الرّحلة الآنوريّة إلى الأصقاع الحجازيّة والشاميّة

محمّد كرد علي

الرّحلة الآنوريّة إلى الأصقاع الحجازيّة والشاميّة

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-344-6
الصفحات: ٢١٥

بمثل هذه المجاملة والمعاملة كان بطل الانقلاب الأعظم يستأسر قلوب القوم في طرابلس الغرب.

وهناك تفاصيل وحوادث لا تسعها الصحف تدل على شجاعة ضيف البيروتيين اليوم وبسالته النادرة ، وحذقه العسكري الذي اعترف به العدو قبل الصديق.

٣ ـ في الحرب البلقانية

لم يكد يعلم أنور باشا بفاجعة البلقان المشهورة حتى خف إلى دار الخلافة بسرعة أدهشت العالم ، فتغلغل بين الجند العثماني في جتالجه ووطد الأفئدة ، ووحد القلوب ، ولما انتهى إليه أن وزارة كامل باشا تحاول أن تسلم أدرنة للبلغاريين ، هاجت به عواطفه الوطنية وأبى إباؤه العسكري أن يحدث مثل هذا الأمر الهائل ، فتوانق مع رفقائه ، وأخصهم القائد الكبير والسياسي الإداري الخطير أحمد جمال باشا قائد الجيش الرابع وناظر البحرية الجليلة ، فلم يمض حين من الزمن حتى كان كامل باشا في بيته ، وقد مزق أبطالنا المذكرة التي كانت سترسل إلى سفراء الدول بتسليم أدرنة ، وقد كان لهذه الحادثة تأثير كبير في أوربا ، ونقلتها الصحف الغربية بكمال الإعجاب والدهشة ، وأكبرت عمل بطلنا العظيم أنور باشا ، ومما قالته جريدة الفرمدنبلاط :

«إن أنور بك جدير بالإعجاب ، وله مزايا شخصية جليلة يستحق عليها المدح بكل لسان. إن التاريخ سيسجل لأنور بك أجمل الأثر وسيعده من أبطال الوطنية».

٦١

وقالت النوفي فريميابرس : «لقد مزق البكباشي أنور بك الشاب من جديد خريطة أوربا تلك التي ذهلت ودهشت إذ أظهر الترك من آيات الوطنية منتهاها».

وبعد حين وفق أنور باشا في استرجاع أدرنة ، وعين لها قائدا عسكريّا ، وقام بتحصينها تحصينا هائلا يستعصي على أعظم الدول وأكبرها أن تنال منها منالا بعد الآن.

٤ ـ في نظارة الحربية والحرب الحاضرة

عين أنور باشا لنظارة الحربية ، فكان تعيينه مبدأ فلاح جديد للجندية العثمانية ؛ إذ قلب أوضاع الجندية القديمة ، وبدل الطراز العتيق ، وأدخل على الجيش العثماني روحا جديدة ، وابتدع قانونا كان الغاية القصوى التي يسعى إليها محبو الخير لهذه الدولة الإسلامية ؛ لأن من مضمون هذا النظام الجديد أن تكون الأمة العثمانية برمتها أمة مسلحة وشعبا حربيّا مستعدا لخوض غمرات الحرب والنزال في أي وقت بدعوة المصلحة العامة للدفاع عن وطنه المقدس.

وقد تجلت فوائد هذا النظام الجديد في هذه الحرب العامة التي خضنا غمارها ، وكان لنا من الفوز والنصر في جميع الساحات الحربية ما طأطأت له الرءوس اعترافا وتقديرا لمكانتنا العسكرية الممتازة وعدا وضعه هذا النظام الجديد ، فقد أظهر مقدرة حربية عظمى في خلال حرب الدردنيل ، جعلت لشخصه الكريم احتراما زائدا في نفوس الأهلين على اختلاف ميولهم ولهجاتهم.

٦٢

فنحن نحيي بشخص أنور باشا نابغة الانقلابات العثمانية ، وبطل طرابلس الغرب ، ومعيد الشرف العثماني في فاجعة البلقان ، ورجل النهضة اليوم.

ويستقبل البيروتيون في الوقت نفسه محيي البلاد السورية ومصلحها ، الحازم السياسي الكبير ، والوطني الإداري العتيد ، صاحب العزم والدولة «أحمد جمال باشا» قائد الجيش الرابع ووزير البحرية الجليلة.

والسوريون على اختلاف مللهم ونحلهم يعرفون من هو أحمد جمال باشا اليوم كما أنهم يعرفون من هو أحمد جمال باشا قبل اليوم ، بيد أننا نأتي في هذا المقام على ذكر نبذة صغيرة من أعماله الجليلة ؛ ليزداد السوريون اطلاعا على مآثر قائدهم العظيم الذي يتهيأ اليوم بجنوده البواسل للهجوم على مصر وإرجاعها إلى حجر أمها الرؤم.

١ ـ في إبان الانقلاب

كان قائدنا الكبير أحمد جمال باشا أحد الأفراد النوابغ الذين خضدوا من شوكة المستبدين الظالمين ، وأعادوا للأمة العثمانية حريتها المفقودة ، ووضعوا لها أسس السير في مهيع الاتحاد والترقي.

وفي الزمن الذي هدم فيه صرح الاستبداد والاستعباد ظهرت مقدرة قائدنا المشار إليه ، وتجلت كفاءته الإدارية والسياسية والعسكرية ، فطفق يتقلب في الوظائف الخطيرة من حاكم بك أوغلي ، فولاية أطنة ، فقيادة الأستانة ، فولاية بغداد.

وقد أظهر في خلال ذلك حنكة ودراية ، وحزما وعزما ، قدره حق قدره كل من أوتي نصفة وعدلا.

٦٣

ولما صعدت وزارة الشيوخ إلى كرسي الحكم أبى شرفه الوطني أن ينقاد لها ، فغادر بغداد مستقيلا ، ووافى الأستانة ، مع أنه يودّ بغداد من صميم الفؤاد ، ويرجو لها كل تقدم ونجاح ، يدلنا على ذلك حديثه لمراسل جريدة الالستراسيون المسيو جورج ريمون الذي ألّف كتاب «مع المغلوبين» وأهديه لدولة قائدنا المشار إليه خاصة ، قال إذ ذاك :

«إنني لأرغب في العودة إلى بغداد لبذل مساعيّ في سبيل إصلاح تلك المواطن ، يا لتلك المقاطعة الممرعة ، آه إنها مهجورة ومتروكة منذ زمن طويل وهي ذات أراض خصبة كثيرة النتاج تأتي بالفائدة العظيمة على أننا سنعمل على إحيائها وإعلائها بكل ما لدينا من الجهد إن شاء الله».

٢ ـ في حرب البلقان

كان دولة القائد الكبير أحمد جمال باشا من رفقاء صاحب الدولة والعطوفة أنور باشا وكيل القائد الأعظم يوم أنزلوا كامل باشا من كرسي الوزارة ؛ حيث عزم على إرسال المذكرة إلى حكومات أوربا بقبول تسليم أدرنة إلى البلغاريين.

ومما يذكر من متانة عزم قائدنا المشار إليه ، وقوة إرادته ووطنيته المجسمة قوله لمراسل الالستراسيون جورج ريمون حين حصار أدرنة في شهر شباط سنة (١٩١٢ م) وقد سأله عن سبب تشبث الدولة بهذه المدينة :

«إن أدرنة اليوم بمثابة صوت ينادينا بالاتحاد والوئام ، صوت يدعو إلى اتحاد الذين يحتفظون بشرف العثمانية ، فإذا أخذ البلغار هذه المدينة وأخذوا الأستانة بعدها ثم أخذوا دمشق ثم الموصل ثم بغداد ، وبقيت أنا في البصرة مع خمسة عشر من العثمانيين فإني أطالب هناك بأدرنة».

٦٤

فبمثل هذه النفوس المملوءة أملا وحزما وثباتا بقيت أدرنة ، وتقدمت الدولة وفازت في هذه الحرب الأخيرة.

وقد عين أحمد جمال باشا بعد إسقاط وزارة كامل باشا محافظا للأستانة ، فأظهر كفاءة مدهشة وحزما متينا وعزما باهرا ، وكان دائم الجولان بين الأستانة وجتالجه يزور الجيش ويبث في أفراده روح النشاط والهمة.

ولما قتل المرحوم شوكت باشا أظهر أحمد جمال باشا حزما كبيرا أعجب به الأوربيون والشرقيون ؛ إذ تمكن من اكتشاف المؤامرات وقبض على المؤامرين في أقل من لمح البصر ، ولما سأله أحد مكاتبي الصحف عن إمكان إعداد الثورة أجابه فورا : إنه لا يجسر أحد بعد اليوم أن يقوم بثورة أو بشغب أو بأي شيء يسمى قياما ما دمت في رأس هذه الوظيفة وما دمت حاكما في الأستانة.

ولا ريب في أن هذا القول هو من جملة الاعتماد على النفس والثقة بالإرادة التي لا يسمى الإنسان نابغة إلا إذا تجسمت هذه المزية في نفسه الكبيرة.

٣ ـ في رأس الفيلق

وقد عين أحمد جمال باشا بعد حين قائدا للفيلق الأول في الأستانة ، فأظهر ما عهد بذاته الكريمة من المقدرة العسكرية الممتازة ، وأذكر أنه كان يبذل قواه لإيصال الجندي العثماني إلى الدرجة التي يتطلبها المجد العثماني الإسلامي ، ويصرف جهده لإفهامه خطورة التبعة الملقاة على عاتقه ، وهو يرغب في أن يكون الجيش العثماني بأسره يشعر بشعور واحد.

إن الشعور الواحد الحساس الذي يود أحمد جمال باشا أن يبثه في نفس الجندي العثماني هو شعور الدين ؛ أي : أن يحترم الجندي دينه ليستطيع الزحف

٦٥

بجانب علم بلاده ، وهو يرتئي للبلوغ إلى هذه الغاية العالية أن ينهج في تدريب الجيش ثلاث خطط : التضحية ، تربية الإرادة ، إثارة التعصب.

وهو يرى أن ينزع الضابط إلى تربية الجندي على هذا الطراز ، وأن يلبث آخذا النفس به أكثر من نصف النهار وهو يسرد له الواجبات التي يتحتم عليه القيام بها سردا يجعله مرتعدا كأنه اقترب من أتون ملتهب ضراما.

وأحمد جمال باشا ـ كما قال جورج ريمون ـ يحمل نفسا لا تغلب ، وهو لم يشك يوما من الأيام في فوز وطنه.

٤ ـ في سورية

أظهر قائدنا الكبير أحمد جمال باشا في خلال إقامته في ربوعنا السورية كل ما أوتيه من ضروب الذكاء والعلم وصنوف السياسة والكياسة ، فأصلح ما كان قد فسد من العمل ، وجمع ما كان قد تفرق من الشمل ، فالتفت عليه القلوب ، واشرأبت نحوه الأعناق ، واتجهت إليه الأنظار ، وتعلقت على همته الآمال في إنهاض هذه البلاد التعسة من وهدة الشقاء والبلاء إلى ذروة الفلاح والعلاء.

وقد كان رعاه الله حكيما فطنا أدرك ما يتطلبه هذا الوطن ، فعمل على تحقيقه بعزمه المتين ، وإرادته القوية ، وطفق يهيئ معدات النجاح بحكمته ورويته ، فبدأ يجمع القلوب حول نقطة واحدة ، وهي نقطة حب الدولة والوطن ، وأعقبها بالعمل على الاتحاد بين هذه الشعوب المتفرقة ، فأخذ زرعه يزهر ولا يلبث أن يجنيه ثمارا شهيّا.

٦٦

وهو دائم العمل لكل ما فيه الخير المحض لهذه البلاد فيبعث بالأوامر تترى إلى الحكام والولاة يطلب إليهم التذرع بكل وسيلة وراء عمران البلاد ورقي أحوالها المادية المعنوية ، والسعي في إصلاحها ونظافتها وهندستها على مثل ما تجري عليه البلاد الناهضة الراقية.

وقد علم أن البلاد لا تصل إلى الدرجة القصوى من الرقي إلا إذا تأسست الطرق ، وأنشئت السكك ، وأمنت السابلة ، وفتحت دور العلم ، فعمل على تحقيق كل هذه الأمور الضرورية ، فبنى الطرق في معظم المدن والقرى ، وأنشأ الخطوط الحديدية فأمرعت البلاد ، وتواصل السكان ، وأصدر أوامره المشددة بالانتباه التام إلى راحة الرائحين والغادين ، فسرت السابلة ، وثلجت صدورهم فرحا مما رأوه من الأمن والهدوء والسكون في السبل التي يجتازونها ، ثم أمر بإيجاد دور العلم ، وكانت أعظم مدرسة أسسها المدرسة الصلاحية ، تلك المدرسة الدينية التي سيكون لها شأن ، وأي شأن في رقي هذا الوطن السوري. وسيذكر السوريون هذه المنة لدولة القائد الكبير بكل شفة ولسان وفي كل حين وزمان.

فالبيروتيون اليوم يحيون بشخص أحمد جمال باشا رجل الحزم وقوة الإرادة ، ومطفئ الثورات ومحيي سورية. اه.

٦٧

قالت الإقبال :

ترحيب الإقبال بسيف الدولة القاطع وبدر سمائها الساطع

الوزير الكبير والقائد الخطير

«صاحب الدولة والمجد أنور باشا المعظم»

وكيل القائد الأعظم وناظر الحربية الجليلة زيد جلاله ودام اقباله

«بإقبال» بدر الدولة «الأنور» ازدهى

حمانا الذي فيه «الجمال» تجسما

فلا تعجبوا أن زاره متكرما

فمن دأب رب «العزم» أن يتكرما

تحتفل اليوم مدينة بيروت باستقبال رجل الدولة ووكيل قائد الأمة الأعظم ، وتبتهج بالاحتفال بضيفها الكريم وزائرها العظيم صاحب الدولة والإقبال «أنور باشا» ناظر الحربية العثمانية ، فهي تشارك أنحاء البلاد السورية في هذا الاحتفاء الذي لم تر الأمة منذ أجيال وعصور له شبيها.

رأت البلاد السورية رجالا وعظماء يزورونها تحتفل الحكومة باستقبالهم ، ولكنها لم تر رجلا عظيما تحتفل القلوب وتتسارع الأفئدة إلى استقباله ، وتتسابق الأرواح مع الأجساد للاحتفاء به مثل زائرنا الكريم اليوم «أنور باشا» العظيم.

إذا لم تكن القلوب مشاركة للألسن في استقبال العظماء ، فلا بهاء ولا سناء لكل احتفال يقام ، او استقبال يرتب ، أما اليوم فإن قلب الصغير في سريره ، والكبير في عمله ، والمرأة في خدرها ، والحارث في حقله ، والصانع في معمله يقابل وكيل القائد الأعظم «أنور باشا» بكل بهجة وسرور ، وقد اتفقت ألسنتهم على أن زائرنا اليوم هو حياة الأمة وحصنها الحصين وملاذها المنيع.

٦٨

هنيئا لدولة بني عثمان ، وبشرى للعثمانيين برجال حكومتهم الحاضرة الذين استأسروا القلوب بأعمالهم ، وامتلكوا الرقاب بحسن سجاياهم وفضائل مزاياهم ، واصطادوا الأفئدة بتدبيرهم وكياستهم ، لا بقوة بطشهم وشدة بأسهم ، فالقلوب يستأسرها المعروف والإحسان ، والظواهر يستعبدها السيف أو الذهب الرنان.

إن زائرنا الفخيم قد ملك القلوب بفضله ، واستعبد الأفئدة بنبله ، فهنيئا للأمة العثمانية بمثله ، وهنيئا لبلادنا السورية أن تحتفل مثل هذا الاحتفال الذي لم ير مثله ولن يرى.

لن نريد أن نطيل القول في وصف فضائله الذاتية ، فقد امتزجت معرفتها بأرواح عامة الأمة ، فضلا عن خاصتها ، ولكننا نذكر لمحة من أمهات الأعمال التي قام بها وزيرنا العظيم ؛ لتكون ذكرى تاريخية لتفضله بزيارة بيروت.

كانت مبادئ أعماله التي ظهرت للأمة أن فادى نفسه ، وجاهر بدك صروح الاستبداد في مكدونيا ، وأعلن الدستور أمام قوة السلطان السابق ، فكانت يده أول يد انتشلت ثلاثين مليونا من العثمانيين وأنقذتهم من ربقة الاستبداد.

أتم وظيفته الوطنية وعاد إلى مركزه القديم ، ولما أن رأى شرارة الرجعة الاستبدادية آخذة بالاشتعال زحف على عاصمة السلطنة ، فأخمد فتنة ٣١ مارت ، وأنجز ما وعد به الأمة من الفضل الكبير ، فاستتب ركن الدستور ، وتولى أمر الملك جلالة سلطاننا الدستوري الغازي «محمد رشاد خان».

٦٩

ترك البلاد العثمانية وذهب إلى برلين عاصمة محالفتنا ألمانيا ، فأكد أواصر المحبة والوداد ، وبذر بذور الاتفاق ، فكانت له اليد الفعالة بإيجاد هذا الاتفاق الذي كان الحياة الكبرى للأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها.

ولم يشعر دولة الزائر الكريم بتعدي أعداء الإنسانية على طرابلس الغرب حتى هجر مضجعه ، وذهب قاصدا هاتيك الأصقاع ، ولقد كان لبيروت في ذلك الحين حظ من زيارته الخفية ؛ حيث بات فيها ليلة واحدة وسافر إلى «برقة» فأخذ يعضد المجاهدين ، ولبث بينهم زمنا غير يسير فعرف المسلمون في الأنحاء المغربية أن رجال الحكومة هم أليق الناس في الأمة لخدمة الإسلام والمسلمين ، ولا يزال اسم «أنور باشا» محترما ، لا يذكر إلا بكل تعظيم وتكريم.

انطلق من البلاد الإفريقية بحرها إلى الأصقاع الأوربية بقرها ، فحارب في صفوف الجيوش العثمانية في الحرب البلقانية ، ولما شعر بأن الضعف منشئوه من الشيوخ القابضين على زمام الحكم في الباب العالي قام بأمر الانقلاب الأخير ، فأزال وزارة الذين كادوا يودون بدولة الإسلام والمسلمين إلى الدمار ، ثم اندفع برجاله إلى بولاير فأوقف جيوش الأعداء ـ وزحف على أدرنة فاستردها ، وتمكن بفضل سيفه وسياسته من حفظ كيان الدولة العثمانية ، وأرجع إليها شيئا من السمعة التاريخية التي أضاعت قسما منها سوء سياسة تلك الوزارة.

تولى بعد هذا وزارة الحربية فأعارها اهتمامه واعتناءه ، ولم تمض مدة قليلة حتى أتم عددا كبيرا من المصانع الحربية والاستعدادات العسكرية ، وما كاد يعلن قانون العسكرية الجديد الذي يجعل الأمة العثمانية دولة في مصاف الدول المنظورة حتى أعلنت الحرب العامة ، ولو لا سيف زائرنا الكريم وسياسته لكانت الأمة العثمانية لا تعلم مستقرا لها في هذا العالم.

٧٠

وقفت الدولة العثمانية في وجه أعدائها الأشداء وقفة الأسود البواسل ، ولا ننسى بعد ما قاله دولة القائد العظيم في مجلس الأمة مرتين ، فوقع ما قاله حرفا بحرف ، فقد قال في المرة الأولى : «إنني لا أخاف على الأمة من الأعداء مهما كثر عددهم ومهما اشتدت عدتهم ، فإن في قلوب الجيش العثماني متاريس فولاذية لا تؤثر بها قنابلهم الكبيرة» ثم قال : «إننا ندافع اليوم في مواقفنا وسننتقل إلى دورة الهجوم ، فترون الأعداء يفرون أمامنا» ثم وقف مرة ثانية بعد طرد الأعداء من كليبولي ، فقال : «إنا طهرنا شبه الجزيرة من تلويثات الأعداء ، وإن أكثر من مليوني جندي عثماني سيحولون مجرى الدفاع إلى خطة الهجوم».

ولقد صدق دولة القائد العظيم فيما قال ، وما تذكر الأمة له من الأفعال الناصعة القرار في هذه الحرب من هجماته الغضنفرية والتدابير العسكرية والحركات الحربية ما سيسطر على صفحات من ذهب في تاريخ هذه الحرب العامة.

أما زيارته للبلاد العثمانية ونظره في مواقف جيوشها نظرة القائد البصير ، فهو من أعظم ما يسطره التاريخ لأكبر القواد في العالم ، ولو لا اطمئنانه وثقته من حسن مواقف الجيش العثماني في مواقع الحرب لما كان يتزحزح من مركزه في عاصمة الملك ، وهذه بشرى صادقة تتلقاها الأمة بكل ارتياح وقبول.

يزور دولة القائد العام مدينة بيروت مارّا بالقطر السوري ، فترقص له القلوب فرحا ، وتتهلل لقدومه الوجوه بشرا ، وترفرف حواليه الأرواح بهجة وسرورا ، وما تقابل الأمة اليوم إلا رجلا جمع بين حكمة السياسة وشريف الكياسة وصداقة الأمة ومحبة كل فرد من أفراد الشعب المتفاني في الصدق والولاء للحكومة الحاضرة.

٧١

على الرحب والسعة أيها القائد العظيم ، وسيصدق ظنك بأبناء هذه البلاد الذين درجوا منذ نعومة أظفارهم على الصدق والولاء للحكومة العثمانية ، وهم ينتظرون الفرص لإظهار ما تكنه قلوبهم من محبة الناهضين بهذه الدولة ، فهنيئا للدولة بمثلك أيها الرجل الكبير ، وهنيئا للملك بأمة لا تنطوي قلوبها إلا على محبة الصادقين من رجالها.

قالت جريدة الإخاء العثماني :

رجل الدولة العظيم

قومي يا بيروت ، والبسي حلل الزينة ، واستقبلي رجل الدولة العظيم.

تيهي يا بيروت عجبا ؛ فقد وطئ ثراك محيي البلاد ومعيد مجدها ومعلي منارها وحامي ذمارها.

تهلل يا بيروت ، فقد زارك بطل الدستور الذي منح البلاد الحرية والعدل والمساواة.

يحق لك يا بيروت أن تتباهي بزائرك والساهر على راحة البلاد وسعادتها ورفاهيتها بعين لا تنام.

يحق لك أن تفتخري بضيفك الكريم الذي أنهض البلاد من كبوتها ، وجعل لها في العالم المقام الرفيع.

يحق لك أن تبتهجي بقدوم من أقام للبلاد سياجا ، وقف الأعداء أمامه أذلاء صاغرين.

٧٢

اهنئي يا بيروت بزيارة الرجل الكبير الذي حفظ للبلاد الشرف والاستقلال.

اهنئي بمن نشر في البلاد الأمن وأقام القسط بين الناس.

اهنئي بمن طهر البلاد من أدران الفساد ، وبنى لها أساسا لا يتزعزع.

اهنئي بمن يفادي براحته في سبيل راحة الأمة ، وينسى رفاهيته في سبيل رفاهية الشعب.

اهنئي يا سورية برجل الدولة العظيم القادم إليك ؛ ليتفقد شئونك ، ولينظر في احتياجاتك ، فإنه مع المهام العظيمة الكثيرة الملقاة على عاتقه في هذه الأيام يجوب البلاد باحثا عن الأسباب التي تعود على الأمة بالراحة والهناء.

يحق لك يا سورية ـ بل ويا جميع البلاد ـ أن تطرحي نفسك على أقدامه ، وتبسطي له القلوب ليحل فيها على الرحب والسعة ، فهو الرجل الذي لو قدمت له المهج والأرواح لبقيت مقصرة في جانب ما له عليك من الفضل ، ولكن حلمه واسع وكرمه عظيم.

فافتحي الصدور وقولي أهلا بالزائر الكريم.

أهلا بك يا من أنعشت البلاد ، وأحييت ميت آمالها ، وبددت الغيوم المتلبدة في سمائها ، ورفعت شأنها ، وعززت جانبها ، وقهرت أعداءها ، وهيأت لها مستقبلا مجيدا.

٧٣

أهلا بك يا بطل الدستور ، والمحافظ عليه ، ويا موجد الحرية والعدل والمساواة وحاميها.

أهلا بك يا من كنت للبلاد خير نصير في النكبات ؛ دفعت عنها عادية الملمات ، ورفعتها إلى أعلى الذروات حتى أصبحت جميع الممالك تغبطها على ما بلغته من السعادة والمجد بفضلك ومضاء عزمك وشدة بأسك.

أهلا بك يا من وقيتها شر الأعداء في الداخل والخارج وأبعدت عنها كل شر وأدنيت منها كل خير.

أهلا بك يا من أسرعت إلى طرابلس الغرب حين غزاها الطليان سالبا راحتك وقرارك دفاعا عن الوطن العزيز ، فكنت تتوسد الغبراء وتلتحف السماء متحملا أعظم المشقات في سبيل شرف الملك ، فعلّمت المجاهدين كيف يكون الجهاد.

أهلا بك يا من وقفت في المجلس الأكبر المنعقد من أركان رجال الدولة إبان حرب البلقان ، والذي أقر على التسليم ، فصحت فيه صيحة تجاوبت أصداها في أطراف المعمور ، وأوقفت المجلس عن ذاك القرار المشين ، وحفظت للدولة شرفها الذي كادت تفقده بذاك القرار ، واسترجعت أدرنة التي كان فقدها قد أدمى أفئدة العثمانيين.

أهلا بك يا من أخذت بعد حرب البلقان في تنظيم الجيش وتعزيزه ؛ ليكون سياجا للدولة تقف صاغرة عنده جيوش الأعداء.

٧٤

أهلا بك يا من رددت كيد الدول المعادية في نحرها ، فهي التي كانت تحاول العبث باستقلال بعض الولايات بغية القضاء على ذلك الاستقلال ، فعاقبتها بإلغاء امتيازاتها التي تمتعت بها ، وأثقلت كاهل الدولة عدة أجيال.

أهلا بك يا من جعلت مضيق جناق قلعة أمنع من جبهة الأسد ، وفتحت للأعداء قبرا على بابه ابتلع عددا من السفن وعشرات الآلاف من الجنود ، فكان مصير الإنكليز والفرنسيس الطرد تاركين الغنائم وراءهم بعد أن ظلوا سنة كاملة يحاولون فتح المضيق.

أهلا بك يا من أقمت في القوقاس وفي العراق أسودا حماة للوطن يحصدون من الروس والإنكليز الرءوس ، ويعلمونهم كيف يكون جزاء المغتصبين.

أهلا بك يا من أعددت جيشا منظما ليغزو مصر ، بل ليعيدها إلى حظيرة الخلافة ، ويخلصها من مخالب الإنكليز المغتصبين ، وأقمت على رأسه أخاك دولة القائد الكبير والإداري الخطير أحمد جمال باشا الذي استكمل الأسباب لاسترجاع ذلك القطر السعيد ، الذي يرزح منذ ثلاثة وثلاثين عاما تحت نير الإنكليز ، وينظر إليك وإليه متوسلا طالبا الخلاص.

إن سورية وما جاورها مدينة لدولة جمال باشا الذي ما فتئ يرعاها بعنايته ويدير شئونها بدرايته ويشفق عليها بحنوه ويحكم فيها بعدله ويرقيها بحكمته واضعا الأساس الوطيد للمستقبل المجيد.

فأهلا بك وبه ، واعلما أن العيون شاخصة إليكما والأرواح متهافتة لتطرح على قدميكما ، واعلما أننا إذا قدمنا الأنفس قربانا فلا نقوم بالواجب علينا

٧٥

نحوكما ، ولكن هي أعز ما لدينا فاقبلاها عربونا للإخلاص ، واصفحا عن تقصيرنا بالواجب فأنتما خير من صفح. اه.

٧٦

قال جورنال بيروت :

٧٧

٧٨

٧٩

٨٠