الرّحلة الآنوريّة إلى الأصقاع الحجازيّة والشاميّة

محمّد كرد علي

الرّحلة الآنوريّة إلى الأصقاع الحجازيّة والشاميّة

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ١
ISBN: 977-341-344-6
الصفحات: ٢١٥

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا

منذ انبسط ظل الإسلام على الأرض سلك الخلفاء والأمراء والوزراء في الصدر الأول والقرون الزاهرة بعده مسلكا كان فيه الغناء لجر المغانم إلى الأمة ورفع المغارم عنها ، فكانوا يتصفحون بأنفسهم شئون الناس ، وينظرون فيما يصلحهم مباشرة ، ولذلك كانوا على أوفاز أبدا ، يتنقلون في بلادهم ، ويجتازون الفيافي والقفار ، يهتمون برفع الظّلامات اهتمامهم بتوسيع الفتوحات ، ويعنون بالماديات والمعنويات عنايتهم باللدنيات والدينيات ، يفارقون الأهل والولد ، ولا يعلقون براحة ، ولا يشغفهم حب بلد ، وقد ازدان صدر التاريخ بذكر تلك المفاخر والمآثر ، وكان حقّا على الأخلاف أن يهتدوا بسيرة الأسلاف.

وما برح أهل هذه الملة إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم يقرءون أسفار أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى القدس ودمشق ، وتنقل عمر بن عبد العزيز الأموي في مملكته ، ومسير طارق بن زياد إلى الأندلس ، وأسد بن الفرات إلى صقلية ، وعبد الله بن أبي السرح إلى إفريقية ، وقتيبة بن مسلم إلى الصين ، ومحمود بن سبكتكين إلى الهند ، والخليفة المأمون العباسي إلى خراسان والروم ومصر والشام ، وعبد الله بن طاهر ، وعبد الرحمن الداخل ، ونور الدين محمود بن زنكي ، وصلاح الدين يوسف بن أيوب ، والظاهر بيبرس البندقداري ، وألب أرسلان السلجوقي ، ومحمد الفاتح ، وسليمان القانوني ، وسليم العثماني ، وغيرهم من لم تشغلهم نضرة النعيم عن التدبر في حال بلادهم ، ومدّ رواق الإسلام على الأنام ، وكف العوادي عن قومهم ، وحماية ديارهم ؛ حتى سادوا الأمم ، وغدت

٣

ملتهم أرقى طبقات البشر لعهدهم ، وأوسعها سلطانا ، وأكثرها أمنا وأمانا ، وأوفرها مدنية وعمرانا ، فظهر للملأ عدلهم وعلمهم وعملهم ، وكانوا خير أمة أخرجت للناس في أخلاقهم الفاضلة ، وعقولهم الراجحة ، وتجارتهم الرابحة الناجحة.

وكثيرا ما كان بعض من رزقوا حظّا من الفهم والنظر في العواقب يتلهفون على انقطاع التجدد في هذه الأمة منذ زمن ليس بقليل ، خصوصا وآمال المسلمين في القاصية والدانية معلقة بالدولة العثمانية ؛ إذا هي نهضت نهض المسلمون كافة ، قوتهم بقوتها ، وضعفهم بضعفها ، ولا رجاء لهم في البقاء إلا إذا أتى الخير على أيدي القائمين بأعباء دولة الخلافة.

وبينا كاد اليأس يقضي على آمال العالمين منّ الله سبحانه وتعالى بإخراج رجال من أكابر المخلصين في السلطنة لم تلههم زينة خليج دار الخلافة ومضيقها ، ولا ذاك الهواء العليل ، والمناظر الرائعة ، والنعيم المقيم ، وطيب العيش في تلك الأفياء والأرجاء ؛ بل جعلوا دأبهم التفكر في نهضة الأمة ، وإعادة سالف عزها لها ، والعمل على تجديد حياة الجامعة الإسلامية ، وفي مقدمة أولئك الرجال سيف الإسلام القاطع ، وكيل أمير المؤمنين في قيادة الجيوش العثمانية.

أنور باشا

ناظر الحربية في الدولة العلية

فإنه أحيا سنة الخلفاء والعظماء بسيرته الطاهرة ، ووطنيته الباهرة ، ورحلاته المتكاثرة.

٤

نبغ هذا العظيم ، والقوم نسوا ـ أو كادوا ـ مشخصاتهم ، وصار أكثرهم إلى دركة من الانحطاط ، يعدّ معها العلم وساوس ، والشجاعة تهورا ، والنظر في المستقبل فضولا ، وإعداد القوى للتغلب على الخصم من سوء فهم عقيدة القضاء والقدر ، وضعف النفس والرضى بالدون والمذلة من الظرف والأدب وحسن السياسة ، وإقامة الشعائر الدينية من أمارات الجمود وعدم الأخذ بنصيب من المدنية الحديثة ، ولكنه أدام الله توفيقه عمل عمل المستقل الفكر ، القوي الإرادة ، الواسع الأمل ، فاستجاش أنصارا إلى مذهبه ؛ حتى أجمعت القلوب على حبه ، وأشربت النفوس احترامه ، لكثرة ما تمّ على يديه من الأعمال المجيدة ، وتوفر جمهور المعجبين بنبوغه وعقله ، وإخلاصه ورباطة جأشه ، فنزع بالبرهان ما علق من الأوهام في الأذهان ، وقوى القلوب الميتة ، ونهض بالنفوس المستخذية المستكينة.

نعم ، أثبت قائدنا المحبوب أمام العالم أجمع بالمثال الحي الفعال كيف يجب أن يكون في الإسلام الأبطال.

وبعد ، فأي عمل نذكره له؟ أنذكر له الأحاديث المسلسلة في باب تفانيه منذ وعى على نفسه ، في خلع ربقة الاستبداد ، وإعادة حكم الشورى في هذه السلطنة؟ أو نورد له سفره إلى طرابلس الغرب قبل ارتقائه إلى منصة الوزارة ، وتخليه عن أسباب الراحة ، وافتراشه هناك الحجر والمدر ، والتحافه العراء وقبة السماء ، واكتساءه غليظ الثياب ، وتبلغه بميسور العيش من طعام وشراب؟ أو نستشهد له بجهاده البليغ في حرب البلقان ، وكف عادية العدو عن استباحة حمى دار السلطنة واسترجاع أدرنة ، وما يرجع الفضل الأول إلا إليه في الإبقاء على هذه العاصمة عثمانية صرفة؟ أو نعدد له بيض أياديه في تنظيم الجيش

٥

الإسلامي وإعلانه الجهاد المقدس عند مسيس الحاجة ، وحزمه المدهش في الدفاع عن جناق قلعة وإنقاذ روح المملكة وعاصمتها؟ أو نشكر له مع رفاقه سعيه في محالفة أصحاب الشرف والنفوذ من الدول؟

كل ذلك معروف موصوف ، يعرفه البعيد والقريب ، ويتغنى به البغيض والحبيب ، نقش برمته في الصدور قبل السطور ، ولهجت به الألسن ، ورجعت صداه الأفكار ، حتى أمسى سمر الناس وحديثهم ، ورضي به وعنه الله.

وكأنا بحضرة القائد العظيم يردد في روحه الطاهرة قوله تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) ويمعن النظر في قوله عليه الصلاة والسلام : «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» ، فقد كان ـ أعزه الله ـ حريصا قبل كل شيء على تجديد الشعائر الفاضلة التي ظهر بها الإسلام في بدايته ، فاستقر رأيه العالي على زيارة معلم الخير مؤسس الملة الشارع الأعظم صلوات الله وسلامه عليه ، وتفقد الشئون في البلاد الشامية (١) وما أحدث فيها من قلاع وحصون ، والبحث في حال جيشها في زمن حمي به وطيس الحرب العامة ، وانقسم فيه العالم إلى قسمين متحاربين ، ولم يحد منه سوى جزء من الممالك هو في حكم المحارب ، والدولة العثمانية ، أعلى الله بالنصر أعلامها ، تحارب مع حلفائها حربا لم يسبق لها مثيل في الأيام الغابرة ، حرب لا توسط في نتائجها ؛ إما الحياة الطيبة ، أو الفناء الأكيد والعياذ بالله.

__________________

(١) درجنا هنا على اصطلاح علماء الجغرافية من العرب ، فإنهم إذا قالوا : الشام ، يعنون به القطر الممتد من عريش مصر إلى الفرات ، فيدخل فيه اليوم لواء القدس وولاية بيروت وولاية سورية ولواء حلب ومتصرفية لبنان وبعض لواء الزور. وفلسطين داخلة في الشام المقصود هنا.

٦

شخص قائد الجيوش المظفرة من دار الملك بعزيمته الصادقة ، يحفه الوقار ، وتشيعه المهابة ، في جملة من رجاله وحاشيته ، والقلوب تناجيه : سبحان الذي منّ على الإسلام بعميد مثلك ، ووفقك لخدمة الجامعة المحمدية المقدّسة ، وحبب إليك الاستماتة في إعلاء شأن الدولة العلية ، وجعلك حيثما حللت سراجا يستضاء به وسياجا يحتمى دونه.

ولما كان في سياحة عظيم الدولة عظات سياسية اجتماعية دينية يعتبر بها المعتبرون ، على اختلاف الأجيال والقرون ، رأيت أن أتشرف بالتأليف بين أجزاء أخبارها وآثارها في أرض الشام والحجاز تاركا لأقلام من كتبوا وخطبوا في هذا المجال حريتهم ، فإن نقل الشيء على حقيقته ادعى إلى تصور كل قائل بقوله ، فتتمثل للأنسال القادمة حالة عصرنا ومبلغ أهله من الأفكار والآداب.

ولعل من أوتوا حظّا من العقل السليم ، يدركون من مغزى ما سيقرءون ، أن المسلمين لم يعدموا في كل زمان رجالا باعوا أنفسهم في سبيل الله ، وسلبوا قرارهم ليوفروا لأمتهم سهمها من الراحة. وعسى الغرب الذي أساء ظنه زمنا طويلا بالشرق وأبنائه ولا سيما بالمسلمين منهم ، يعود إلى الرّوية في حكمه على الإسلام والمسلمين ويعطي رجال هذه الأمة العثمانية حقوقهم من التجلة والاحترام ، بل من الإعجاب والإعظام ، فليس في الأرض من لم يسمع باسم أنور العثمانيين ، وقرة عيون الموحدين ، ولكن من الأمم من نغلت قلوب رجالها أمراض الأغراض رجاء إرواء مطامعهم من هذا الشرق القديم فيغضون ممن رفع الله قدره ، وأعلى أمره ، وحفظ به بيضة الدين ، والله نسأل في الختام أن يحفظ لنا هذا الرجل العظيم ويؤيد بفضله وعمل العاملين من إخوانه هذه الدولة المنصورة أبد الآبدين ودهر الداهرين آمين.

٧

فاتحة المطاف

رحل صاحب الدولة أنور باشا ، وكيل القائد الأعظم وناظر الحربية العثمانية من دار الخلافة على القطار الحديدي ؛ فوصل بوزانتي في وسط جبال طوروس آخر يوم من شهر كانون الثاني على الحساب الشرقي سنة ١٣٣١ (١٣٣٤ ه‍) يرافق ركابه العالي بروانزار باشا رئيس أركان الحرب في نظارة الحربية ، والدكتور سليمان نعمان باشا رئيس الصحية العام في الجيش ، والجنرال بومبايه قودسكي ملحق النمسا العسكري ، وفون لوسوف ملحق ألمانيا العسكري ، وعلي بك من أعضاء شورى الدولة ، ومحمود بك قائمقام أركان حرب مدير المعسكر ، وعمر لطفي بك قائمقام أركان حرب ، وفلدمان بك القائمقام ، ورئيس حجابه كاظم بك ، وممتاز بك ، وصفوت بك من حجابه ، وسيفي بك مدير الاستخبارات ، وغيرهم من رجاله الممتازين.

ولما وصل إلى بوزانتي ـ أقصى منطقة الجيش الرابع ـ استقبله صاحب الدولة أحمد جمال باشا قائد الجيش الرابع وناظر البحرية ، وكان مع قائدنا جملة من رجاله أيضا ، بينهم القائمقام فؤاد بك رئيس أركان حرب الجيش الرابع ، فركب القادم الكريم مع أخيه ورصيفه قائد الجيش المرابط والغازي في هذه الديار على سيارة إلى طرسوس ، وكانت مزدانة بأبهى حللها من الزين ؛ احتفاء بمقدم أنور الأمة ومحبوبها ، وخرج جميع أهل هذه المدينة الجميلة لاستقباله ، ونزل في معسكر الفرقة ، وقبل تناول طعام الغداء فتش الفرقة ، وعاد مسرورا مما رأى إلى المعسكر ، واستعرض في الليل أبناء المدارس والأهلين يحملون المشاعل بأيديهم ، ومن الغد تحركت الركاب العالية إلى أطنة في القطار ، واستعرض

٨

الناظر هناك من يلزم ، وسرّ سرورا خاصّا من انتظام سرايا الكشافة من طلبة المدارس.

وذهب بعد إلى طوبراق قلعة ، وفتش الحصون المنشأة حديثا ، وتناول طعام الغداء في المحطة ، وبعد الظهر ركب القطار إلى عثمانية ، وترجل ، فذهب من المحطة إلى المدينة ، وبات تلك الليلة في هذه القصبة ، ومن الغد ركب ورجاله السيارات ، فقطعوا جبل كاور طاغ إلى الإصلاحية ، ومن هنا ركب على قطار خاص إلى حلب بالعز والإقبال.

٩

في حلب الشهباء

وصل القطار المقل رجل الإسلام أنور باشا إلى مدينة حلب على الطائر الميمون بعد الغروب ، وكان أهلها على اختلاف طبقاتهم يرقبون طلعته الكريمة رقبة هلال العيد ، ولا عجب ؛ فقد كان قدومه عيدا عامّا للبلاد كلها ، فاحتفلت حكومة الشهباء بالزائر الكريم بأقصى ما عندها من أنواع الحفاوة ، فمن كتائب الجند إلى سرايا الشرطة والدرك فالجلاوزة فطلبة المكاتب والمدارس وصنوف الطبقات العلمية والجندية والإدارية ، وفي مقدمتهم عطوفة والي حلب مصطفى عبد الخالق بك ، أما شوقي باشا قائد فيلق حلب فذهب إلى راجو لاستقبال الناظر المعظم ، ولما نزل من القطار حيّا المستقبلين أجمل تحية ، وحلّ في نزل البارون.

وفي المساء أقام والي حلب في هذا النزل ضيافة لدولته ودولة زميله أحمد جمال باشا ، حضرها رجال معية الرجلين ، وأقامت بلدية حلب من الغد في المكتب السلطاني ضيافة فاخرة لضيف البلاد ، حضرها القائد العام ، وقد ألقى الشيخ كامل الغزي من أساتذة الشهباء في الآداب قصيدة غرّاء ، كان لها الوقع الحسن ، وفاه سعادة نافع باشا الجابري ـ عين أعيان هذه المدينة ـ بخطاب تركي رحّب فيه بالقادم الكريم ، وأظهر عواطف الأهالي ، وقال : إن القوم كانوا جميعا في تشوق تام لمشاهدة أنوار هذا البطل ، وإن جميع الأحزاب والفرق منذ إعلان الحرب اجتمعت على مظاهرة هذه الوزارة الحاضرة والقيام بخدمتها ، وأن كل من يقدر على حمل السلاح متطوع أو مرابط في هذه الولايات ، مستعد للقاء كل عدو.

١٠

وبعد ذلك ، خطب الأستاذ الشيخ أسعد الشقيري ـ رئيس مجلس تدقيق المؤلفات الشرعية ـ خطابا بالتركية ، أعجب فيه وأغرب ؛ فقال : إنه أتى حلب لاستقبال الناظر العظيم باسم علماء سورية وفلسطين وأعيان المسلمين وأشرافهم ، وأن الأهالي عهدوا إليه ـ في كل ولاية ولواء وقضاء ـ أن يتنازل القادم الكريم لقبول دعوة علماء المسلمين وأكابرهم وزيارة بلدتهم ، وأن لمدينة حلب في تاريخ الإسلام شئونا وأطوارا ، فمن مفاخرها القديمة أن دخلها صلاح الدين بن أيوب المجاهد العادل الكبير ، واستقرّ ملكه فيها.

ومن مفاخرها الجديدة في عصرنا هذا زيارة بطل الإسلام ، قرة عيون الموحدين قائد جيوش المسلمين أنور باشا لها ، وأن هذا اليوم سيكتب في تاريخها المجيد ، ويعد في سجل أيامها المسعودة ، وأن العلماء كانوا يغبطون رجال العلم الذين تعلقوا في العصر الصلاحي بخدمة السلطان صلاح الدين يوسف ؛ حتى سهل الله لهم التشرف بزيارة أنور باشا في دار الخلافة ، وتشريفه إلى هذه البلاد في الآونة الأخيرة ، فنالوا حظهم وبلغوا أمانيهم ، وستكتب خطبهم وقصائدهم في التاريخ الأنوري كاسلافهم في التاريخ الصلاحي ، وأنه كان حريصا على أن يكون ابتداء كلامه في مدينة دمشق أو بيروت أو القدس ، إلا أن أعاظم حلب دفعوه إلى إيراد الكلام ، والولايات كلها وطن عثماني واحد ، وأنه بصفة كونه من أفراد السوريين ناب مناب المسلمين في إيراد كلامه. وطلب من الله التوفيق لأمير المؤمنين ووزرائه ، والنصر والتأييد لجيوشه وأساطيله.

وبعد تناول الطعام ، ذهب القائد الكبير مع أحمد جمال باشا ناظر البحرية إلى الدائرة العسكرية ، ثم إلى جامع سيدنا زكريا ، فاستقبله فيه علماء الدين ومشايخ الطرق وأشراف المدينة ، وقدموا المباخر بين يديه ، ولم يزل في هذه الحفلة الدينية

١١

من الباب حتى وصل إلى أمام ضريح سيدنا زكريا على نبينا وعليه أشرف السلام ، فقرأ العلماء بصوت جهوري سورة الإخلاص ثلاث مرات ، ودعا مفتي حلب محمد أفندي العبيسي دعاء لائقا بالمقام ، ثم دخل القائد المرقد ، وزار مصحفا كبيرا فيه بالخط الكوفي يظن أنه كتب على عهد خلافة سيدنا عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه.

وعلى أثر خروجه من الحجرة قدم له مفتي حلب كتاب البخاري على ورق حرير بخط جيد ، كتب منذ ثلاثمائة وخمسين سنة ؛ ليكون تاريخا لزيارته مدينة حلب بعد أن تلا المفتي خطابا بديعا في تأثير زيارة هذا القائد العظيم.

وبعد ذلك ، زار المعاهد والثكنة والمعسكر والمستشفيات والأماكن العسكرية ، ورجع في الليل لحضور الوليمة التي أقامها في نزل البارون شوقي باشا قائد فيلق حلب ، وفي الصباح ركب دولة القائدين العظيمين أنور باشا وجمال باشا في السيارات إلى بيلان «بغراس» ؛ حيث كان في استقبال دولته عطوفة فخر الدين باشا وكيل قائد الجيش الرابع ، فتناول الطعام فيها على مائدة أقامتها الفرقة العسكرية ، ثم نزل الأسكندرونة ، وفتش الحصون العظيمة التي أحدثت في تلك الأنحاء وصرفت عليها الأموال الطائلة ، فأدبت بلدية أسكندرونة ضيافة شاي ؛ إكراما للقائد في مكان مشرف على البحر غاية في الرواء وجمال المنظر ، ثم رجع القائد الكريم ورفيقه أحمد جمال باشا وسائر من في ركابهما إلى بيلان ؛ حيث باتا هناك تلك الليلة بعد أن حضرا الاستعراض العسكري الذي أجرته الكتائب المرابطة في جوار الأسكندرونة.

وبعد تناول طعام الغداء في بيلان ركب الناظران ومن معهما في السيارات إلى حلب ، فتناولا طعام المساء على مائدة أدبتها جمعية الاتحاد والترقي في حلب

١٢

مساء السبت لبطل الدستور ، فكانت حفلة حافلة تشع نورا وجمالا ، فألقى الأستاذ الشيخ محمد بدر الدين النعساني قصيدة ، وعقبه الشيخ عبد اللطيف خزنه دار رئيس نادي الاتحاد بخطاب ، وارتجل فليكس أفندي فارس من أساتذة المدرسة السلطانية في حلب خطابا قال فيه :

إن الأمة العثمانية التي نفضت عنها غبار الموت ، ووقفت على ألواح قبرها منذ ثماني سنوات تقف اليوم بين العواصف التي تكتسح وجه الدنيا ، وتطلب من الحق حق حياتها بعد أن طالبته بحياة حريتها.

وفي الموقفين ، تحت زوابع الاستبداد القديم ، وتحت إعصار النار التي تلتهم المدنية المنصرمة لتغيير وجه الأرض نرى هذه الأمة العظيمة تتلمس سبيلها ، وقد علقت أنظارها على السيف الأنور الذي انتثرت من فرنده أشعة الحرية الخالدة ، وهو اليوم يعانق الهلال ، ومن تحته الغيوم تقصف في أهدابها الرعود.

موقفك عظيم هائل أيها البطل الصغير الكبير ، إن حظوظ الدنيا متوقفة على خطرات روح الكون في فكرك ، ومستقبل مدنية العالم يترجرج بالشهب التي يرسمها رأس سيفك على قارة مهد الإنسان. إنك مسخر روح الحق أيها البطل ، فأنت تكتب كلمات اللوح المسطور على صفحات الوجود المنظور ، لقد كتبت من قبل كلمة الحرية لثلاثين مليونا ، ويدك ثابتة وثغرك بسام ، فكن كذلك الآن وأنت تكتب هذه الكلمة المقدسة لكل الشعوب التي سحقتها المطامع ، وامتص دمها الاستثمار الفظيع.

وإذا خشعت نفسك يوما أمام نفسك ، إذا تردد قلبك لحظة أمام روح قلبك في هذا الموقف الرهيب ، فالتفت إلى ما وراءك يا أنور. انظر! هنالك ضابط

١٣

صغير أنحله دبيب الروح الأعظم في عاطفته وشوقه ، جالس على القبور وقد ثوت فيها آمال الأمة مع رفات الجدود ، ذلك الضابط الشاب قد انحنى على يأس أخوته ، فاستخرج منه الأمل الحي في قلبه ، وبينما كان الكل في قطع الرجاء كان هو وحده منفردا بأمل الحرية والحياة ، كان أعدؤه كحلقات الحديد مرتبطة تتسلسل من عند جواهر التاج حتى رغيف الجندي اليابس ، أصدقاؤه قليلون ، ومناوئوه الجميع.

ذلك الضابط الصغير انتضى سيفه ، واندفع إلى الأمام ، فلم تمض أيام حتى أصبحت الأمة كلها جندا له ، وخشع أمامه الكل حتى أعداؤه.

انظر إلى ذلك الضابط الصغير أيها الوزير الكبير ، تذكر وأنت إلى جنب العرش ، ذلك الذي وضع أساس المجد وهو متشرد في الجبال.

تذكر وأنت إذا تحركت ماجت لأمرك ملايين السيوف ، وزمجرت لصوتك ألوف المدافع ، تذكر أنور بك ، وإلى جنبه رفيق جهاده نيازي بك تتمهد أمامك المصاعب ، وتذوب أمام بريق عينيك جبال الأهوال.

أي أمير السيف ، ومجدد مفاخر عثمان ما ذكرت لك أخاك نيازي لأثير كامن الشجن فيك ، ولكنها خواطر قوة تثور في روحك ، فتدب منها إلى الأمة المجاهدة قوة الموت في سبيل الحياة.

وما يسيل الدمع من مآقيك مثل هذا التذكار أنك ما افترقت عن نيازي ؛ لأنه إن لم يكن حيث أنت فأنت موجود حيث هو كائن. إن الرجال الذين يصطفيهم الروح الأعلى لإتمام مقدرات الإنسانية يعيشون وهما على الأرض ؛ إذ يحيون حقيقة في أوج المصادر الخالدة. إن روحك تجول حيث تجول الآن أرواح

١٤

أبطال الدنيا الذين خدموا الحرية والحق منذ تكوّن الإنسانية حتى الآن ، فما تلمس الأرض إلا برجليك وبرأس سيفك.

تقدم وادخل أرض سورية التي يعرف أهلها أن الحرية هي كلمة مرادفة لاسم أنور.

سر في رحب هذه البلاد التي ملئت من آثار أخيك البطل جمال أمجادا ، وإذا رأيت أن سورية تصارع ويلات الحرب ، فلا تكتفي بالغلبة عليها ، بل تصعد أيضا على مدارج الارتقاء ، فاعلم أنها مدينة بذلك للرجل المحارب المتشرع المصلح ، مدينة لحامل مبدئك ، والمتحلي بفضائلك ، مدينة للبطل جمال.

عندما ارتجت الأمم لصدمة الارتجاع الأول في ٣١ مارت ، كنت في بيروت فرأيت مع أخوتي الاتحاديين ، أمل الشعب بحريته ينقلب إلى اليأس المريع ، رأيت الأمة مرتجفة ؛ إذ سمعت صرصر الاستبداد يزمجر من بعيد ، فارتمت إلى الأرض تعفر وجهها بالتراب. وقفت إذ ذاك ، وقلت لهم : ان الأستانة قد أغلقت أبوابها بوجه الأحرار ، ولكن أسد الاتحاد لم يربض إلا ليثب ، وسوف ترون السيوف لامعة تقصف من حولها الرعود.

قلت لهم ذلك وفوق ذلك ، فبقي الشعب واجفا يتلفت مرتعشا ، فصرخت بهم إذ ذاك :

«ان صوت أنور بك يدوّي في الآفاق ، ولمعان سيفه يشق ظلمة الأفلاك».

فرفع الشعب رأسه وانتفض كسلك مسه الكهرباء. فكان ذكر اسمك كافيا ليرفع رأسه ، ويبرق محتجا مطالبا بحريته وحياته ، ها أنت في سورية يا

١٥

أنور ، وما أخالك جاهلا من أنت. اذهب تحف بك ملائكة الحق أيها البطل ، تقرب إلى هذا الشعب الذي أعطيته الحرية ، وسوف تعطيه الحياة الجديدة ؛ لأنه ينتظرها منك.

جد بلفتات عينك على هذه الأمة التي بينها أمهات يبكين أولادهن الشهداء ، التفت إلى الأولاد الذين يفتشون على آبائهم ، وفيهم الغازي والشهيد. تبسم لهؤلاء الحزانى ، فإنهم لنور وجهك يبشون. اظهر أمام سورية كما أنت ، وقد أنكرت نفسك في سبيل الوطن ، فلا تأسف البلاد على الدماء التي أراقتها وهي تتبعك في سبيل الدفاع عن حقها الأعلى.

ما أنت مضرم نارها ولا موري زناد هذه الحروب ، وما كنت لتدفع بالأمة إلى خوض غمار الروع وأنت الذي رميت بنفسك مرارا للموت لتنجيها من سطوة قاتليها ، ولكن المطامع قد قضت بسلبنا قبور أجدادنا ، وأسرة أطفالنا ، فأبت عليك روحك هذا الذل ، وما يرضاه أحد من أبطالنا ، فقلت :

أو غازيا أو شهيدا

وها أن موقف الدول المتحايدة اليوم يبين لنا أنه لم يكن من سبيل غير السبيل الذي دفعتنا إرادة الله إليه ، وما وراء هذا الضباب الكثيف غير المدنية الجديدة التي سينفخ الشرق فيها روحه ؛ ليرفع الإنسانية من موقفها الكاذب الذي تملك طويلا ضمن حلقاته القاسية.

ليكن إذا أملك أيها الوزير شديدا كما كان أمل الضابط الصغير ، وكما لمع نجم بطل الدستور منذ ثماني سنوات سوف يلمع نجم بطل الدنيا اليوم ، ومن أهدى الأمة العثمانية حريتها وهو قليل الأنصار خامل المقام لا يكبر عليه أن

١٦

يضع بيده أساس حرية الدنيا وهو أمير الجند كله ، وكلمته ترن من ضفاف البوسفور حتى عرش فرنسوا جوزيف وعرش غيليوم العظيمين. اه.

وفي الساعة الحادية عشرة توجه الوزيران إلى محطة السكة الحديدية ، وقد احتشد الجم الغفير لوداعهما ، فركبا القطار باليمن ، والسعد إلى رياق توّا.

١٧

في جبل لبنان

أقامت مدينة زحلة يوم الأحد ١٥ ربيع الثاني (٢٠ شباط سنة ١٩١٦) ضيافة شائقة لبطل العثمانيين أنور باشا ، فصدحت الموسيقات الأهلية ، وتليت القصائد والخطب ، ومن القصائد قصيدة حليم أفندي دموس ، ويوسف أفندي نعمان بريدي ، وغيرهما ، وعنى الزحليون من وراء الغاية بإظهار شعائر الإخلاص والمبالغة في الحفاوة بالزائر المحبوب ، وكانت الزينة بالغة حد النيقة ، نصبت أقواس النصر من قصبة المعلقة حتى زحلة تخفق عليها الأعلام العثمانية والألمانية والنمساوية المجرية.

قال مكاتب المقتبس في زحلة :

يوم الجمعة في ٥ شباط شرقي سنة (١٣٣١ ه‍) و ١٨ شباط غربي سنة (١٩١٦ م) قدم زحلة صاحب الدولة علي منيف بك متصرف لبنان المعظم مع بطانته الكريمة والموسيقى اللبنانية وثلة من الجند ووفد من مجلس إدارة لبنان. ثم وفود ولايتي سورية وبيروت الجليلتين. فأعدت الحكومة زينة حافلة بأقواس النصر تخفق فيها الأعلام العثمانية المنصورة ، وبينها كثير من أعلام الدول المتحدة متعانقة تعانق ممالكها ، فكانت الزينات الباهرة في جميع أنحاء المدينة ، وعلى مشارفها وشرفاتها ومنازلها ، والأعلام تزينها ، والجموع من زحلة والبقاع مالئة الطرقات ، والفرسان تتجارى لاعبة برماحها. والموسيقى الشرقية والأسقفية. وطلبة المدارس من ذكور وإناث مصطفة على جانبي الطريق ، حتى كانت الساعة العاشرة ونصف قبل ظهر الأحد في ٢٧ شباط. فاقبلت السيارات التي يربو عددها على ١٥ تقل حضرة صاحبي الدولة والإقبال أنور باشا وجمال

١٨

باشا وحاشيتيهما الكريمتين ، فاخترقت تلك الصفوف من قرب معلقة زحلة إلى نزل قادري الكبير الذي هو اليوم مستشفى الهلال الأحمر المنصور.

وكانت الموسيقى الأسقفية قرب الصخرة بين المعلقة والحوش. ثم موسيقى الكلية الشرقية. وموسيقى لبنان قرب الحوش. ووفود الملاقين من دولة متصرف لبنان وبطانته ورجال حكومتي البقاع وزحلة والرؤساء الروحيون والأعيان والوجوه ، فساروا بهذا الموكب الحافل ، وكانت أمام المستشفى المشار إليه تلاميذ المدارس الشرقية الأسقفية ومدرسة الحكومة ذكورا وإناثا وبأيديهم الأعلام العثمانية والمتحدة ، فحيوهم بهتاف النصر.

وبعد أن استقر بهم المقام تقاطرت الوفود لتقديم الاحترام والخضوع لحضرة ضيف سورية المعظم ، فاستقبلهم ببشاشة ، وقدمت لدولته قصيدتان أنشد إحداهما حليم أفندي دموس استقبالا لدولته ، والثانية أنشدها يوسف أفندي نعمان بريدي على المائدة التي جمعت أسباب السرور.

ودخلت جمعية «بنات الشفقة» الأرثوذكسية ، فقدمت لدولته متكأ «ركاية» أطلس عليها شبك وعلما عثمانيا نفيسا مطرزا بالقصب ، كتب عليه «فلتحي العثمانية» فتنازل دولته لقبولهما ، وأنشدته الآنسة ليندا خليل الحاج شاهين أبياتا شعرية بالعربية ، ثم شقيقتها الآنسة زلي رئيسة الجمعية خطابا إفرنسيا ، فأمر دولته للجمعية بخمس عشرة ليرة إحسانا.

وكان وفد المدارس الثلاث الموما إليها من كل مدرسة سبعة مع رؤساء المدارس. فألقى تلميذ عن فئة الطلبة الكبار في الشرقية خطابا تركيّا ، وجورج أفندي الشويري الرخيم الصوت نشيدا عن فئة صغارها ، فحتم دولة جمال باشا

١٩

على جورج أن ينهي دروسه في الشرقية ، فيرسله إلى مكاتب الأستانة ، وأمر دولة أنور باشا بإرساله بعد ذلك إلى إحدى كليات أوربا.

وعند تناول طعام الغداء أنشده جورج هذا نشائد رخيمة ، وكانت الموسيقات تشنف الآذان بأنغامها الرخيمة. وأنشد إبراهيم بك الأسود من أعضاء إدارة لبنان قصيدة بلسان اللبنانيين ؛ احتفاء بتشريفه ، وكان في نية الكثيرين إلقاء الخطب والقصائد ، فمنعهم ضيق المقام.

ومن القصائد والخطب التي وقفنا عليها قصيدة سليمان أفندي مصوبع وكيل مدعي عمومي قضاء زحلة ، وخطاب إلياس أفندي الظاهر من أساتذة الكلية الشرقية ، وقصيدة فوزي أفندي عيسى المعلوف ، وقصيدة نجيب أفندي إليان من أساتذة مدرسة الحكومة في زحلة ، وقصيدة وديع أفندي عازار ، وخطاب فؤاد أفندي بريدي ، وكلاهما من طلبة الكلية الشرقية.

فسرّ دولته من الإحتفال ، وشكر المحتفلين والموسيقات ، ثم غادر على الطائر الميمون زحلة بعد الظهر بساعة ونصف مشيعا كما قوبل بما يليق بدولته من الاحتفاء العظيم ، أيده الله وقد أمر بشاحنتين من الحنطة وبمائتي ليرة للفقراء في زحلة والمعلقة.

وعند رجوعه من دمشق بطريق بعلبك يوم الثلاثاء في ٧ أذارغ أعدت حكومة بعلبك نزل الخواجات كرباج على نفقتها ، واستقبلت دولته بمرورها في بعلبك استقبالا حافلا ، وكان موكب الملاقاة في الحوش والمعلقة من زحلة بالغا منتهى الإتقان من هيئة الحكومة العسكرية والملكية والأهلين وطلبة المدارس الثلاث للذكور والإناث.

٢٠