنب الشهي وتباهت بحصونها مباهاة الشجرة الشمّاء بغصونها ، فوقع النفير وتسابق إلى لقائنا الجم الغفير ، مثل الفرسان صفّا ، وانتشر الرّجل جناحا ملتفّا (١١٠) ، واختلط الولدان بالولائد ، والتمائم بالقلائد في حفل سلب النهى (١١١) وجمع البدر والسهى ، والضراغم والمها ، وألّف بين القاني والفاقع ، وسدّ بالمحاجر كوى البراقع ، فلا أقسم بهذا البلد وحسن منظره الذي يشفى من الكمد لو نظر الشاعر إلى نوره المتألق لآثرها بقوله في صفة بلاد جلّق :

بلاد بها الحصباء در وتربها

عبير وأنفاس الرياح شمول

تسلسل منها ماؤها وهو مطلق

وصحّ نسيم الروض وهو عليل

رمت إلى غرض الفخر بالسهم المصيب ، وأخذت من أقسام الفضل بأوفى نصيب ، وكفاها بمسجد الجنّة دليلا على البركة ، وبباب المسك عنوانا على الطيب يغمر من القرى موج كموج البحر. إلا أن الرياح لاعبتنا ملاعبة الصراع ، وكدّرت القرى بالقراع ، فلقينا من الريح ما يلقاه قلب المتيّم من التبريح ، وكلّما شكت إليها المضارب شكوى الجريح ، تركتها بين المائل والطريح.

__________________

(١٠٦) بسطة وهي مدينةBasti القديمة وتعرف اليوم باسم Baza وتقع في شمال شرق غرناطه بنحو ١٢٣ ك. م ويروي صاحب الروض المعطار ص ٤٥ أن هذه المدينة كانت مشهوره بمنتجاتها الزراعية ولا سيما الزيتون ، وبمنسوجاتها الحريرية وينسب إليها الوطاء البسطي من الديباج الذي لا يعلم له نظير

(١٠٧) كذا في (ب) وفي (ا) نزعتها

(١٠٨) في (ب) حلة

(١٠٩) العسي في (ا)

(١١٠) في (ا) متلفا

(١١١) في (ا) النها.

٣٧

ولمّا توسط الواقع ، والتقمت (١١٢) أنجم الغرب (١١٣) المواقع ، صدقتنا (١١٤) الريح الكرّة ، وجادتنا الغمائم (١١٥) كل عين ثرّة (١١٦) ، حتى جهلت الأوقات ، واستراب الثقات ، فتستر الفجر بنقابه ، وانحجز (١١٧) السرحان في غابه ، وكان أداء الواجب بعد خروج الحاجب ، وارتحلنا (١١٨) وقد أذن الله للسماء فأصحت ، وللغيوم فتنحت (١١٩) ، وللريح فلانت بعد ما ألحت ، وساعد التيسير ، وكان على طريق قنالش (١٢٠) المسير ، كبرى بناتها وشبيهتها في جداولها وجنّاتها ، ما شئت من أدواح توشّحت بالنّور وتتوجت وغدران زرع هبّت عليها الصبا فتموّجت ، سفر بها الشقيق الأرجواني عن خدود الغواني ، فأجلنا العيون في رياض ، وتذكّرنا قول القاضي عياض :

انظر إلى الزرع وخاماته يحك

ي وقد ماس أمام الرياح

كتيبة خضراء مهزومة

شقائق النعمان فيها جراح

مثل أهلها فسلموا ، ومن عدم النزول بهم تألّموا. وأتينا فحص الأنصار فتجدّدت له ملابس المجادة ، وتذكر عهود من حل به عند الفتح الأول من السادة ، ولمّا خفقت به راية سعد بن عبادة (١٢١) ولم تزل الركائب تفلي الفلاة فرى الأديم ، وأهلة السنابك صيّرها السير كالعرجون القديم ، حتى ألحفتنا شجرات المصنبر بشذاها المعنبر (١٢٢) وراقتنا بحسن ذلك المنظر سوار مصفوفة ،

__________________

(١١٢) في (ا) والتقحت

(١١٣) في (ب) العرب

(١١٤) في (ب) صدقت

(١١٥) في (ب) الغمام

(١١٦) ثره أي الماء الغزير وردت في (ا) طره وفي (ب) تره ولعلّ صحتها كما في المتن

(١١٧) في (ب) وانحجر

(١١٨) وقد ارتحلنا زيادة في (ا)

(١١٩) في (ب) فشحت

(١٢٠) وهي الآن Canales انظر (Simonet : op.cit.p.٤٣١)

(١٢١) سعد بن عبادة رئيس قبيلة الخزرج وزعيم الأنصار بالمدينة المنورة على عهد الرسول (صلعم) وصاحب سقيفة بني ساعده التي تمت فيها بيعة أبي بكر الصديق بالخلافة. وينتمي إليه بنو الأحمر ملوك غرناطه.

(١٢٢) في (ب) العنبر

٣٨

وأعلام خضر ملفوفة ، ونخل يانعة البسوق ، وعذاري كشفت (١٢٣) حللها (١٢٤) الخضر عن السوق ، كأنها شمّرت الأذيال (١٢٥) لتعبر الوادي ، على عادة نساء البوادي ، ينساب بينها الزلال المروّق ، ويغنّي فوقها الحمام المطوّق ، فتهيج الجوي وتجدد عهود الهوى (١٢٦) ، صبّحتنا بها أصوات تلك القماري ، وأذكرتنا قول ابن حصن الحجاري :

وما راعني إلا ابن ورقاء هاتف

على قنن بين الجزيرة والنهر

أدار على الياقوت أجفان لؤلؤ

وصاغ على المرجان طوقا من التبر

حديد شبا المنقار داج كأنه

شبا قلم من فضة مد في حبري (١٢٧)

توسد من عود (١٢٨) الأراك

ومال على طي الجناح مع الفجر (١٢٩)

ولما رأى دمعي مراقا أرابه

بكائي فاستولى على الغصن النضر

وحث (١٣٠) جناحيه وصفّق طائرا

فطار بقلبي حيث طار ولا أدري

(مفستق طوق الأزودي كلكل

موشى الطلى إحدى القوادم والظهر) (١٣١)

ونزلنا بظاهر حصن شيرون (١٣٢) ، وقد ترعرع شباب اليوم ، وطالبنا غريم الظهيرة بمنكسر فرض النوم ، حصن أشم ، ومناخ لا يذم. نزلنا الهضبة بإزائه ، وغمرنا من برّه ما عجزنا عن جزائه ، وعثرنا بين المضارب ، ببعض العقارب ، سود الرؤوس ، متوّجة بأذنابها في شكل الطاووس ، فتلقينا ذلك بسعة الصدر وقلنا العقرب من منازل البدر. ورحلنا بمثل تلك

__________________

(١٢٣) في (ا) كسفت

(١٢٤) في (ا) حلاها

(١٢٥) في (ا) الأديال

(١٢٦) في (ب) النوى

(١٢٧) في (ب) تبر

(١٢٨) في (ب) فوق.

(١٢٩) في (ب) الصدر.

(١٣٠) في (ا) وحتى

(١٣١) هذا البيت لم يرد في (ب) ، وكلكل لعللها مكلل.

(١٣٢) Seron

٣٩

الصورة ، نلتحف ظلال وادي المنصورة (١٣٣) ، سمر الأندية ، وسلطان الأودية. يا لها من أرائك مهدّلة السجوف (١٣٤) ، وجنّات دانية القطوف ، ينساب بينها للعذب الزلال ، أرقم سريع الانسلال (١٣٥) ، وصارم (١٣٦) يغمد في جفون الظلال ، يتلاعب بين أيدينا شمالا ويمينا ، فطورا عصباه ثعبانا ، وآونة تنعطف (١٣٧) صولجانا ، وتارة تستدير أفلاكا ، وربّما نسجت منه أيدي الرياح شباكا (١٣٨) ، وأم حسن فيه ذات لسن ، تبعث بنغماتها لواعج الشجون (١٣٩) ، وتقيم دين ابنها (١٤٠) في الخلاعة والمجون. وسرنا ودر الحصى بساط الأرجل ركابنا ، ودنانير أبي الطيب تنثر فوق أثوابنا ، ترقب نجوم القلاع والحصون ، من خلل سحاب الغصون. والنساء (١٤١) إلى مشاهدة التبزير قد حفّت ، وبشاطئ الوادي قد صفّت ، قد أبرزن (١٤٢) الثنايا (ببروق الثنايا) (١٤٣) ، وسددن سهام المنايا ، عن حواجب كالحنايا ، يشغلن (٥٨) الفتى (١٤٤) عن شؤونه ، ويسلبن الروض لين ... مونه ، هذا (١٤٥) خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه.

وطالعنا برشانة (١٤٦) حرسها الله ، فحيّتنا ببواكر الورد ، ونضت عنّا برود

__________________

(١٣٣) وادي المنصوره : Rio de Almanzor ,Guadalmanzor ويسميه العرب أيضا وادي بيره لأنه يصب مياهه في البحر المتوسط عند بلدة بيره Vera انظر

) Simonet : Descripcion del reino de Granada P. ١١١ (

(١٣٤) السحوف في (ا)

(١٣٥) الاشلال في (ا)

(١٣٦) وسارم في (ا)

(١٣٧) تتعطف في (ب)

(١٣٨) شياكا في (ب)

(١٣٩) الشؤون في (ب)

(١٤٠) ولدها في (ب)

(١٤١) النسوان في (ب)

(١٤٢) احرن في (ب)

(١٤٣) الزيادة عن (ب)

(١٤٤) العتا في (ب)

(١٤٥) ساقطة في (ا)

(١٤٦) برشانةPurchena ، حصن هام في ولاية المرية ويقع على نهر المنصورة السالف الذكر. هذا وينبغي الإشارة إلى وجود مكان آخر بهذا الاسم في ولاية جيّان راجع (الروض المعطار ص ٥٢ حاشيه ١)

٤٠