الرّحلة الآنوريّة إلى الأصقاع الحجازيّة والشاميّة

محمّد كرد علي

الرّحلة الآنوريّة إلى الأصقاع الحجازيّة والشاميّة

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-344-6
الصفحات: ٢١٥

في صحراء التيه

لم يترك وكيل القائد الأعظم حضرة أنور باشا دقيقة واحدة من وقته في سياحته تذهب سدى ، بل حصر وكده ؛ شأنه منذ عرف في النظر فيما له مساس باختصاصه الحربي أولا ، ثم الإشراف على المسائل الأخرى في البلاد. أما وجيشنا المنصور على قدم الاستعداد اليوم للزحف على مصر وإنقاذها من براثن محتليها ، فإن بطلنا المحبوب زار صحراء التيه أيضا ؛ لأنها الطريق الموصلة إلى القطر المصري ؛ ليرى هناك ما أحدث من طرق حديدية ومعبدة وآبار ارتوازية وأحواض مياه وحصون ومعاهد عسكرية تبلغ المقصود.

فركب ـ أعزّه الله ـ من مدينة القدس في سيارة هو ورفيقه أحمد جمال باشا إلى بئر السبع ، فأعجب ما رأى من الطرق المعبدة حديثا ، الممتدة على طول الصحراء كما راقته تلك الآبار التي أحدثت لجمع المياه ، وتطهير تلك الصحراء ، وأثنى الثناء الكثير على القائد العام في هذه الديار لتوفره على مد الخط الحديدي بهذه السرعة ، ووصوله إلى الحفير ثناءه على تمديد الطرق المعبدة في تلك المفازة المشهورة برمالها ومعاكسة الطبيعة لها.

ولما بلغ القائد بئر السبع استعرض العساكر المرابطة هناك ، وسرّ بحسن الانتظام والترتيب كما انشرح صدره بالصحة العامة بين الجيش.

حتى إذا وافى القائد بئر السبع تناول طعام الغداء في معسكر القوة السفرية الأولى ، ثم استعرض هذه القوة كلها والاي الأقنجي الآتي من المدينة المنورة ، وفتش أنابير بئر السبع ومعاهدها العسكرية المختلفة وعاد إلى بئر السبع.

١٨١

وفي عسلوج افتتح شعبة السكة الحديدية التي نجزت حديثا ، والمسافة من القدس إلى بئر السبع ٨١ كيلو مترا ونصف كيلومتر ، ومن بئر السبع إلى بئر حسانا ١٧٢ كيلو مترا ، وهذه أهم المحطات التي يحاذيها الخط الحديدي ، وهي : القدس ، بيت لحم ، خليل الرحمن ، ظاهرية ، بئر السبع ، عسلوج ، حفير العوجا ، قصيمة ، ضيقة ، بئر حسانا. ويجتاز أماكن أخرى ، ولكنها غير مشهورة ، مثل : بير بيرين بين حفير العوجا وقصيمة. وبفضل الطرق المعبدة مؤخرا تيسر أن يقطع المسافة بين بير حسانا وبئر السبع في العودة في مدة أربع ساعات ، وهذه الطريق عملت في مدة وجيزة وبهمة كبرى ، ويرجع الفضل فيها إلى الجيش الرابع الذي جعل فيافي تلك الأصقاع طرقا سالكة ، وكانت من قبل لا يسلكها الطير ولا تصلح لأنواع السير.

وتناول السائح العظيم طعام المساء في قصبة بئر السبع ، وأقام والاي المدينة المعروف بالأقنجي في المساء زينات جميلة ، ولعب بعض أفراده ألعابا خاصة بهم ، ومن الغد ذهب إلى بئر حسانا ، وهناك تناول الغداء بين المعاهد العسكرية المختلفة التي قامت بهمة عالية في برهة وجيزة ، فسرّ من وراء الغاية بما شاهد من مضاء رجال الجيش وأمرائه وضباطه وأفراده ، وفي المساء ركب السيارة إلى بئر السبع ، فقضى الليل فيها ، وقدمت عليه جميع العشائر والعربان المخيمة من قضاء غزة إلى حدود الترعة ، وأنعم عليهم واستمال بإحسانه قلوبهم ، ولعب تلك الليلة والاي الأقنجي ـ وهو الاي عربان الحجاز الذين أتوا من ضواحي المدينة المنورة لمحافظة السواحل ـ بين يديه بالسلاح ، وأنشدوا أناشيدهم باللغة البدوية يمدحون بها شجاعته وثباته وعلو موقعه في نفوسهم ، ويقولون : إنهم يهرقون آخر نقطة من دمائهم بين يديه ، فهش لهم وبش ، وأكرم مثواهم ، وأمر لهم كافة بضيافة جمعت أولهم وآخرهم ، وكان السرور باديا على محياه بما شاهده

١٨٢

من آثار إقدامهم وبسالتهم ، وما منهم إلا من قبّل يديه ، ومنهم من وقع على رجليه يقبلهما ، ومنهم من صافحه ، فكان ذاك من أبهج الأيام ، وأجمل المناظر ، تجلت فيها المحبة الفطرية التي جبل عليها العرب ، باديهم وحاضرهم للدولة العثمانية ورجالها الأمناء الصادقين.

وظهر كالشمس في رابعة النهار أننا أمة إذا عقدت عزمها على عمل عظيم ، وأخلصت النية في سبيل الواجب تنهض به خير نهوض. ولعمري ، من كان يظن أننا في مثل هذه الحرب الزبون ونحن نجالد ونجادل في أربع ساحات للقتال ، كل واحدة منها مما تعجز عنه دولة عظمى بمجموع قوتها ، نوفق إلى إحداث ما أحدثناه من الطرق المختلفة والمعاهد والأوضاع والمرافق في طريق مصر؟ أما لو جئنا نعدد هنا بالتفصيل ما تم على أيدي رجال الجيش الرابع من مثل هذه الأعمال ، فهذا يحتاج وحده إلى مجلد ضخم ، يجب أن يؤلفه أحد نوابغ أركان حربنا العلماء ، فلهم في هذا البحث نظر حديد ، ورأي سديد رشيد.

١٨٣

١٨٤

في المدينة المنورة

ركب أنور باشا وجمال باشا ومن في معيتهما القطار من عمان حضارة البلقاء ، وما برح العربان المخيمون في لواء الكرك وما بعدها حتى المدينة المنورة ينحرون الإبل ؛ شكرا لله على قدوم أنور باشا ، وهو ـ أيد الله عزه ـ يقابلهم ببشره ولطفه ، وينعم عليهم بإحساناته وصدقاته ، ويبدون عواطف العرب الخلقية نحو دولة الخلافة مما يمتعض له وجه الأعداء ، ويفرح به قلب الأولياء.

وفي طريق المدينة جاءت البشرى من مقام الخلافة العظمى بتوجيه ، وسام الامتياز الذهبي والفضي الحربي إلى دولة جمال باشا قائد الجيش الرابع ، وصنو دولة أنور باشا وصديقه ، وذلك أن وكيل القائد الأعظم أنور باشا دهش مما شاهد من آثار أخيه أحمد جمال باشا ، فعرض ما شاهد على مسمع أمير المؤمنين ، فصدرت إرادته السنية بالإحسان إليه ، هذا الإحسان السلطاني جزاء خدمه الجلي في جانب السلطنة والخلافة ، وقد طير البرق هذا النبأ إلى الأطراف ، فسرّ الناس على اختلاف درجاتهم وتصوراتهم ؛ إذ عرفوا أننا في دولة يكافأ فيها العامل ، ويعرف قدر المحسن في عاجل الحال وآجله ، فالحمد لله على ما أنعم ووفق.

وبعد ، فلم يكد (١) ينتشر بين الأهالي في مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبر قدوم أنور باشا وجمال باشا حتى عمّ البشر ، وسرت روح حياة في عروق الكل ، ولم ينتظروا أوامر الحكومة ، بل تقديرا لهذين البطلين المقدامين أخذ الكل

__________________

(١) من رسالة لمكاتب جريدة المقتبس في البلد الطيب ، ورسالة مكاتب الشركة الملية البرقية ، ومن مصادر أخرى رسمية وغير رسمية.

١٨٥

يستعد من نفسه بما يليق بمقابلة سيفي الدولة العثمانية ومرجعي مجدها ، فلم تكن عشية أو ضحاها حتى أصبحت المدينة لابسة ثوب بهاء ، مجللة بستار من الزخرف ، يتخلل أزقتها أقواس النصر المغشاة بالحرير الأحمر ، ترفرف على أعاليها الأعلام العثمانية ، فكنت أينما سرت وأنى توجهت تجد أثرا من الزينة ، يقيم لك ألف دليل على مبلغ مكانة الرجلين العظيمين من القلوب ، فقبضا على سويداواتها ، وتصرفا في ظواهرها وبواطنها ، فأصبح الكل رقيقا لهما ، يقدم في محبتهما كل رخيص وغال.

فانتدب محافظ المدينة مدير الصحة جمال بك ؛ ليكون مشرفا على ذلك ، مساعدا للأهالي بترتيب زينتهم العظيمة التي لم يسبق لها منوال ، وانضم إليه في ذلك بشير بك مدير شرطة المدينة ، فكانا يعملان معا في المرور على سائر الأزقة والشوارع فيجدان من همة سكان البلدة الطاهرة ، واعتنائهم بزائر الشفيع الأعظم ، أحسن مساعد لهما ، وأقوى عامل لم يحتاجا معهما إلى كثير تعب وكبير عناء ، بيد أنهما قاما بترصيع الزينة وتدقيقها حتى كان يتصور الرائي أن المدينة إن هي إلا عروس تتهادى في حللها ، وتختال في حليها وبهرجها.

ولم تحن ساعة الهناء من يوم الجمعة المبارك حتى هرع الناس إلى المحطة أفواجا ، وخرج إليها الرجال زمرا ، يهنئ بعضهم بعضا ، متعاضدين متكاتفين ، كأنما طرأ عليهم عامل جديد أوجد بينهم ذلك الاتحاد ، فوفق بين وحدتهم وجمع شتيت كلمتهم ، يتقدم الجمع أغوات الحرم الشريف بعبيدهم مدججين بالسلاح ، تتقدمهم طاستهم تضرب بصوتها الجهوري ، ثم حضرات خطباء الحرم النبوي الدائمون بآلاتهم ، ثم حضرات مؤذني الحرم النبوي لابسين شاراتهم المخصوصة بالأذان ، ينشدون الهمزية والبردة بأنغامهم الشهرية ، فكنت

١٨٦

تسمع لأصواته طربا ترتاح له القلوب ، وتهتز به الأرواح ، ثم سادات المدينة وأعيناها ، ثم حضرات مشايخ الطرق يتقدمهم رئيسهم الأعظم السيد حمزة الرفاعي شيخ المشايخ ومقدم الطريقة الرفاعية ، ثم تلامذة المكاتب عامة يتقدمهم مدير المعارف والإعدادي حمزة أفندي وصفي ، وجميع المعلمين حاملين أعلام النصر محلين صدورهم بقطع الحرير المزركشة ، ينشدون الأناشيد الوطنية الحماسية عربية وتركية مما كان له أعظم وقع في نفوس القوم.

وبعد برهة وصل القطار الخاص الذي حمل الشهامة ، ويقل المهابة ، فرمتقه الأنظار وتوجهت إليه القلوب ، فرشقتنا التفاتات أنورية ولحظات جمالية كانت لها كوابل حياة أمطرنا فأحينا ، وسحاب فضل سال علينا فأروانا ، ولم يكد يصل القطار إلى المحطة حتى حيته الحصون بالمدافع ، فكنت تسمع لدويها صدى ترتعش له القلوب حنانا ، وتهتز له الأفئدة تيها ، وسرعان ما تقدم مولانا شيخ الحرم عن نفسه ونائبا عن المحافظ ، ثم مدير الصحة ، ثم المفتي الشيخ مأمون بري ، ثم وكيل شيخ السادة ، ثم مفتي السادة الشافعية السيد زكي البرزنجي ، ثم عين أعيان المدينة السيد زين العابدين المدني الذي كان له القدح المعلى بنيل رضا الأنورين وحيازة الثقة عندهما ، وبعد أن ازدحم الجميع أمام البهو المعد للوزيرين الخطيرين وقف القطار ، وصعد شيخ الحرم ومن معه ، فحيوا الوزيرين تحية معترف لها بخدماتهما للإسلام ، مقدرا لهما صنيعهما حق قدره ، ثم نزل القائدان ومعهما نجل أمير مكة المكرمة المحبوب الأمير فيصل بك ، وسرعان ما ذهب الجمع إلى الردهة المعدة لهم ، فتناولوا هناك القهوة ، ثم أدير عليهم تمر الحلوى الذي وضعته الحكومة في الحجرة النبوية للتبرك تلك الليلة.

١٨٧

وبعد أن استراحا هنيهة قدم لهما في أثنائها شيخ الحرم سادات المدينة وأعيانها ، ثم قرأ حضرته خطابا حيا به الوزيرين الكريمين ، ثم تلاه المفتي بخطاب جمع من البلاغة ما يدل على حسن اقتدار ، وحيث كان اليوم يوم جمعة ، وقد أزف وقت الصلاة لم تتمكن من إلقاء الخطب التي كنا قد استعددنا لها والقصائد التي أنشئت تحية لقدومهما ؛ بل اكتفينا بتقديمها درج كتب للزائر الكريم.

ثم بعد برهة صدر الأمر العالي بالتوجه للحرم الشريف ، فخرج مدير الصحة جمال بك وبشير بك مدير الشرطة من باب المحطة ، فأمرا مشايخ الطرق بالسير ، فساروا ينشدون الأناشيد المطربة ، مرتلين ذكر الله ، يحملون الأعلام الشريفة ، ثم مشى عبيد الأغوات يمينا ويسارا تتقدمهم الطاسة ، ثم السادة الأغوات كذلك ، ثم بعدهم أدلة الحرم الشريف ، ثم المؤذنون ، ثم الخطباء والأئمة ، ثم المفتي وسادات المدينة وأعيانها ، ثم بقية الوفد السوري ، وهم : الشيخ أسعد الشقيري والسيد أبو الخير عابدين مفتي دمشق ومصطفى أفندي نجا مفتي بيروت وكامل أفندي الحسيني مفتي القدس وأديب أفندي تقي الدين نقيب السادة الأشراف في دمشق ، يتقدمهم مولانا جلبي أفندي ثم فيصل بك المبجل ، ثم صاحبا الدولة الوزيران الكريمان تعلوهما المهابة ، ويحرسهما الجلال الإلهي قد ترديا برداء التواضع ، واضعي أيديهما على صدورهما كهيئة الواقف الذليل بين يدي الله عزوجل ، خاضعين لذلك الجلال المحمدي ، والسر الأحمدي ، ثم يتلوهما رجال الشرطة والدرك ، محافظين على النظام ، ثم رجال الحرس ، ثم بقية المتفرجين ممن لم ير الرائي في المدينة مثل عددهم اجتمع في محفل حافل ، وبينهم ألوف مؤلفة من العرب والقبائل جاءوا للاحتفال بالقائدين العظيمين ، يكفي القول بأن الفسيح الذي كان محتملا إياهم لدى وقوفهم بلغ

١٨٨

طوله نحو المائة والعشرين مترا ، وعرضه نحو الثلاثين مترا ؛ بحيث لا يكاد الإنسان ينظر إلى أخيه متلفتا.

ثم سار هذا الحفل العظيم على ذلك الترتيب الغريب بكل رزانة وتؤدة حتى باب السلام النبوي ، فلما وصلا هناك ذبحت الذبائح من غنم وإبل ، وتركت للفقراء والمساكين.

ولما اقترب حضرة أنور باشا من عتبة الباب أخذ المجاورون من أهل فاس والجزائر وتونس والهند وجاوه يقربون القرابين ، وكان نظره أثناء السير محدقا في الأرض خشوعا ، والدموع تنهمل من عينيه فرحا بالشرف الذي ناله بهذه الزيارة المقدسة ، فاقترب القادمان أولا من الروضة المطهرة ، وأخذا يرددان الصلاة والسلام على الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويقرآن الأدعية الخيرية ، ثم أقبلا على الروضة المطهرة ، فصليا سنة تحية المسجد ركعتين.

ولما مثلا أمام الضريح الأقدس يعلوهما الخشوع لذلك المقام وقفا حيث الرحمات تترى ، والفيوضات الربانية تتدفق ؛ حيث تقف الروح في مركزها الأعلى ، فتستنشق هاتيك الروائح الطيبة ، فتتجرد عن الكثافات ، وتتحاشى عن الدنايا ، فاضت العيون وسالت عبرات الشوق على الوجنات ، وهنالك عرف الكل تلك الصفات التي جعلت بطلنا الأنور وشهمنا الجمال يحوزان بها ثقة الأمة ورضا الثلاثمائة مليون مسلم ؛ إذ كنت تراهما وقد ظهرا بمظهر الدين ، وترديا برداء اليقين ، راكعين لله ساجدين لعظمته أمام ذلك الجلال الرباني والنور الصمداني ، سائلين الله بجاهه أن يذلل لهم كل عقبة ، وأن يسهل عليهم كل عسير ، وأن ينصر الجيش العثماني في كل التخوم ، لا سيما في الترعة التي

١٨٩

سيحيا بعدها الإسلام حياة طيبة ، وينتشر رواقه في إفريقية ، ويسري نوره في المعمور.

ثم بعد ذلك ، رجعا إلى الروضة النبوية ، فأديا فريضة الجمعة الكبرى ، وكان الخطيب هو رئيس الخطباء في المسجد النبوي ، فبحث في خطبته عن فضائل المدينة المنورة ، وعن فضائل المصطفى عليه الصلاة والسلام وأخلاقه الشريفة ، وما تقوم به الحكومة العثمانية الإسلامية من الانتباه والتيقظ ، ودعا الله أن ينصر خليفة الإسلام إلى الأبد ، ويؤيد الجيش والأسطول مرفوعة أعلامهما ، مؤيدة كلمتهما.

ثم ذهبا إلى فندق دار السرور ؛ حيث أعدت الحكومة هناك بما يليق بمقام الزائرين العظيمين ، وكان ذهابهما إليه بمثل ما دخلا به إلى الحرم الشريف من الاحتفال الفخم والأعلام العثمانية ، وأقواس النصر البديعة ترفرف على الرءوس ، ولم يستقر بهما الجلوس حتى أمر وكيل القائد الأعظم بالصدقات لتقسم على الفقراء ، فذبحت الذبائح في الحال ، وطبخت قدور الأرز في كل حي من أحياء المدينة ، ووضعت الحلوى أيضا حتى اكتفى الكل ، ثم أخذت الوفود تفد على حضرتيهما ، فيقابلان الكل بما يمتلك القلوب ويريح البال ، ولما أزف وقت العصر نزلا إلى الصلاة في المسجد النبوي ، وهكذا أديا فيه سائر الأوقات.

وبعد صلاة العصر ، لبس كل من حضرة أنور باشا وجمال باشا قفطانا أبيض وطربوشا أبيض ، وأخذا والسرور آخذ بمجامع قلبيهما يقومان بالمراسم الدينية والتعظيمات ، وبعد أن خشعت القلوب وفاضت الدموع بعبرات السرور ؛ تشرفا بالدخول إلى الحجرة المباركة ، وأوقد بالذات المصابيح ، ثم قبلا بكل احترام ستار الموقد النبوي ، واستمدا من المولى بحضرة صاحب الرسالة

١٩٠

العظمى عليه الصلاة والسلام أن يمن بالنصر العاجل للجيش والأسطول السلطانيين ، وأن يبقي أهل الإسلام على الدوام سعداء مسرورين في عز ورفاهية.

وبعد أن أديا صلاة الصبح يوم السبت دخلا على تلك الصورة إلى الحجرة المباركة ، وأخذا بإطفاء القناديل بأنفسهما ، ووضعا بأيديهما مكانها مصابيح جديدة ، وتشرفا بكنس جوار السدة السنية ، وتنظيفها له ، ثم شخصا إلى جنة البقيع الكائنة في جوار الحظيرة المقدسة ، فدخلا المقبرة ، وزارا مراقد الأزواج الطاهرات وأهل البيت وسيدنا عثمان بن عفان ، وأساطين المسلمين ، وأعاظم علمائهم فردا فردا.

ثم بعد العصر ، ذهبا إلى زيارة المحافظ في بيته ، فبعض المعاهد العسكرية ، ثم بعض المستشفيات العسكرية ، ثم أحييا ليلة السبت بالمدينة المنورة بذكر الله ، فجمعا مشايخ الطرق ، وقطعوا الليلة بذكر الله ، ثم قسمت الهبات الجزيلة من غنم وأوز وسمن ونقود بما جعل الألسنة داعية والقلوب شاكرة.

ثم في الساعة الرابعة من يوم السبت بعد أن زارا البقيع طالبا من شيخ الحرم أن يجمع حضرات أكابر العلماء ، ليلقوا درسا في الجهاد والوعظ ، فلبى النداء وأمر المفتي فجمع ستة من أكابر العلماء ، وهم : مولانا الشيخ حمدان الونيس القسنطيني عين أعيان مدرسي الحرم النبوي ، ومولانا السيد محمد بن جعفر الكتاني شيخ أهل الحديث ، ومولانا الشيخ خضر الشنقيطي ، وأخوه الشيخ محمد حبيب الله ، ومولانا الشيخ حسين أحمد الهندي ، ولما التأم المجلس جلس المفتي مأمون بري أفندي بصفته شيخ علماء المدينة في صدر المجلس ، ثم جلس العلماء أمامه ، وعن يمنيه كلّ في محله ، ثم جلس أنور باشا وجمال باشا متصفين

١٩١

بالخضوع ، فابتدأ المفتي بسرد أحاديث من صحيح البخاري شارحا لهما بما يقتضيه الحال ، ثم تلاه الشيخ حسين أحمد الهندي مبينا مزايا الجهاد ، مفسرا لبعض الأحاديث النبوية ، فتلاه الشيخ حمدان الونيس مفسرا لقوله سبحانه وتعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ) إلى آخره ، مبينا ما يجب على المؤمن من معنى هذه الآية الشريفة ، ذاكرا من مناقب رؤساء الجيوش البرية والبحرية ، ثم تلاه الشيخ الخضر ، ثم أخوه ، ثم تلاهم حضرة الأفندي أحمد كمنحيلي مرتلا لبعض آي الكتاب الحكيم بصوته المطرب ، ثم ختم الدرس مولانا السيد ابن الجعفر الكتاني بالدعاء ، مستمطرا فيض الله بجاه نبيه لنصر الجيش العثماني ، ثم قام الأستاذ الشيخ أسعد الشقيري ، فتكلم على علم الجهاد مصرحا بأن جميع العلماء من فاس والهند والجزائر بحثوا أبحاثا عالية في مشروعية الجهاد وفرضيته ، وما يجب على المسلمين من الطاعة والانقياد والجهاد بالأموال والأنفس ، ولكنهم لم يخوضوا في علم الجهاد وكيفيته ووسائله ، وهل نزل في القرآن ما يدل على هذا العلم؟

وأفاض الكلام على بعض الآيات التي لها تعلق بالعلوم الحربية التي تقرأ في مدارسنا الحربية الآن ؛ كقوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) ، وقوله : (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ). ، وقوله (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) ، وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) ، وقوله : (لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ).

١٩٢

وتكلم على أن الجيوش الإسلامية في الصدر الأول انتصروا مرة بالكم ؛ أي : بكثرة العدد ، ومرة بالكيف ، ومرة بالعزم والحزم بلا كم ولا كيف ، وأورد على ذلك آيات ؛ كقوله تعالى : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) ، وقوله (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) ، وكقوله : (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ) ، وقوله : (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) وآيات أخرى أيضا.

ثم ذكر للعلماء أن القائدين أنور وجمال منذ حداثة سنهما درسا ما يلزمهما من علوم الدين في المكاتب الأولية ، ثم دخلا المدارس العالية ، واجتهدا في تحصيل علم الفنون الحربية ، وتعلما علم سوق الجيش وترتيبه وتنظيمه ، وحفر الخنادق ، واتخاذ القلاع والحصون ، والاستعداد لآلات الجهاد الحديثة ؛ كالطيارات ، والمدافع الكبيرة والغواصات ، وتأمين خط الرجعة ، والمستشفيات الثابتة والسيارة ، ومقاتلة الأعداء بمثل قواهم وأشد منها ، وأن هذا العلم فرض من فروض الكفاية ، وأنه يرى بعد الآن داعيا لاجتهاد طلبة العلم الديني في المدارس في تحصيل مبادئ هذا العلم ، وإن العلماء والطلبة إن تطوعوا مع المجاهدين يجب تلقي هذا العلم من القواد والضباط ، وإن إهمال تحصيله ضرر بالجامعة الإسلامية.

فابتهج العلماء بهذا الإلقاء ، وصادقوا على أن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية كلها صريحة في وجوب هذا العلم ومكانته ، وأنهم سيجتهدون مع الطلبة بتحصيله في المدارس الدينية ، وأنهم لم يسمعوا قبل ذلك من خاض في هذا المبحث.

١٩٣

ثم توجه الكل إلى الحضرة النبوية سائلين الله بجاهه أن ينظر إلى الجيش العثماني نظر رضا ، وأن يمده بجنود من ملائكته المقربين ، ثم خرجا مستعدين للرحيل.

وبعد صلاة الظهر في الحرم النبوي خرجا بعد التوديع مشيعين بمثل ما دخلا به من الاحتفال العجيب ، ولقد أمطر المدينة برشة من وابل فيضهما أحيت القلوب ، وأينعت بسببها الرياض القاحلة ـ فدفع أنور باشا ألفي ليرة للبلدية لتقسمها على الفقراء ، ثم مثلها لشيخ الحرم ؛ ليقسمها على خدمته من علماء وخطباء وأئمة ومؤذنين وفراشين وبوابين وكناسين ، وأما جمال باشا فإنه سخت نفسه بجلب عشر شاحنات من الحنطة لتقسم يوميّا على الفقراء خبزا ، فجزاهما الله عن جيران النبي خيرا ، وأرسل أنور العثمانيين بضعة ألوف من الليرات لتوزع على فقراء مكة المكرمة والقبائل المجاورة للبيتين المعظمين ، وأهدى الحرم الشريف مصحفا من أغلى ما رأته العيون ، وأجمل ما خطته أنامل الخطاطين ، فرجع بالذكرى الحسنة والثواب الآجل إن شاء الله.

قال العلامة الشيخ أسعد الشقيري لدولة وزير العثمانيين أنور باشا بين المدينة ودمشق : دخل محمد الفاتح القسطنطينية ، وفي جيشه رجل من العلماء اسمه آق شمس الدين من مشاهير العلماء ، ومما يثبت لكم تعلق الموحدين ومكانتكم من قلوبهم أنه بمناسبة زيارتكم المدينة المنورة وجد في معيتكم من آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأمير فيصل بك نجل أمير مكة المكرمة ، ومن يقلد الخفاء من العثمانيين السيف عند توليهم مقام الخلافة في مرقد أبي أيوب الأنصاري مولانا جلبي أفندي وأكابر العلماء ، كمفاتي الولايات ونقبائها ، وهذا من مفاخركم التي لم تسبقوا إليها.

١٩٤

وبعث مولانا أمير مكة المكرمة صاحب السيادة والدولة الشريف حسين يعتذر للقائد الأعظم على عدم تمكنه من زيارته في المدينة المنورة ، وأرسل سيفين قديمين مرصعين بالجواهر والأحجار الكريمة هدية منه إلى أنور باشا وأحمد جمال باشا ، كما أهدى دولة الأمير أيضا أعبئة وكوفيات وعقلا لرجال معسكري أنور باشا وجمال باشا.

وقد منح الشريف حسين من عواطف الحضرة السلطانية العلية نوط الامتياز الذهبي والفضي المخصوص بالحرب ؛ لما بذله في هذه الحرب من أسباب المروءة والغيرة.

إلى وكيل القائد العام الأعظم ناظر الحربية وبطل الأمة العثمانية

صاحب الدولة والإقبال أنور باشا بمناسبة تشرف دولته ودولة أحمد

جمال باشا ناظر البحرية وقائد الجيش الرابع بزيارة صاحب

الرسالة العظمى ، واستمداده من روحانية مقامه الأسمى صلى‌الله‌عليه‌وسلم

الله أكبر حان النصر والظفر

والفتح قد ظهرت آيات الكبر

والجيش يمم وادي النيل منتضيا

بيض السيوف يرى في حدها شرر

من كل أغلب مقدام إذا اشتبكت

يوم الكريهة فيه البيض والسمر

كأنه الليث أبدى ناجذيه فلا

يثنيه عزمه خوف ولا حذر

بالأمس غادر جيش الكفر مندحرا

في الدردنيل فولى وهو منذعر

ورده خاسئا بالذل مرتديا

يعدو غنيمته الخذلان والخور

سل «بحر إيجة» عن أشلاء هالكهم

تنبئك عن حالهم في بحرها الجزر

كم من غريق قضى نحبا ومحتضر

تطفو بحثته الألواح والدسر

وآخر عفرت بالذل جبهته

ينتاب جيفته المنقار والظفر

واليوم وجهته الجلى وغايته

تطهيره مصر من أرجاس من غدروا

١٩٥

فقد أعد لهم مهما استطاع له

من قوة ورباط الخيل إذ مكروا

وجاء يستصرخ الهادي بروضته

من أصبحت في الملأ أيامه غرر

مولى العلى أنور الوضاء طلعته

ومن به دولة الإسلام تفتخر

في مهبط الوحي والقرآن من زمن

فيه تنزلت الآيات والسور

لا غرو إن أمّ هذا القبر مبتهلا

يستمنح النصر حتى يأته الظفر

«ومن تكن برسول الله نصرته»

لا شك في أنه يعلو وينتصر

فيا حليف الندى والمجد منفردا

ويا مبيد العدى والحرب تستعر

ها طيبة اليوم في أبهى ملابسها

طابت بسامتها الآصال والبكر

أهلا وسهلا تناديك الربوع بها

وأهلها كلهم والبدو والحضر

هشت لمقدمك المحبوب تربتها

كأنما أنت في أحيائها مطر

أنقذت أمة هذا الدين من خطر

قد كان يقضي عليها ذلك الخطر

منحتها العدل والشورى وكنت لها

كهفا منيعا به تسمو وتفتخر

وصنتها من عدو طالما طمحت

أطماعه لاغتيال ساقه الأشر

أذكرتها زمن الصديق من حقب

أو يوم يحكم في أرجائها عمر

فالدين والشعب والإسلام قاطبة

راضون والحجر والأركان والحجر

والمصطفى جذل في وسط حجرته

قد سر من طيب ذكر نشره عطر

ويا سمير الحجى في كل نازلة

ويا منير الدجى والخطب معتكر

هذا جمال لقد سارت كتائبه

ظمآنة لورود النيل تبتدر

تجوب تلك الفيافي كالخضم له

موج تلاطم أو كالسيل ينحدر

هذا الوزير الذي جلت مآثره

أن يحصها العدو أو أن تحوها الفكر

كم من يد أصبحت بيضاء ناصعة

له بحلق يروي ذكرها الأثر

١٩٦

فبينما في ربى لبنان تنظره

إذ أمّ بيروت منه صارم ذكر

يسعى وغايته الإخلاص مجتهدا

ودأبه الجد والتفكير والسهر

تلك المزايا التي خص الإله بها

قوما هم الناس إن عدوا وإن ذكروا

تلك السجايا التي لو أنها قسمت

بين البرية لم يحدث بها كدر

تلك المناقب إن عدت فليس لها

عد فتحصى ولا حد فتنحصر

فاهنأ بما نلت من مجد ومن شرف

لا زال يخدمك الإقبال والقدر

واقبل تحية إخلاص يخلدها

في ذكر أوصافك التاريخ والسير

محمد سامي برادة

١٩٧

في العودة

عاد أنور باشا من رحلته من المدينة المنورة إلى دمشق توّا ، وكانت العشائر والقبائل العربية في الإياب كما في الذهاب تحييه ورفيقه جمال باشا تحية الاحترام والإعظام ، وهو يخلع على أمرائهم وينفح فقراءهم ، والألسنة تنطلق بالدعاء له ولدولة الخلافة المعظمة ، وجاء دمشق فقضى فيها يوما ، زار فيه بعض ما فاته من المعاهد ، وزار هو ورصيفه دار شفيق بك القوتلي من أعيان المدينة وكبار تجارها ، ونظرا ما عنده من التحف والعاديات ، فأهدى حضرته لأنور باشا كرسي مصحف كريم من العاج الثمين من صنع دمشق ، وأهدى جمال باشا آنية أثرية نفيسة تذكارا لهذه الزيارة.

وقد منح دولته ناظر الحربية في ذاك اليوم عدة عطايا انطلقت لها الألسن بالشكر ، ومن جملة ما أهداه مصحف كريم خطي لمدرسة دار الحديث الأشرفية التي يتولاها اليوم خاتمة المحدثين الشيخ بدر الدين الحسني ، وأهداه أيضا سبحة نفيسة دليل صلة الود واحترامه للعلماء.

وكان يوم الثلاثاء (٣ جمادى الأولى ١٣٣٤ ه‍) من أجمل الأيام التي رأتها دمشق الشام ، صحا جوه وراقت سماؤه ، فبزغت الشمس منيرة بأشعتها المنعشة زينات الأعلام التي أقامها الدمشقيون احتفاء ببطلي الإسلام أنور باشا وجمال باشا ، وقد انتشر الناس في شوارع دمشق مع انتشار أشعة الشمس ، فغصت بالسابلة ، والكل وجهتهم طريق الربوة احتفالا بوداع دولة أنور باشا ، وقد اصطف المودعون من جميع طبقات الأهلين من نزل معسكر الجيش الرابع حتى جسر دار الذخيرة ، ومن أمامهم رجال الطرق العلية وطلاب المدارس الرسمية والخصوصية مع موسيقاتهم والجنود النظامية ومتطوعة القادرية والمولوية

١٩٨

وطلاب مدرسة العسكرية مع موسيقاهم ، وطلاب مدرسة الصنائع مع موسيقاهم ، وطلاب مدرسة الدرك ، وشرذمة من فرسان الرولة ، وقد وقف أمراء العسكرية والملكية والعلماء والسراة ورجال الصحافة بانتظام أمام جسر الذخيرة ، وفي الساعة التاسعة زوالية سارت على بركة الله السيارة المقلة لدولتي البطلين من أمام الفندق الهوينا ، والموسيقات تحييهما ، والألوف المؤلفة من الأهلين الذين لا يدرك الطرف آخرهم تهتف لهما رافعين أصواتهم بالدعاء لهما ، وقد سارا على هذا المنوال حتى وصلا إلى جسر الذخيرة ، وهنالك وقفت السيارة فنزلا منها ، فحياهما الشريف السيد فيصل بك نجل مولانا أمير مكة المكرمة ، فعطوفة والي سورية ، ومن ذكرنا من الذين كانوا مصطفين هناك ، وتلا إذ ذاك أبو الخير أفندي عابدين مفتي دمشق دعاء موجزا ، دعا فيه للخليفة الأعظم وللبطلين الكبيرين وغيرهما ممن يخدمون دولة الخلافة بنية خالصة لله ورسوله ، وارتجل بعده عطوفة علي رضا باشا الركابي رئيس بلدية دمشق بضع كلمات شاكرا لهما باسم الدمشقيين ، ثم ركبا السيارة ، وسارا على بركة الله إلى بعلبك ، وهناك شيع القائد العام أحمد جمال باشا وناظر البحرية صديقه ورصيفه أنور باشا وكيل القائد الأعظم وناظر الحربية الجليلة ، فركب ضيف سورية القطار إلى حمص التي احتفلت بمقدمه الكريم احتفالا عظيما ، وتليت بحضرته بعض الخطب ، منها خطبة محمد علي أفندي مدير مكتب الاتحاد ، وقصيدة توفيق أفندي الأتاسي من فضلاء تلك المدينة ، وثلاثة أطفال خطبوا خطبا جميلة راقت السامعين.

«قصيدة توفيق أفندي الأتاسي»

هذا الجلال وهذه الأنوار

قد أشرقت فلتهنأ الأبصار

يا ثغر سوريا ابتسم أنسا فأف

واه الهنا لثمتك والأقمار

١٩٩

والروض باكره الغمام بمزنه

فزها وطاب وزانه النوار

والدهر وافى بالسرور وبالمنى

وعلى الغصون تغرد الأطيار

يا حمص تيهي حيث زارك أنور

ردء الخليفة سيفه البتار

وكذا جمال الدين والدنيا معا

قطب الوغى فلك العلا الدوار

بدر تلألأ في سماء بلادنا

فأضاءت الأنجاد والأغوار

حسنت بمدحهما القوافي وازدهت

وتزينت بعلاهما الأشعار

فمهابة ممزوجة بلطافة

دانت لها الأشرار والأخيار

طابت بك الأيام والدنيا بما

فيها وطاب بذكرك الأخبار

عم البسيطة والبرية عدله

فالخلق شخص والبسيطة دار

لا البيد بيدا أن يهم ونهضة

نحو القنال ولا القفار قفار

ولقد درى السكسون أن وراءه

خطرا تقاصر دونه الأخطار

ولكم له في أرض مصر مفاسد

للهيبها في الخافقين شرار

وإذا طغى فرعون فيها واعتدى

فعصى الكليم لواؤك الخطار

علم به نصر الهدى فكأنه

علم النبي وحوله الأنصار

يا واحد الدنيا الذي بشبيهكم

عقم الزمان وضنت الأدوار

أيدت دين الهاشمي فلم يضع

لنبي الشريعة عند سيفك ثار

يخشى مقامكم العدو وبركم

للمخلصين سحابة مدرار

لا زال أنور نوره بسما العلا

يزهو وفيه تزدهي الأبصار

وكذاك لا برح الجمال جماله

في الكون يسطع من سناه نهار

أيامه الأعياد وهي نواضر

زهر وعودك في العلاء نضار

٢٠٠