بهجة النفوس والأسرار - ج ٢

الشيخ أبي محمّد عفيف الدين عبد الله بن عبد الملك المرجاني

بهجة النفوس والأسرار - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أبي محمّد عفيف الدين عبد الله بن عبد الملك المرجاني


المحقق: محمّد عبد الوهاب فضل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٠
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

الباب الثامن

في ابتداء خلقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشرف نسبه ، وطهارة مولده ،

وذكر أسمائه وصفاته ، وذكر وفاته ، ووفاته ، صاحبيه

أبي بكر وعمر رضي‌الله‌عنهما ، وذكر نبذة من فضائلهما.

وفيه إثنا عشر فصلا :

الفصل الأول (١)

في إبتداء خلقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم

لما خمر الله تعالى طينة آدم عليه‌السلام / حين أراد خلقه ، أمر جبريل عليه‌السلام أن يأتيه بالقبضة البيضاء التي هي قلب الأرض بهاؤها ونورها ، ليخلق منها محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهبط جبريل عليه‌السلام في ملائكة الفراديس ، وملائكة الصفح الأعلى ، فقبض قبضة من موضع قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي يومئذ بيضاء نقية ، فعجنت بماء التنسيم وزعرت حتى صارت كالدرة البيضاء ، ثم غمست في أنهار الجنة ، فطيف بها في السموات والأرض والبحار ، فعرفت الملائكة حينئذ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفضله قبل أن تعرف آدم وفضله ، ثم عجنت (٢) بطينة آدم عليه‌السلام بعد ذلك (٣). قاله الثعلبي.

__________________

(١) الفصل جميعه لا دليل عليه ، ويحتوي على غيبيات ومخالفات للآيات الكريمة.

(٢) في الأصل : «عجنا» وما أثبتناه من (ط).

(٣) ذكره ابن الجوزي في الوفا بأحوال المصطفى ١ / ٣٤ ـ ٣٥ عن كعب الأحبار.

٥

وعن علي رضي‌الله‌عنه : أن الله تعالى حين شاء تقدير الخليقة (١) وذرأ البرية وإبداع المبدعات ، نصب الخلق في صورة كالهباء قبل دحو الأرض ورفع السماء ، وهو في ملكوته وتوحد جبروته ، فأساح نورا من نوره ، فلمع قبس من ضيائه ، فسطع ثم اجتمع النور في وسط تلك الصورة الخفية ، فوافق ذلك صورة نبينا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال الله جل جلاله : أنت المختار المنتخب ، وعندك مستودع نوري وكنوز هدايتي ، من أجلك أسطح البطحاء ، وأمزج الماء ، وأرفع السماء ، وأجعل الثواب والعقاب ، والجنة والنار ، ثم أخفى الله الخليفة في كنته (٢) وغيبها في مكنون علمه ، ثم نصب العوالم وسط الزمان ، ومزج الماء ، وسطح الأرض ، وأنشأ الملائكة من أنوار ابتدعها ، وقرن بتوحيده نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما خلق آدم وأودعه نور محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما غشى حواء انتقل النور إليها إلى أن وصل عبد الله بن عبد المطلب ، ثم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ويروى أن أول ما خلق الله عزوجل نور محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجزأه أربعة أجزاء :فخلق من الجزء الأول العرش ، ومن الثاني القلم ، ومن الثالث اللوح ، ثم جزأ الرابع أربعة أجزاء : فخلق من الأول العقل ، ومن الثاني المعرفة ، ومن الثالث نور الشمس والقمر والأبصار والنهار ، وجعل الجزء الرابع تحت ساق العرش ، فلما خلق آدم ـ عليه‌السلام ـ أودعه الجزء ونقله من صلب إلى صلب إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. حكاه صاحب كتاب «الدر المنظم».

__________________

(١) في (ط): «خلقته».

(٢) في (ط): «في غيبه».

٦

الفصل الثاني

في ذكر شرف نسبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم

عن علي رضي الله تعالى عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ)(١) قال : «نسبا وصهرا وحسبا ، ليس في آبائي من لدن آدم سفاح كلها نكاح» (٢).

قال ابن الكلبي : «كتبت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، خمسمائة أم ، فما وجدت فيهن سفاحا ولا شيئا مما كان عليه الجاهلية» (٣).

وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما : في قوله تعالى : (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ)(٤) قال : من نبي إلى نبي حتى أخرجك نبيا (٥).

وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنهما أيضا : أن قريشا / كانت نورا بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم بألفي عام ، يسبح ذلك ، وتسبح الملائكة بتسبيحه ، ثم خلق آدم ، فألقى ذلك النور في صلبه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :«فأهبطني الله إلى الأرض في صلب آدم ، وجعلني في صلب نوح وقذف بي في صلب إبراهيم [حين قذف به في النار ،](٦) ثم لم يزل [الله تعالى](٧) ينقلني من الأصلاب الكريمة والأرحام [الطاهرة](٨) حتى أخرجني من بين

__________________

(١) سورة التوبة آية (١٢٨).

(٢) ذكره القاضي عياض في الشفا ١ / ٩ عن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، وابن الجوزي في الوفا بأحوال المصطفى ١ / ٧٩ عن ابن عباس ، والقرطبي في الجامع ٨ / ٣٠١.

(٣) قول ابن الكلبي ذكره القاضي عياض في الشفا ١ / ٩.

(٤) سورة الشعراء آية (٢١٩).

(٥) قول ابن عباس ذكره القاضي عياض في الشفا ١ / ٩ ، والقرطبي في الجامع ١٣ / ١٤٤ ، وابن الجوزي في الوفا بأحوال المصطفى ١ / ٧٩.

(٦) و (٧) و (٨) سقط من الأصل والاضافة من (ط) والشفا ١ / ١٠٠.

٧

أبوي ، لم يلتقيا على سفاح قط» (١).

وإلى ذلك أشار العباس بن عبد المطلب يقول :

من قبلها طبت في الظلال وفي

مستودع حيث يخصف الورق

قال ابن قتيبة : يعني في ظلال الجنة ، حيث يخصف الورق ، أي حيث خصف على آدم وحواء من ورق الجنة ، وكان شجر التين (٢) ، ثم قال :

ثم هبطت البلاد لا بشر أنت

ولا مضغة ولا علق

يريد أن آدم هبط البلاد ، فهبطت في صلبه وأنت إذ ذاك لا بشر ولا مضغة ولا دم ، ثم قال :

بل نطفة تركب السفين وقد

ألجم نسرا وأهله الغرق

يريد أنك نطفة في صلب نوح حين ركب الفلك. ونسر : الصنم الذي كان يعبده قومه ـ كما سنبينه ـ ثم قال :

تنقل من صلب إلى رحم

إذا بدا عالم بدا طبق

يريد أنه ينقل في الأصلاب والأرحام ، فجعله طيبا وهابطا للبلاد وراكبا للسفن من قبل أن يخلق في أصلاب آبائه ، ثم قال :

وردت نار الخليل مكتتما

فيها زمانا وليست تحترق

يريد أنه كان في صلب إبراهيم عليه‌السلام يوم ألقي في النار ، ثم قال :

حتى احتوى بيتك المهيمن من

خندف علياء تحتها النطق

__________________

(١) حديث ابن عباس ذكره القاضي عياض في الشفا ١ / ٤٨ ، وابن الجوزي في الوفا ١ / ٣٥.

(٢) ورد عند ابن قتيبة في أدب الكاتب ص ٢٩ ، وأشار القرطبي في الجامع ٧ / ١٨١ إلى ذلك بقوله :«حيث يقطعان الورق ويلزقانه ليستترا به».

٨

وأنت لما ولدت أشرقت الأ

رض وضاءت بنورك الأفق

فنحن في ذلك الضياء وفي النو

ر وسبل الرشاد تحترق (١)

اعلم أن :

ودا ، وسواع ، ويغوث ، ويعوق ، ونسرا كلها أصنام عبدت من زمان يارد بن مهلائيل ، ثم إن الطوفان طمّها ، ثم أخرجها الشيطان لمشركي العرب (٢).

وكان ود [على](٣) صورة رجل ، وسواع على صورة امرأة ، ويغوث على صورة أسد ، ويعوق على صورة فرس ، ونسر [على](٤) صورة نسر (٥).

قاله الواقدي. وود أول صنم معبود. حكاه الماوردي.

وكان ود بعد قوم نوح لكلب بدومة الجندل ، وسواع لهذيل بساحل البحر الأحمر ـ وقيل : برهاط (٦) ، ويغوث لعكف بن مزاحم بالجرف من سبأ وكان من رصاص ، ويعوق لهمدان ـ وقيل : لكهلان من سبأ ثم / توارثه بنو الأكبر حتى صار لهمدان ، ونسرا كان لذي الكلاع من حمير بحضرموت (٧).

وقيل : ود ـ بفتح الواو ـ صنم لقوم نوح ، وبضمها صنم لقريش.

__________________

(١) شعر العباس أورده القاضي عياض في الشفا ١ / ١٠٠ ، وابن الجوزي في الوفا ١ / ٣٥ ، وابن كثير في البداية ٢ / ٢٤٠.

(٢) انظر : ابن الكلبي : الأصنام ص ١٣ ، ابن هشام : السيرة ١ / ٧٨ ، ابن كثير : البداية ٢ / ١٧٧.

(٣) سقط من الأصل والاضافة من (ط).

(٤) سقط من الأصل والاضافة من (ط).

(٥) راجع وصف هذه الأصنام عند ابن الكلبي في الأصنام ص ٥٦.

(٦) رهاط : بضم أوله ، جبل قرية يقال لها رهاط بقرب مكة على طريق المدينة قريبا من الحديبية.

انظر : ياقوت : معجم البلدان ٣ / ١٠٧.

(٧) انظر : ابن هشام : السيرة ١ / ٧٨ ، ابن الكلبي : الأصنام ص ١٠ ، ٥١ ـ ٥٥ ، ابن كثير :البداية ٢ / ١٧٧.

٩

وكان أصحاب الرّس يعبدون الجواري ، وأهل أرمينية يعبدون الأوثان ، وأهل أذربيجان يعبدون النيران ، وبعث الله إلى أهل الرّس ثلاثين نبيا في شهر واحد فقتلوهم ، وكانوا أيضا يعبدون شجرة صنوبر ، والجبهة ، والسبحة ، والنخة كانت آلهة تعبد في الجاهلية.

واللات والعزى ومناة كانت أصناما من حجارة [في جوف الكعبة](١).

قال صاحب كتاب ذخر المستفيد : أن مناة لقضاعة وأهل المدينة بالمشلل بثنية قديد (٢) ، والعزى لجميع العرب بنخلة الشامية (٣). وذو السراة للأزد بالسراة (٤) ، واللات لثقيف بالطائف (٥) ، ونهم لمزينة بثنية ذات خليلين ، ويغوث

__________________

(١) سقط من الأصل والاضافة من (ط).

وعن اللات والعزى راجع : ابن هشام : السيرة ١ / ٨٣ ، ٨٥ ، ابن الكلبي : الأصنام ص ١٦ ، ١٧ ، الطبري : تاريخ الرسل ٣ / ٦٥ ، ابن كثير : البداية ٢ / ١٧٨.

(٢) وقد بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليها أبا سفيان بن حرب فهدمها ، وقيل أرسل بعلي بن أبي طالب ، وقيل سعد بن زيد الأشهلي.

انظر : ابن هشام : السيرة ١ / ٨٥ ـ ٨٦ ، ابن الكلبي : الأصنام ص ١٣ ، الطبري : تاريخ الرسل ٣ / ٦٦.

والمشلل : جبل يهبط منه إلى قديد من ناحية البحر. انظر : ياقوت : معجم البلدان ٥ / ١٣٦.

(٣) كانت العزى لقريش وبني كنانة ببطن نخلة ، وكان سدنتها وحجابها بنو شيبان ، وقد خربها خالد بن الوليد زمن فتح مكة.

انظر : ابن هشام : السيرة ١ / ٨٣ ، ابن الكلبي : الأصنام ص ١٧ ، الطبري : تاريخ الرسل ٣ / ٦٥ ، ابن كثير : البداية ٢ / ١٧٨

ونخلة الشامية : واديان لهذيل على ليلتين من مكة يجتمعان ببطن مر. انظر : ياقوت : معجم البلدان ٥ / ٢٧٧.

(٤) وكان لأزد السراة صنم يقال له : عائم ، والسراة جبل مشرف على عرفة ينقاد إلى صنعاء ، وسمي بالسراة لعلوه ، ويقال سراة ثقيف ثم سراة فهم عدوان ثم سراة الأزد وهم أزد شنوءة بنو كعب ابن الحارث.

انظر : ابن هشام : السيرة ١ / ١٣ ، ابن الكلبي : الأصنام ص ٤٠ ، ياقوت : معجم البلدان ٣ / ٢٠٤.

(٥) كانت اللات صخرة مربعة ، وسدنتها بنو معتب من ثقيف وكانوا بنوا عليها بناء ، وضربها أبو سفيان والمغيرة بن شعبة بعد وفادة أهل الطائف.

انظر : ابن هشام : السيرة ١ / ٨٥ ، ابن الكلبي : الأصنام ص ١٦ ، ابن كثير : البداية ٢ / ١٧٨.

١٠

لمذحج (١) ، وقيل : يعوق لمراد بالجرف ، ويغوث لهمدان بخيوان (٢) ، وسعد لكنانة بالساحل مما يلي جدة (٣) ، والفلس لطيء بجبلهم (٤) ، والحلال لبني فزارة ، وأجيش لمرة ، وزعبل لبني جنبعة ، وعرض لبكر بن وائل ، والأقيصر لقضاعة (٥) ، وبيت رئام باليمن (٦) ، والمخلصة بجشم وبجيلة بتنا وهي مروة بيضاء (٧).

وهؤلاء آلهة ، والإله يقع على كل معبود بحق أو باطل ، ثم غلب على المعبود بحق كغلبة النجم على الثريا ، والسّنة على عام القحط ، والبيت على الكعبة ، والكتاب على كتاب سيبويه.

وعن ابن عمر ـ رضي‌الله‌عنهما ـ أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله تعالى

__________________

(١) كان عمرو بن لحى الخزاعي دفع إلى أنعم بن عمرو المرادي يغوث ، وكان بأكمة باليمن يقال لها مذحج ، تعبده مذحج ومن والاها.

انظر : ابن الكلبي : الأصنام ص ٥٧.

(٢) خيوان بطن من همدان اتخذوا يعوق بأرض همدان من أرض اليمن.

انظر : ابن هشام : السيرة ١ / ٧٩ ، ابن الكلبي : الأصنام ص ١٠ ، ابن كثير : البداية ٢ / ١٧٧.

(٣) كان لبني ملكان من كنانة صنم يقال له سعد ، وهو صخرة بفلاة من أرضهم بساحل جدة.

انظر : ابن هشام : السيرة ١ / ٨١ ، ابن الكلبي : الأصنام ص ٣٦ ـ ٣٧ ، ابن كثير : البداية ٢ / ١٧٧.

(٤) كانت الفلس بجبل طيئ ـ يعني سلمى وأجا ـ بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علي بن أبي طالب فهدمها.

انظر : ابن هشام : السيرة ١ / ٨٧ ، ابن الكلبي : الأصنام ص ١٥ ، ٥٩ ـ ٦٠.

(٥) كان الأقيصر لقضاعة ولخم وجذام وأهل الشام.

انظر : ابن الكلبي : الأصنام ص ٤٨.

(٦) كان لحمير بيت بصنعاء يقال له رئام يعظمونه ، هدمه تبع حين قدم من العراق.

انظر : ابن الكلبي : الأصنام ص ١١ ـ ١٢ ، ابن كثير : البداية ٢ / ١٧٩.

(٧) وكان يقال له الكعبة اليمانية ، بعث إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جرير بن عبد الله فهدمه.

انظر : ابن هشام : السيرة ١ / ٨٦ ، ابن الكلبي : الأصنام ص ٣٤ ـ ٣٥ ، ابن كثير : البداية ٢ / ١٧٨.

١١

اختار خلقه ، فاختار منهم بني آدم ، ثم اختار بني آدم ، فاختار منهم العرب ، ثم اختار العرب ، فاختار منهم قريشا ، ثم اختار قريشا ، فاختار منهم بني هاشم ، ثم اختار بني هاشم ، فاختارني ، فلم أزل خيارا من خيار ، ألا من أحب العرب فبحبي أحبهم ، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم» (١).

وعن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بعثت من خير قرون بني آدم قرنا ، فقرنا ، حتى كنت من القرن الذي كنت فيه» (٢).

الجماعة من الناس يسموا قرنا ، لأنهم إقترنوا في زمان واحد ، أي اجتمعوا ، وقيل : القرن اسم للزمان ، وهو مائة سنة ، وقيل : ثمانين ، والتعمير ستون سنة ، وقيل : سبعون ، وقيل : أربعون (٣). حكاه أبو عبد الله الكوسى.

فائدة :

ذكر مالك في الموطأ في أحد الأحاديث الأربعة التي لا توجد إلا فيه : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رأى أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل ما بلغ غيرهم في طول العمر ، فأعطاه الله ليلة القدر ، التي هي خير من ألف شهر» (٤).

اختلف العلماء في ليلة القدر : هل هي باقية ، أو رفعت؟ فقيل : هي من

__________________

(١) حديث ابن عمر : أخرجه البيهقي في الدلائل ١ / ١٧١ ، والحاكم في المستدرك ٤ / ٧٣ ، وذكره القاضي عياض في الشفا ١ / ٨٤ وعزاه للطبري ، وابن كثير في البداية ٢ / ٢٤٠ وقال : هذا حديث غريب. واللفظ لرواية الطبري.

(٢) حديث أبي هريرة : أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المناقب باب صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم برقم (٣٥٥١) ٤ / ٢٠١ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٧٣ ، والبيهقي في الدلائل ١ / ١٧٥ ، وذكره القاضي عياض في الشفا ١ / ٤٨.

(٣) انظر : ابن منظور : اللسان مادة «قرن».

(٤) أخرجه مالك في الموطأ ١ / ٣٢١ عمن يثق به من أهل العلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذلك ، وذكره القرطبي في الجامع ٢٠ / ١٣٣.

١٢

خصائص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم رفعت لموته ، وقيل : إنها باقية ، وأن أمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم داخلين في ذلك التخصيص ، وهو الأظهر (١).

وسميت ليلة القدر : لأن الله تعالى يقدر فيها ما يكون في السنة كلها ، ومعنى التقدير هنا : إبرازه للملائكة وإعلامهم بما يفعلون في جميع السنة (٢).

واختلف (٣) / هل هي في جميع السنة أم في رمضان؟ على قولين ، وقيل : إنها ليلة النصف من شعبان ، وهو موافق لمن قال : أنها يقدر فيها ما يكون في السنة ، فإن تلك الليلة هي المراد بقوله تعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)(٤) وقيل : أنها تدور به في السنة (٥).

قال سيدنا عبد الله بن أبي جمرة (٦) في كتاب «بهجة النفوس» : «وهو الأظهر ، لأنه يجمع بين الأقوال ، وهذه الليلة خير من ألف شهر ، والعمل الذي عليه العلماء المراد العمل [فيها»](٧).

وروي عنه عليه‌السلام : «أن الشمس تطلع صبيحتها بيضاء نقية لا

__________________

(١) كذا ورد عند ابن أبي جمرة في بهجة النفوس ١ / ٦٥ ، وراجع الخلاف حول هذه المسألة عند ابن حجر في فتح الباري ٤ / ٢٦٣.

(٢) كذا ورد عند ابن أبي جمرة في بهجة النفوس ١ / ٦٤ ، والقرطبي في الجامع ٢٠ / ١٣٠.

(٣) راجع الأحاديث الصحيحة حول تحديد ليلة القدر عند البخاري في صحيحه كتاب فضائل ليلة القدر باب التماس ليلة القدر عن ابن عمر وابن عباس وعائشة برقم (٢٠١٥ ـ ٢٠٢٤) ٢ / ٣١٠ ، ومسلم في صحيحه كتاب الصيام باب فضل ليلة القدر عن ابن عمر برقم (٢٠٥ ، ٢٢٢) ٢ / ٨٢٤ ، ٨٢٩ ، ومالك في الموطأ ١ / ٣١٩ عن أبي سعيد الخدري وعن عروة مرسلا.

(٤) سورة الدخان آية (٤).

(٥) كذا ورد عند ابن أبي جمرة في بهجة النفوس ١ / ٦٥ ، والقرطبي في الجامع ١٦ / ١٢٦ ، وابن حجر في فتح الباري ٤ / ٢٦٣.

(٦) ورد عند ابن أبي جمرة في بهجة النفوس ١ / ٦٥.

(٧) الإضافة تقتضيها الضرورة من بهجة النفوس ١ / ٦٥ فقد نقل عنه المؤلف.

١٣

شعاع لها» (١) وهكذا يجدها أهل المراقبة إلى هلم جرا ، هذا منقول من سلف إلى خلف إلى زماننا هذا ، فلو رفعت لما رؤي من تلك العلامات شيء ـ هذا لفظ ابن أبي جمرة ـ قال : «ولم يزل أهل الخير والصلاح من الصدر الأول إلى هلم جرّا يعاينونها عيانا ، فبطل القول برفعها مرة واحدة ، قيل : هي في رمضان مطلقا ، وقيل : في العشر الأواسط منه ، وقيل : في العشر الأواخر منه ، وقيل : أول ليلة منه قاله أبو رزين العقيلي (٢). وقيل : ليلة سبعة عشر منه وهو اختيار الحسن وابن إسحاق وابن الزبير وهي الليلة التي كانت صبيحتها وقعة بدر (٣) ، وقيل : ليلة تسع عشر (٤) ، وقيل : ليلة ثمانية عشر. قاله : الحسن ، ومالك بن أنس الفقيه (٥). ـ لأن مالك بن أنس اثنان :أحدهما هذا ، والثاني كوفي (٦) يروى عن هانيء بن حزام عن عمر بن الخطاب ـ

__________________

(١) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الصيام باب فضل ليلة القدر عن أبي بن كعب برقم (٢٢٠) ٢ / ٨٢٨ ، وأبو داود في سننه عن أبي بن كعب برقم (١٣٧٨) ٢ / ٥١ ، والترمذي في سننه ٣ / ١٦٠ عن أبي بن كعب.

(٢) كذا ورد عند ابن أبي جمرة في بهجة النفوس ١ / ٦٥ ، والقرطبي في الجامع ٢٠ / ١٣٥ ، وابن حجر في فتح الباري ٤ / ٢٦٣.

(٣) انظر : ابن هشام : السيرة ١ / ٦٢٦ ، القرطبي : الجامع ٢٠ / ١٣٥ ، ابن حجر : فتح الباري ٤ / ٢٦٣.

(٤) انظر : القرطبي : الجامع ٢٠ / ١٣٥ ، ابن حجر في فتح الباري ٤ / ٢٦٣ ، ورد الواقدي على رواية من قال أنها كانت صبيحة تسع عشر من رمضان بقوله : «فذكرت ذلك لمحمد بن صالح فقال : هذا أعجب الأشياء ما ظننت أن أحدا من أهل الدنيا شكك في هذا أنها صبيحة سبع عشرة من رمضان يوم الجمعة».

انظر : الطبري : تاريخ الرسل ٢ / ٤١٨ ـ ٤١٩.

(٥) انظر : ابن حجر : فتح الباري ٤ / ٢٦٣.

(٦) هو : مالك بن أنس الكوفي ، روى عن هانيء بن حزام عن عمر رضي‌الله‌عنه.

انظر : ابن أبي حاتم : الجرح والتعديل ٨ / ٢٠٤ ، ابن الجوزي : تلقيح فهوم ص ٦٢٦.

١٤

وقيل : ليلة إحدى وعشرين ، وهو اختيار الشافعي (١) ، وجاء في الحديث : أنه عليه‌السلام انصرف وعلى جبينه أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين (٢).

الجبين : موضع السجود ، وقيل : الجبهة موضع السجود ، والجبينان يكتفانها.

وقيل : ليلة ثلاث وعشرين ، وهو مذهب عبد الله بن أنيس (٣) ، وقيل : ليلة خمس وعشرين ، وهو مذهب أبي

بكرة ، وأبي سعيد الخدري (٤) ، وقيل : ليلة سبع وعشرين ، قاله علي ، وأبي ، وابن عباس ، ومعاوية ، وعائشة ، وابن حنبل (٥).

وروي عن ابن عباس أنه استدل على ذلك بشيئين : أحدهما : أن الله تعالى خلق الإنسان على سبعة أصناف يشير إلى قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ)(٦) الآية .. ثم جعل رزقه في سبعة أصناف يشير إلى

__________________

(١) انظر : الترمذي : السنن كتاب الصوم باب ليلة القدر برقم (٧٩٢) ٣ / ١٥٩ ، القرطبي : الجامع ٢٠ / ١٣٥ ، ابن حجر : فتح الباري ٤ / ٢٦٤.

(٢) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب فضل ليلة القدر باب التماس ليلة القدر عن أبي سعيد برقم (١٠١٨) ٢ / ٣١١ وكتاب الاعتكاف باب الإعتكاف في العشر الأواخر برقم (٢٠٢٧) ٢ / ٣١٤ ، ومالك في الموطأ ١ / ٣١٩.

(٣) حديث عبد الله بن أنيس : أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الصيام باب فضل ليلة القدر برقم (٢١٨) ، والترمذي في سننه ٣ / ١٥٩ ، والقرطبي في الجامع ٢٠ / ١٣٦.

(٤) حديث أبي بكرة وأبي سعيد الخدري : أخرجه الترمذي في سننه ٣ / ١٥٩ ، والقرطبي في الجامع ٢٠ / ١٣٦ ، وابن حجر في فتح الباري ٤ / ٢٦٤.

(٥) حديث أنها ليلة سبع وعشرين : أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الصيام باب فضل ليلة القدر برقم (٢٠٧ ، ٢٢٠ ، ٢٢١) ، وأبو داود في سننه ٢ / ٥٣ ، والترمذي في سننه ٣ / ١٥٩ ، والقرطبي في الجامع ٢٠ / ١٣٤ ، ١٣٦.

(٦) سورة المؤمنون آية (١٢).

١٥

قوله تعالى : (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا)(١) .. الايات ثم يصلي الجمعة على رأس سبعة أيام والسموات سبعا والأرضين سبعا ، ولا أرى ليلة القدر إلا السابعة والعشرون. الثاني : أنه قال : (سَلامٌ هِيَ)(٢) الكلمة السابعة والعشرون ، قال علي رضي‌الله‌عنه : أنها كذلك (٣).

وقيل : ليلة القدر تسعة أحرف ، وقد كررت في السورة ثلاث مرات ، فهي في تكرارها سبع وعشرون حرفا ، ففي هذا تنبيه على أنها ليلة سبع وعشرين.

وقيل : هي تنتقل في العشر الأواخر ، وهو قول مالك ، والشافعي ، والأوزاعي ، وأبو ثور ، وأبو قلابة ، وأحمد (٤).

وقيل : ليلة تسع وعشرين ، قاله علي ، وعائشة ، ومعاوية ، وأبي ، وابن عمر رضي‌الله‌عنهم (٥).

وقيل : إنها في الأشفاع (٦). قال الحسن : «ارتقبت الشمس ليلة أربع

__________________

(١) سورة عبس آية (٢٥).

(٢) سورة القدر آية (٥).

(٣) انظر : القرطبي : الجامع ٢٠ / ١٣٦ ، ابن حجر : فتح الباري ٤ / ٢٦٥.

(٤) فقد روى الترمذي في سننه ٣ / ١٥٨ ـ ١٥٩ عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان. قال أبو عيسى : «حديث عائشة حديث حسن صحيح» ، وقال القرطبي في الجامع ٢٠ / ١٣٥ «والصحيح المشهور أنها في العشر الأواخر من رمضان». وانظر : ابن حجر : فتح الباري ٤ / ٢٦٥.

(٥) انظر : الترمذي : السنن ٣ / ١٥٩ ، وابن حجر : فتح الباري ٤ / ٢٦٥.

(٦) الأشفاع : جمع شفع وهو العدد الذي يقبل القسمة على اثنين.

انظر : ابن منظور : اللسان مادة «شفع».

١٦

وعشرين [سنة فرأيتها تطلع بيضاء لا شعاع لها» (١)](٢).

قال ابن أبي جمرة (٣) : «وألف شهر مبلغها من الأيام / ثلاثون ألفا ، ومن الليالي مثلها مجموعها ستون ألفا من الدهر».

وأما على بحث سيدي أبو محمد المرجاني ، فذلك يفضل الدهر كله ، واستدل على أن الأعداد تنقسم على أربعة أقسام آحاد ، وعشرات ، ومئين وألوف ، فذكر الألف التي ليس بعدها عدد ، فدل على أن لا نهاية لفضلها.

وأخفيت للإجتهاد ، كما أخفيت ساعة الجمعة وساعة الليل والصلاة الوسطى والإسم الأعظم (٤) ، وقد قيل : إن ساعة الجمعة بعد صلاة العصر ، وساعة الليل في الثلث الأخير ، والصلاة الوسطى صلاة الصبح ، وقيل العصر والإسم الأعظم قوله تعالى (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ)(٥) وإلى ذلك أشار البوني.

وسورة القدر أول سورة أنزلت بالمدينة (٦).

وعن ابن مسعود : أن ليلة القدر إذا كانت في يوم من هذه السنة ، كانت في العام المقبل في يوم آخر (٧).

__________________

(١) قول الحسن أورده القرضبي في الجامع ٢٠ / ١٣٧ وأضاف القرطبي : «وهذا من علامات ليلة القدر لما أرسله الحسن البصري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ليلة القدر : «إن من أماراتها أنها ليلة سمحة بلجة لا حارة ولا باردة تطلع الشمس في صبيحتها ليس لها شعاع».

(٢) اضافة تقتضيها الضرورة من الجامع للقرطبي ٢٠ / ١٣٧.

(٣) ورد عند ابن أبي جمرة في بهجة النفوس ١ / ٦٢ ـ ٦٣.

(٤) انظر : القرطبي : الجامع ٢٠ / ١٣٧ ، ابن أبي جمرة ، بهجة النفوس ١ / ٦٦.

(٥) سورة يس آية (٥٨).

(٦) انظر : القرطبي : الجامع ٢٠ / ١٢٩.

(٧) قول ابن مسعود ورد عند القرطبي في الجامع ٢٠ / ١٣٥.

١٧

وقد ذكرت قوانين ذكرها العلماء في معرفتها في غير هذا الكتاب من مصنفاتي : «سمط اللآليء الدرية وأسلوب الجواهر البحرية».

والصحيح أن جميع ما قننوه باطل ، لقول بعضهم عن بعض المشائخ أنه رآها سبع سنين متوالية ليلة سبع وعشرين ، وقول بعضهم : رصدتها أربعا وعشرين سنة ، فلم أرها إلا ليلة إثنين وعشرين.

الفصل الثالث

في ذكر طهارة مولده الشريف صلى‌الله‌عليه‌وسلم

حكى الشهرستاني : «أن كاهنة بمكة يقال لها : فاطمة بنت مر الخثعمية (١) ، قرأت الكتب ، فمر بها عبد المطلب ومعه ابنه عبد الله ، يريد أن يزوجه آمنة بنت وهب ، فرأت نور النبوة في وجه عبد الله ، فقالت : هل لك أن تغشاني وتأخذ مائة من الإبل؟ فعصمه الله من إجابتها ، فلما حملت منه آمنة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أتى فاطمة فقال لها : هل لك فيما قلت؟ فلم تر ذلك النور في وجهه ، فقالت له : قد كان ذلك مرة فاليوم لا» (٢).

__________________

(١) فاطمة بنت مر الخثعمية ، كاهنة من أهل تبالة ، متهودة ، قرأت الكتب. ويذكر ابن إسحاق أن المرأة التي تعرضت لنكاح عبد الله أنها من بني أسد بن عبد العزى أخت ورقة بن نوفل.

انظر : ابن هشام : السيرة ١ / ١٥٥ ، الطبري : تاريخ الرسل ٢ / ٢٤٤ ، ابن الجوزي : المنتظم ٢ / ٢٠١ ، ابن كثير : البداية ٢ / ٢٣٢.

(٢) انظر : ابن هشام : السيرة ١ / ١٥٥ ـ ١٥٦ ، ابن سعد : الطبقات ١ / ٩٥ ـ ٩٦ ، الطبري : تاريخ الرسل ٢ / ٢٤٤ ـ ٢٤٥ ، البيهقي : الدلائل ١ / ١٠٤ ـ ١٠٥ ويعلق محقق كتاب الدلائل على الخبر بقوله : «خبر غريب موضوع لا سند له ولا منطق يؤيده ، ويناقض الأحاديث الصحيحة ، تناقلته كتب السيرة بدون سند ، وأن المرأة التي عرضت نفسها على عبد الله وهو حديث عهد بالزواج تناقض الأحاديث الصحيحة من طهارة مولده وشرف الأنبياء ، فالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

١٨

وحملت به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، آمنة في أيام التشريق في شعب أبي طالب عند الجمرة الوسطى (١). وقيل : حملت به في رجب ، وكانت ليلة الجمعة ، وقيل : حملت به في دار وهب بن عبد مناف ، ورأت حين حملت به أنه خرج منها نور ، رأت منه قصور بصرى من أرض الشام (٢) ـ بصرى بضم الباء الموحدة وسكون الصاد مدينة من حوران بالشام ، وقيل : مدينة بنسا والبصرة (٣).

وآمنة هي : بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب (٤).

__________________

خيار من خيار ، ورجل مثل عبد الله والد الرسول كان خيارا من خيار وهذا شأنه ، فهل نطمئن إلى هذه الروايات المزعومة وأنه بعد أن دخل بزوجته آمنة بنت وهب عاد فأتى المرأة المتعرضة فقال لها : هل لك فيما قلت؟ كما أن الروايات تخبطت في اسم المرأة المتعرضة ، فهي مرة أخت ورقة بن نوفل ، ومرة كاهنة من أهل تبالة ، هذا التخبط دال على الكذب».

قلت : ولهذا أشك كثيرا في صحة هذه الرواية التي لا تشرف بيت النبوة ... ولم يكن من آباء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يتوق إلى الزنا ، فالخبر بيّن الضعف لأمرين الأول : معارضة معناه لصحيح قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خرجت في نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي لم يصبني من سفاح الجاهلية شيء» الثاني : لإضطراب سند الخبر لتردد الرواة في تعيين التي عرضت نفسها.

وعلى فرض صحة هذا الخبر يجب تأويله بما يطابق مقتضى نصوص الشريعة ، فقد قال تعالى (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) ـ سورة الشعراء آية ٢١٩ ـ أي أن جميع آبائك الذين لهم عليك ولادة كانوا طاهرين ساجدين بالقوة أي كانوا معتصمين بالقيم الروحية والمثل العلية والمباديء السنية لا أصحاب أهواء ، فكانوا بحيث لو أدركوا رسالة السماء لآمنوا غير مكرهين ودخلوا في دين الله طائعين. وعلى هذا يحمل سؤال عبد الله للمرأة المتعرضة بعدما دخل بآمنة على أنه لمجرد الإستعلام عن سبب عدم عرضها اليوم ما عرضته عليه بالأمس لمجرد العلم لا لإجابة عرضها.

(١) انظر : محب الدين الطبري : خلاصة سير ص ٧ ، ابن كثير : البداية ٢ / ٢٤٣ والقول المذكور لا يتفق مع ما رجحه جمهور العلماء في أن مولده صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شهر ربيع الأول ، ومع الثابت أن مدة حمله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تسعة أشهر على التمام.

(٢) انظر : ابن هشام : السيرة ١ / ١٥٨ ، ابن سعد : الطبقات ١ / ١٠٢ ، الطبري : تاريخ الرسل ٢ / ١٥٦ ، عياض : الشفا ١ / ١٠٣ ، محب الدين الطبري : خلاصة سير ص ١٢.

(٣) انظر : ياقوت : معجم البلدان ١ / ٤٤١.

(٤) راجع نسبها عند ابن هشام في السيرة ١ / ١١٠ ، وابن سعد في الطبقات ١ / ٥٩ ، وابن الجوزي في المنتظم ٢ / ٢٣٧ ، ومحب الطبري في خلاصة سير ص ٥.

١٩

واختلف في مولده صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فقيل : ولد بمكة عام الفيل. حكاه محب الدين الطبري. وقيل : بعده بثلاث وعشرين سنة. قاله عبيد بن عمير الكلبي. وقيل :بعده بثلاثين عاما ، وقيل : بأربعين عاما. والأول أصح (١) ، وقيل : بعد خمسين يوما من الفيل ، وقيل : بعد قدوم أصحاب الفيل بشهرين ، وكان لعشرين [من](٢) نيسان ، وقيل : بعد قدومهم بخمس وخمسين ليلة (٣) ، وقيل : ولد بعد موت أبيه في يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول ، ولم يذكر ابن إسحاق غيره (٤) ، ووافق من شهور الروم العشرين من شباط في السنة الثانية عشرة من ملك أنو شروان (٥).

وحكى الطبري : أن مولده صلى‌الله‌عليه‌وسلم / كان لإثنين وأربعين سنة من ملك أنو شروان (٦). وحكاه الشهرستاني. وقيل : يوم الإثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول ، وقيل : لثمان وصححه كثير من العلماء ، وقيل : لعشر خلون منه حكاه ابن الجوزي (٧) ، وقيل : لثمان عشرة منه ، وقيل : أول إثنين منه من غير تعيين ، وقيل : لإثنى عشر ليلة خلت من شهر ربيع الأول. حكاه الطبري (٨).

__________________

(١) وردت هذه الأقوال عند محب الدين الطبري في خلاصة سير سيد البشر ص ٦.

(٢) سقط من الأصل والاضافة من (ط).

(٣) انظر : ابن سعد : الطبقات ١ / ١٠١ ، الماوردي : أعلام النبوة ص ١٩٢ ، ابن الجوزي : المنتظم ٢ / ٢٤٦ ، ابن كثير : البداية ٢ / ٢٤٤.

(٤) راجع ما ذكره ابن اسحاق عند ابن هشام في سيرته ١ / ١٥٨.

(٥) انظر : الماوردي : أعلام النبوة ص ١٩٢.

(٦) ورد عند الطبري في تاريخه ٢ / ١٥٤.

(٧) وردت هذه الأقوال عند ابن الجوزي في المنتظم ٢ / ٢٤٥ ـ ٢٤٦.

(٨) ورد عند الطبري في تاريخه ٢ / ١٥٦ ، وابن الجوزي في المنتظم ٢ / ٢٤٧ ، ومحب الدين الطبري في خلاصة سير ص ٧ ، وابن كثير في البداية ٢ / ٢٤٣ وأضاف : «والقول أنه ولد في رمضان غريب جدا ومستنده أنه عليه الصلاة والسلام أوحى إليه في رمضان وذلك على رأس أربعين سنة من عمره ، فيكون مولده في رمضان وهذا فيه نظر».

٢٠