خطرة الطيف

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

خطرة الطيف

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: أحمد مختار العبّادي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٣

قلت فمدينة سلا (٤٦٣) ، قال العقيلة المفضّلة ، والبطيحة المخضّلة ، والقاعدة المؤصّلة ، والسورة المفصّلة ، ذات الوسامة والنضارة ، والجامعة بين البداوة والحضارة. معدن القطن والكتّان ، والمدرسة والمارستان ، والزاوية كأنها البستان والوادي المتعدّد الأجفان ، والقطر الآمن عند الرجفان ، والعصير العظيم الشان ، والأسواق الممتازة حتى برقيق الحبشان. اكتنفها المسرح والخصب الذي لا يبرح ، والبحر الذي يأسو ويجرح ، وشقّها الوادي يتمّم محاسنها ويشرح. وقابلها الرّباط (٤٦٤) الذي ظهر به من المنصور الاغتباط ، حيث القصبة والساباط (٤٦٥) ووقع منه بنظرة الاعتباط ، فاتسع الخرق وعظم الاشتطاط ، وبعد الكمال يكون الانحطاط.

إلى شالة (٤٦٦) مرعى الذمم ونتيجة الهمم ، ومشمخ الأنوف ذوات الشمم ، وعنوان بر الدّيّم ، حيث الحسنات المكتتبة ، والأوقاف المرتبة ، والقباب كالأزهار مجودة بذكر الله أناء الليل وأطراف النهار ، وطلل حسّان المثل في الاشتهار (٤٦٧). وهي على الجملة من غيرها أوفق ، ومغارمها لاحترام الملوك الكرام أرفق ، ومقبرتها المنضّدة عجب في الانتظام ، معدودة في المدافن العظام ، وتتأتى بها للعبادة الخلوة ، وتوجد عندها للهموم السلوة ، كما قال ابن الخطيب :

وصلت حثيث السير فيمن فلا الفلافلا خاطري لمّا نأى وانجلى انجلى

ولا نسخت كربي بقلبي سلوة

فلمّا سرى فيه نسيم سلا سلا

__________________

(٤٦٣) Sale راجع ما سبق أن قيل عن هذه المدينة في الرسالة الثانية ص (٣٩).

(٤٦٤) مدينة رباط عاصمة المغرب الأقصى اليوم ، بناها الخليفة المنصور أبو يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن (٥٥٤ ـ ٥٩٥ ه‍) أعظم ملوك الموحدين ، وسمّاها (رباط الفتح) وهذه المدينة تقابل وتواجه مدينة سلا فقيل الرباط وسلاه ويفصلهما وادي أبو الرقراق (بور جراج) (السلاوي : الاستقصا ج ١ ، ص ١٦٤ ـ ١٨١).

(٤٦٥) الساباط ، سقيفة بين دارين ، تحتها طريق وجمعها سوابيط وساباطات

(٤٦٦) Chella شالة سلا حيث مقابر ملوك بني مرين. راجع ما قلناه عنها سابقا (ص ١٣).

(٤٦٧) إشارة إلى مسجد حسان بمدينة الرباط الذي كان من أعظم مساجد الإسلام ، بناه الخليفة الموحدي يعقوب المنصور وسمّي باسم مهندسه حسّان. وقد تعرض هذا المسجد لحريق وزلزال أطاح بطرف صومعته وصار مضرب الأمثال في الشهرة والاعتبار.

١٠١

وكفى بالشابل رزقا طريا ، وسمكا بالتفضيل حريّا ، يبرز عدد قطر الديم ، ويباع ببخس القيم ، ويعمّ حتى المجاشر (٤٦٨) النائية والخيم. إلا أن ماءها لا يروى به وارد ، لا كريم ولا بارد ، وأليفها شارد ، والخزين بها فاسد ، وبعوضها مستأسد ، راضع غير مفطوم ، واسم للخدّ والخرطوم بذيالك الخرطوم ، خالع للعذار غير مخطوم. تصغي لرنته الآذان ، ويفتك بوكز السنان ، كالقوس تصمي الرمايا وهي مرنان ، وديارها في الماء دار عثمان ، وطواحنها غالية الأثمان ، وكثبانها العفر تلوث بيض الثياب ، طيّ العياب. وعابر واديها إلى مأرب أكيد في تنكيد ، إلى غلبة الإمساك وخوض النّسّاك ، وكثرة أرباب الخطط ، والإغياء في الشطط ، تذود عن جنّاته للأسد جنان فلا يلتذّ بقطف العنقود منها بنان ، وفي أهلها خفّة ، وميزانها لا تعتدل منه كفّة.

قلت فأنفا (٤٦٩) ، قال جون (٤٧٠) الحطّ والإقلاع ، ومجلب السلاع ، تهدي إليها السفن شارعة ، وتبتدرها مسارعة ، تصارف برّها الذهبي بالذهب الإبريز ، وتراوح برّها وتغاديه بالتبريز.

يكثر الطير حيث ينتثر الحبّ (م) وتغشى منازل الكرماء

وخارجها يفضل كل خارج ، وقانصها يجمع بين طائر ودراج ، وفواكهها طيبة ، وأمطار عصيرها صيّبة. وكيلها وافر ، وسعرها عن وجه الرخاء سافر ، وميرتها لا ينقطع لها خفّ ولا حافر ، لكنّ ماءها وهواءها عديما

__________________

(٤٦٨) المجاشر اصطلاح أندلسي بمعنى القرى والضياع

(٤٦٩) آنفاAnfa ، وهي المعروفة اليوم باسم الدار البيضاءCassblanca ، وهي مدينة كبيرة على ساحل المحيط الإطلنطي بالمغرب الأقصى ، وتقع على مسافة ستين ميلا شرقي أزمور. وهي مشهورة بمنتجاتها الزراعية وأشجار الفواكه. وكانت هذه المدينة تنافس ثغر قادس البرتغالي ، ونتج عن هذا التنافس التجاري أن دمرتها الأساطيل البرتغالية عام ١٤٦٥ ثم أعيد بناؤها سنة ١٥١٥.

انظر. (Juan Leon africano : Descripcion de africa p ٧٠١ ـ ٨٠١)

(٤٧٠) الجون : ضرب من القطا سود البطون والأجنحة ولعلّه يريد من وراء ذلك أن المدينة كانت بمثابة محط للسفن التي تشبه الجون في نزولها وإقلاعها.

١٠٢

الصحة ، والعرب عليها في الفتن ملحّة ، والأمراض بها تعيث وتعبث ، والخزين بها لا يلبث.

قلت فأزمّور (٤٧١) ، قال جار واد وريف ، وعروس ربيع وخريف ، وذو وضع شريف ، أطلّت على واديه المنازه والمراقب ، كأنها النجوم الثواقب ، وجلت من خصبه المناقب ، وضمن المرافق نهره المجاور وبحره المصاقب. بلد يخزن الأقوات ، ويملأ اللهوات ، باطنة الخير ، وإدامة اللحم والطير ، وساكنه رفيه ، ولباسه يتّحد فيه ، ومسكنه نبيه ، وحوته الشابل ليس له شبيه. لكنّ أهله إنما حرثهم وحصادهم اقتصادهم فلا يعرفون ارضاخا ، ولا وردا نضّاخا ، يترامون على حبّة الخردل بالجندل ، ويتضاربون على الأثمان الزيوف بالسيوف. بربريّ لسانهم كثير حسانهم ، قليل إحسانهم ، يكثر بينهم بالعرض الافتخار ، ويعدم ببلدهم الماء والملح والفخّار.

قلت فتيط (٤٧٢) ، قال معدن تقصير ، وبلد بين بحري ماء وعصير ورباط للأولياء به سرور واغتباط. ومساجدها تضيق عنه المدائن منارا عاليا ، وبقلادة الإحكام حاليا ؛ إلا أن خارجها لا يروق عين المقيم والمسافر ، ولا يشوق بحسن سافر ، ومؤمنه يشقى بصداع كافر ، وحماه عدو كل خفّ وحافر ، فلو لا ساكنه لم ينبس يوم فخر ، ولم ينم إلا إلى صخر.

قلت فرباط آسفي (٤٧٣) قال لطف خفيّ ، وجناب حفيّ ، ووعد وفيّ ،

__________________

(٤٧١) أزمورAzammur ، مدينة على ساحل المحيط الإطلنطي بالمغرب الأقصى ، وتقع على الضفّة اليسرى لمصبّ نهر أم الربيع.

راجع J.Leon africano : Op.cit.p ٣٨) ؛ التعريف بابن خلدون ص ٤٤ حاشية ٤).

(٤٧٢) تيطTit ، مدينة قديمة في إقليم دكالة وتقع على ساحل المحيط الإطلنطي على مسافة ٢٤ ميلا من مدينة أزمور وعلى بعد ١٠ ك. م جنوبي مازكان).Mazagan الجديدة الحالية) وتيط معناها العين بالبربرية ومنها تطوان أي العيون السبعة.

انظر. (J.Leon : Op.cit.p.١٨)

(٤٧٣) آسفي Safi ، مدينة بالمغرب الأقصى على ساحل المحيط الإطلنطي وقد ضبطها ابن خلدون بالسين المفتوحة بينما كتبها ليون الإفريقي (الوزان) بسكون السين (ص ٧٩) وكذلك فعل المستشرق ليفي بروفنسال نقلا عن كتاب المسند الصحيح الحسن في مآثر مولانا أبي الحسن لابن مرزوق (ص ٣٥ ، ٨١). هذا وقد ورد سبب تسمية هذه المدينة بهذا الاسم في قصّة

١٠٣

ودين ظاهره مالكي ، وباطنه حنفيّ. الدماثة والجمال ، والصبر والاحتمال ، والزهد والمال ، والسذاجة والجلال. قليلة الأحزان ، صابرة على الاختزان ، وافية المكيال والميزان ، رافعة اللواء ، بصحة الهواء. بلد موصوف ، برفيع ثياب الصوف ، وبه تربة الشيخ أبي محمد صالح ، وهو خاتمة المراحل ، لمسوّرات ذلك الساحل. لكن ماءه قليل ، وعزيره لعادية من يواليه من الأعراب ذليل.

قلت فمدينة مرّاكش (٤٧٤) ، قال فتنفّس الصعداء ، وأسمع البعداء ، وقال درج الحلّي ، وبرج النيّر الجلي ، وتربة الولي ، وحضرة الملك الأوّليّ ، وصرح الناصر الولي. ذات المقاصير والقصور ، وغابة الأسد الهصور وسدة الناصر والمنصور. بعدت من المركز دارتها ، وجرت على قطب السياسة إدارتها ، وسحرت العيون شارتها ، وتعبد الإباءة إشارتها ، وخاضت البحر الخضمّ نذارتها وبشارتها. اقتعدت البسيط المديد ، واستظهرت بتشييد الأسوار وأبراج الحديد ، وبكى الجبل من خشيتها بعيون العيون ، فسالت المذانب كصفاح القيون ، وقيدت طرف الناظر المفتون ، أدواح الشجر بها وغابات الزيتون. فما شئت من انفساح السكك ، وسبوغ الشكك ، وانحلال التكك ، وامتداد الباع في ميدان الانطباع ، وتجويد فنون المجون بالمد والإشباع. زيتها الزمن يعصر ، وخيرها يمد ولا يقصر ، وفواكهها لا تحصى ولا تحصر. فإذا

__________________

الفتية المغررين أو المغربين من أهل لشبونة حينما نزلوا بهذا المكان وظنّوا أنهم في بلدهم لشبونة. فلمّا علموا أن بينهم وبين مدينتهم مسيرة شهرين ، قال زعيمهم : وا أسفى!! فسمي المكان إلى اليوم أسفى. انظر (زكي حسن : الرحالة المسلمون في العصور الوسطى ص ٤٩). انظر كذلك (عبد الحميد العبادي : حديث الفتية المغررين من أهل لشبونة ـ مجلة الثقافة بالقاهرة (١٩٤١) عدد ١٣٦). ولعلها من أسفو وهي كلمة بربرية بمعنى الضوء نسبة إلى المغارات التي كانت تقام على السواحل.

(٤٧٤) مراكش : Marruecos بالفتح ثم التشديد وضم الكاف ، مدينة عظيمة بالمغرب الأقصى.

أسسها يوسف بن تاشفين ملك المرابطين عام ٤٥٤ ه‍ (١٠٦٢ م) واستمرّت هذه المدينة عاصمة للدولة أيام المرابطين والموحدين ثم قلت مكانتها السياسية في عهد بني مرين عند ما صارت مدينة فاس عاصمة لدولتهم

(مراصد الاطلاع ج ٣ ، ص ١٢٥١ ؛.j.leon : op.Cit.P.٧٦ ـ ٨٦)

١٠٤

تناصف الحرّ والبرد ، وتبسّم الزهر وخجل الورد ، وكسا غدرانها الحائرة الحلق السرد ، قلت انجز للمتقين من الجنّة الوعد ، وساعد العسد ، وما قلت إلا بالذي علمت سعد. ومنارها العلم في الفلاة ، ومنزلته في المآذن منزلة والي الولاة ، إلا أن هواءها محكم في الجباه والجنوب ، يحمي عليها بكير الجنوب ، وحمياها كلفة بالجسوم ، طالبة ديونها بالرسوم ، وعقاربها كثيرة الدبيب ، منغّصة مضاجعة الحبيب. وخرابها موحش هائل ، وبعد الأقطار عن كثير من الأوطار بها حائل ، وعدوّها ينتهب في الفتن أقواتها ، وجرذان المقابر تأكل أمواتها. وكانت أولى المنازل بالإغياء (٤٧٥) لو أنها اليوم معدودة في الأحياء.

قلت فأغمات (٤٧٦) ، قال بلدة لحسنها الاشتهار ، وجنّة تجري من تحتها الأنهار ، وشمامة تتضوع منها الأزهار ، متعددة البساتين ، طامية بحار الزياتين ، كثيرة الفواكه والعنب والتين. خارجها فسيح ، والمذانب فيه تسيح ، وهواؤها صحيح ، وقبولها بالغريب شحيح ، وماؤها نمير ، وماء وردها ممدّ للبلاد وممير. إلا أن أهلها يوصفون بنوك وذهول ، بين شبان وكهول ، وخرابها يهول ، وعدوّها تضيق لكثرته السهول ، وأموالها لعدم المنعة في غير ضمان ، ونفوسها لا تعرف طعم أمان.

قلت فمدينة مكناسة (٤٧٧) ، قال مدينة أصيلة ، وشعب المحاسن وفصيلة ،

__________________

(٤٧٥) الإغياء : بلوغ الغاية في الشرف والأمر.

(٤٧٦) مدينة أغمات Agmet وتقع في جنوب مدينة مراكش على سفوح جبال أطلس (انظر صفحة ٩٣ حاشية ٣ من هذا الكتاب).

(٤٧٧) مكناسة :(Mequinez) بكسر الميم وسكون الكاف. إحدى مدن المغرب الأقصى ، في جنوب غرب فاس سمّيت باسم قبيلة مكناسة البربرية التي اختطتها. وقد ازدهرت هذه المدينة أيام بني مرين ، ولا تزال بها مدرسة السلطان أبي عنان فارس ، تلفت الأنظار. ولهذه المدينة تاريخ حافل مجيد ، ولهذا عنى بها المؤرخون ، فكتبوا عنها كتبا كثيرة ، نذكر منها : (كتاب الروض الهتون في أخبار مكناسة الزيتون) لمحمد بن أحمد بن غازي العثماني المكناسي (فاس ١٣٢٦) ؛ وكتاب (إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس) للمولى عبد الرحمن بن زيدان. طبع منه خمسة أجزاء بالمغرب.

انظر (التعريف بابن خلدون ص ٢٢١ حاشية ٣) والاستزادة في هذا الموضوع راجع : (Monographie de Mequinez, Journal Asiatique ٥٥٨١, I, p. ١٠١ ـ ٧٤١)

راجع كذلك (C.Brockelmann : Gesch der Arab.Lit.II ,p.٠٤٢)

١٠٥

فضّلها الله ورعاها ، وأخرج منها ماءها ومرعاها. فجانبها مريع ، وخيرها سريع ، ووضعها له في فقه الفضائل تفريع. عدل فيها الزمان ، وانسدل الأمان ، وفاقت الفواكه فواكهها ولا سيّما الرّمّان ، وحفظ أقوالها الاختزان ، ولطفت فيها الأواني والكيزان ، واعتدل للجسوم الوزان ، ودنا من الحضرة جوارها ، فكثر قصّادها من الفضلاء وزوّارها. وبها المدارس والفقهاء ، ولقصبتها الأبّهة والبهاء ، والمقاصير والأبهاء. إلا أن طينها ضحضاح ، لذي الظرف فيه افتضاح ، وأزقّتها لا يفارقها القذر ، وأسواقها يكثر بها الهذر ، وعقاربها لا تبقي ولا تذر ، ومقبرتها لا يحتجّ عن إهمالها ولا يعتذر.

قلت فمدينة فاس (٤٧٨) ، فقال رعى الله قطرا تربه ينبت الغنى ، وآفاقه

__________________

(٤٧٨) مدينة فاس : Fez ، أسسها الأمير إدريس الأول ١٧٢ ه‍ (٧٨٩ م). على أن المؤسس الحقيقي لهذه المدينة هو ابنه إدريس الثاني باعتراف جميع المؤرخين. ففي أوائل عهد هذا الأخير ، هاجر إلى المغرب الأقصى عدد كبير من أهل الربض بضواحي قرطبة. وذلك بعد أن ثاروا على أميرهم الأموي الحكم بن هاشم واضطر إلى طردهم نهائيا من الأندلس.

ولقد رحب الأمير إدريس الثاني بهؤلاء الربضيين اللاجئيين ، وعرض عليهم الإقامة في مدينة فاس الناشئة ، فاستجابوا إلى طلبه وانتقلوا إلى عاصمة الأدارسة ونقلوا معهم مظاهر الحضارة الأندلسية الراقية خصوصا وأن معظمهم كانوا من أهل الحرف والصناعة والزراعة ، فأعطوا المدينة طابعا أندلسيا جميلا في صناعتها أو في أبنيتها الأندلسية البيضاء ذات الحدائق الداخلية في أحواشها. (Los Patios) وهكذا سيطر الأندلسيون على مدينة فاس لدرجة أنها سمّيت باسمهم وعرفت بمدينة الأندلسيين.

في ذلك الوقت أيضا كان الأمير إدريس الثاني ، قد أسس مدينة مقابلة لمدينة فاس ولا يفصلها عنها سوى نهير صغير ، وأسماها العالية ، وسكنها جماعة من عرب إفريقية (المغرب الأدنى) من نواحي مدينة القيروان ولهذا سمّيت بمدينة القرويين ، (نسبة للقيروان) ، وبمضي الزمن غلب اسم فاس على المدينتين وصارت تشمل عدوة القرويين وعدوة الأندلسيين. ولا يزال جامع القرويين ... الكعبة العلمية التي يؤمها طلاب من سائر أنحاء المغرب.

وحينما استولى المرابطون على المغرب ، نزلوا فاس أول الأمر ثم بنوا مدينة مراكش وجعلوها قاعدة لملكهم لقربها من موطنهم الأصلي بالجنوب ، ثم أتى الموحّدون بعدهم فنزلوا مدينة مراكش أيضا واتخذوها دارا لملكهم للغرض نفسه. ثم جاء ملوك بني مرين فاتخذوا مدينة فاس عاصمة لهم ، وبنى الأمير أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق المريني بالقرب منها مدينة فاس الجديدة سنة ٦٧٤ ه‍ (١٢٧٥ م) واتخذها عاصمة ملكه وكانت تسمّى بالمدينة البيضاء وبالبلد الجديد والمدينة الجديدة.

انظر كذلك (ابن أبي زرع الفاسي : الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس. ونشره وترجمه إلى اللاتينية المستشرق طرنبرغ C.Tornberg (Upsala ٣٤٨١ ـ ٦٤٨١) ـ

١٠٦

ظل على الدين ممدود ، نعم العرين لأسود بني مرين ، ودار العبادة التي يشهد بها مطرح الجنّة ومسجد الصابرين ، وأم القرى ، ومأمّ السّرى ، وموقد نار الوغى ونار القرى ، ومقر العز الذي لا يهضم وكرسي الخلافة الأعظم ، والجريّة التي شقها ثعبان الوادي فما ارتاعت ، والأبيّة التي ما أذعنت أذعانها للأيالة المرينية ولا أطاعت. أي كلف وكلف ، ومتفق ومختلف ، ومحاباة وذلف ، وقضيم وعلف ، وخلف عن سلف ، إنما الدنيا أبو دلف. سألت عن العالم الثاني ، ومحراب السبع المثاني ، ومعنى المغاني ، ومرقص النادب والغاني ، وإرم المباني ، ومصلّى القاصي والداني ، هي الحشر الأول ، والقطب الذي عليه المعوّل ، والكتاب الذي لا يتأوّل ، بل المدارك والمدارس ، والمشايخ والفهارس ، وديوان الراجل والفارس ، والباب الجامع من موطأ المرافق ، ولواء الملك الخافق ، وتنّور الماء الدافق ، ومحشر المؤمن والمنافق ، وسوق الكاسد والنافق ، حيث البنى التي تنظر إليها عطارد فاستجفاها ، وخاف عليها الوجود أن يصيبها بعينه الحسود فسترها بالغور (٤٧٩) وأخفاها.

والأسواق التي ثمرات كل شيء إليها جبيت ، والموارد التي اختصّت بالخصر وحبيت ، والمنازه المخطوبة ، وصفاح الخلج المشطوبة ، والغدر التي منها أبو طوبة.

بلد أعارته الحمامة طوقها

وكساه ريش جناحه الطاؤوس

فكأنما الأنهار فيه مدامة

وكأن ساحات الديار كؤوس

اجتمع بها ما أولده سام وحام ، وعظم الالتئام والالتحام ، فلا يعدم في مسالكها زحام. فأحجارها طاحنة ، ومخابزها شاحنة ، وألسنتها باللغات المختلفة لاحنة ، ومكاتبها مائجة ، ورحابها متمائجة ، وأوقافها جارية ، والهمم فيها إلى الحسنات وأضدادها متبارية. بلد نكاح وأكل ، وضرب وركل وامتياز

__________________

انظر أيضا (السلاوي الناصري : الاستقصاء ج ٢ ، ص ٢٢ ، ابن خلدون : العبر ج ٧ ، ص ١٩٤ ـ ١٩٥) ابن القاضي : جذوة الاقتباس (فاس ١٣٠٩). Levi Provencal : La Fonclation de Fes) Paris ٩٣٩١)

راجع كذلك (Enc.ISl.Art ,fas ,II PP.٢٧ ـ ٠٨ وما بها من مراجع).

(٤٧٩) الماء الغائر ، الكهف ، ما انحدر من الأرض ، القعر من كل شيء

١٠٧

من النساء بحسن زيّ وشكل ، يتنبه بها الباه (٤٨٠) ، وتتلّ الجباه ، وتوجد للأزواج الأشباه ، إلى وفور النشب وكثرة الخشب ، ووجود الرقيق وطيب الدقيق ، وإمكان الإدام ، وتعدد الخدام ، وعمران المساجد والجوامع وإدامة ذكر الله في المآذن والصوامع.

وأما مدينة الملك (٤٨١) فبيضاء كالصباح ، أفق للغرر الصباح ، يحتقر لإيوانها إيوان كسرى ، وترجع العين حسرى ، ومقاعد الحرس ، وملاعب الليث المفترس ، ومنابت الدوح المغترس ، ومدرس من درّس أو درس ، ومجالس الحكم الفصل وسقائف الترس والنصل ، وأهداف الناشبة أولى الخصل ، وأوا وين الكتاب ، وخزائن محمولات الأقتاب ، وكراسي الحجّاب ، وعنصر الأمر العجاب. إلى الناعورة (٤٨٢) التي مثلت من الفلك الدوّار مثالا ، وأوحى الماء إلى كل سماء منها أمرها فأبدت امتثالا ، ومجّت العذب البرود سلسالا ، وألفت أكوابها الترفّه والترف فإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى.

وقوراء من قوس الغمام ابتغوا لها مثالا أداروها عليه بلا شكّ

فبين الثريا والثرى سد جرمها

وللفلك الدوّار قد أصبحت تحكي

تصوغ لجين النهر في الروض دائما

دراهم نور قد خلصن من السبك

وترسل من شهبانها ذا ذؤابة

فتنفي استراق السمع من حوزة الملك

تذكرت العهد الذي اخترعت به

وحنّت فما تنفك ساجعة تبكي

ثم قال ، إلا أن حرّ هذه المدينة مذيب ، وساكنها ذيب (٤٨٣) ومسالكها

__________________

(٤٨٠) من الطريف أننا نجد في كتاب روض القرطاس المنسوب لابن أبي زرع عبارة تشير إلى أن مياه الجداول التي تخترق مدينة فاس تمتاز بخصائص عجيبة من ضمنها أنها تنبّه شهوة الجماع إذا شربت على الريق ، وتغسل بها الثياب من غير صابون فتبيضها وتكسوها رونقا وبصيصا ورائحة طيبة كما يفعل الصابون. هذا ومن المعروف أن النهر الذي يمر بمدينة فاس متفرّع من نهر سبو. (Sebu) وكان يعرف بوادي فاس ويسمى الآن وادي الجواهر.

انظر (ليفي بروفنسال : نخب تأريخية جامعة لأخبار المغرب الأقصى ص ٢٢ ، باريس ١٩٤٨.

(٤٨١) يقصد فاس الجديدة

(٤٨٢) الناعورة والناعور : آلة لرفع الماء قوامها دولا ب كبير وقواديس مركبة على دائرة ، والجمع نواعير.

(٤٨٣) يقصد ذئب.

١٠٨

وعرة ، وظهائرها متسعرة ، وطينها هائل ، وزحامها حرب وائل ، إن نشد الجفاء ناشد ، فهي ضالّته المنشودة ، أو حشد أصنافه حاشد ، فهي كتيبته المحشودة. إلى بعد الأقطار ، وعياث الميازب أوقات الأمطار ، والاشتراك في المساكن والديار ، على الموافقة والاختيار ، وتجهم الوجوه للغريب ، ذي الطرف المريب ، وغفلة الأملس عن الجريب ودبيب العقارب ، أرسالا كالقطا (٤٨٤) القارب (٤٨٥) ، وأهلها يرون لأنفسهم مزيّة الفضل ، ويدينون في مكافأة الصنائع البالغة بالعضل (٤٨٦). يلقى الرجل أبا مثواه فلا يدعوه إلى بيته ، ولا يسمح له ببقله ولا بزيته ، فلا يطرق الضيف حماهم ، ولا يعرف اسمهم ولا مسمّاهم ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وقليل ما هم. ومقبرتهم غير نابهة ، وأجدائها غير متشابهة ، مشربة حيوان ، ومشبعة جرذان ، غير وان.

قلت فما تقول في آقر سلوين ، قال واد عجيب ، وبلد لداع الإيناع مجيب ، مخضرّ الوهاد والمتون ، كثير شجر الجوز والزيتون ، كنفته الجبال الشم ، وحنا عليه الطود كما تحنو على ولدها الأم ، فهواؤها ملائم ، والعنب على الفصول دائم ، إلا أن الشمس لا تطرقه بنوال ، ولا ترمقه إلا وقت زوال ، قد باء بالحظ الموكوس ، وانكمش تحت إبط الظل المنكوس ، فجوّه عديم الطلاوة ، وعنبه للبرد قليل الحلاوة.

قلت فسجلماسة (٤٨٧) ، فقال تلك كورة وقاعدة مذكورة ، ومدينة محمودة مشكورة. كانت ذات تقديم ، ودار ملك قديم ، وبلد تبر وأديم ، ومنمي تجر ومكسب عديم. معدن التمر ، بحكمة صاحب الخلق والأمر ، تتعدّد أنواعه فتعيي الحساب ، وتجم بها فوائده فتحسب الاقتناء والاكتساب.

__________________

(٤٨٤) القطا ومفردها قطاة وهو طائر في حجم الحمام.

(٤٨٥) القارب : الطالب الماء ليلا.

(٤٨٦) أي القبيحة.

(٤٨٧) سجلماسه ، بكسر السين والجيم وسكون اللام ، مقاطعة ومدينة في جنوب المغرب الأقصى تسمى الآن تافيلالت.

انظر (ياقوت : معجم البلدان ج ٥ ، ص ٤١ ، التعريف بابن خلدون ص ٤٠ حاشية ١)

١٠٩

قد استدار بها لحلق السور الأمر العجاب ، والقطر الذي يحار في ساحته النجاب ، فضرب منه على عذارها الحجاب ، باطنه فيه الرحمة ، وظاهره من قبله العذاب. يحيط بها مرحلة راكب ، ويصيّرها سماء مخضرة ذات كواكب. فمنازلها لا تنال بهوان ، وفدنها ودمنها تحت صوان ، ونخلها تظل من خلف الجدار ، وتتبوأ الإيمان والدار ، وحللها مبثوثة بين الدمن ، وضياعها تتملك على مرّ الزمن ، وسوائمها آلفة للسمن ، موجودة بنزر الثمن ، وفواكهها حميمة ، ونعمتها عميقة ، وسورها حصين مشيّد ، وجسرها يعجز عن مثله معتصم ورشيد ، وسقيها يخص دار الملك بحط معلوم ، ويرجع إلى وال يكف كل ظلوم. وهي أم البلدان ، المجاورة لخدود السودان فتقصدها بالتبر القوافل ، وتهدي إلى محاربها النوافل. والرفاهية بها فاشية ، والنشا في الحلية ناشية ، لكنها معركة غبار ، وقتيل عقربها جبار (٤٨٨) ، ولباسها خامل ، والجفاء بها شامل ، والجو يسفر عن الوجه القطوب ، والمطر معدود من الخطوب ، لبناء جدرانها بالطوب ، والقرع بؤوس أهلها عابث ، والعمش في جفونهم لابث ، والخصا يصيبهم ، ويتوفر منه نصيبهم.

قلت فتازا (٤٨٩) ، قال بلد امتناع ، وكشف قناع ، ومحل ريع وإيناع ، ووطن طاب ماؤه ، وصحّ هواؤه ، وبان شرافه واعتلاؤه ، وجلّت فيه مواهب الله وآلاؤه. عصيره مثل ، وأمر الخصب به ممتثل ، وفواكهه لا تحصى ، يمار بها البلد الأقصى ، وحبوبه تدوم على الخزن ، وفخاره آية في لطافة الجرم وخفّة الوزن ، إلا أن ريحه عاصف ، وبرده لا يصفه واصف ، وأهله في وبال ، من معرّة أهل الجبال ، وليوثه مفترسة ، وأخلاق أهله شرسة.

__________________

(٤٨٨) الجبار : الهدر ، يقال ذهب دمه جبارا أي هدرا دون أن يؤخذ بثأره.

(٤٨٩) تازا (تازة) Taza تقع في شرق مدينة فاس بنحو ١٢٧ ك. م ، وتمتاز هذه المدينة بموقع استراتيجي ممتاز جعلها منذ أقدم العصور مركزا حربيا له خطورته. ولمكانتها الحربية اتخذها الحسن بن إدريس الثاني مقرا حربيا ، وعني بها عبد المؤمن الموحدي فجعلها حصنا مانعا وفي أيام بني مرين اتخذها أبو يعقوب المريني قاعدة لغزو تلمسان ولا تزال إلى اليوم مركزا حربيا له أهميته. وينسب إلى هذه المدينة علماء كثيرون.

انظر (التعريف بابن خلدون ص ١٣٤ حاشية ٢ ، تاج العروس ج ٤ ، ص ١٢)

١١٠

قلت فغساسة (٤٩٠) ، قال فريسة وأكيلة ، وحشف وسوء كيلة ، إلا أنها مرسى مطروق ، بكل ما يروق ، ومرفأ جارية بحريّة ، ومحطّ جباية تجريّة.

ثم لما وصل إلى هذا الحد ، نظر إلى حاج السوق قد أفاض ، ومزاده أعمل فيه الانفاض ، وعلوّ الأصوات به قد صار إلى الانخفاض. فقال وجب اعتناء بالرحيل واهتمام ، وكل شيء إلى تمام. ومددت يدي إلى الوعاء فخرقته ، وإلى العين فأرّقته ، وقلت له لأحكّمنّك من كرام بني الأصفر ، في العدد الأوفر ، مائلة في اللباس المزعفر. فلمّا خضب كفّيه بحنّائها ، وحصلت النفس على استغنائها ، استدناني ، وشبّك بنانه ببناني ، وقال لا حبط عملك ، ولا خاب أملك ، ولا عدم المرعى الخصيب هملك ، فلنعم مغلي البضائع ، وحافظ الفضل الضائع ، ومقتني الفوائد ، ومعوّد العوائد. وستثبتّ مخيلته ، فإذا الشيخ وتلميذه ، وحماره ونبيذه ، وقد تنكّر بالخضاب المموّه ، والزيّ المنوه وعاث بخد الغلام الشعر المشوّه. فقلت ، هيه أبت المعارف أن تتنكر ، والصباح أن يجحد أو ينكر ، كيف الحال بعدي ، وما اعتذاراك عن إخلاف وعدي ، فقال :

خذ من زمانك ما تيسّر

واترك بجهدك ما تعسّر

ولرب مجمل حالة

ترضى به ما لم يفسّر

والدهر ليس بدائم

لابد أن سيسوء إن سر

واكتم حديثك جاهدا

شمت المحدث أو تحسّر

والناس آنية الزجاج إذا عثرت به تكسر

لا تعدم التقوى فمن

عدم التقي في الناس أعسر

وإذا امرؤ خسر الإله

فليس خلق منه أخسر

ثم ضرب جنب الحمار ، واختلط في الغمار ، وتركني أتقرّى الآثار ، وكل نظم فإلى انتثار.

__________________

(٤٩٠) غساسه : تقع عند مصب نهر ملويه Muluia بالبحر المتوسط ، وهناك كانت قبائل بطويةButhoia.

راجع (ابن خلدون : العبر ج ٦ ص ١٠١ ـ ١٠٢ ،.J.Leon : op.cit.p.٠٨١)

١١١
١١٢

الرسالة الرابعة

رحلة لسان الدين بن الخطيب

في بلاد المغرب عن كتاب نفاضة الجراب في علالة الاغتراب

[لوحة رقم ٢] بسم الله الرحمن الرحيم ، صلّى الله على سيدنا محمد وآله ...

فصل في ذكر جبل هنتاته (٤٩١)

__________________

(٤٩١) هنتاته : بكسر الهاء وفتحها ، وسكون النون ، وفتح التاء الفوقية ، بعدها ألف ممدودة ثم تاء مفتوحة بعدها هاء للتأنيث (التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا ص ٣٧ حاشية ١) وهنتاته اسم يطلق على جبل من جبال أطلس كما يطلق على القبيلة المقيمة فيه. ولقد لعبت قبيلة هنتاته دورا كبيرا أيام الموحدين وبني مرين.

انظر : (Pierre de Cenival : Les Emirs de Hintata Rois de Marrakeeh, Hesperis ٧٣٩١ t. XXIV p. ٥٤٢.)

وقد اختفى ذكر هنتاته بعد القرن السادس عشر الميلادي ، ومن المصادر الأساسية التي يرجع إليها في هذا الشأن كتاب (Descripcion de Africa) أي وصف إفريقيا ، الذي كتبه باللغة الإيطالية في القرن السادس عشر الميلادي ، الفقيه المغربي الحسن بن محمد الوزان الفاسي. وكان هذا الرجل قد اعتنق المسيحية وسمى نفسه يوحنا ليون الإفريقي Juan Leon Africano ، ثم سافر إلى إيطاليا خوفا من أن يغتاله مواطنوه. وهناك اشتغل بتدريس اللغة العربية. وفي آخر حياته عاد إلى تونس حيث اعتنق الإسلام من جديد وتوفي عام ١٥٣٢ م. والكتاب لأهميته العلمية قد ترجم إلى اللغة الإسبانية بواسطة معهد الجنرال فرانكو بتطوان عام ١٩٥٢ كما ترجمه المستشرق ماسينيون إلى الفرنسية : Louis Massignon : Tableau

١١٣

وعملنا على الصعود إلى الجبل المطل عليها ، والجارح المرفرف على درّاجها مقتصرين على حدود هنتاته ، عنصر الدعوة ، وأولياء الدولة المرينية ، وحلفاء الطاعة المخصوصين برعي الجوار ، والاستماتة من دون الحرمة ، وشد عروة الوفاء ، وسد الخلّة واستحقاق الشّفوف (٤٩٢) على غيرهم والمزية ، إذ كان ذلك أقوى بواعث الوجهة ، وأخلص مقاصد الرحلة.

وقدمت بين يدي وصولي إلى مراكش ، المخاطبة إلى عميد تلك البقعة ، وشاه تلك الرقعة ، صدر هذه الحدود القصوى ، المتميّز بالرجاحة والرأي والسياسة ، المتفق فيه إفاضة العدل ، وكف اليد ، والتجافي عن مال الجباية ، والمستأثر بحمد الجمهور من الرعية ، وحب أولي العفاف والخيرية ، إلى النّبل الذي لا يطيش نبله ، والإدراك الذي لا يفلّ حدّه ، والدهاء الذي لا يسير غوره ، والمعروف الذي لا يتجاوز محالّ الضرورة حكمته ، عامر بن محمد علي (٤٩٣) الهنتاتي ، بما نصه (٤٩٤) :

__________________

geografique d\'apres Leon I\'Africain) Alger ٦٠٩١).

ولقد ترجم هذا الكتاب إلى العربية حديثا مرتين : الأولى على يد عبد الرحمن حميده (الرياض ١٣٩٩ ه‍ ، ١٩٧٩ م) والثانية بواسطة محمد حجي ومحمد الأخضر (الرباط ١٤٠٠ ه‍ ، ١٩٨٠ م).

هذا وقد أشار الوزان إلى جبل هنتاته باسم محرف Hantera هنتيرا وقال إنه جبل مرتفع جدا وأهله مشهورون بالغنى والشجاعة. راجع (الترجمة الإسبانية ص ٧٦ ـ ٧٧) راجع كذلك : (Levi Provencal : Decoments Inedits D, Histoire Almohade p. ٢٦ Note ٤)

(٤٩٢) الشفوف بمعنى السمو.

(٤٩٣) عامر بن محمد بن علي المكنى بأبي ثابت ، شيخ هنتاته من قبائل المصادمة ؛ تولى أحكام الشرطة بتونس في عهد السلطان أبي الحسن المريني ثم ولى الجباية لأبي عنان فارس فكفاه مؤنتها.

وكان أبو عنان يقول عنه (وددت لو أصبت رجلا يكفيني ناحية المشرق من سلطاني كما كفاني محمد بن عامر ناحية المغرب ، وأتودع). انظر (ابن خلدون : العبر ج ٧ ، ص ٣٠٠ ـ ٣١٨) وقد أورد ابن الخطيب ترجمة لهذا الشيخ في كتاب الإحاطة (لوحة ٣٤٦ ـ ٣٤٧ اسكوريال) وقد أشار فيها إلى أن السلطان أبا الحسن المريني عهد إلى عامر هذا بحفظ حرمه في سفن خاصة بجوار الساحل الأندلسي وذلك عند ما دخل بجيوشه أرض الأندلس لمحاربة الثالوث المسيحي الإسباني : قشتالة ، أرغونة ، البرتغال. ومن المعروف أن هذه الحرب انتهت بهزيمة السلطان المريني في وقعة طريف Del Salado عام ٧٤١ ه‍ (١٣٤٠ م) واستشهد عدد كبير من المسلمين من بينهم والد ابن الخطيب وأخوه.

(٤٩٤) نقل المقّري هذا الخطاب في كتاب نفح الطيب ج ٨ ، ص ٣١٤ ـ ٣١٥ (طبعة محي الدين عبد الحميد).

١١٤

تقول لي الأظعان والشوق في الحشا

له الحكم بمضي بين ناه وآمر

إذا جبل التوحيد أصبحت فارعا

فخيم قرير (٤٩٥) العين في دار عامر

وزر تربها المعصوم (٤٩٦) إن مزارها

هو الحجّ يمضي (٤٩٧) نحوه كل ضامر

ستلقى بمثوى عامر بن محمد

ثغور الأماني من ثنايا البشائر

ولله ما تبلوه من سعد وجهة

ولله ما تلقاه من يمن طائر

وتستعمل الأمثال في الدهر منكما

بخير مزور أو بأغبط زائر

لم يكن همّي ، أبقاك الله ، مع فراغ البال ، وإسعاف الآمال ، ومساعدة الأيام والليال ، إذ الشمل جميع ، والزمن كلّه ربيع ، والدهر مطيع سميع ، إلا زيارتك في جبلك الذي يعصم من الطوفان ، ويواصل أمنه بين النوم والأجفان ، وأن أرى الأفق الذي طلعت منه الهداية ، وكانت إليه العودة ومنه البداية. فلمّا حمّ الواقع (وعجز عن خرق الدولة الأندلسية الراقع) (٤٩٨) وأصبحت ديار الأندلس وهي البلاقع ، وحسنت من استدعائك إياي المواقع ، قوي العزم وإن لم يكن ضعيفا ، وعرضت على نفسي السفر بسببك فألفيته خفيفا ، والتمست الإذن حتى لا ترى في قبلة السداد تحريفا ، واستقبلتك بصدر مشروح ، وزند العزم (٤٩٩) مقدوح ، والله يحقق السول ، ويسهل بمثوى الأمائل المثول ، ويهيئ من قبيل (٥٠٠) هنتاته القبول بفضله.

فأكرم الوفادة ، وأطرأ (٥٠١) بين يدي الإمارة ، وأستدعى من محل سكناه بمراكش إلى دار الكرامة ، وشرك في الطعام نبهاء الدولة وعليّة الخاصّة.

وأطرف من استجلاء منزله بقرة العين ، انفساخ خطة ، والتفاف شجرة ، وجرية ماء واستبحار بركة. واستكثر من كل طرفة ، ونقل من جلسة إلى

__________________

(٤٩٥) في نفح الطيب : قرار

(٤٩٦) في نفح الطيب : تربة المعلوم

(٤٩٧) في نفح الطيب : يفضي

(٤٩٨) الزيادة عن نفح الطيب

(٤٩٩) في نفح الطيب : للعزم

(٥٠٠) في نفح الطيب : قبل

(٥٠١) أطرأ أي بالغ في مدحه

١١٥

جلسة ، وحرص على تتميم البر بكل حيلة.

وفي يوم الاثنين المتصل بيوم القدوم ، توجّهنا إلى الجبل في كنف أصحابه تحت إغراء بره ، وفي مركب قرة عينه ، فخرجنا نستقبل بين يديه السهل ، ونساير الجهة ، ونشاهد الآثار ، ونتخطّى المعاهد ، وننشق (٣ و) النسيم البليل القريب العهد بمادة الثلج وعنصر البرد ، ولما بلغنا درج الجبل ، وانتحينا طريقه من السفح ، وهي تركب ضفّة الوادي الملتف بعادي شجر الجور والطرفاء وشجر الخلاف والدردار ، وأمعنّا (و) (٥٠٢) كابدنا عنتا في اقتحام الوادي ذي الجرية الكثيرة الصبب ، المسوقة المد ، العظيمة التيار ، المجهولة المخاض ، ونقتحم منه أزرق شفّافا عن الحصباء ، كثير الجلبات ، أملس الصفاح ، لذّاع البرد ، عبرناه نحوا من ثلاثين مرّة في أماكن يتخلّلها الدّوح ، ويعظم الرّيع ، وتخصر الحرباء ، وتسمو عن جانبها الجبال الشم ، والشعبات التي تزلّ بها العصم ، وتفضي دروبه إلى أقوار (٥٠٣) فسيحة وأجواء رحيبة ، يكتنفها العمران ، ويموج بها السنبل.

ولما كدنا أن نختم عدد نوب المجاز ، ونأتي على عنته ، تلقتنا الخيل راكضة أمام اليعسوب المتبوع عبد العزيز بن محمد الهنتاني ، صنوه وحافظ سيقته ، وقسيمته في قعساء عزته ، الحسن الوجه ، الراجح الوقار ، النبيه المركب ، الملوكي البزه ، الظاهر الحياء المحكم الوخط إيثارا للحشمة واستكثارا من مواد التجلة على الفتاء والجدة. فرحّب وأسهل ، وارتاح واغتبط ، وألطف وقدّم ، وصعدنا الجبل إلى حلّة سكناه ، المستندة إلى سفح الطّود ، وقد هيأ ببعض السهل الموطأ للاعتمار بين يدينا من المضارب كل سامي العماد ، بعيد الطّنب ، سويّ القامة ، مقدّر التفاصيل ، بديع النقش والصنعة ، ظاهر الجدة ، مصون عن البذلة ، يظلل من مراتب الوطاء الرفيع ، ولحف الحرر (٣ ط) ومساند الوشي ، وانطاع مزعفر الجلد ما تضيق عنه القصور المحجّبة والأبهاء المنضدة. ولم يكد يقر القرار ، ولا تنزع الخفاف ، حتى غمر

__________________

(٥٠٢) الواو هنا زيادة كي يستقيم المعنى

(٥٠٣) انظر ما كتبه دوزي في معنى قور وأقوار في : (Dozy : Supplement aux Dictionnaires Arabes. II p. ٧١٤ a)

١١٦

من الطعام البحر ، وطما الموج ، ووقع البهت ، وأمّل الطّحو (٥٠٤) ، ما بين قصاع الشيزي أفعمها الثرد ، وهيل بها السمن ، وتراكبت عليها لسمان الحملان الأعجاز ، وأخونة تنوء بالعصبة أولي القوة ، غاصّة من الآنية بالمذهب والمحكم ، مهدية كل مختلف الشكل ، لذيذ الطعم ، مهان فيه عزيز التابل ، محترم عنده سيدة الأحامرة الثلاثة (٥٠٥) ، إلى السمك الرضراض والدجاج فاضل أصناف الطيّار ، ثم تتلوها صحون نحاسية تشتمل على الطعام خاص من الطير والكبّاب واللقالق (٥٠٦) ، يقع منها بعد الفراغ إلمام ذلك الرئيس في نفر من خاصته مما يدل على اختصاص ذلك بنفسه. ويتلو ذلك من أصناف الحلواء بين مستبطن للباب البر ، ومعالج بالقلو ، وأطباق مدّخر الفاكهة وأوعية العود المحكم الخلق ، المشتملة على مجاج الشهد. وقد قام السماط من خدام وأساودة أخذتهم الآداب وهذبتهم الدّربة ، فخفّت منهم الحركة ، وسكنت الأصوات ، وانشمرت الأذيال ، وقد اعتمّ من الآنية النحاسية للوضوء والوقود كل ثمين القيمة ، فاضل أجناسه في الطيب والأحكام والفخامة.

ولم يكد يفرغ من الأكل إلا وقد جنّ الليل ، وتلاحق من الطعام السيل ، مربيا على ما تقدم بالروية وانفساح زمان الاحتفال ، وتفنن أصناف الحلواء ، وتعدّى (٤ و) عسليّها إلى السكر ، وكان السّمر والمجالسة في كنف لألاء الشموع الضحاكة فوق المنصات النحاسية ، والأنوار اللاطونية (٥٠٧).

فاستعيد الكثير من تاريخ القطر وسيره ، وخبر لجأ السلطان المقدس أمير المسلمين أبي الحسن (٥٠٨) إلى قنتة ، والتحرم بمنيع وعز جواره على تقية هيض

__________________

(٥٠٤) أي الانبساط والامتلاء.

(٥٠٥) عبارة يقصد بها أصلا اللحم والمسك والخمر.

(٥٠٦) اللقلق طائر طويل العنق والرجلين يوصف بالذكاء والفطنة.

(٥٠٧) لعلها مشتقة من الكلمة الإسبانية لاطون Laton بمعنى النحاس الأصفر. وقد استعملها المقّري في (نفحه ج ١ ، ص ٣٠٣ ، ٣٦٢). راجع. (Dozy : Suppl.II ,p.٨١٦ a)

(٥٠٨) أبو الحسن علي بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق (٧٣١ ـ ٧٤٩ ه‍) عاشر ملوك بني مرين بفاس. كان رجلا مجاهدا قويا طموحا ، استطاع أن يوحد المغرب تحت سلطانه ثم يتجه بجيوشه وأساطيله نحو الأندلس لغزو الأراضي المسيحية والسيطرة على مضيق جبل طارق.

١١٧

جناحه ، وتبرّى أثيره عميد العساكر منه ، وإطراق العيون عند نجدته ، وتصاميم المسامع عند هاء استغاثته ، وقد خذل النصير ، وزلّت الأقدام وساءت الظنون ، وما كان من إجابة هذا النّدب عبد العزيز لندائه ، والتبجح بمنعة جبله ، ووفور عدته ، وأصيل وفائه واستصحابه إلى مقر أهله ومفزع ولده ، ودفاعه بنفسه وقبيله ورضاه بتغير ما تناله الأيدي بالسهل من نعمته ، فعادت قاعا صفصفا بمرآي من عينه ، فعاثت فيها السنة النار بأرض البوار عن طيب من نفسه حتى لكادت الكرة أن تتاح ، والدولة أن تتداول ، والملك أن يثب ، والعثرة أن يقال لها لعا. ولو لا طارق الأجل الذي فصل الخطة ، وأصمت الدعوة ، ورفع المنازعة. فتوفّاه الله بين السحر والنحر ، والأنف والعين ، وأستأمن من بعده لمن كان خلص إليه من خدامه ، وانحدر طوعا بين يدي سريره ، وأبقى محل وفاته مرفّها عن الابتذال بالسكنى ، مفترشا الحصباء مقصودا بالابتهال والدعاء ، فتخلفها أي منقبة شمّاء ، ومأثرة بلغت ذوائبها أعنان السماء ، ويدا على (٤ ط) الخلق بيضاء.

ومن الغد كان التوجّه إلى ذلك المحل المبارك ، فاقتحمنا وعرا نزل فيه الذرّ (٥٠٩) ، ولا يسلكه مع الحلم الطيف. وتسنّمنا شعابا تعجز عنها العصم ،

__________________

غير أن الجيوش الإسبانية ومن انضم إليها من جيوش المتطوعين الأوربيين انتصرت عليه في وقعة بالقرب من مدينة طريف ومن نهر سلادو ؛ ولذا سميت في المصادر العربية بوقعة طريف وفي المصادر الإسبانيةSalado del rio وذلك في عام ١٣٤٠ م / ٧٤١ ه‍ وقد مات في هذه الوقعة والد ابن الخطيب وأخوه. بعد هذه الهزيمة ثار المغرب الأوسط أو الجزائر على السلطان أبي الحسن يريد الاستقلال عن فاس بزعامة بني عبد الواد كما ثار عليه ابنه فارس أبو عنان. ولم يتحمل السلطان أبو الحسن هذه الكوارث المتلاحقة ، فمات حزينا شهيدا عام ٧٤٩ ه‍ عند بني عامر في جبل هنتاته. ولهذا السلطان آثار معمارية كثيرة بالمغرب الأقصى والأوسط وبالأندلس.

راجع ترجمته في (ابن مرزوق : المسند الصحيح الحسن في مآثر مولانا أبي الحسن) وقد نشره المستشرق ليفي بروفنسال تحت عنوان : (Un nouveau texte d histoire merinide : le musnand d Ibn Marzuk. Hesperis V ٥٢٩١)

انظر كذلك (ابن خلدون : العبر ج ٧ ، ص ٢٧٨ وما بعدها ؛ السلاوي : الاستقصا ج ٢ ، ص ١٠١ ـ ١٠٢ ؛ المقّري : نفح الطيب ج ٨ ، ص ٣١٩ ـ ٣٢٢)

(٥٠٩) الذر : صغار النمل.

١١٨

وتجاوزنا مهاوي مدت فيها أسراط من الخشب ترتفع عند الضرورة الفادحة ، فتنقطع عمّن وراءها الآمال ، إلى أن أفضينا ولم نكد إلى المحل المقصود وهي دار قوراء نبهة البنية بالنسبة إلى جنسها (٥١٠) ... ساذجة بادية ملطّخة الجدرات بالطين الأحمر ، متقابلة الأشكال بيوتها ، لاطية السقف غير مهذّبة الخشب ، بأعلاها غرف من جنسها ، يدور بداخلها برطال (٥١١) مستعل على أرجل متّخذة من اللبن ، والحجر ملبّس بالطين ، والبيت حيث متوفى السلطان مفترش بالحصباء ، قد ترك فيه دائرة كالقصعة تباشر الثرى ، وتمكن من تربته من يقصد شفاء المرضى ، وكحل العيون المرهى ، إذ كان رحمه‌الله آخر ملوك العدل نشأة ، لم تعرف الخبائث ، ولا آثرت الملاذ مغنيا في برّ والديه مصرّفا في انتساخ الذكر الحكيم يمنى يديه ، محافظا على الصلاة قيّوما عليها بالليل ، كثير الصدقة والصوم ، مجالسا للعلماء ، مستكشفا أحوال الرعايا ، حانيا على الضعفاء ، معملا في سبيل الله بيض الظبا (٥١٢) ، صابرا على اللأواء ، محتسبا في البلوى ، مستشعرا شعار التقوى ، ألحقه الله بالرفيق الأعلى. وبإزائه مصراع باب غسلت عليه جثّته الزكية ، لا تتمالك العين أن تنتثر سلوك دموعها ، ولا القلوب أن تأخذ الحسرة بكظمها ، لما عضّ ذلك الملك الحلاحل (٥١٣) من الخطب الذي عوضه من نضرة النعيم ، ووجوه الغرانقة (٥١٤) الغر ، والتوكّؤ على النمارق المصفوفة ، والزرابي المبثوثة ، في المتبوأ الكريم ، واستثقال طلعة البدر ، واستجفاء هبّة النسيم بقنن الجبال الغبر ، وسكنى المحال الخشن ، ومفارقة الأهل والولد عند فراق الروح للجسد. جعلنا الله من الدنيا على حذر وتوق ، وكتبنا ممن قدر قدره ولم يأمن مكره. فقعدنا

__________________

(٥١٠) هنا ثلاث كلمات غير مقروءة تماما ورسمها الآح بحق بها

(٥١١) المقصود البرطال أو البرطل : المدخل ويقابلها في اللغة الإسبانيةEl Partal وفي الإنجليزيةPortico وفي الفرنسيةPortique. انظر (جمال محرز : الرسوم الجدارية الإسلامية في البرطل بالحمراء ص ١٣ ـ ١٤) ، مدريد ١٩٥١.

(٥١٢) يقصد السيوف

(٥١٣) الحلاحل أي العظيم

(٥١٤) جمع غرنيق وهو طائر مائي أبيض جميل ، ويطلق كذلك على الشاب الأبيض الجميل الصورة

١١٩

وقرأنا وأفضنا في الترحم ودعونا.

وكان الانصراف بعد أن ألممنا في تلك المحلّة بمسجد إمامهم (٥١٥) المهدي ودار سكناه ، وأثر مدرسته وسجنه ، كل ذلك من الخمول واللطو واستهجان الآلة على حال شبيهة بمباني الدّبر (٥١٦) ، وقرى النمل ، وأعشاش الخشاش (٥١٧) من الطير. فعجبنا من مفتاح تلك الدّوبرة المهتضمة ، كيف تملك من القصور العظيمة ما إنّ مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة ؛ ولمنبر ذلك المسجد كيف أخذ على كونه قمئ الجلسة ، مصاحبا لبعض القشر ، بريا من الصنعة بأزمّة المنابر المتخذة من الألوّة (٥١٨) والصندل المقاصري في لونيه ، والأبنوس الحبشي ، وأنياب الفيول ، وأرعاها بعصياه ، واستاقها بين يدي طاعته كالذّود الشائل والسائمة الواردة ما بين قرطبة واشبيليّة وغرناطة وإفريقيّة (٥١٩) والمغرب ، سنّة الله في إدالة الدول ، وتعقيب النحل ، ألم تر [إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده].

__________________

(٥١٥) مهدي الموحدين أبو عبد الله محمد بن تومرت ، مؤسس دولة الموحدين بالمغرب عام ٥١٤ ه‍.

قامت هذه الدولة على أكتاف قبائل المصامدة ، نخص بالذكر منها قبيلة هنتاته. وتوفي المهدي عام ٥٢٢ ه‍ (١١٢٨ م). أما دولة الموحدين فقد انتهت عام ٦٦٨ ه‍ بعد أن امتد سلطانها إلى الأندلس من سنة ٥٤٠ إلى ٦٠٩ ه‍ تقريبا.

وكانت دعوة المهدي تقوم على أساس نفي التجسيم الذي آل إليه أهل المغرب الذين تركوا التأويل في التشابه من النصوص الشرعية وأخذوا بظواهر الأمور. وقد سمى دعوته دعوة أهل التوحيد ، وأتباعه بالموحدين. واستمرت تعاليم المهدي منتشرة بين الناس حتى أواخر العصور الإسلامية بالأندلس. فيقول صاحب الحلل الموشية (ص ٨٩ ـ ٩٠ نشر علوش)(Allouche إن ابن تومرت ألف كتابا سمّاه بالأمانة وآخر سماه بالقواعد ـ بهما تعاليمه الدينية وما يجب على المسلم وما يستحيل عليه وما يجوز له ـ دوّنها بالعربي والبربري وهما موجودان بأيدي الناس إلى هذا العهد) (أي القرن الثامن الهجري). راجع ترجمة المهدي في (عبد الواحد المراكشي : المعجب ص ١١٥ ـ ١٢٥ ؛ ابن خلدون : العبر ج ٦ ، ص ٢٢٥ ـ ٢٢٦ ؛ التعريف بابن خلدون ص ٢٣٤ حاشية ١ ؛ ابن القاضي : جذوة الاقتباس ص ٩٧) انظر كذلك (Pierre de Cenival : Les emirs des Hintata Rois de Marrakech ـ (Hesperis t. XXIV, ٧٣٩١).

(٥١٦) الدبر : النحل

(٥١٧) الخشاش أي الضعاف

(٥١٨) الألوة : شجر العود ، يتبخر به

(٥١٩) المقصود بإفريقية في المراجع العربية ، مملكة تونس أو المغرب الأدنى.

١٢٠