بهجة النفوس والأسرار - ج ٢

الشيخ أبي محمّد عفيف الدين عبد الله بن عبد الملك المرجاني

بهجة النفوس والأسرار - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أبي محمّد عفيف الدين عبد الله بن عبد الملك المرجاني


المحقق: محمّد عبد الوهاب فضل
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٠
الجزء ١ الجزء ٢

وقال أبو محمد عبد الله بن عمران البسكري (١) رحمه‌الله تعالى [منشدا يقول :](٢)

دار الحبيب أحق أن تهواها

وتحن من طرب إلى ذكراها

وعلى الجفون متى هممت بزورة

يا بن الكرام عليك أن تغشاها

فلأنت أنت إذا حللت بطيبة

وظللت ترتع في ظلال رباها

مغنى الجمال مني الخواطر والتي

سلبت عقول العاشقين حلاها

لا تحسب المسك الذكي كتربها

هيهات أين المسك من رباها

طابت فإن تبغ التطيب يا فتى

فأدم على الساعات لثم ثراها

وابشر ففي الخبر الصحيح مقررا

إن الإله بطابة سمّاها

__________________

(١) عبد الله بن عمران ، أبو محمد البسكري المغراوي ، قدم المدينة فأقام بالمدرسة الشهابية ، مات بالمدينة ودفن بالبقيع سنة ٧١٣ ه‍.

انظر : ابن حجر : الدرر الكامنة ٢ / ٣٨٥ ، السخاوي : التحفة اللطيفة ٢ / ٦٦ ـ ٧٠.

(٢) سقط من الأصل والاضافة من (ط).

٣٠١

واختصها بالطيبين لطيبها

واختارها ودعا إلى سكناها

لا كالمدينة منزل وكفى لها

شرفا حلول محمد بفناها

حظيت بهجرة خير من وطيء الثرى

وأجلهم قدرا فكيف تراها

/ كل البلاد إذا ذكرن كأحرف

في اسم المدينة خلت معناها

حاشا مسمى القدس فهي قريبة

منها ومكة إنها إياها

لا فرق إلا أن ثم لطيفة

مهما بدت يجلو الظلام سناها

جزم الجميع بأن خير الأرض ما

قد حاط ذات المصطفى وحواها

ونعم لقد صدقوا بساكنها علت

كالنفس حين زكت زكا مأواها

وبهذه ظهرت مزية طيبة

فغدت وكل الفضل في مغناها

٣٠٢

حتى لقد خصت بروضة جنة

الله شرفها بها وحباها

ما بين قبر للنبي ومنبر

حيا الإله رسوله وسقاها

هذي محاسنها فهل من عاشق

كلف شحيح باخل بنواها

إني لأرهب من توقع بينها

فيظل قلبي موجعا أواها

ولقل ما أبصرت حال مودع

إلا رثت نفسي له وشجاها

فلكم أراكم قافلين جماعة

في إثر أخرى طالبين سواها

قسما لقد أذكى فؤادي بينكم

نارا وفجر مقلتيّ مياها

إن كان يزعجكم طلاب فضيلة

فالخير أجمعه لدى مثواها

أو خفتم ضراها فتأملوا

بركات بلغتها فما أزكاها

٣٠٣

أف لمن يبغي الكثير لشهوة

ورفاهة لم يدر ما عقباها

والعيش ما يكفي وليس هو الذي

يطغي النفوس ولا خسيس مناها

يا رب أسأل منك فضل قناعة

بيسيرها وتحصنا بحماها

ورضاك عني دائما ولزومها

حتى توافي مهجتي أخراها

فإن الذي أعطيت نفسي سؤلها

وقبلت دعوتها فيا بشراها

بجوار أو في العالمين بذمة

وأعز من بالقرب منه يباها

من جاء بالآيات والنور الذي

داوى القلوب من العمى فشفاها

أولى الأنام بخطة الشرف الذي

يدعو الوسيلة خير من يعطاها

إنسان عين الكون سر وجوده

«يس» إكسير المحامد «طه»

٣٠٤

حسبي فلست أفي بذكر صفاته

لو أن لي عدد الورى أفداها

كثرت محاسنه فأعجز وصفها

وغدت وما يلقى لها أشباها

إني اهتديت من الكتابة بآية

فعلمت أن علاه ليس يضاهي

/ ورأيت فضل العالمين محددا

وفضائل المختار لا تتناهى

كيف السبيل إلى تقصي مدح

من قال الإله له ـ وحسبك جاها :

«إن الذين يبايعونك إنما»

فيما يقول : «يبايعون الله»

هذا الفخار فهل سمعت بمثله

واها لنشأته الكريمة واها

صلوا عليه وسلموا فبذا لكم

تهدي النفوس لرشدها وعناها

صلى الإله عليه غير مقيد

وعليه من بركاته أنماها

٣٠٥

وعلى الأكابر آله سرج الهدى

أحبب بعترته ومن والاها

وكذا السلام عليه ثم عليهم

وعلى عصابته التي زكاها

أعني الكلام أولي النهى أصحابه

فئة التقى ومن اهتدى بهداها

والحمد لله الكريم وهذه

نجزت ظني أنه يرضاها (١)

الفصل التاسع

في إثبات حياته وبقاء حرمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد وفاته

اعلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيّ بعد موته ، عالم بمن يجيء إليه ، سامع بصلاة من يصلي عليه ، أحياه الله تعالى بعد موته حياة تامة مستمرة إلى يوم القيامة ، وجميع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كذلك ، وكذلك الشهداء ردت إليهم أرواحهم بعد قبضها ، فهم أحياء عند ربهم (٢).

__________________

(١) الأبيات من قصيدة طويلة للشيخ عبد الله بن عمران البسكري أوردها المراغي في تحقيق النصرة ص ٢٠٨ ـ ٢١١.

(٢) انظر : المراغي : تحقيق النصرة ص ١١٦ ، ابن الضياء : تاريخ مكة ص ٢٥٠ ، النهرواني :تاريخ المدينة (ق ٢٣١ ـ ٢٣٢).

٣٠٦

عن أنس رضي‌الله‌عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون» (١).

وعنه أيضا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أتيت على موسى ليلة أسري بي وهو قائم يصلي في قبره» (٢) فوصفه بالصلاة وذكر أنه قائم ، ومثل هذا لا توصف به الروح فقط وإنما توصف به مع الجسد.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أن الله تعالى حرم على الأرض أجساد الأنبياء» (٣). فنبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حي يرزق.

وعن أبي العالية : أن أجساد الأنبياء لا تبليها الأرض ولا تأكلها السباع (٤).

وقال القشيري (٥) : عقدنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حي في قبره لقوله تعالى :

__________________

(١) حديث أنس : أخرجه أبو يعلى في المسند ٦ / ١٤٧ برقم (٣٤٢٥) وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٨ / ٢١٤ وعزاه لأبي يعلى والبزار وقال : «ورجال أبي يعلى ثقات» ، والمراغي في تحقيق النصرة ص ١١٦ ، السيوطي في الخصائص ٣ / ٤٠٦ ، النهرواني في تاريخ المدينة (ق ٢٣٢).

(٢) حديث أنس : أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الفضائل باب من فضائل موسى عليه‌السلام برقم (١٦٤) ٤ / ١٨٤٥ ، أحمد في المسند ٣ / ١٤٨ ، البيهقي في الدلائل ٢ / ٣٨٧.

(٣) الحديث أخرجه أبو داود في سننه عن أوس بن أوس كتاب الصلاة باب فضل يوم الجمعة برقم (١٠٤٧) ١ / ٢٧٥ ، أحمد في المسند ٤ / ٨ عن أوس ، ابن ماجة في سننه ١ / ٣٤٥ عن أوس ، النسائي في سننه ٣ / ٩١ عن أوس.

(٤) رواية أبي العالية ذكرها النهرواني في تاريخ المدينة (ق ٢٣٢).

(٥) قول القشيري وتفسير الآية الكريمة : ذكرهما القرطبي في الجامع ٤ / ٢٦٩ ـ ٢٧٠ ، ابن الضياء في تاريخ مكة ص ٢٥١ ، النهرواني في تاريخ المدينة (ق ٢٣٢).

والقشيري هو : عبد الرحيم بن عبد الكريم ، أبو نصر القشيري ، كان مناظرا ومفسرا وأديبا متكلما له تفسير القرآن ت سنة ٥١٤ ه‍.

انظر : ابن العماد : شذرات الذهب ٤ / ٤٥.

٣٠٧

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً)(١) ، فأخبر سبحانه وتعالى أن الشهداء أحياء والأنبياء أولى بذلك ، لأن الشهادة ثالثة درج النبوة ، قال تعالى : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ)(٢).

قال أبو المكارم : ولا يمتنع أن يحمل [صلاة](٣) موسى على الصلاة ذات الركوع والسجود ، وقد قيل : إنما حرم نكاح زوجاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من بعده لكونه حيا (٤). وذكر صاحب الدر المنظم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما مات ترك في أمته الرحمة لهم.

روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : «ما من نبي إلا / وقد رفع بعد ثلاث غيري ، فإنى سألت الله عزوجل أن أكون بينكم إلى يوم القيامة». يؤيد ذلك بيان ما هو مشهور في كتب الرقائق ، في مناقب ثابت البنانى (٥) رحمه‌الله تعالى أن الله تعالى أكرمه بالصلاة في قبره ، وكان يقول : اللهم إن كنت أعطيت أحدا من خلقك أن يصلي لك في قبره ، فاعطني ذلك (٦).

__________________

(١) سورة آل عمران آية (١٦٩).

(٢) سورة النساء آية (٦٩).

(٣) سقط من الأصل والاضافة من (ط).

(٤) راجع قول أبي المكارم عند السيوطي في الخصائص ٣ / ١٤٥.

(٥) ثابت بن أسلم البنانى ، أبو محمد البصري ، كان من سادة التابعين علم وفضلا ومحدثا ثقة ، مات في سنة ١٢٣ ه‍.

انظر : البخاري : التاريخ الكبير ٢ / ١٥٩ ـ ١٦٠ ، ابن الجوزي : صفة الصفوة ٣ / ٢٦٠ ، ابن العماد : شذرات الذهب ١ / ١٦١.

(٦) انظر : أبو نعيم : حلية الأولياء ٢ / ٣١٩ ، ابن الجوزي : صفة الصفوة ٣ / ٢٦٣.

قلت : ما الذي يثبت هذا وهي حياة أخرى مختلفة ولا تدرك حقائقها ، والمعلوم أن الإنسان يقفل على عمله بالموت فلا تزيده العبادة في البرزخ شيئا إلا ما سنه الشرع من دعاء الولد الصالح والصدقة الجارية والعلم النافع.

٣٠٨

روى الحافظ عبد الغني (١) ، عن سنان بن جسر ، عن أبيه قال : «كنت فيمن أدخل ثابت البنانى في قبره ، فرفعت لبنة أصلحها ، فإذا أنّا بالقبر وفيه ثابت قائما يصلي ، فأطبقت اللبنة ، ثم سألت أهله ، فقلت أخبروني ما كان ثابت يسأل به عزوجل؟ قالت : كان يقول : اللهم إن كنت أعطيت أحدا الصلاة في قبره ، فاعطني ذلك» (٢).

وعن إبراهيم بن الصمة المهلبي قال : حدثني الذين كانوا يمرون بالحصن بالأسحار ، قالوا : كنا إذا مررنا بجنبات قبر ثابت سمعنا قراءة القرآن ، ومات ثابت سنة ثلاث وعشرين ومائة (٣).

فحرمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واحدة حيا وميتا.

وكان أيوب السختياني إذا ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بكى ، قال مالك : فكان يبكي حتى أرحمه (٤).

وكان مالك إذا ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه ، فقيل له في ذلك ، فقال : «لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم ، ولقد رأيت محمد بن المنكدر (٥) لا تكاد تسأله عن حديث أبدا إلا بكى حتى ترحمه ، ولقد كنت أرى جعفر بن محمد ، وكان كثير الدعابة والتبسم ، فإذا ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، اصفر ، وما رأيته يحدث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلا على طهارة ، وكان

__________________

(١) عبد الغني بن سعيد الأزدي المصري ، كان عالما بالحديث والأنساب ، توفى في سنة ٤٠٩ ه‍.

انظر : ابن الجوزي : المنتظم ١٥ / ١٣٠ ، ابن كثير : البداية ١٢ / ٧.

(٢) انظر : أبو نعيم : حلية الأولياء ٢ / ٣١٩ ، ابن الجوزي : صفة الصفوة ٣ / ٢٦٣ وهي حكاية باطلة.

(٣) انظر : ابن الجوزي : المنتظم ٧ / ١٨٨ ، البخاري : التاريخ الكبير ٢ / ١٦٠.

(٤) كذا ورد عند القاضي عياض في الشفا ٢ / ٣٣ من حديث مالك بن أنس حين سئل عن أيوب.

(٥) محمد بن المنكدر ، أبو عبد الله التيمي ، كان محدثا صدوقا ، مات في سنة ١٣٠ ه‍.

انظر : ابن الجوزي : صفة الصفوة ٢ / ١٤٠ ، ابن الحجر : التهذيب ٩ / ٤٧٣.

٣٠٩

عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فينظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم ، وقد جف لسانه في فمه ، ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير ، فإذا ذكر عنده النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بكى حتى لا يبقى في عينه دموع ، ولقد رأيت الزهري فإذا ذكر عنده النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكأنه ما عرفك ولا عرفته ، ولقد كنت آتي صفوان بن سليم ، وكان من المتعبدين ، فإذا ذكر عنده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا يزال يبكي حتى تقوم الناس عنه ويتركوه ، وكان قتادة إذا سمع الحديث أخذه العويل والزّويل» (١).

وقال عبد الله بن المبارك (٢) : «كنت عند مالك وهو يحدثنا ، فلذعته عقرب ست عشرة مرة ، وهو يتغير لونه ويصفر ، ولا يقطع حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما فرغ من المجلس وتفرق الناس ، قلت له : يا أبا عبد الله لقد رأيت منك اليوم عجبا ، قال : نعم ، إنما صبرت إجلالا لحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٣).

تنبيه :

قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ)(٤) ، اختلف في هذا الاستثناء ، فقيل : موسى عليه‌السلام / لأنه حوسب بصعقة يوم الطور ، وقيل : الشهداء ، وقيل : جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وعزرائيل ، وحملة العرش الثمانية ، وقيل : إن هؤلاء

__________________

(١) كذا ورد عند القاضي عياض في الشفا ٢ / ٣٣ من حديث مصعب.

الزويل : أي الحركة والبكاء.

انظر : ابن منظور : اللسان مادة «زول».

(٢) عبد الله بن المبارك ، أبو عبد الرحمن المروزي الحافظ ، كان فقيها ومحدثا ثقة ، مات في سنة ١٨١ ه‍. انظر : البخاري : التاريخ الكبير ٥ / ٢١٢ ، الخطيب : تاريخ بغداد ١٠ / ١٥٢ ـ ١٦٩ ، ابن حجر : التقريب ص ٣٢٠.

(٣) كذا ورد عند القاضي عياض في الشفا ٢ / ٣٦.

(٤) سورة الزمر آية (٦٨).

٣١٠

ليسوا من سكان السماء ، ولا من سكان الأرض ، فلم يدخلوا في الآية ، وقيل : من في الجنة من الحور والولدان ـ ذكره ابن شاقلا ـ وقيل : المؤمنون ، وقيل : لم يرد في تعيينهم خبر صحيح ، وقيل : الأنبياء يصعقون فيمن صعق ثم لا يكون ذلك موتا في جميع معانيه ، إلا في ذهاب الإستشعار ، فإن كان موسى فيمن استثنى الله تعالى ، فإنه لا يذهب استشعاره في تلك الحالة ، وقيل : يكون الصعق في حق الأنبياء كالغشي ، ثم يقومون في النفخة الثانية (١).

وجاء في الحديث : «فأكون أول من يفيق» (٢) فيكون المراد بصعقة موسى الذي يدور بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، صعقته فيمن صعق في تلك النفخة الأولى ، لا في من مات الموت الأول ، فيحمل حينئذ على صعقة النفخة ، ولا يحتمل إلا أن يكون صعق فيها إلا أن يكون حيا في ذلك الوقت ، أما لو كان ميتا فلا يقال فيه صعق ، وتلك الصعقة التي هي الغشي أنسب للمحاسبة بصعقة الطور ، فإذا تأمل ذلك جزم بأن المراد به الصعقة في النفخة الأولى (٣).

وعن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تفضلوا بين الأنبياء ، فإنه ينفخ في الصور ، فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ، ثم ينفخ فيه أخرى ، فأكون أول من يبعث ، فإذا موسى آخذ بالعرش ، فلا أدري أحوسب بصعقة يوم الطور ، أم بعث قبلي» (٤).

__________________

(١) انظر : القرطبي : الجامع ١٥ / ٢٨٠ ـ ٢٨١.

(٢) جزء من حديث أخرجه البخاري في صحيحه كتاب أحاديث الأنبياء باب قول الله تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) عن أبي سعيد الخدري برقم (٣٣٩٨) ٤ / ١٥٢.

(٣) انظر : القرطبي : الجامع ١٥ / ٢٨١ ، ابن كثير : النهاية ١ / ٢٦١.

(٤) حديث أبي هريرة : أخرجه البخاري في صحيحه كتاب أحاديث الأنبياء باب وإن يونس لمن المرسلين برقم (٣٤١٤) ٤ / ١٦٠ ، مسلم في صحيحه كتاب الفضائل باب فضائل موسى برقم (١٥٩) ٤ / ١٨٤٤ ، أبو داود في سننه ٤ / ٢١٧ ، البيهقي في الدلائل ٥ / ٤٩٢ ، وذكره القاضي عياض في الشفا ١ / ١٤٢.

٣١١

والصعق الموت ، وإذا تأمل المعنى ، فهم منه أن نبينا صلوات الله وسلامه حي حياة تامة ، إذ هو أعلى رتبة من جميع الخلائق ، وممن تقدم ، فلا تحصل للشهداء من أمته مرتبة ليس له.

الفصل العاشر

في ذكر ما رؤى في الحجرة الشريفة من العجائب

وشوهد فيها من الغرائب ، دلالات على فضل

النبي الحاشر العاقب ، وعلى فضل أصحابه الأصفياء

ذوي المناقب ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه

الرؤساء المزن الساكب (١)

عن إبراهيم بن أبي شيبان (٢) قال : حججت وأتيت المدينة ، فتقدمت إلى قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسلمت ، فسمعت من داخل الحجرة : وعليك السلام (٣).

سمعت والدي رحمه‌الله يقول : سمعت الحريري ، شيخ خدام الحجرة الشريفة يقول : بينا أنا ذات ليلة عند الحجرة المقدسة ، إذ سمعت من داخل الحجرة : وعليكم السلام ، وعليكم السلام ، إلى أن عددت عشر مرات ، فلما

__________________

(١) المزن : السحاب ، والسكب : يقال سكب الماء سكبا انصب وسال.

انظر : ابن منظور : اللسان مادة «مزن» ، «سكب».

(٢) إبراهيم بن أبي شيبان ، من أهل الشام ، روى عن يونس بن ميسرة ، وعنه محمد بن المبارك الصوري.

انظر : ابن حبان : الثقات ٨ / ٥٧.

(٣) أخرجه ابن النجار في الدرة الثمينة ٢ / ٣٩٩ عن إبراهيم بن أبي شيبان.

٣١٢

أصبحت ترصدت من يدخل المدينة ، فإذا جماعة من الزيالعة داخلين من باب البقيع ، أتوا للزيارة ، فعددتهم فإذا هم تسعة ، قال : فسألتهم ، فقالوا : أتينا مكة ونحن عشرة ، ولكن رفيق لنا ضعيف تركناه بمسجد قباء ، وقد وصلنا من البارحة ، قال : فقلت لهم : / ما صنعتم حين وصلتم؟ قالوا : صعدنا منارة مسجد قباء ، وسلمنا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا رسول الله ، فأخبرتهم بأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، رد عليهم‌السلام ، وأكرمتهم بعد ذلك (١).

ولما كانت سنة إحدى وخمسين وسبعمائة ، زرت مع والدي ووالدتي ، فلما ودعنا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، خرجت بالجمال خارج المدينة ، ورجع والدي يودع ، فغاب زمانا وأتانا ووجهه متغير ، فظننا أن به ضعف ، فسألته والدتي بعد ذلك ما كان سبب غيابه ، فقال : دخلت لوداع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقلت : السلام عليك يا رسول الله ، فسمعت رد السلام عليّ ، فغشي عليّ ، فلما أفقت أتيت ، وكانت آخر زياراته ، وهي السابعة من طريق السلطان ، والثانية والخمسون لما زار من طريق الماشي (٢).

وبلغني أنه اعتمر في شهر رمضان ثلاث عمر من المدينة (٣).

وقد ذكر سيدنا عبد الله اليافعي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، يرد السلام على المسلم عليه ، قال : قد سمع ذلك كثير من الصالحين في اليقظة ، بل رأوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم [يخرج](٤) للقاء الزوار ، كما روينا ذلك عن غير

__________________

(١) و (٢) حكايات لا يعلم صحتها ولا حاجة لها ، فقد أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه يرد السلام على من يسلم عليه من أمته سواء كان بعيدا أو قريبا ، ولكن لا يسمع صوته لكون رسول الله قد انتقل إلى حياة أخرى غير الحياة الدنيا.

(٣) وهذا غير ممكن في ذلك الوقت لبعد المسافة ما بين المدينة ومكة.

(٤) سقط من الأصل والاضافة من (ط).

٣١٣

واحد ، بعضهم رأى ذلك في اليقظة (١) ، وبعضهم في النوم ، أخبرتني والدتي أيدها الله تعالى أنها سمعت أمها تقول ، سمعت الضياء المالكي يقول : كان على باب إبراهيم بالحرم الشريف المكي فقيرة مقعدة ، تسمى موفقة ، قال : بينما نحن جلوس ذات يوم إذ أتتنا تمشي كأن لم يكن بها شيء ، قالت : قمت سحر ، وقلت من يعطيني قليل ماء أتوضأ به ، فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخذ بيدي ، قال : قومي يا موفقة ، فقمت (٢) ، وأرتني قبرها بالمعلاة في أول شعب دكانه ، وعليها حجر مكتوب فيه : هذا قبر الفقيرة إلى الله عتيقة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، من الزمن ، الموفقة كلثم ابنة خليل بن إبراهيم الأنصاري ، توفيت ليلة التاسع عشر من رمضان سنة ثلاث وأربعين وستمائة. وقبر الضياء المالكي جانب قبرها من جهة القبلة.

وعن عمر بن محمد (٣) لما كانت أيام الحرة ، ترك الآذان بمسجد رسول الله تعالى عليه وسلم ، ثلاثة أيام ، وخرج الناس إلى الحرة ، وجلس سعيد بن المسيب في المسجد قال : فاستوحشت ، فدنوت من قبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فلما حضرت الصلاة سمعت الآذان في قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فصليت ركعتين ، ثم سمعت الاقامة ، فصليت الظهر ، ثم جلست حتى صليت العصر ، فسمعت الآذان في قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم سمعت / الاقامة ، ثم لم أزل أسمع الآذان والاقامة في قبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى

__________________

(١) و (٢) هذه الحكايات لا دليل عليها من الكتاب والسنة ، فهي مجرد نتائج بلا مقدمات. أي أحكام بلا دلائل وخرافات وادعاءات باطلة.

(٣) عمر بن محمد النوفلي المدني ، روى عنه الزهري ، وكان محدثا ثقة من السادسة.

انظر : ابن حجر : التهذيب ٧ / ٤٩٤ ، التقريب ص ٤١٦.

٣١٤

مضت الثلاث ، وقفل القوم ، وعاد المؤذنون ، فتسمعت الآذان فلم أجده (١).

وكانت وقعة الحرة لاثنتين بقيتا من ذي الحجة من سنة ثلاث وستين ، قتل فيها من المهاجرين والأنصار سبعمائة ، ومن سائر الناس عشرة آلاف (٢).

وقال ابن الجلاء (٣) : دخلت المدينة وبي فاقة ، فتقدمت إلى القبر المقدس ، وقلت : أنا ضيفك ، فغفوت ، فرأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد أعطاني رغيفا ، فأكلت نصفه ، فانتبهت وبيدي النصف الآخر.

وعن أبي الخير الأقطع (٤) قال : دخلت المدينة وأنا بفاقة ، فبقيت خمسة أيام ما ذقت ذواقا ، فتقدمت إلى القبر الشريف ، وسلمت على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وعلى أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وقلت : أنا ضيفك الليلة يا رسول الله ، وتنحيت فنمت خلف المنبر ، فرأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبا بكر عن يمينه ، وعمر عن شماله ، وعلي بن أبي طالب بين يديه ، فحركني علي رضي‌الله‌عنه وقال لي : قم قد جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقمت إليه وقبلت بين عينيه ، فدفع إليّ رغيفا فأكلت نصفه وانتبهت ، وإذا

__________________

(١) أخرجه ابن النجار في الدرة الثمينة ٢ / ٤٠٠ عن عمر بن محمد ، وأورده المراغي في تحقيق النصرة ص ١١٨ ، النهرواني في تاريخ المدينة (ق ٢٣٦).

(٢) انظر : الطبري : تاريخ الرسل ٥ / ٤٨٢ ـ ٤٩٤ ، ابن الجوزي : المنتظم ٥ / ١٢ ـ ١٦ ، الفيروز ابادي : المغانم ص ١١٣.

(٣) أحمد بن يحيى ، أبو عبد الله بن الجلاء البغدادي ثم الشامي ، كان عالما ورعا ، أقام بالرملة ومات بدمشق سنة ٣٠٦ ه‍.

انظر : أبو نعيم : حلية الأولياء ١٠ / ٣١٤ ، الخطيب : تاريخ بغداد ٥ / ٢١٣ ، ابن الجوزي : المنتظم ١٣ / ١٨١ ، صفة الصفوة ٢ / ٢٥٠ ، ابن الملقن : طبقات الصوفية ص ٨١.

(٤) أبو الخير الأقطع التيناتي ، سكن تينات من قرى أنطاكية ، ويقال له الأقطع لأنه كان مقطوع اليدين ، مات بعد سنة ٣٤٠ ه‍.

انظر : ابن الجوزي : صفة الصفوة ٣ / ٢٨٢.

٣١٥

بيدي نصف رغيف (١).

وعن أبي بكر المنقري قال : كنت أنا والطبراني ، وأبو الشيخ (٢) في حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكنا على حالة ، فأثر فينا الجوع ، فواصلنا ذلك اليوم ، فلما كان وقت العشاء ، حضرت قبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وقلت : يا رسول الله الجوع [الجوع](٣) ، وانصرفت ، فنمت ، وأبو الشيخ والطبراني جالس ، فحضر بالباب علوي ، فدق الباب ، ففتحت فإذا معه غلامان مع كل واحد منها زنبيل فيه شيء كثير ، فأكلنا وظننا أن الباقي يأخذه الغلام ، فلما فرغنا ، ولى الغلام وترك الباقي ، وقال العلوي : أشكوتم إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فإني رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فأمرني بحمل شيء إليكم (٤).

وعن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير (٥) قال : بت ليلة بالمسجد بعدما خرج الناس ، فإذا برجل قد جاء إلى بيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، ثم أسند ظهره إلى الجدار ، ثم قال : اللهم إنك تعلم أني كنت أمس صائما ولم أفطر على شيء اللهم وأني أمسيت أشتهي الثريد فأطعمنيه من عندك قال : فنظزت إلى وصيف داخل من خوخة المنارة ، ليس في خلقة

__________________

(١) الخبر ذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة ٤ / ٢٨٣ ، وابن النجار في الدرة الثمينة ٢ / ٤٠٠.

(٢) عبد الله بن جعفر بن حيان ، أبو الشيخ الأصبهاني ، كان محدثا صدوقا مأمونا ، مات في سنة ٣٦٩ ه‍.

انظر : الذهبي : تذكرة الحفاظ ٣ / ٩٤٥ ، العبر ٢ / ١٣٢.

(٣) سقط من الأصل والاضافة من (ط).

(٤) الخبر أورده ابن الجوزي في الوفا ٢ / ٨٠٢ عن أبي بكر المنقري.

(٥) مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير الأسدي ، ليّن الحديث ، كان عابدا ، مات في سنة ١٥٧ ه‍.

انظر : ابن حجر : التهذيب ١٠ / ١٥٨ ـ ١٥٩ ، التقريب ص ٥٣٣.

٣١٦

وصفاء الناس ، معه قصعة ، فوضعها بين يديه وجلس الرجل يأكل ، وحصبني وقال : هلم ، فجئته ، وظننت أنها من الجنة ، فجئت وأكلت منها لقمة ، فأكلت طعاما لا يشبه طعام أهل الدنيا / ثم احتشمت ، فقمت ورحت إلى مجلسي ، فلما فرغ أخذ الوصيف القصعة ، ورجع من حيث جاء ، وقام الرجل منصرفا ، فأتبعته لكي أعرفه ، فلم أدر أين سلك ، فظننته الخضر (١).

وكان مصعب يصوم الدهر ويصلي في اليوم والليلة ألف ركعة (٢).

وقال عبد الله محمد بن ماتك : حكى لي بمكة شخصا في سنة ثمان وأربعين وثلثمائة قال : خرجت من صنعاء حاجا ، فقال لي رجل من الأصحاب ، إذا زرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاقرءه مني السلام وعلى صاحبيه ، فنسيت ما استودعني ، فخرجنا إلى الصحراء بعد الزيارة ، فلما أردت الإحرام تذكرت ، فرجعت إلى المدينة ، فسلمت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى صاحبيه ، فأدركني الليل ، وسألت رجلا عن الرفقة ، فقال رحلوا ، فرجعت إلى المسجد ، وقلت نقيم ههنا حتى تأتي رفقة أخرى ، فنمت فلما كان آخر الليل ، رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبو بكر وعمر رضي‌الله‌عنهما ، فقال أبو بكر : يا رسول الله هذا هو الرجل ، فقال نعم ، والتفت إليّ وقال لي : يا أبا الوفاء ، فقلت يا رسول الله كنيتي أبو العباس ، فقال لي : أنت أبو الوفاء ، فأخذ بيدي فوضعني بالمسجد الحرام ، فأقمت ثمانية أيام حتى وردت القافلة التي كنت معها.

وسمعت والدي رحمه‌الله تعالى يقول : كان بالمدينة شخص يماني ،

__________________

(١) الخبر أورده ابن النجار في الدرة الثمينة ٢ / ٤٠٠ عن مصعب بن ثابت. وهذا من توهمات المتصوفة أن الخضر حيّ لم يمت من زمان موسى عليه‌السلام ، والصواب أنه لم يبق ، إذ لو كان حيا لما وسعه إلا الحضور إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولو حضر لاشتهر ذلك ، إذ هو مما تداعى الهمم لنقله.

وسبق أن وضحت المسألة في الفصل الخامس من الباب السادس.

(٢) كذا ورد عند ابن النجار في الدرة الثمينة ٢ / ٤٠٠ ، وابن حجر في التهذيب ١٠ / ١٥٩.

٣١٧

مداحا ، فأخذه بعض الرفضة ليعطيه شيئا ، فلما دخل به بيته قطع لسانه ، فأخذ لسانه في يديه ، وأتى الحجرة المقدسة ، وقال : يا رسول الله هكذا يفعل بمن يمدحك؟ فأخذته سنة نوم ، فرأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتناول لسانه منه ، وقال له : افتح فاك ، فرده كما كان ، فانتبه الرجل كأن لم يكن به شيء ، فلما كان بعد ذلك جعل يمدح على عادته ، فأتاه أولاد ذلك الرافضي وقالوا له : تعال لتأكل شيئا ، فسار وقال : عسى أن يفعل بي كما فعل أبوهم لعلي أرى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، فدخلوا به الدار المعروفة ، فأكرموه ، ثم فتحوا خزانة فيها خنزير في حلقه سلسلة ، فقالوا : هذا هو الذي قطع لسانك فاذبحه بيدك ، قال : فذبحته لهم ، فدفنوه في القبة التي على يسار السالك إلى قبة سيدنا عثمان رضي‌الله‌عنه (١).

قال والدي رحمه‌الله ، قال لي أبو الحسن الخراز الأندلسي ـ وكان من الصالحين : رأيت أثر اللصاق دائرا بلسان اليماني كالخيط ، ولم أزل أرى خنزيرا جالسا على باب تلك القبة التي دفن فيها ذلك الشخص كلما زرت البقيع ، فإذا رآني غطس في قبره (٢).

توفى أبو الحسن سنة خمس عشرة وسبعمائة ، وقبره وقبر البسكري ، وقبر الجزولي في بقعة واحدة رضي‌الله‌عنهم.

قال والدي رحمه‌الله : خرجت أنا وأبو الحسن الخراز ، وجماعة إلى بئر علي (٣) التي في ذي الحليفة لنحفر فيها ، فنزل أبو الحسن ـ المذكور ـ

__________________

(١) لا ندري لماذا وضعوا الخنزير في قبة وبجوار قبة عثمان وهم روافض! كل هذا خرافات وتوهمات.

(٢) أوهام وتخيلات لا تستند إلى دليل.

(٣) يقول السمهودي في وفاء الوفا ص ١١٩٥ :«قال العز بن جماعة : وبذي الحليفة البئر التي تسميها العوام بئر علي ، وينسبونها إلى علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، لظنهم أنه قاتل الجن بها ، وهو كذب ، ونسبتها إليه غير معروفة عند أهل العلم».

٣١٨

وربط صخرة كبيرة وجبدناها ، فلما وصلت رأس البئر / وقعت عليه وهو يحفر ، فنظرنا فإذا هي على رأسه ورأسه مغروزة في التراب وهو لا يتحرك ، وكان أخوه معنا ومعه مقدار مائة درهم ، ففرقها على الفقراء في ذلك الحين ، ونزلنا فرفعناها عنه ، فقام سويا لم يخدش فيه شيء.

وسمعته رحمه‌الله يقول : سمعت والدي أبا محمد المرجاني يقول ، سمعت خادم الحجرة الشريفة يقول ، قال والدي : وسمعتها أيضا من الخادم بعد ذلك قال : جاءنا من العراق بجملة من المال إلى سلطان المدينة ، على أن يأخذوا أبي بكر وعمر ، فأنعم بذلك ، ونادى شيخ الخدام قال ، فقال لي : إذا أتاك هذا النفر فدعهم يفعلون ما يريدون ، قال : فلما خرج الناس بعد العشاء وغلقت أبواب المسجد ، دقوا على باب السلام ، ففتحت ، فدخل خمسة عشر ـ أو قال وعشرون رجلا ـ بالمساحي والقفف ، فما مشوا غير خطوة أو خطوتين وابتلعتهم الأرض ، قال الخادم : فوقفت داهشا ، فإذا بأمير المدينة [بعد ساعة](١) يضرب الباب ، ففتحت ، فقال : ما فعلوا؟ فقلت : دخلوا من هنا وغرقوا هناك ، فقال : اكتم أمرهم ، فلم يتحدث به إلا بعد موت الأمير المذكور (٢).

وسمعته أيضا رحمه‌الله يقول : جاءت حداءة ، فوقفت على شباك الحجرة ، فقام لها سعيد الهندي ـ بعض خدام الحجرة الشريفة ـ فضربها بالخطاف ومسكها ، فقيل له ـ مستجيرة ـ : لا تذبحها ، فذبحها على باب جبريل ، وخرج إلى بيته ، فما دخل المسجد بعد ذلك ، ومرض أياما وتوفى.

__________________

(١) سقط من الأصل والاضافة من (ط).

(٢) الخبر أورده السمهودي في وفاء الوفا ص ٦٥٤ نقلا عن المرجاني «المؤلف» في تاريخ المدينة.

٣١٩

وسمعته أيضا يقول : دخل العرب بناقة للبيع ، فاشتراها منه شخص من الجزارين بمأتي درهم ، وكانت نفورة ، فربطوها بالبلاط خارج باب الرحمة ، فلما كان المغرب قطعت الحبال ودخلت من خوخة باب الرحمة ، وجرت مع جدار القبلة إلى الشباك ، ثم بركت ، فضربوها فلم تقم ، فقال بعض الخدام : هذه مستجيرة ، أنا أدفع قيمتها ودعوها ، فوعدهم بالقيمة إلى الصباح ، فقامت حينئذ وخرجوا بها ، فبلغ ذلك فقيه الرافضة ، فقال : دعوا كلام هؤلاء واذبحوها [فنحروها](١) فلم يتم شهر حتى مات الجزارون ونساؤهم وعيالهم والفقيه وعياله وأولاده ، وهذا الفقيه هو الذي كان يفتح قبة العباس رضي‌الله‌عنه في ذلك الوقت.

وعن محمد بن حرب الهلالي قال : دخلت المدينة ، فأتيت قبر رسول الله تعالى عليه وسلم ، فجاء أعرابي فزاره ثم قال : يا خير المسلمين إن الله عزوجل أنزل عليك كتابا صادقا قال فيه (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً)(٢) وإني جئتك مستغفرا إلى ربي مستشفعا بك ، ثم بكى وأنشد يقول :

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه

فطاب من طيبهن القاع والأكم

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه

فيه العفاف وفيه الجود والكرم

/ ثم استغفر وانصرف ، فرقدت ، فرأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو يقول :

__________________

(١) سقط من الأصل والاضافة من (ط).

(٢) سورة النساء آية (٦٤).

٣٢٠