خطط الشام - ج ٥

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٥

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩٦

رسم المواشي :

هذا الرسم من الأوضاع الشرعية وكان يتقاضى أوائل عهد الحكومة العثمانية عينا وهو غنمة واحدة من كل عشرة أغنام ولا يتقاضى شيء من بقية الحيوانات ، ثم طبق هذا القانون على أصول التلزيم. وفي سنة (١٠٤٠) ألغي التلزيم وأخذوا يستوفون الرسم بتقدير قيمة للمواشي واستيفاء بارة عن كل قرش من قيمتها. وفي سنة (١٢٤١) أعيد استيفاؤها عينا. وفي سنة (١٢٥٥) عندما أعلنت التنظيمات الخيرية كان يقدر نتاج كل دابة ، وأخذت الرسوم تستوفى على نسبة عشرة في المئة من ذلك النتاج بحيث صار يستوفى عن كل رأس من الغنم والماعز أربعة قروش ، وعن الجاموس والإبل عشرة قروش. وبدأت تترقى هذه الرسوم بنسبة أسعار المنتوجات إلى أن أصبحت ثمانية قروش عن كل رأس من الضأن والماعز ، وعشرين قرشا عن كل رأس من الإبل. وهذه الرسوم على قسمين كان قسم منها يستوفى عند العد وقسم بعد ذلك. أما القسم الذي يستوفى عند العد فهو ما كان للتجار وعابري السبيل ممن لا تعرف أماكن سكناهم. وأما القسم الثاني فهو ما كان يستوفى من التناء سكان القرى والعربان.

الأعشار :

العشر من التكاليف الشرعية القديمة وكان ينفق على عهد الإقطاع في تموين الجنود وزعمائهم. وقد أصبح في سنة (١١٠٠) يحال لسنة واحدة أو سنين متعددة على بعض الصيارف المتمولين. وفي سنة (١٢٥٦) أخذوا على عهد إعلان التنظيمات الخيرية يستوفون الأعشار عن طريق الأمانة أي على ذمة الحكومة بمعرفة جباة يرصدون لذلك ، وفي سنة (١٢٥٨) أعيدت أصول التلزيم وشرع ببيع عشر كل قضاء عن سنتين من الملتزمين. وفي سنة (١٢٦٣) تقرر إجراء معاملة الإحالة لرجال السلطنة وخدامها وبعض ذوي اليسار والسعة من التبعة العثمانية منفردين ومجتمعين لخمس سنين ، وذلك بأخذ متوسط بدلات الثلاث السنين التي تقدمت السنة المذكورة ، على أن يضاف على البدل

٨١

المتوسط المنوه به في السنة الثانية التي تتلو سنة التلزيم واحد بالمئة وثلاثة بالمئة ، على بدل كل من السنة الثالثة والرابعة والخامسة ، بحيث تصبح الإضافة عن السنة الخامسة عشرة بالمئة.

ولما نشبت حرب القريم في سنة (١٢٦٩) أعيدت أصول الأمانة لضمان تموين الجيش، وظل الحال على هذا المنوال إلى سنة (١٢٧١). وفي سنة (١٢٧٢) رجعوا إلى التلزيم أيضا فأخذت تباع أعشار القرى في مجالس الأقضية قرية قرية ، وفي مجالس الألوية والولايات قضاء قضاء على أن لا تحال أعشار لوائين لأحد الملتزمين مجتمعين. ولما أعلن القانون الأساسي في سنة (١٢٩٣) أعيدت أصول الأمانة. وفي سنة (١٢٩٧) وضع نظام التخميس وذلك بحساب بدلات كل من سنة ١٢٨٩ و ١٢٩٠ و ١٢٩١ و ١٢٩١ و ١٢٩٢ و ١٢٩٣ وأخذ متوسطها على أن يوزع ما يصيب كل قرية على حساب الدونمات. وفي سنة (١٣٠١) أعيدت أصول الأمانة أيضا. وفي سنة (١٣٠٢) عادوا إلى طريقة التلزيم أيضا على أساس القرى لا القضاء أو اللواء كما كان آنفا. وظل الحال على ذلك إلى سنة (١٣٣٠) أي سنة إعلان النفير العام وفي خلال ذلك وضعت أصول التخمين موضع الإجراء وظلت إلى سنة (١٣٣٣) حتى إذا كانت سنة (١٣٣٤) طبقت أصول الأمانة. وبعد مغادرة الحكومة العثمانية هذه الديار أعيدت أصول التلزيم أيضا. وفي سنة (١٩٢٥ م) وضعت أصول التربيع وذلك بأخذ متوسط بدلات كل من سنة ١٩٢١ و ١٩٢٢ و ١٩٢٣ و ١٩٢٤ واتخاذها أساسا لوضع بدل معين على كل قرية من القرى ، ولم تبرح هذه الأصول معمولا بها. أما أصول جبايتها فهي تابعة لقانون الجباية أي أصبحت تجبى على نحو ما تجبى الضرائب.

رسوم الجمرك :

يرجع أصل هذا الرسم إلى الزكاة التي هي من جملة التكاليف الشرعية ، وكان يجبى من التجار الوطنيين على نسبة واحد من أربعين ومن التجار الأجانب على نسبة واحد بالعشرة من مجموع أموالهم. وظل الحال على ذلك من أول تأسيس الدولة العثمانية إلى الزمن الذي عقدت فيه المعاهدة التجارية مع الدول

٨٢

الغربية فأنشأوا يستوفونه على الصورة التالية :

أولا ـ رسم الواردات عن البضائع التي ترد برا وبحرا إلى المملكة العثمانية.

ثانيا ـ رسم الصادرات عن البضائع التي تخرج من الأرض العثمانية إلى الديار الأجنبية.

ثالثا ـ رسم التصدير عن البضائع التي تستهلك في الداخل كالدخان والأسماك.

رابعا ـ رسم المرور (ترانسيت) عن البضائع التي تمر بالأقطار الأجنبية عن طريق المملكة العثمانية ولا تستهلك فيها.

وقسمت هذه الرسوم إلى قسمين داخلي وخارجي. أما الرسم الخارجي فيتقاضى وفقا لأحكام المعاهدات التي عقدت مع الدول المجاورة بحسب العلائق التجارية. وأما الرسم الداخلي فيستوفى وفقا لأحكام المقررات الخاصة التي كانت تقررها بحسب الأحوال وعلى نسبة التعرفة المخصوصة. ولما كانت علاقة الأجانب بالتجارة الخارجية تتوقف على رخصة خاصة كسائر المسائل كان يمنح الأجانب حق تعاطي التجارة في الممالك العثمانية وكان ذلك بامتياز خاص بالمتجر. ولما كانت المواد التي تقضي المعاهدات بإيرادها وإصدارها تذكر في تلك المعاهدات بأنواعها أصبح ذكر تلك المواد يدل على منع سواها ، ولما زادت الصلات التجارية مع الأجانب قبلت بادئ بدء حرية التجارة إلى حد محدود ، وبعد ذلك بدأت بالتوسع. فأعطي على عهد محمد الفاتح الامتياز المعلوم للبنادقة. وصادق ياوز سليم على المعاهدة التي وقع عليها ملك مصر. وفي عام (٩٧٠) عقدت المعاهدة المعروفة مع النمسا. وفي سنة (٩٨٣) مع حكومة البندقية ، وفي سنة (٩٨٤) مع حكومة النمسا أيضا ، وفي سنة (١٠٨٤) أي في سلطنة محمد الرابع عقدت معاهدة مع ملك فرنسا جاءت مؤيدة للمعاهدات السالفة التي كانت ترمي لاستيفاء رسم الجمرك على نسبة ٣ بالمئة بدلا من الخمسة ما خلا رسم التصدير.

ولما عقدت المعاهدة الجمركية بين فرنسا وإنكلترا في سنة (١٢١٦) اشتركت الحكومة العثمانية معهما بتلك المعاهدة التي كانت عبارة عن تجديد نصوص العهود القديمة. وفي سنة (١٢٥٤) عقدت معاهدة تجارية مع فرنسا كان من

٨٣

جملة أحكامها التوسع في معاونة التجار الفرنسيين وشركاتهم وما إلى ذلك ، على أن يتناول ذلك عامة البضائع والمتاجر وقد تضمنت هذه المعاهدة فيما تضمنته استيفاء رسم الواردات على نسبة ٥ بالمئة ورسم الصادرات ١٢ بالمئة ورسم المرور ٥ بالمئة من مجموع قيمة البضائع والسلع ، وبقيت المعاملات السابقة بحالها على أن تعدل مرة في كل سبع سنين.

وأنشأوا على عهد نظام التنظيمات الخيرية يستوفون هذه الرسوم بطريق الأمانة أي على ذمة الحكومة ثم أخذوا يحيلونها إلى بعض الصيارف والملتزمين ودام ذلك إلى سنة (١٢٧٤). وفي سنة (١٢٧٥) وضع نظام خاص جامع لجميع المقررات التي قررت من بداية التنظيمات الخيرية إلى ذاك العهد وجرى تطبيق ذلك على جميع ما يتقاضى منه رسم الجمرك ما خلا رسم مواد البناء والدخان والسعوط والمسكرات. وجرى في عام (١٢٧٧) و (١٢٧٨) تعديل ذلك بعد عقد المعاهدات مع بلجيكا والدانيمرك وفرنسا وإنكلترا وإيطاليا وهولاندة والنمسا وروسيا والسويد واسبانيا وأميركا ، وكان من جملة أحكام تلك المعاهدات إبلاغ رسم الواردات إلى ٨ بالمئة وتنزيل رسم الصادرات إلى ٨ بالمئة أيضا على أن ينزل من أصله واحد بالمئة في كل سنة إلى أن يصبح واحدا في المئة فقط. وقد اعتبر رسم المرور اثنين في المئة على أن ينزل في ثماني سنوات تبدأ من تاريخ العقد إلى واحد بالمئة فقط.

وبعد ذلك وقع التذرع كثيرا لتعديل هذه الرسوم وصورة جبايتها ، فلم يأت تذرعهم بثمرة تذكر. بيد أنه أضيف في سنة (١٣٢٣) على رسم الواردات ثلاثة بالمئة بموافقة جميع الدول العظمى بحيث أصبح أحد عشر بالمئة على أن يؤخذ خمسة وعشرون بالمئة من الزيادة التي عينت لتسديد الديون العامة وخمسة وسبعون بالمئة لتسديد ديون الولايات الثلاث الخ.

الجمارك الشامية ووجوه نفقاتها وتوزيعها :

كان محصول الرسم الأصلي الذي هو ٨ في المئة حتى يوم ١ كانون الثاني سنة (١٩٢٦) يوزع بين الدول الشامية الموضوعة تحت الانتداب الفرنسي ، وكان الرسم الإضافي ثلاثة بالمئة يدفع لحساب الدين العام العثماني. وقد صدر

٨٤

قرار في ٣ نيسان سنة (١٩٢٤) يقضي برفع الرسوم الجمركية من ١١ إلى ١٥ بالمئة ابتداء من شهر أيار سنة ١٩٢٤ وقضى القرار المؤرخ في ٢٣ شباط سنة (١٩٢٦) بأن الأموال الناتجة عن تحصيل ضمائم الرسوم الجمركية من ١ أيار سنة (١٩٢٤) حتى ٣١ كانون الأول سنة (١٩٢٥) ٦٢ مليون تؤلف مبلغا مشاعا يؤخذ منه ما تستلزمه الضرورة والمبالغ الخاصة لسد جميع النفقات الناشئة عن الثورات التي نشبت في الدول الموضوعة تحت الانتداب. على أن يجري توزيع ذلك فيما بعد بصورة قطعية وتقرر في ٢٥ أيار سنة (١٩٢٦) رفع رسوم الواردات اعتبارا من ١ حزيران سنة ١٩٢٦ إلى ٢٥ في المئة.

وما زال محصول الرسم الأصلي ١٥ في المئة المخصص للدين العام باقيا إلى أن يجري اتفاق مع حاملي الأسهم بشأن عملة الدفع.

ويتضح من تعليمات المستشار المالي في المفوضية العليا أنه يمكن أن يلاحظ لعام ١٩٢٧ ما يلي :

٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ١٢٥ فرنك محصول الجمرك من الرسم الأصلي ١٥ في المئة.

٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٦٠ فرنك ضمائم ١٠ في المئة.

٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ١٨٥ المجموع.

وتوزع كما يلي :

٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٨٥ فرنك لدائرة الدين على أن تجري التنزيلات التي يقبل بها حاملو الأسهم.

٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٥٠ فرنك نفقات جيش الشرق.

٠٠٠ ، ٠٠٠ ، ٥٠ فرنك يقتضي توزيعها بين الدول.

ومن الممكن أن ينزل الرسم ٢٥ في المئة لأنه إذا كان قد طبق هذا الرسم لأحوال استثنائية فلا يكون اليوم إلا عثرة في سبيل تنمية الاقتصاديات.

ضريبة التمتع :

يرجع تاريخ إحداث هذه الضريبة إلى قسمين : القسم الأول ما أحدث قبل التنظيمات الخيرية وكان أصلها رسم الاحتساب الذي أحدثه السلطان محمود سنة (١٢٤١) وهو عبارة عن ضريبة تؤخذ بأسماء متنوعة تسمى يومية الدكاكين

٨٥

وشهرية الدكاكين ورسم المأكولات والمستهلكات والذهب والفضة والمجوهرات والمنسوجات وما شابه ذلك.

وبالأمر السلطاني الصادر في ١٦ جمادى الأولى سنة (١٢٥٤) ألغي رسم الاحتساب ونشر نظام مؤرخ في ١٩ ذي القعدة سنة (١٢٥٤) يقضي بتوزيع التكاليف على الأهالي عن طريق تعيين مقدار الأملاك والأرضين والحيوانات وربح التجار والأصناف السنوي ، غير أنه لم توضع ضريبة مخصوصة على الأرباح السنوية بل وضعت موحدة على الثروة الذاتية المقدرة لكل فرد على نسبة أملاكه وأراضيه وأمواله وحيواناته وأرباحه.

والقسم الثاني ما وضع بعد التنظيمات الخيرية وظلت هذه الضريبة تعد من الضرائب الموحدة من سنة (١٢٥٥ ـ ١٢٧٥) وقد أصبحت إذ ذاك تؤخذ على نسبة ثلاثين بالألف من مجموع الربح السنوي. وبناء على القرار المؤرخ في ٥ ربيع الأول سنة (١٢٩٧) بشأن الأملاك والأغنام والأعشار بلغت اعتبارا من ذلك التاريخ أربعين في الألف. وفي عام (١٣٠٣) أبلغت إلى خمسين وشملت أصحاب الرواتب والمشاهرات أيضا ، ولما كان الأجانب غير مرخص لهم بتعاطي التجارة داخل المملكة العثمانية كان هذا الرسم محصورا بالعثمانيين لا يتناول الأجانب. ولما جرى الاتفاق على قبول إقامة الأجانب في الدولة وتعاطيهم التجارة ألفت لجنة مختلطة في نظارة الخارجية في سنة (١٨٨٠ م) ونظمت لائحة حمل الأجانب على أداء هذه الضريبة أسوة بالعثمانيين. فقاوم سفراء الدول هذه الفكرة مقاومة حالت دون تطبيقها إلا على رعايا صربيا وبلغاريا ورومانيا والجبل الأسود واليونان وإيران.

وفي عام (١٣٢٣) أحدث نظام خاص يقضي باستيفاء الضريبة المذكورة على قسمين: مقطوع ونسبي وخصصت به من يجب تكليفه بالضريبة المقطوعة ، ومن يجب أن تتقاضى منه الضريبة النسبية من أرباب التجارة والصناعة. وفي عام (١٣٣١) ألغت القانون السابق وأحدثت قانونا جديدا ألغت به الامتيازات الأجنبية فقضي على جميع رعايا الدول أداء الضريبة المذكورة أسوة بالعثمانيين بدون تفريق بينهم على أن تطرح هذه الضريبة على ثلاثة أوجه : نسبي ومقطوع ومتحول.

٨٦

الضريبة النسبية :

يحقق هذا القسم من الضريبة بالنظر إلى الإيراد غير الصافي المقدر للمحل الذي يشغله المكلف ، وجعل هذا القسم على ستة أنواع يحتوي كل منها على قسم من أنواع التجارة والصناعة ومقدار نسبة الضريبة التابعة لها. فالنوع الأول يدخل فيه أصحاب المصارف ونسبة ضريبتهم عشرون بالمئة من الإيراد غير الصافي المقدر للعمل المتخذ مصرفا. والنوع الثاني يتناول شركات النقل والمشتغلين بالأوراق المالية والسماسرة والمتعهدين والأطباء والمهندسين ووكلاء الدعاوي وأمثالهم من أصحاب الصناعات والأعمال العلمية ونسبة ضريبتهم خمسة عشر في المئة من الإيراد المذكور.

ويشمل النوع الثالث التجار البائعين بالجملة والصيارفة والخياطين وباعة الأقمشة وخاطتها وباعة الأحجار الثمينة وأمثالها ونسبة ضريبتهم ١٢ في المئة. والنوع الرابع يتناول بائعي الألبسة والثياب والأدوية والعطور وأشباه ذلك من عامة المعمولات والمصنوعات ونسبة ضريبتهم عشرة في المئة. والنوع الخامس يدخل فيه أرباب الصناعة كالنجار والحداد والخياط ومن يبيع حبوبا ومأكولات وأخشابا وأشياء حديدية وأصحاب الفنادق والقهاوي والألعاب وأمثالها ونسبة ضريبتهم ثمانية في المئة.

الضريبة المقطوعة :

يحتوي هذا القسم على من لم يتخذ محلا مخصوصا لممارسة الصنعة من متعهدين وأطباء ومهندسين وأمثالهم اعتبرت ضريبتهم مقطوعة وجعلت خمسة أقسام باعتبار نفوس البلدة فقط. فالنازلون في العاصمة من القسم الأول وضريبتهم ٣٠٠ قرش والنازلون خارجها من الصنف الثاني مكلفون ب ٢٥٠ والثالث ب ١٥٠ والرابع ٧٥ والخامس ٥٠ قرشا.

وكذلك الحال في ذوي الصناعة من معمارين ورؤساء أشغال وعملة قد كلف كل منهم حسب بلده ومكانة صناعته بمقدار معلوم مسطر في جدول مخصوص من القانون المذكور تبتدئ ضريبتهم من خمسة عشر قرشا إلى ثلاثمائة قرش.

٨٧

الضريبة المتحولة :

هذه الضريبة قسمان : القسم الأول يطرح على أصحاب المحال التجارية والصناعية لاستفادتهم من خدمة العاملين عندهم والمعاونين فتبتدئ الضريبة من ستة قروش إلى مائة قرش بحسب صنوف البلدة ونوع التجارة وعمل العامل ، أما أصحاب الرواتب فقد كلفوا بموجب المادة السادسة بثلاثة قروش في المئة من مجموع إيرادهم السنوي إن كان زائدا على ألفي قرش ديناري ومن لم يزد إيراده على ذلك فهو مستثنى من الضريبة. والقسم الثاني يطرح على حسب الوسائط الناشئة من ممارسة الصنعة كعجلات الركوب والنقل والحيوانات والآلات التجارية وجعلت درجات باعتبار صنعة البلد ونوع تلك الوسائط. وكذلك الشركات فقد كلف كل منها بنسبة معينة في المادتين الرابعة والخامسة ، وقد ألفت لجان للنظر في الاعتراضات بداية واستئنافا وتمييزا ، وبقي معمولا به من السنة المذكورة إلى يومنا هذا. أما التعديلات التي طرأت عليها حتى الآن فلم تغير هذه الأسس ، وبقيت محصورة في بعض المعاملات الفرعية التي لا علاقة لها بهذا البحث اه.

الرأي في الجباية والنفقات :

لا جرم أن الأموال إذا جبيت كما تجبى في الممالك المتمدنة بالرفق ، وبحسب طاقة المكلفين ، يتوازن مع الزمن الدخل والخرج ، بل قد يزيد الأول على الثاني إذا وقع الاقتصاد في وجوه النفقات ، كأن تكتفي الشام بما تخرجه لها أرضها ويفيض عليها ما تصرفه على الخطوط الحديدية ورصف الطرق وتعبيدها في المدن وبين القرى ، وعلى الأسلاك البرقية والكهربائية والهاتفية ، وتجفيف البطائح وإصلاح طرق الري ، وإقامة معالم العلم ودور التهذيب.

وكل مملكة تسد عجزها بالاقتراض ، ولا تستثمر بأيدي رجالها ما في سطحها وبطنها من الخيرات ، يكون مصيرها إلى الاستعباد الاقتصادي ، وهو أبشع ضروب الاستعباد. وما لا تستطيع أن تعمله لنفسك ليس في مكنة غيرك أن يحمله إليك. وكل أمة لا تفرض الجباية بالعقل ، ولا تجبيها بطرق العدل ، ولا تبذل على المرافق العامة منها الفضل ، تنحل بل تضمحل.

٨٨

الاوقاف

منشأ الوقف :

من أهم القوانين الاجتماعية التي أثرت في عمران هذه الديار وأخلاق أهلها قانون الوقف ، وهو حبس العقار أو الأرض عن البيع وحصر المغلّ في يد شخص أو أشخاص على مقصد معين. كان الوقف معروفا عند الرومان ومنه الخاص والعام ، وكذلك هو معروف عند الأمم النصرانية لعهدنا ، وكان أهل الجاهلية من العرب لا يعرفونه. قال الشافعي : لم يحبس أهل الجاهلية فيما علمت وإنما حبس أهل الإسلام. فاستنبط الرسول صلوات الله عليه الوقف لمصالح لا توجد في سائر الصدقات ، فإن الإنسان ربما يصرف في سبيل الله مالا كثيرا ثم يفنى فيحتاج أولئك الفقراء تارة أخرى ، ويجيء أقوام آخرون من الفقراء فيحرمون ، فلا أحسن ولا أنفع للعامة من أن يكون شيء حبسا للفقراء وأبناء السبيل ، تصرف عليهم منافعه ويبقى أصله على ملك الوقف. وقد وقف رسول الله بعض ما ظهر عليه من الأرضين فلم يقسمها وقد قسم بعض ما ظهر عليه ، ووقف ثمانية عشر سهما من خيبر لمن نزل برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الناس والوفود وما نابه من نوائب الناس. وفي صحيح مسلم أن عمر أصاب أرضا بخيبر فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستأمره فيها فقال : يا رسول الله إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه فما تأمرني به؟ قال : إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها. قال : فتصدق بها عمر أنه لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يورث ولا يوهب قال : فتصدق عمر في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف ، لا جناح على من وليها أن يأكل منها

٨٩

بالمعروف ويطعم فقيرا غير متمول فيه ، وفي رواية غير متأثل مالا. قال بعض الفقهاء : إنما وقف عمر بن الخطاب سواد الكوفة لأنه ليس مما حازه المسلمون حين ظهروا عليه ، ولو كانوا حازوه وجمعوا ما فيه من السبي والأموال كان غنيمة ليس للإمام أن يقفه حتى يخرج منه الخمس لله ثم يقسم أربعة أخماسها بين الذين حضروا فتحه. وقد وقف بعض الصحابة أوقافا.

وذكروا أن أحد شهداء أحد واسمه مخيريق عهد إلى الرسول قبل قتله أن يضع أمواله حيث أراد فحبسه على سبعة حوائط وهي كروم النخل في المدينة ، فأصبحت الأموال المحبوسة من ذاك العهد لا تشرى ولا تورّث ولا توهب ، وأخذ بعضهم يحبسون أموالهم على أعقابهم وأعقاب أعقابهم. ووقف مخيريق أول وقف في الإسلام. قال زيد بن ثابت : لم نر خيرا للميت ولا للحي من هذه الحبس الموقوفة ، أما الميت فيجري أجرها عليه ، وأما الحي فتحبس عليه ولا توهب ولا تورث ولا يقدر على استهلاكها.

تعريف الأوقاف وطرقها :

قالوا : إن ولاية الأوقاف من باب التعاون على البر والتقوى ، ولا ينهض بحملها إلا الأمين القوي ، فإن أبوابها متسعة ، وأربابها متنوعة ، وشعابها متفرعة ، فإنهم أصناف وطوائف ، فمنهم الأشراف المتصلون بالرسول ومنهم الهاشميون والعباسيون والعلويون والحسنيون والحسينيون وغيرهم ، ومنهم الفقهاء الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة وغيرهم ، ومنهم الصوفية والفقراء والقراء والأضراء والأسرى وأبناء السبيل والمرضى والمجانين ، ومنها تكفين الموتى وإصلاح أسوار الثغور وقناطر الطرقات وعمارة المساجد ومصابيحها وأئمتها ومؤذنوها وقومتها ومصالح المدارس وإقامة وظائفها ، وكذلك الرّبط والخوانق والمشاهد ومواطن العبادة إلى ما سوى ذلك من وقف على تعليم اليتامى الخط ، ووقف على من انكسرت له آنية لا يقدر على عوضها وغير هذا من أبواب الطاعات وجهات الخيرات ، فهذه الوقوف العامة جميعها على اختلاف مصارفها وتباين جهاتها مشتركة في أن المقصد بها التقرب إلى

٩٠

الله تعالى فإنها معدودة من الصدقات ، داخلة في باب القربات ، فيجب اتباع شروط واقفيها والعمل بها.

وما برحت الأوقاف تنمو بنمو الثروة وامتداد السلطة بامتداد الفتوح ، حتى تكاملت أجزاؤها ، وتكاثرت موادها ، في صدر الخلافة العباسية وخصوصا على عهد الخليفة المأمون فإنه وقف الأوقاف الكثيرة في العراق وغيرها على العلماء ودور العلم والجوامع والمباني العامة، لتبقى دائمة الانتفاع على الدهر ، وتكفي العلماء والمحاويج ، وأصحاب الزمانات والعاهات من التكفف والاستجداء ، فمن ثمّ كثرت الأوقاف النافعة كثرتها في الولايات المتحدة الأميركية لهذا العهد ومعظمها على دور العلم والبائسين.

أول أوقاف الشام وسوء استعمالها :

وأول وقف حبس في الشام فيما بلغنا أراضي بطارقة الروم فيها ممن فروا من جيوش الإسلام أو قتلوا في الحرب وكانوا قواد جند الروم ، فأصبحت أملاكهم شاغرة فأوقفها الفاتحون على بيت المال ، وكان العمال يقبّلونها أي يضمنونها ويضيفون دخلها إلى بيت المال، وكان من العمال من يحبس القرى على مصالح المدينة ومرافقها ، قاصدا بذلك عمارتها، وكان من الأرض المفتتحة عنوة ما ليس يملكه السلطان فيباع «لأنه فيء للمسلمين يقوم مقام الوقف على جميعهم» قال القاضي أبو يعلى : إن أرض السواد صيرها عمر وقفا بنفس الفتح ، والأرض لا تصير وقفا حتى يقفها الإمام ، فعلى هذا يجوز له بيعها إذا رأى بيعها أصلح لبيت مال المسلمين ، ويكون ثمنها مصروفا في عموم المصالح وفي ذوي الحاجات من أهل الفيء وأهل الصدقات. وقد قال أحمد في رواية عبد الله : الأرض إذا كانت عامرة هي لمن قاتل عليها إلا أن يكون وقفها من فتحها من المسلمين كما فعل عمر بالسواد فاعتبر إيقافه.

ومن أحسن القوانين الصريحة عند المسلمين أحكام المواريث فإنها تقضي على المورث أن لا يوصي بغير الثلث من ماله في وجوه المبرات وأن يبقي الثلثين لوارثيه يستمتعون به استمتاعه من قبل ، ولذا لم يكن إلا في الوقف

٩١

مندوحة في خرق هذه القاعدة ، فتوسع القوم فيها لا سيما ما كان منه أهليا حتى كاد ينقلب الخير إلى شر ، فإن الواقف يقف أملاكه أو شطرا منها لتكون من بعده وسيلة إلى التعاطف بين الذراري والأعقاب ، فما هو إلا جيل أو جيلان حتى تغدو أوقافه ذريعة للتقاطع والتدابر ، فتقوم نائرات الخصومات بين الأسرات ، للاستئثار بإدارة الوقوف واقتسام مغلها ، خصوصا عند كثرة المستحقين وقلة الأنصبة ، وربما تكاثرت ذرية الواقف بعد حتى يصيب الفرد من الدخل بضعة قروش. ولا تسل كيف تكون حال تلك العقارات والأرضين الموقوفة من العمران ، ففي تعدد الموقوف عليهم تعدد للمناحي وتباين في الآراء. وربما استأثر بالوقف فرد واحد يكون أشد المستحقين مراسا ، فيغصب حقوق الآخرين. من أجل هذا ترى الغاصبين وفي مقدمتهم المتولي أو الناظر يقضون حياتهم على دكات المحاكم الشرعية مدافعين ذوي الحقوق بالحق والباطل ، حتى جرى في حكم الأمثال قولهم «نصف الأوقاف موقوفة على الحكام».

شرط الواقف وخراب أوقاف الشام :

بالغ المتأخرون في احترام الأوقاف أهلية كانت أو خيرية حتى قالوا : إن شرط الواقف كنص الشارع ، ولو كان فيما هو ظاهر ضرره ومكروه عند العارفين. وعدت الأوقاف على طول الزمن من أعظم القربات حتى قالوا : إنّ من لم يمت عن وقف مات ميتة جاهلية. وقد ردّ ابن قيم الجوزية قول من قال : إن شرط الواقف كنص الشارع فقال : إن شرط الله أحق وأوثق ، بل يقولون ههنا : نصوص الواقف كنصوص الشارع وهذه جملة من أبطل الكلام ، وليس لنصوص الشارع نظير من كلام غيره أبدا ، بل نصوص الواقف يتطرق إليها التناقض والاختلاف ، ويجب إبطالها إذا خالفت نصوص الشارع وإلغاؤها ، ولا حرمة لها حينئذ البتة. ويجوز بل يترجح مخالفتها إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله منها ، وأنفع للواقف والموقوف عليه. وقال علماء الحنفية : إن قولهم شرط الواقف كنص الشارع لا في وجوب العلم به والإثم بتركه ، بل بالاخذ بمفهومه وأنه لا يستحق المعلوم إذا خالفه.

٩٢

وقال ابن القيم أيضا عند كلامه على الحيل الجديدة في مسائل الوقف : ومن الحيل الباطلة تحيلهم على إيجار الوقف مائة سنة مثلا ، وقد شرط الواقف أن لا يؤجر أكثر من سنتين أو ثلاثا ، فيؤجر المدة الطويلة في عقود متفرقة في مجلس واحد ، وهذه الحيلة باطلة قطعا ، فإنه إنما قصد بذلك دفع المفاسد المترتبة على طول الإجارة فإنها مفاسد كثيرة جدا ، وكم قد ملك من الوقوف بهذه الطرق ، وخرج عن الوقفية بطول المدة ، واستيلاء المستأجر فيها على الوقف هو وذريته وورثته سنين بعد سنين ، وكم فات البطون اللواحق من منفعة الوقف بالإيجار الطويل ، وكم أوجر الوقف بدون إجارة مثله لطول المدة وقبض الأجرة ، وكم زادت أجرة الأرض أو العقار أضعاف ما كانت ، ولم يتمكن الموقوف عليه من استيفائها. إلى أن قال : اللهم إلا أن يكون فيه مصلحة الوقف بأن يخرب ويتعطل نفعه فتدعو الحاجة إلى إيجاره مدة طويلة يعمر فيها بتلك الأجرة ، فهنا يتعين مخالفة شرط الواقف تصحيحا لوقفه ، واستمرارا لصدقته ، وقد يكون هذا خيرا من بيعه والاستبدال به ، وقد يكون البيع والاستبدال خيرا من الإجارة اه.

وبهذا النقل رأيت أن الوقف يصح بيعه واستبداله إذا كان هناك مصلحة ، وأن تلاعب المتلاعبين أدى إلى تبدل الأوقاف وجعلها حرة تباع وتشرى منذ المئة الثامنة أو من قرن قبله ، ولو لا ذلك لأصبحت الشام إلا جزءا قليلا منها أوقافا بمرور الأيام ، ووقفت بالوقف حركة العمران وقوفا هو الجمود بعينه ، وفي الجمود الموت والفناء. ولكن المولى تعالى أرفق من أن يسلب منافع الأرض مخلوقاته ، ويجعلها خاصة بفئة معينة لا تنقطع عنهم مادتها ، ولو لا ذلك لكان ابن الغني غنيا على الدهر ، وابن الفقير كذلك ، ولبطل هذا النظام الطبيعي الذي لا تقوى القوانين على تغييره.

قالوا : إن الأمير جكم العرضي (٨١٠) الذي تسلطن بحلب والشام أخرب غالب الديار الشامية ، وأخرج أوقاف الناس في الشام وفرقها إقطاعات بمثالات على جماعته. وأخرج الملك شيخ الأوقاف بدمشق وجعلها إقطاعات وفرقها بمثالات على عسكره. وفي أيام الناصر فرج خرجت غالب أوقاف الناس في البلاد الشامية والحلبية. فاستدللنا بذلك أن الأوقاف لم تلزم حالة

٩٣

واحدة ، والرأي في تعطيلها لصاحب القوة أيا كان.

كان أكثر العمال وأصحاب الأموال في عصور المصادرات يقفون الأوقاف على الجوامع والمدارس والرّبط والمستشفيات وغيرها فرارا بأموالهم من مصادرات الملوك إذا غضبوا عليهم ونحّوهم عن وظائفهم ، أو قضوا نحبهم فطمعوا في وفرهم ، وهذا كان الشأن مع الأقوياء والأمراء وأرباب الإقطاعات. ومن الأوقاف ما منحه الملوك بعض عمالهم وحاشيتهم ليستمتعوا بها ما داموا أحياء على سبيل الإقطاع ، فما عتّم المنعم عليهم أن جعلوا ذاك العقار أو تلك القرية بواسطة القضاة وأهل الحكم أوقافا شرعية يتناولها أعقابهم من بعدهم فتتوزع عليهم بعد أن يكونوا ألفوا الاتكال ، وانقطعت أيديهم عن الأعمال ، إلا من بسطها لتناول ريع أوقافهم الحقيرة. وإذا كان بعض الواقفين توقعوا من أوقافهم أن تقي أبناءهم وأحفادهم عوادي الفاقة ، فإن اعتماد أنسالهم على ما خلفه لهم آباؤهم قد يرميهم فيما كانوا يحاذرونه من الفقر ، وذلك لتوزع الوقف بتعدد الأنصبة ، ولأن المستحقين لمغلّ الوقف يعتمدون على ريع أوقافهم التي تأتيهم بلا عمل غالبا ، وينسون أن الثروة هي العمل ، وأن من لا يعمل لا يثري ولا يتنعم ، سنة الله في خلقه.

التفنن في الأحباس والتلاعب بالموقوف :

ولقد تفنن القوم في أنواع الأوقاف حتى لا يكاد يخطر ببالك خاطر في الوقف إلا وتجد من سبقك إليه مما أوشكت أن تكون معه معظم ديار الإسلام موقوفة ، وكاد يصبح نصف أرض المملكة تقريبا من نوع الوقف ، وكانت ثلاثة أرباع الأملاك في المملكة العثمانية وقفا على الجوامع والمساجد. والأحباس والأوقاف عامة وخاصة ، فالعامة هي ما جعل عينها وريعها بدون قيد ولا شرط وقفا على أعمال الخير والبر أو على المصالح العامة. أما الخاصة فهي التي جعل واقفوها حق الاستمتاع بريعها إلى وارثيهم مباشرة ، ولا تؤول إلى الأوقاف العامة إلا بانقراض نسل الواقف. قلنا : ومن العادة أن يشرط الواقفون في أواخر صكوكهم شروطا منها أن الوقف إذا انحل بفقد الذرية وانقراض المستحقين يعود بجملته إلى الحرمين الشريفين ، ومن الناس

٩٤

من يقفون عليهما مباشرة. وأنشأوا في بعض العهود ديوان البر جعل حاصله لإصلاح الثغور وللحرمين الشريفين.

وفي صك وقف الملك سيف الدين بلبان لزور بلحسين في شيزر سنة أربع عشرة وسبعمائة : «أنه وقفه وقفا صحيحا شرعيا على نفسه الزكية الطاهرة الرضية ، مدة حياته ، أحياه الله الحياة الطيبة ، ثم من بعده على أولاده ذكورا وإناثا على الفريضة الشرعية للذكر مثل حظ الانثيين ، ثم على نسله وعقبه قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل ، على الشرط المزبور على أن من مات منهم عن ولد أو ولد ولد أو نسل وعقب ، كان نصيبه لولده ثم لولد ولده ثم لنسله وعقبه ، يقدم الأقرب فالأقرب ، ومن مات ولا ولد له ولا نسل ولا عقب كان نصيبه للأقرب فالأقرب لمن هو في درجته وذوي طبقته ، فإذا انقرضوا بأجمعهم وخلت الأرض منهم ذكرهم وأنثاهم ، رجع هذا الوقف بأجمعه على الفقراء والمساكين والأيتام والأرامل والمنقطعين والمجاورين بالحرمين الشريفين بمكة والمدينة الطيبة ...» وشرط أن لا يؤجر جميعه ولا شيء منه في عقد واحد أكثر من ثلاث سنوات ، ولا يستأنف عقد حتى تنقضي مدة عقد الأول. وعلى هذا جرت عادة الواقفين باتباع هذه الشروط وسطروا وقفياتهم عليه. ومن الوقفيات التي اطلعنا عليها حجة نقلت حوالي المئة العاشرة عن حجة كتبت سنة ثمان وسبعمائة للهجرة جاء فيها أن «الست الجليلة صالحة خاتون ابنة الأمير الكبير صلاح الدين بن بهلوان ابن الأمير الكبير شمس الدين الأكري الآمدي وقفت وحبست وأبدت ، في صحة منها وسلامة وجواز أمرها ، جميع الضياع الخمس المتلاصقات المعروفات بوادي الذخائر عمل دمشق المحروسة وتعرف أحداهن بالبويضا والثانية بالبريصا والثالثة بالحميرا والرابعة بدير عطية والخامسة بالحمرا» وقد تغيرت معالم هذا الوقف ولا يعرف بهذه الأسماء غير دير عطية والحميرا في تلك الجهة ، وانتقلت هاتان القريتان إلى أيد أخرى.

وتفنن الواقفون في صدقاتهم ومبراتهم في الشروط التي شرطوها ، وفي كتاب وقف الوزير لالا مصطفى باشا ووقف زوجته فاطمة خاتون بنت محمد بك بن السلطان الملك الأشرف قانصوه الغوري ، وكتب الأول سنة

٩٥

أربع وثمانين وتسعمائة والثاني سنة أربع وسبعين وتسعمائة ، مثال من هذا التفنن. ووقف الأول على منزل في قرية القنيطرة للمترددين بين مصر والشام وزائري القدس ومشهد الخليل وجامع قرية الشعراء من عمل القنيطرة ومكتب على الصبيان وعمارة على الضيفان إلى غير ذلك من ضروب البر ، وفي هذا الكتاب كلام على المتولي ووظيفة الواقف وأولاده والبنات منهم أو انقراضهم ، وجباة الوقف ووظيفتهم وخطيب الجامع والإمامين ورئيس الحفاظ والقراء والمؤذنين ووظيفة ثلاثين قارئا ومفرّق الأجزاء ومن يقرأ سورة يس وعم والنصر وتبارك ومعلم الكتاب وخليفته والمبخر ، والمشروط لثمن القناديل والزيت ووظيفة الشّعال والبواب والقيم والكناس والفراش ومعاونه والبواب بالحوش ، وشيخ العمارة ونقيب اللحم والخبز ووكيل خرج العمارة وصاحب المستودع ومعاونه وحافظ الغلال والخباز وتلميذه والطباخ وتلميذيه ، ومن يغسل الصحون وينقي الأرز ودقاق الحنطة والبناء والبستاني ومصلّح الصحون وكناس منازل المسافرين والذاكرين في مسجد القنيطرة والمؤذنين بجامع الأموي بدمشق ، والمشروط لحصير المكتب بالقنيطرة ، ووظيفة من يرمم الموقوفات ورئيس الشواة ، وشرط الواقف في الإطعام ومدة إقامة المسافرين إلى غير ذلك من الشروط والقيود مما لا يصدر إلا عن أناس ذاقوا طعم الحضارة وأشربت نفوسهم محبة الخير. ولهذا من الأمثال مئات وألوف ، وقد بلغ ريع الأوقاف التي استصفتها الحكومة في الشام وأدخلتها في موازنتها بضع مئات الألوف من الليرات وقد أكل أكثر منها ، ولو صرفت على ما وضعت له لما بقي في القطر جاهل ولا معوز. وفي حجة وقف تكية السلطان سليمان بدمشق المؤرخة سنة (٩٦٤) غرائب من شروط البر لا تخطر في الفكر. منها إطعام ثمانمائة فقير في كل غد وعشية وأن يكون الخازن على غلاله حفيظا فظا غليظا حتى لا يني في توزيع الغلال وأخذها منه. وكان الواقفون يعينون على الأكثر المبالغ التي تعطى للمباشرين لخيراتهم من العلماء وغيرهم ، كما عينوا نوع الصدقات ومقدارها ، ففي كتاب وقف المدرسة الدلامية بدمشق أن صاحبها رتب بها إماما وله من المعلوم مائة درهم ، وقيّما وله مثل الإمام ، وستة أنفار من الفقراء الغرباء المهاجرين

٩٦

لقراءة القرآن ولكل منهم ثلاثون درهما في كل شهر ، ومن شرط الإمام الراتب أن يتصدى لإقراء القرآن للمذكورين ، وله على ذلك زيادة على معلوم الإمامة عشرون درهما ، وستة أيتام بالمكتب الذي على بابها ، ولكل منهم عشرة دراهم في كل شهر أيضا. وقرر لهم شيخا وله من المعلوم في الشهر ستون درهما ، وعاملا وله من المعلوم كل سنة ستمائة درهم ، ورتب المرتب في كل عام مثلها ، وللسبع ولقراءة البخاري والتواريخ مائة درهم ، ولأرباب الوظائف خمسة عشر رطلا من الحلوى ورأسا غنم أضحية ولكل من الأيتام جبة قطنية وقميص ... وتاريخ هذا الوقف (٨٤٧ ه‍).

ومن غريب الأوقاف وأجملها قصر الفقراء الذي عمره في ربوة دمشق نور الدين محمود بن زنكي. فإنه لما رأى في ذلك المتنزه قصور الأغنياء عزّ عليه أن لا يستمتع الفقراء مثلهم في الحياة ، فعمر القصر ووقف عليه قرية داريا وهي أعظم قرى الغوطة وأغناها. وفي ذلك يقول تاج الذين الكندي :

إن نور الدين لما أن رأى

في البساتين قصور الأغنياء

عمّر الربوة قصرا شاهقا

نزهة مطلقة للفقراء

وذكر القرماني أن داريا كان وقفها لعامة فقراء دمشق تفرق عليهم غلاتها ، وما برحت كذلك وقفا إلى القرن الحادي عشر كما قال كاتب چلبي.

ولقد أخر الاستكثار من الأوقاف سير الشرق في محجة الترقي ولا يزال مؤخرا لها ، وكم في هذا القطر من آثار ودور وقصور ومحال عامة هجرت وتعطلت بضياع أوقافها وكثرة المتنازعين عليها ، وكان من الأوقاف أن أضرت بالجباية التي تصرف في مصالح الدولة قال بلوك : إن العقار الموقوف على الأعمال الخيرية عند المسلمين لا يعفى من الضرائب فقط بل إنه لا يباع ، وهو امتياز انتفع به كثير من رؤساء البيوت واستخدموه في تدبير ثرواتهم ، ولذلك كثرت الأوقاف كثرة زائدة فأضرت كل الضرر بالمصلحة العامة ، ذلك لأن إعفاء الأحباس من الخراج يسلب الحكومة جزءا مهما من ريعها

٩٧

وارتفاعها. وحظر بيع الوقف يعبث بريعه على وجه الإجمال ، لأن أموال الأوقاف وعقاره لا تستثمر استثمارا جيدا.

ولقد شدد الواقفون في شروط أوقافهم خصوصا إذا كان عليها مسحة الأوقاف المسبلة على المصالح العامة ، ومع هذا انتهبتها أيدي الضياع ، وسطت على ريعها وأعيانها مخالب السارقين والمزورين. وهذه مدينة دمشق كان في واديها في القرن التاسع زهاء ألف وخمسمائة مسجد وجامع ، وليس فيها اليوم مائتان وخمسون ، وكان فيها أوائل القرن العاشر ثلاثمائة وعشرون مدرسة ورباط وخانقاه وتكية ومستشفى وليس فيها اليوم من كل ذاك الإرث القديم خمس مدارس وربط يصح أن يطلق عليه اسم مدرسة أو رباط اللهم إلا من باب التجوز ، وقد بدلت أعيانها كلها واختلست أحباسه ، ومنها ما لا تزال قائمة أوقافه مزبورة على أحجار أبوابها حتى الساعة تقرأ بلسان عربي مبين ، على كثرة ما بدل المبدلون وتلاعب المتولون والمستحقون ، وهكذا قل عن مدارس القدس فإن أكثرها مما عبث به النظار والمتولون ، ومثل ذلك قل في مدارس حلب وهي تعد بالعشرات كمدارس العاصمة ورباطاتها وزواياها وجوامعها فإنها أصبحت وأوقافها أثرا بعد عين ولم يكتب البقاء إلا لبضع منها.

أوقاف نور الدين وصلاح الدين ومن تقدمهما وخلفهما :

راجت أسواق الأوقاف على عهد صلاح الدين يوسف وآل بيته ، فإن حاشيته وأولاده أكثروا من أعمال الخير اقتداء به حتى وقف عبيد دولته وجواريه وأبناؤه وأحفاده وبناته أوقافا جمة على الخيرات. وكان ريع أوقاف نور الدين في الشام سنة (٦٠٨) تسعة آلاف دينار صورية كل شهر ، ليس فيها غير ملك صحيح شرعي ظاهرا وباطنا.

تقدم نور الدين بإحصاء ما في محالّ دمشق فأناف على مائة مسجد فأمر بعمارة ذلك كله وعين له وقوفا. وقد وقف وتصدق في سبيل الخيرات ووجوه البر والصدقات ، ما تقدير ثمنه مائتا ألف دينار ، وتقدير الحاصل من ارتفاعه في كل سنة ثلاثون ألف دينار ، من ذلك ما وقفه على المدارس

٩٨

الحنفية والشافعية والمالكية والحنبلية وأئمتها ومدرسيها وفقهائها ، وما وقفه على دور الصوفية والرّبط والجسور والبيمارستانات والجوامع والمساجد والأسوار وما وقفه على أبناء السبيل في طريق الحجاز ، وما وقفه على فكاك الأسرى وتعليم الأيتام ، وقصر الغرباء وفقراء المسلمين ، وما وقفه على الأشراف العلويين والعباسيين ، وما ملكه لجماعة من الأولياء والغزاة والمجاهدين. هذا عدا ما أنعم به على أهل الثغور من أملاكهم فإنه يضاهي هذا المبلغ وزيادة. ولهم أوقاف على فكاك الأسرى ومنها وقفان سجلا على الحجر بالحرف الكوفي في مدينة بصرى في حوران تاريخ أحدهما سنة (٥٦١) ووقف جاولي أربعة حوانيت ووقف آخران فرنا ودارا على من لا يكون له أهل ولا يقدر على فكاك نفسه.

قال ابن جبير من أهل القرن السادس عند كلامه على مشاهد دمشق : ولكل مشهد من هذه المشاهد أوقاف معينة على بساتين وأراض بيضاء ورباع ، حتى إن البلد تكاد الأوقاف تستغرق جميع ما فيها ، وكل مسجد يستحدث بناؤه أو خانقة يعين لها السلطان أوقافا تقوم بها وبساكنيها الملتزمين لها ، وهذه أيضا من المفاخر المخلدة ، ومن النساء الخواتين ذوات الأقدار من تأمر ببناء مسجد أو رباط أو مدرسة وتنفق فيها الأموال الواسعة وتعين لها من مالها الأوقاف ، ومن الأمراء من يفعل مثل ذلك. وذكر ابن بطوطة في القرن الثامن في رحلته كلاما يقرب من كلام ابن جبير قال : والأوقاف بدمشق لا تحصر أنواعها ومصارفها لكثرتها ، فمنها أوقاف على العاجزين عن الحج لمن يحج عن الرجل كفايته ، ومنها أوقاف على تجهيز البنات إلى أزواجهن ، وهن اللواتي لا قدرة لأهلهن. على تجهيزهن ، ومنها أوقاف لفكاك الأسرى ، ومنها أوقاف لأبناء السبيل يعطون منها ما يأكلون ويلبسون ويتزودون لبلادهم ، ومنها أوقاف على تعديل الطرق ورصفها ومنها أوقاف لسوى ذلك من أفعال الخير. قال : مررت يوما ببعض أزقة دمشق فرأيت بها مملوكا صغيرا قد سقطت من يده صفحة من الفخار الصيني ، وهم يسمونها الصحن ، فتكسرت واجتمع عليه الناس فقال له بعضهم : اجمع شقفها واحملها معك لصاحب أوقاف الأواني فجمعها وذهب الرجل معه إليه فأراه

٩٩

إياها ، فدفع له ما اشترى به مثل ذلك الصحن. قال : وهذا من أحسن الأعمال فإن سيد الغلام لا بدّ له أن يضربه على كسر الصحن أو ينهره ، وهو أيضا ينكسر قلبه ويتغير لأجل ذلك ، فكان هذا الوقف جبرا للقلوب.

تكاثر الأوقاف ومضار الجمود :

استولى الخراب على الشام بعد تخريب تيمور دمشق أوائل المئة التاسعة ولكن عاد إليها رونقها فتجددت على عهد الدولة الشركسية ، فلما جاء العثمانيون أخذت تتراجع حتى بلغت هذه الدركة من الانحطاط الذي نراه ، وليس في القطر جزء صغير من ذاك العمران المستبحر ، وقد نال الأوقاف ما نال غيرها من التشتت ، وكأن يد القدرة قضت أن لا تدوم سعادة السعيد ولا شقاء الشقي ، ولو دامت مثلا تلك الحركة المباركة التي كان الناس أو أهل الثروة منهم يقلد فيها بعضهم بعضا من إنشاء معاهد الخيرات والصدقات على اطراد واتصال ، لأصبحت الشام بأسرها مجموعة أوقاف يتناول ريعها الأشراف والأجلاف ، وأصبحت سائر الأمة خدمة وأجراء.

ولذلك كان العقلاء على مثل اليقين أن الأوقاف التي وقفها بعض أبناء الطائفة المارونية في جبل لبنان وبلغت لعهدنا نحو ربع الجبل على ما يؤكد بعضهم يتصرف فيها بطريركهم وينفق من مستغلها على بعض الأديار والبيع ، لا تلبث أن يقوى عليها أصحاب القوة والمكانة ويتخذون من القانون حجة لبيعها أو يعرض لها عارض آخر ـ كما وقع في فرنسا على عهد ثورتها الأولى واستصفت الحكومة أموال البيع والأديار والجمعيات الدينية. ـ فتتمزق لأن مثل هذه الأوقاف التي حبسها أهل الخير على أعمال البر في الغالب لم تنفع أبناء تلك الطائفة في زمن المحنة أي في الأربع سنين الأخيرة على عهد الحرب العامة ، ولو صح الاجتهاد وأظنه يصح في مثل هذه المواقف لأنه هو المعقول والشرائع تسير على المعقولات ، لكان على شمامسة الموارنة وقساوستهم وأساقفتهم وبطريركهم أن يعمدوا إلى بيع تلك الأوقاف أو رهنها على الأقل ليصرفوا ثمنها على إطعام أبناء طائفتهم ولو فعلوا لما مات جوعا في لبنان من الموارنة ألوف.

١٠٠