خطط الشام - ج ٥

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٥

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩٦

قال اليعقوبي : إن خراج دمشق سوى الضياع يبلغ ثلاثمائة ألف دينار ، وخراج جند الأردن يبلغ سوى الضياع مائة ألف دينار ، ويبلغ خراج جند فلسطين مع ما صار في الضياع ثلاثمائة ألف دينار ، وخراج خمص سوى الضياع أيضا مائتي ألف وعشرين ألف دينار. وكان خراج الأردن زمن عبد الملك بن مروان مائة وثمانين ألف دينار ، وكان خراج قنسرين على عهد المأمون أربعمائة ألف دينار ، ومن الزيت ألف حمل ، وخراج دمشق أربعمائة ألف دينار وعشرين ألف دينار ، وخراج الأردن سبعة وتسعين ألف دينار ، وخراج فلسطين ثلاثمائة ألف دينار وعشرة آلاف دينار ، ومن الزيت ثلاثمائة ألف رطل.

قال المقدسي : كانت الضرائب ثقيلة على قنسرين والعواصم زمن سيف الدولة بن حمدان فكان خراج هذا الإقليم ثلاثمائة ألف وستين ألف دينار ، وعلى الأردن مائة ألف وسبعون ألف دينار ، وعلى فلسطين مائة ألف وتسعة وخمسون ألف دينار ، وعلى دمشق أربعمائة ألف ونيف. وأنت ترى أن الجباية في الشام كانت تختلف باختلاف العصور والأدوار والتقلبات الجوية. ومن الأراضي الخراجية والعشرية التي تدفع العشر لأنها مما فتحه المسلمون عنوة قال أبو يوسف : كل أرض اقتطعها الإمام مما فتحت عنوة ففيها الخراج ، إلا أن يصيرها الإمام عشرية ، والشام في ذلك كمصر والعراق ، ولأنها كلها فتحت عنوة.

قال الغزالي : إن الأموال المنصبة إلى الخزائن المعمورة أربعة أصناف : الصنف الأول ارتفاع المستغلات وهي مأخوذة من أموال موروثة له. والصنف الثاني أموال الجزية. والصنف الثالث أموال التركات. والصنف الرابع أموال الخراج. فهذه هي الأموال المأخوذة وأخذها جائز ويبقى النظر في مصارفها وهي مع اختلاف جهاتها تحويها أربع جهات وفيها تنحصر مصالح الإسلام والمسلمين. الجهة الأولى المرتزقة من جند الإسلام. الجهة الثانية علماء الدين وفقهاء المسلمين القائمون بعلوم الشريعة فإنهم حراس الدين بالدليل والبرهان ، كما أن الجنود حراسه بالسيف والسنان. والجهة الثالثة محاويج الخلق الذين قصرت بهم ضرورة الحال وطوارق الزمان عن اكتساب قدر

٦١

الكفاية. الجهة الرابعة المصالح العامة من عمارة الرباطات والقناطر والمساجد والمدارس. وهذا وجه الدخل والخرج.

وكانت عادة الخلفاء من بني أمية وبني العباس والفاطميين من لدن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن تجبى أموال الخراج ثم تفرق من الديوان في الأمراء والعمال والأجناد على قدر رتبهم وبحسب مقاديرهم ، وكان يقال لذلك في صدر الإسلام العطاء ، وما زال الأمر على ذلك إلى أن كانت دولة العجم ، فغير هذا الرسم ، وفرقت الأرضون إقطاعات على الجند ، وأول من عرف أنه فرق الإقطاعات على الجند نظام الملك وزير السلجوقيين ، وذلك أن مملكته اتسعت فرأى أن يسلم إلى كل مقطع قرية أو أكثر أو أقل على قدر إقطاعه ، فعمرت البلاد وكثرت الغلات ، واقتدى بفعله من جاء بعده من الملوك من أعوام بضع وثمانين وأربعمائة إلى أوائل القرن التاسع ـ قاله المقريزي.

وما عدا الأرض التي كان الملوك يوغرونها أي التي يدفع عنها أربابها قدرا من المال مرة واحدة فتعفى من الخراج ، وما خلا الإقطاعات التي يستأثر بها أصحابها من أرباب الدولة ولا يؤدون عنها خراجا وعدا ضياع كثيرة تعفى من الضرائب وعدا الصوافي ، واحدها صافية، وهو ما يستخلصه السلطان لخاصته أو هي الأملاك والأرضون التي جلا عنها أهلها أو ماتوا ولا وارث لها ـ ما عدا هذا كان هناك نوع من الأرضين يسمى إلجاء أي يلجأ صاحب الأرض إلى بعض الكبراء فيسجل ضيعته باسمه ، تعززا به من عمال الخراج حتى لا يجوروا عليه ، فتصبح الضيعة مع الزمن ملكا لذاك الكبير.

وكان العادلون من الملوك يعاقبون الملجئين والملجأ إليهم ، ولكن الناس يلجئون أملاكهم عند أرباب الصولة. وكم من مرة خربت الشام أو صقع كبير من أصقاعها بظلم ظالم من عمالها. ذكروا أن الخليفة الحاكم أعفى ولاية حلب من الخراج سنة (٤٠٧) لأنها كانت ضعفت بالفتن المتواصلة ، وأن ألب أرسلان لما ولي إمرة حلب رفع عن أهلها الكلف التي كانت مجددة عليهم وأن ابن ارتق (٥١٤) رفع المكوس عن أهل حلب والمؤن والكلف وأبطل ما جدده الظلمة من الجور والرسوم المكروهة.

٦٢

تحري العدل في الدولتين النورية والصلاحية :

والغالب أن المكوس والضرائب كثرت أواخر حكم العباسيين والعبيديين في الشام. وبقيت رسوم كثيرة أبطلها نور الدين ، وأبطل أبق الصوفي الأقساط في دمشق وما كان يؤخذ في الكور من الباعة جملة. قال ابن أبي طي : إن الذي أسقطه السلطان صلاح الدين والذي سامح به لعدة سنين آخرها سنة أربع وستين وخمسمائة مبلغه عن نيف ألف ألف دينار وألفي ألف اردب ، سامح بذلك وأبطله من الدواوين وأسقطه من المعاملين ، وكذلك فعل أخوه أبو بكر بن أيوب فإنه أبطل كثيرا من المظالم والمكوس وطهر بلاده من الفواحش والخمور والقمار ، وكان الحاصل من ذلك بدمشق خصوصا مائة ألف دينار ، ولما دخل صلاح الدين دمشق سنة (٥٧٠) أزال المكوس واقتصر في جميع الأقاليم على الرسوم التي يبيحها الشرع وهي الخراج والأجور والزرع ، وكذلك كانت من قبل سيرة نور الدين محمود بن زنكي فإنه منع ما كان يؤخذ من دمشق من المغارم بدار البطيخ وسوق الغنم والكيالة وغيرها.

ومع كثرة احتياج الدولة للمال زمن نور الدين وصلاح الدين كانت الجباية إلى الرفق في الجملة ، فأطلق نور الدين المكوس والضرائب واكتفى بالخراج والجزية. وأسقط صلاح الدين فريضة الأتبان المقسطة على أعمال دمشق وضياع الغوطة والمرج وجبل سنير وقصر حجاج والشاغور والعقيبة ومزارعها ، ولما فتح حلب أطلق المكوس والضرائب وسامح بأموال عظيمة ومنها ما هو على الأثواب المجلوبة ، ومنها ما هو على الدواب المركوبة ، ومنها ما هو في المعايش المطلوبة» ومما كتب عنه من منشور «إن أشقى الأمراء من سمن كيسه وأهزل الخلق ، وأبعدهم من الحق من أخذ الباطل من الناس وسماه الحق».

قال ابن أبي طي : حدثني كريم الدولة بن شرارة النصراني وكان مستوفي دار حلب يومئذ أنه عمل ارتفاع سنة تسع وستمائة في الأيام الظاهرية ، دون البلاد الخارجية عنها والضياع والأعمال ، فبلغ ستة آلاف وتسعمائة ألف وأربعة وثمانين ألفا وخمسمائة درهم قال: ومما أحطت به علما في

٦٣

أيام الملك الناصر أن ارتفاعها على القاعدة في الارتفاع في آخر دولته ستة وأربعين صنفا وسطر المجموع ب ٠٠٠ ، ٣٠٥ ، ٧ درهم ، وكان مسافة ما بيد مالك حلب في أيامه وهو الملك العزيز محمد بن الملك الظاهر غازي من المشرق إلى المغرب مسيرة خسة أيام ومن الجنوب إلى الشمال مثل ذلك وفيها ثمانمائة ونيف وعشرون قرية ملك لأهلها ليس للسلطان فيها إلا مقاطعات يسيرة ونحو مائتي قرية ونيف مشتركة بين الرعية والسلطان. وهو جملة أخرى كثيرة ثم يرتفع بعد ذلك كله من فضلات الإقطاعات الخاصة بالسلطان من سائر الجبايات إلى قلعتها عنبا وحبوبا ما يقارب في كل يوم عشرة آلاف درهم ، وقد ارتفع في سنة (٦٢٥) من جهة واحدة وهي دار الزكاة التي تجبى فيها العشور من الفرنج والزكاة من المسلمين وحق البيع سبعمائة ألف درهم.

الضرائب زمن الأتراك والشراكسة :

لما قبض الأتراك والشراكسة على زمام الأحكام في الشام في القرن السابع والثامن والتاسع كانت المكوس كثيرة جدا وزادوها هم وتفننوا في ضروبها حتى صعب إحصاؤها وحفظها ، ومنهم من أبطلوها وأحسنوا لأنفسهم ولرعاياهم وأبطل الملك الظاهر بييرس سنة (٦٦٥) ضمان الحشيشة وأمر بإحراقها. وقد أبطل الظاهر برقوق في جملة ما أبطل من المظالم والمكوس في الشام ضمان المغاني أي المغنين والمغنيات في الكرك والشوبك. وضمان المغاني كان معروفا في مصر فأبطل سنة (٧٧٨) زمن الأشرف قلاوون أبطله من جميع أعمال مملكته وكان عبارة عن مال كثير مقرر على المغاني من رجال ونساء يؤدونه كل سنة إلى الخزانة. وأبطل الناصر قلاوون ضمان المغاني أيضا وهو عبارة عن أخذ مال من النساء البغايا، وكان يتحصل من ذلك جملة كثيرة من المال. وكانت مراسيم المماليك تصدر الحين بعد الآخر بإبطال بعض الرسوم والضرائب ، ولكن مع هذا تجد من الأمراء من كانوا يصادرون على ملايين من الدنانير ، دع سائر أسباب الثروة من ناطق وصامت. وقد كان الملك المؤيد شيخ كثير المصادرات للرعية ، وهو الذي قطع دابر النواب العصاة الذين أخربوا غالب الديار الشامية ، وأحدث في أيامه أشياء كثيرة من أبواب

٦٤

المظالم لما كان يخرج إلى التجاريد. والخروج إلى التجاريد أو الحملات كان من جملة الأسباب التي تتهيأ لملوك الشراكسة ليسلبوا الناس أموالهم ولا تكلف التجريدة أقل من نصف مليون دينار. فاذا جرد السلطان في حياته عشرين تجريدة كان المصروف من ذلك في هذه السبيل عشرة ملايين تصل إلى خزانة السلطان حتى يجبى مثلها من الرعايا المساكين.

وفي سنة سبعمائة استخرجت الحكومة مالا عظيما من جليع الأملاك والأوقاف بدمشق وظاهرها وأخذوا من الغوطة من كل قرية تكثر أموالها ثلث ضمانها وأخذوا من القرى التي لزراعة القمح والشعير والقطن والحبوب على نسبة مغل سنة ثمان وتسعين وستمائة ، فعظم ذلك على الناس وهرب خلق كثير واستخفى جماعة ، والذين وقعوا بأيديهم قطعوا أشجار الباقين وأباعوها حطبا بحيث أباعوا القنطار الدمشقي بثلاثة دراهم. فكان خراب الغوطة بهذا السبب ، ومن شدة الطلب وكثرة الظلم والجور.

في سنة ٧٠٢ سامح الناصر قلاوون بالبواقي في ذمم الجند والرعايا بالشام وصدر بذلك منشور بخط العلامة كمال الدين محمد الزملكاني من انشائه وقريء على المنبر بالجامع الأموي وجملة ذلك من الدراهم ألف ألف وسبعمائة ألف وسبعة وأربعون ألفا ومائة وخمسون درهما ومن الغلال المنوعة تسعة آلاف وأربعمائة واثنتان وأربعون غرارة ومن الحبوب مائتان وثمان وعشرون غرارة ومن الغنم خمسمائة رأس ومن الفولاذ ستمائة وثمانية أرطال ومن الزيت ألفان وثلاثمائة رطل ومن حب الرمان ألف وستمائة رطل. وفي سنة ٧١٧ سومح بمكوس على جهات مستحقة من المحاكم الطرابلسية وابطال المنكرات ومنها بيع الخمور جهارا.

وفي سنة ٧١٤ أمر الملك المؤيد صاحب حماة جميع نوابه أن لا يقبل أحد حماية لأحد، بل الكل متساوون في الحقوق ودفع ما عليهم ، وذلك لأن الاسماعيليين كانوا في مصياف لا يدفعون لسلفه أموالا بدعوى الحماية فأخذت الأموال من الجميع. وفي سنة ٧٢٤ برزت المراسيم الشريفة إلى نائب حلب بأن يروك البلاد الحلبية أي يمسحها ويعين عليها مالا كما فعل

٦٥

في الأقاليم الشامية فراكوا جميع الديار الحلبية والشامية وأبطل في هذه السنة مكوس الغلة ، وكان مبلغا عظيما يؤخذ من ثمن الغرارة ثلاثة دراهم ونصف.

ومن جملة ما أبطلوه في أدوار مختلفة من الرسوم ، وهو ما نورده مثالا من حالة تلك الأيام ، ما أبطله برقوق مما كان متقررا على البردارية في كل شهر من المال ، وما كان يأخذه السماسرة على الغلال والكيالة ، وما كان مقررا لنائب طرابلس عندما يتولى على كل قاض من قضاة البر والولاة بغلة أو ثمنها خمسمائة درهم. وأبطل المنصور قلاوون من جملة ما أبطل من المظالم وظيفة ناظر الزكاة ، وهو أن يؤخذ ممن عنده مال زكاته ، فإن مات الرجل صاحب المال أو عدم ماله يبقى ذلك القدر المقرر عليه في الدفاتر ، يؤخذ من أولاده أو من ورثته أو من أقاربه ولو بقي منهم واحد. وفي سنة ٧٦٥ صدر مرسوم عن نائب المملكة الطرابلسية إلى نائب حصن الأكراد بإبطال ما أحدث في الحصن من الخمارة والفواحش وإلزام أهل الذمة بما أجرى عليه أحكامه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. وفي سنة (٧٩٦) أبطل نائب السلطنة بالقدس المكوس والمظالم والرسوم التي أحدثها قبله النواب ، ونقش بذلك رخامة ألصقت على باب الصخرة ، وأبطل الأشرف صلاح الدين ما كان يؤخذ على كل حمل يدخل باب الجابية بدمشق من القمح خمسة دراهم من المكس ، وأبطل المكوس والضرائب عن سائر أصناف الغلة بجميع الشام.

وتجد إلى اليوم على السواري الأربع القائمة في مدخل جامع بني أمية بدمشق من الغرب أربع وثائق في إبطال المكوس كتبت كل وثيقة على سارية. تاريخ الأولى سنة (٨٦٣) على عهد قايتباي الحمزاوي كافل الممالك الشامية أبطل بها الرسم المقرر على الأسواق والطواحين وغيرها من المكوس بدمشق. والثانية كتبت سنة (٨١٥) وهي مما أمر به الظاهر جقمق بإبطال المكوس على الأقمشة الحمصية وفرع الأردية وفرع القطن وغيرها. والثالثة بتاريخ سنة (٨٥٢) تقول بإنه ورد مرسوم الظاهر جقمق بإبطال بعض المكوس ومنها التمر والعفص والسمك البوري والحنا والقماش المصري والرابعة فيها ذكر القلي والخروع والقلقاس وجلود الجاموس والماعز.

٦٦

وكانت العادة أن تنقش على الرخام صورة الأمر الصادر من الملك في رفع مثل هذه المظالم ، فقد نقش الظاهر ططر رخامة وألصقها على باب الجامع الأموي بدمشق بإبطال ما كان لنائب الشام على المحتسب في كل سنة ، وكذلك أبطل في القدس ما كان يجبى لنائب القدس في كل سنة من المال ، ونقش ذلك على رخامة وألصقها بباب الجامع الأقصى. وفي سنة (٧٤٦) كتب على باب قلعة حلب وغيرها من القلاع ما مضمونه : مسامحة الجند بما كان يؤخذ منهم لبيت المال بعد وفاة الجندي وذلك أحد عشر يوما وبعض يوم في كل سنة ، وهذه مسامحة بمال عظيم ، وكتب بالمسامحة بمثل ذلك على حائط قلعة طرابلس ، وهذا التفاوت أيام الدوران ما بين السنين الشمسية والقمرية.

وكثيرا ما كان يصدر الأمر في زمن الشراكسة بجمع الذهب إذا قلّ أو الفضة وتسليمها إلى الملك ليضرب بها سكة ونقودا ، وكثر في أيامهم غش الفضة حتى كان سعر الدرهم ينزل كثيرا ، ويصاب الناس في الشام ومصر بخسائر فادحة ، وكثيرا ما كانوا يخسرون ثلث أموالهم لأن بعض ملوكهم كانوا يغشون الفضة وينزلون عيار الذهب ، فكانت المصيبة بالفضة والذهب لعهدهم كالمصيبة بالأوراق النقدية لعهدنا ، كل يوم في ارتفاع وانخفاض.

كانت أيام الشراكسة فريدة بثروة عمالها ، والغالب أن الواحد منهم كان يأخذ رزق ألوف ولكن الثروة كانت شيئا كثيرا في تلك الأيام محصورة في الأفراد.

وكانت المكوس على البضائع الصادرة والواردة تؤخذ في الحدود بين الشام والروم ، وكثيرا ما كان الروم إذا قويت شوكتهم في الشام يقيمون في حلب رجلا منهم لأخذ مكس البضائع كما جرى في القرن الرابع. وكان للصليبيين في الحروب الصليبية على المسلمين ضريبة يؤدونها في بلادهم ، وتجار النصارى يؤدون في أرض المسلمين على سلعهم ، وكانت تؤخذ ضرائب الصادرات والواردات ببيروت ، وهي جملة مستكثرة ، وكان على باب الميناء دواوين وعامل وناظر ومشارف وشادّ ، يوليهم نائب دمشق والمتوفر

٦٧

عن المرتبات يحمل إليها ، ولم يذكر المؤرخون مقدار هذه الضرائب.

في سنة (٨٢٤) أمر الناصر بإبطال مكس القمح ببلاد الشام كلها وكان يؤخذ على كل إردب ثلاثة دراهم وكان المتحصل عن ذلك في كل سنة ألف ألف ومائتي ألف درهم نقرة وأزيد. ونودي في المحرم سنة (٨٣٧) بمرسوم السلطان بأن يبطل طرح السكر وأن ينقش ذلك في الجامع الأموي والقلعة ودار السعادة قال الأسدي : فنقش ذلك وعلى الظن الغالب أنهم لا يفون بذلك لما علم من عادة السلطان. وترى إلى اليوم في جامع حلب الكبير عدة سوار في إلغاء الرسوم فالسارية الأولى كتب عليها إن الملك دمرداش أبطل سنة (٨١١) مكس البيض من المملكة الحلبية. الثانية أبطل فيها الملك جقمق سنة (٨٥٢) ما كان يؤخذ ظلما من الدلالين في سوق الحراج. الثالثة في سنة (٨٤٦) بإبطال الظاهر جقمق مكس الكتان. الرابعة سنة (٨٤٦) بإبطال ما كان يؤخذ من أهل سرمين. الخامسة بتاريخ سنة (٨٥٧) بإبطال مكس الزيتون من قرى عزاز. السادسة سنة (٨٦٤) بإبطال ما تجدد على المصبغة بقلعة القصير عن كل خابية عشرة دراهم ، وأن لا يؤخذ سوى درهم واحد عن كل خابية. وغيرها بإبطال مكس السلاح في سوق السلاح ، ومنها ما كتب سنة (٨٨٢) بإبطال مكس الملح الداخل مدينة حلب ، ومنها بإبطال ما على الدباغين بدير كوش من المكس ، ومنها ما صدر سنة (٨٩٣) بإبطال ما كان يأخذ ناظر الحنة من سوق الحناوية ، ومنها ما صدر سنة (٩٠٢) بإبطال ما كان يؤخذ من مكس القطن ، ومنها ما صدر سنة (٩٠٢) بإبطال مكس المسك والزعفران ومنها بإبطال مكس السماق ، ومنها إبطال ما هو معين عن ختم القماش العراقي والدمشقي والقدسي. ومعظم هذه الأوامر مسطورة على الأعمدة مشفوعة بجملة ملعون بن ملعون من جددها أو أعادها إلى غير ذلك ، ومنها كان الله ورسوله خصمه يوم القيامة.

والظاهر أن الرسوم في طرابلس لا يجبى مثلها في حمص ، وما كان في القدس لا عهد لحلب به ، وما في دمشق لا مثيل له في المدن الأخرى. ففي مدخل جامع طرابلس أمر بإبطال المظالم المحدثات على أهل طرابلس من التحجير على قوت العباد من القمح واللحم والخبز والفراخ وغير ذلك ،

٦٨

وذلك في أيام أبي النصر شيخ سنة (٨١٧) وفي مدخل هذا الجامع أمر من صاحب طرابلس بإبطال منع استيفاء رسم الدخان ، وما يستأديه من يكون متكلما في ديوان الحجوبية الكبرى وأستاددارية الديوان الشريف من سكر وخل وغير ذلك ، ومن طرح الصابون والزيت والبلس (البوتاس) ومن جميع ما يحدث من ديوان النيابة والديوان الشريف وغيرها ومن جميع الكلف والمخادم الجارية بها العادة قديما والحادثة مستقبلا ، وعلى حائط مدرسة الشمسية أمر كتب سنة (٨٢٦) بإبطال الأشرف برسباي ما على البلاد الطرابلسية من الخيل بالبريد ورسم الأشرف بإبطال التحكير بالخانات والمكوس على الحطب والتبن وغيره وجهر بالنداء بذلك بدمشق بالجامع الأموي ونقش به رخامة. وأبطل المقر السيفي نائب السلطنة بحمص سنة (٨٤٤) جميع ما أحدث في حمص من ظلامات الحرير والصوف والبر والخبز والزيت وكتب على باب جامع سيدنا خالد بن الوليد وصية بذلك وفيها اسم السلطان جقمق.

وفي سنة (٨٤٦) سومح عوام القدموس بما على أنوال الحياكة وخراج الكروم مسامحة مستمرة على الدوام ونقش رخامة على حائط الجامع الكبير. وفي سنة (٨٥١) أبطل ما تجدد على عوام القدموس والكهف والمينقة والعليقة والخوابي من الثياب الخام ودورة الأستاددار. وفي سنة (٨٥١) أبطل الظاهر المظالم من القدس ونقش بذلك بلاطة وألصقت بحائط المسجد الغربي عند باب السلسلة وأبطل الظاهر خشقدم المظالم من القدس ونقش بذلك رخامتين وجهزهما إلى القدس وألصقتا بحائط المسجد الأقصى (توفي سنة ٨٧٢).

وفي مدرسة طرابلس رسم بإبطال ما على النحيرة (المسلخ) بطرابلس من الموجب لديوان النيابة وقدره في كل يوم ثمانون درهما ، وبإبطال معلوم كتابة السر أحد وعشرون درهما، ومعلوم الحجوبية ثلاثة عشر درهما وفي حائط تلك المدرسة أيضا كتابة بتاريخ (٨٨٨) بإبطال المظالم وهي الطروحات التي كانت تطرح على التجار والمتسببين بمدينة طرابلس وذلك عن الصابون والكرم والزيت وغير ذلك. وفي سنة (٨٨٨) أبطل مكس الدواليب والحرير والقصابة بالكهف والقدموس وأبطل مكس نحيرة البقر والجاموس وقطع الضأن وقرم الأساكفة بالقدموس والخوابي وعلى ذلك الحائط كتب سنة

٦٩

(٩٠٩) بإبطال المظالم والحوادث عن فلاحي الوقف وأن لا يكرّبوا فلاحي الوقف إلا الجزية الشرعية والمال المقرر وفي سنة (٨٢١) أبطل ضمان المكس بسوق العطارين بطرابلس وكتب على حائط مدرسة الرفاعية سنة (٨٧٠) أن لا يؤخذ من تجار حماة وغيرها من السمسرة والترجمة إلا ما جرت به العادة القديمة وهي على الألف عشرة دراهم لا غير وأن لا يتناول الأجرة إلا من باشر العمل بنفسه من أبناء السبيل ، ومنع النصارى من الترجمة والسمسرة ، وأن لا يؤخذ شيء ممن باع سلعته بغير دلال. وألغى الغوري المكس عن حاكة حمص.

تفنن الشراكسة في اقتضاء الأموال :

وبذلك رأينا أن إلغاء المظالم والمغارم كان على أشده في آخر أيام الشراكسة وكان من أسوإ ملوكهم شعبان ، قال المؤرخون فيه : إنه كان متطلعا إلى جمع المال وفتح باب قبول البدل في الإقطاعات والوظائف وجعل لذلك ديوانا قائما بالذات وكان يعين البدل في المناشير وهو مبلغ ثلاثمائة درهم فما فوقها. والخلاصة فإن الشراكسة تفننوا في طرح المكوس. ومن غريبها في أيامهم مكس القرعان وذلك أن شخصا من المماليك الشراكسة كشف رأسه في سنة (٨٣٠) بين يدي السلطان فإذا هو أقرع فضحك منه السلطان فقال ذلك المملوك : اجعلني والي القرعان يا مولانا السلطان ، فأجابه السلطان إلى ذلك وأخرج له مرسوم سلطاني له وأن يكون شيخ القرعان وخلع عليه خلعة فصار يدور في الأسواق والحارات ويكشف رؤوس الناس ، فمن وجده أقرع يأخذ منه دينارا حتى أعيان الناس فضج الناس منه وشكوه للسلطان فضحك ونادى بالأمان للقرعان وأن كل شيء على حاله ، وكسب ذلك الرجل في هذه الحركة مالا عظيما.

قال الأسدي : ويكشف في كل سنة مقدار الارتفاع ومقدار المصروف ومهما توفر بعد ذلك رفع علمه للمسامع الشريفة فيرفع منه ما يرفع محمولا للخزائن الشريفة بالديار المصرية ، ويرفع منه ما يدخر في القلاع الحصينة لما يحتاج إليه عند حوادث الزمان. وكان يتحصل من كل مملكة من المال

٧٠

(أي من ممالك الشام) ما يوفي بمصروف ذلك العمل ، ويبقى من بعد ذلك ما يرفع للمصالح عند الاحتياج إليها.

الأموال أوائل العهد العثماني :

وأمّلت الأمة بدخولها في حوزة الترك العثمانيين ، أن ترى أيام رغد وسعادة ، لأنها دولة جديدة تتحامى ما أمكن الأغلاط التي وقعت فيها الحكومة قبلها ، ولكن جاء الأمر على العكس من ذلك على ما تراه. لما فتح سليم العثماني الشام ومصر قال وقد ملأ خزائنه من أموال الشراكسة بعد أن كان في ضائقة شديدة اضطر معها إلى الاستدانة من بعض التجار : إني ملأت الأنابير بالذهب ، وكل من يستطيع من أخلافي أن يملأها دراهم فليختم عليها بطابعه ، وإلا فتبقى الخزينة السلطانية مختومة بطابعي.

وجعل السلطان سليم على دمشق مالا معينا قال ابن طولون : قيل قدره مائتا ألف دينار وثلاثون ألف دينار. وذكر النجم الغزي أن هذا السلطان تفنن في ضرب المكوس ومن جملتها المكس على المومسات فتأسف العقلاء وأكبر الأمر أهل الدين والورع. وكان خراج إيالة الشام كله يعطى للمرأة السابعة من نساء السلطان إبراهيم وكان الجابي يأتي دمشق فيجبيها بنفسه ، لأن نساء القصر لم يكنّ يأمنّ أحدا من الولاة والمتصرفين على جبايتها من الأمة. فتأمل إيالة بل مملكة كهذه تعطى جبايتها لامرأة واحدة من نساء القصر تنفقها على زينتها وأزيائها.

الخراج والعثمانيين :

وذكر مؤلفو الترك أن إقطاع الشام كله كان مسانهة مليون اقجة (١)

__________________

(١) كل ثلاث اقجات بارة وكل ٤٠ بارة قرش والكيس خمسمائة قرش ذهبا أو فضة. وذكر لا منس أن القرش كان يساوي في القرن الثامن عشر في الشام نحو خمسة فرنكات وفي منتخبات الجوائب أن نقود الدولة العثمانية كانت قبل القرن الحادي عشر للهجرة من صنف الدوكات المنسوبة إلى البندقية التي كانت مملكة عظيمة مستقلة وكان وزن كل مائة دوكات ذهبا ١١٠ دراهم أما نقود الفضة فكانت من صنف الريال الجرماني الذي كان يجلب من المانيا وكان وزنه تسعة دراهم وقيمته ٨٠ اقجة. وأول من استعمل الاقجة السلطان بايزيد الأول وذلك ـ

٧١

ولأمير لوائها من مئتين إلى ثلاثمائة ألف اقجه وفيها ١٢٨ زعامة و ٨٦٦ إقطاعا وعدد جندها ٢٦٠٠ من الفرسان. وكانت إيالة طرابلس وارتفاعها السنوي خمسة يوكات (١) ولديوان الخاص من ٢١٠ إلى ٣٩٠ ألف اقجه وحاميتها من الفرسان ١٤٠٠ وإيالة حلب وخراجها ثمانمائة وسبعة عشر ألف اقجه وديوانها الخاص يرتفع من ٢٠٠ إلى ٥٠٠ ألف اقجه وفي هذه الإيالة ١٠٤ زعامات و ٧٩٩ إقطاعا وحاميتها ٢٥٠٠ فارس يخرج منها عشرة يوكات كان يدفعها أولاد رمضان حكام أذنة. وكانت الدولة تستوفي نصف إيراد الشام على عهد سليمان الأول أعني في سنة (٩٩٩ ه‍ ١٥٥٣ م) ٠٠٠ ، ٢٠٠ دوكا والدوكا عشر اقجات والبارة ثلاث اقجات وتصرف الباقي على محافظة البلاد.

وما برحت الحال المالية في هذه الديار في إدبار ، وهي تبع للوالي الذي يتولى زمام الحكم. فقد ذكروا أن والي الشام رفع في سنة (٩٩٤) المظالم وأبطل المكوس الزائدة ، فأبطل مكس الخمارات ، وكان هذا المكس لكل من كان حاكما على الشام ، ثم أبطل اليسق من باب صاحب الشحنة. واليسق كبير الإنكشارية يلتزم هذه الوظيفة بمال كبير يدفعه للآغا وللباشا ويكون في باب صاحب الشحنة ، يقطع الجرائم ، ويدفع المال عن أربابه ، يربح دينارا عثمانيا كل يوم ، فإذا كانت الجريمة خمسين دينارا مثلا دفعها عمن ألزم بها ، وله ربحها في كل يوم خمسون عثمانيا ، فإذا بقيت عليه أياما حتى يسعى في تحصيلها تضاعفت عليه ، حتى لا يقدر على الوفاء والتخلص منها ، فإن كان له أسباب أو عقار أو وقف أو غير ذلك باعها أو ملّكها لذلك اليسق كيفما أراد ، فأدى ذلك إلى تمول الإنكشارية وتملكهم كثيرا من الأملاك ، وأبطل اليسق من باب القاضي ، ورتبت الإنكشارية مالا على البضائع المجلوبة ، وأبطلت المكوس التي كانت تؤخذ على اللبن الداخل إلى دمشق وعلى الموازين.

__________________

ـ في سنة (٧٩٢ ه‍ ١٣٩٠ م) أما استعمال البارة فاشتهر في سنة (١٠٦٦ ه‍) وفي سنة (١٠٩١) قر الرأي أن كل ٤٠ بارة تحسب قرشا وكانت البارة تساوي ثلاث اقجات.

(١) اليوك : مبلغ خمسمائة ألف قرش.

٧٢

وفي سنة (١٠٠٤) طالبت الحكومة الرعايا بعوارض سنتين جديدة وعتيقة ، وطالبوا الإسرائيليين بمال عظيم. وكثيرا ما كانت الحكومة تطلب المال قبل استحقاقه ، وتسلب أموال الصيارف والمرابين ، بحجة الاستدانة منهم ، وحدث أن بعض الأمراء والملوك صادروا النصارى واليهود خاصة كما فعل الملك الأشرف قايتباي فصادرهم مرتين في أيامه. وغرّم أحمد حافظ باشا سنة (١٠١٨) كافل الشام أموالا طائلة ، وصادر جماعات في دمشق وأخذ أموالا منهم بغير حق ، وكانت المصادرة عامة تتناول من كان في صندوقه مال أيا كان مذهبه.

وفي سنة (١٠٠٨) تولى محمد باشا ولاية دمشق وأمر بتغيير المعاملة فيها ، وجعل كل سلطاني بثمانين قطعة جديدة ، زنة كل قطعة قيراطان ونصف قيراط ، وهبطت الأسعار وحصل الرخاء وكان الأمير بشير الشهابي في لبنان كالأمير فخر الدين المعني يحب البذخ ، وقد ضاعف خراج لبنان أربعة أضعاف.

وفي كتاب صادر عن أحمد بن محمد المولى بنابلس سنة (١٠٣٠) أن يتصرف المستحفظ بمدينة نابلس ولوائها في جميع متحصلات القرى والخرب الكائنة بالجبل القبلي والشامي وبني صعب والقرى والخرب المقاطع عليه سابقا ، من شتوي وصيفي وزيتون وخرنوب وعداد ورجالية وخراج وأعشار وأغفار وسائر المتحصلات الشرعية والعرفية العائد جميع ذلك للخزينة العامرة بدمشق الشام على الأمانة وأن يتحضر للخزينة العامرة سبعة آلاف سلطانيا ذهبا.

وفي سنة (١٠٣٥) طلب المال من الأمير يونس الحرفوشي أمين بعلبك عن سنة (١٠٣٣ و ١٠٣٤) فقال : إن المطلوب من مقاطعة بعلبك عشرة آلاف سكة حسنة ، وأنه لا يستطيع ضمانها إلا بعشرة آلاف قرش فبالنظر لأداء نفقات الحج الشريف ومال العلوفة أعطيت له المقاطعة بعشرة آلاف قرش عن سنة ٣٤ ولكن لم يتحصل منها سوى سبعة آلاف قرش. أما سنة ٣٣ فلا يمكن تحصيل شيء منها لأن ابن معن خرب تلك الولاية كما يؤخذ من السجلات الرسمية في تلك الأيام.

٧٣

تفنن الجزار في أخذ المال وطريقة العثمانيين :

وهكذا انقضى القرن الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر في سلسلة مغارم ومظالم ، فقد تولى أحمد باشا الجزار دمشق سنة (١٢٠٠) ولم يرتح شهرا واحدا من طلب المال ظلما ، ومن طرح النقود وطرح البضائع المتنوعة ، ينهبها من جهات ويطرحها على أخرى بأسعار زائدة. ومن مظالمه أنه إذا وجد قتيل في أحد الأنهار يلحقون جميع القرى التي تشرب من ذاك النهر ، ويأخذون منهم مالا غزيرا ، وكان لا عمل له إلا القبض على الأغنياء ومصادرتهم على أبشع صورة فصدق فيه قول الشاعر :

قد بلينا بأمير

ظلم الناس وسبّح

فهو كالجزار فيهم

يذكر الله ويذبح

قال ابن آق بيق في حوادث سنة : (١٢١٧) شغل الشام بالظلم وإكرامية الباشا ، واشتغل حسن آغا بالظلم في دمشق وإرهاق القرى بالطروحة والإكراميات وإقراض الذخائر ومعاونة الجردة وغير ذلك من المظالم التي لم يسمع لها أثر في السابق.

وقال ابن عابدين : إن غالب الغرامات الواردة على القرى في هذا الزمان (أي في أوائل القرن الثالث عشر) ليس لحفظ أملاك ، ولا لحفظ أبدان ، وإنما هي مجرد ظلم وعدوان ، فإن غالب مصارف الوالي وأتباعه ، وعمارات منزله ومنزل عساكره ، وما يدفعه إلى رسل السلطان الواردين بأوامر ونواه وأمثال ذلك كله يأخذه من القرى ويسمون ذلك بالذخيرة ، تؤخذ في بلادنا في السنة مرتين ، ويزيد فيها دراهم كثيرة رشوة لأعوانه وحواشيه من أعيان البلدة ، وقد جرت العادة بقسمة ذلك كله على عدد فدن القرية ، وتارة يقسمونه على مقدار حق الشرب بالساعات الرملية ، فمن كان له فدان مثلا يؤخذ منه ما يخصه أو من له ساعة يؤخذ منه ما يخصه سواء كان رجلا أو امرأة أو صبيا ، وكذا يجعلون منها على رقاب الرجال الساكنين في القرية الذين لا ملك لهم فيها.

ومما اخترعه العثمانيون «الزعامة» وهي عبارة عن قرى يقطعها من

٧٤

يعطاها وتخمن على الأقل بعشرين ألف درهم عثماني كل سنة ، واخترعوا «العوارض» وهي مظلمة سلطانية تؤخذ من البيوت في الشام في كل سنة. ويقال : إنها من محدثات الظاهر بيبرس أشار إليها الأكرمي بقوله :

لحا الله أيام العوارض إنها

هموم لرؤياها تشيب العوارض

يضيق لها صدري وإني لشاعر

ضليع وبيتي ما عليه عوارض

قلنا : وهذا من جملة الدواعي التي انتقلت بها في القرن الماضي قرى ومزارع كثيرة في سهول الشام وجباله إلى أرباب النفوذ ، فخرج أهلها عن ملكها ، ورضوا بالاستعباد على أن يكونوا أحرارا مالكين. وذلك فرارا من ظلم الحكومة وتخلصا من الضرائب الثقيلة التي لا تتحملها نفس بشرية. ولطالما قصّ الشيوخ علينا قصة الطبلة يوم تدق في قريتهم ، ويجيء أعوان الظلمة لأخذ المظالم من أهلها ، وكان الأمراء إذا خرجت لأخذ الصدقة تضرب الطبول عادة لهم قديمة.

الجباية على عهد المصريين والمقابلة بين طريقتهم وطريقة العثمانيين :

كان الأجنبي في حكم إبراهيم باشا المصري يعطي رسوم جمارك وضرائب أقل مما يدفع الوطني. ولذلك اضطر بعض التجار إلى ابتياع حماية الأجانب حتى يستطيعوا أن يتجروا ، كتب اللورد دوفرين إلى حكومته سنة (١٨٦٠) يقول : في مقدمة أسباب ضعف الإدارة العثمانية في الشام ، أن الباب العالي كان يعتبر هذه الولاية منذ بضع سنوات كإيالة أجنبية يقتضي الانتفاع منها ما أمكن ، ولذلك طرح منصبها في المزاد ولم يول عليها إلا الزائد الأخير. ومن الطبيعي أن كل وال جديد لم يكن يفكر إلا في تعويض ما دفعه من المال ، وبجمع الثروة فيسلب أهالي ولايته لدن وصوله ، مبتزا منهم الأموال ومثقلا كاهلهم بالضرائب الجديدة. وبعد أن ذكر كيف كان الوالي يرشي جماعة الإستانة لتستقيم له الولاية مدة ، يواصل فيها استنزاف الأموال وإملاء جيوبهم بها قال : فنشأ عن ذلك مظالم لا تطاق ، وابتزاز أموال لا تحصى ، وتعاقب على الإيالة ولاة غير أكفاء للمنصب ، جائرون مرتشون طماعون في جمع المال ، لا تشبع بطونهم ، خالون من أدنى اهتمام بالمصلحة العامة اه.

٧٥

تبدلت الأوضاع الإدارية في هذا القطر مرات على عهد العثمانيين وفي سنة (١٢٧٢ ه‍) كانت تقسم إلى إيالتين إيالة دمشق وإيالة صيدا ، ودخل الأولى التي هي عبارة عن دمشق ومرج الغوطة ووادي العجم ووادي بردى وجبل قلمون وحماة وحمص وبعلبك ومعرة النعمان وعجلون والبقاع وحاصبيا وراشيا وحوران وجبل الدروز وحصن الأكراد والقنيطرة وايكي قبولي ، من الخراج والأعشار والبدل العسكري والرسوم المختلفة ٨٠٥ ، ٤١ أكياس يضاف إليها ٩٠٠ كيس كانت تدفعها الخزينة إلى الأوقاف وذلك عدا ما كان يؤخذ من حماة وحوران وحمص وجبل الدروز وحصن الأكراد ومعرة النعمان وعجلون عينا من الأعشار والرسوم ، وهو ٧٥٩ ، ١٨ إردبا من القمح و ٨٨٤ ، ٢٥ إردبا من الشعير و ٩٥١ من الذرة ٣٩٣ ، ١٣ اوقة سمن و ٣٢٠ اوقة حرير و ١٣٠٠ رأس غنم. وكان دخل إيالة صيدا وقائم مقاميتي لبنان الدرزية والمسيحية ويدخل فيها بيروت وطرابلس واللاذقية ونابلس وعكا وحيفا وساحل عتليت والأقضية الشمسية ١٥٤ ، ٣١ كيسا ما عدا المستوفى عينا من القمح والشعير والذرة والكرسنة والسمسم والعدس والسمن والزيت والفيالج والقطن. وكان مجموع دخل إيالة دمشق ١٨٥ ألف ليرة على ذاك العهد وإيالة صيدا ٥٠ ألفا وكان لبنان يؤدي للدولة سنويا ٣٥٠٠ كيس جزية وخراجا.

رأي إنكليزي في إعنات البلاد بالضرائب :

كتب المستر برانت قنصل إنكلترا في دمشق إلى سفير دولته في الإستانة عن حالة إيالة دمشق في ١٤ حزيران (١٨٥٨) من كتاب ما يأتي : «إن الضرائب كانت باهظة على عهد الحكومة المصرية ، على أن استتباب الأمن وعدم بخل الحكومة على الشعب كانا يكفيان لإقناعه أن في وسعه تحمل وقرها دون أن يرزح تحتها ، وكان الدخل يدار بنزاهة واقتصاد ولدى الحكومة المصرية جيش وافر العدد وتقوم بكل نفقات إدارة الإيالة المتوقع ازديادها تدريجا ، أما حالة اليوم (أي على عهد الحكم التركي) فهي على عكس ما تقدم من

٧٦

جميع الوجوه فالضرائب عبء ثقيل لا يطاق (١) مع أنها أقل من قبل والأمن مفقود ، والدخل يقلّ كل يوم لإهمال القرويين حراثة الأرضين ، وكل ما يتم جمعه ينفقه بإسراف أو يسرقه الموظفون ، والأموال اللازمة لإدارة الحكومة تطلب من الإستانة ، وصار من الجلي أن المالية تزداد اختلالا وفساد الإدارة مستمر.

«كانت حكومة محمد علي فرضت على كل ذكر ساكن في المدينة ضريبة جديدة تدعى ضريبة الفردة تختلف بين ١٥ قرشا إلى ٥٠٠ قرش ، حسب حالة كل إنسان ، وكان مجموعها يبلغ عشرين ألف ليرة إنكليزية. ولما عاد الأتراك إلى البلاد لقوا مقاومة شديدة في جبايتها ، فأبدلوها بضريبة على البيوت تستوفى دون حدوث اضطراب كبير أو قتال ، على أن مجموعها لا يتجاوز العشرة آلاف ليرة إنكليزية ، وقد جرت بعض احتكارات ، وفرضت ضرائب جديدة على البنايات المحدثة ، للاستعاضة عن الدخل الذي أسرفوا به ، وكانت الحكومة المصرية تستوفي نحو ٥٥ ألف كيس ولا يتأخر لها بارة ، وهذا المبلغ يساوي ٢٧٥ ألف جنيه فهبط الدخل اليوم إلى ٣٥ ألف كيس قيمتها ١٤٣ ألفا وخمسمائة جنيه ، يجبى منها عشرة آلاف كيس ويبقى زهاء ٤١ ألف جنيه في ذمة الأهالي ، وهذه يتعذر جباية قسم منها.

رأي مدحت باشا في مظالمهم :

وأصرح من هذا ما كتبه مدحت باشا أيام كان واليا على الشام بتاريخ ١٧ آذار (١٢٩٥) شرقية من لائحة في سياسة الشام وأموالها ومما قاله : إن الأوامر التي تصدر من الإستانة إلى الشام محصورة في طلب المال والجند فقط ، وبذلك بطل العمل بالقانون والأصول المرعية ، وفتحت أبواب سوء الاستعمال وما عدا بعض الرجال من الموظفين أصبح كبار العمال وصغارهم لا يلتفتون

__________________

(١) قال بيريه : إن الضرائب التي وضعها إبراهيم باشا المصري على الشاميين كانت شديدة وما كان القوم يتحملونها لو لم يكونوا من عناصر وأديان مختلفة. قلنا : ومن حسنات إبراهيم باشا أنه أبطل الرشي والاصطناع وأبطل المصادرات وقرر حق التملك.

٧٧

إلى غير مصالحهم ، فطرأ على المعاملات خلل ، وبسوء تأثير ذلك فسدت أخلاق الناس ، وكثر القتل والنهب والغارة على الأموال والعروض في كل مكان ، واختل الأمن كل الاختلال. قال : وإذا ألقينا نظرة على واردات الدولة نرى الخراج والأموال قد نزل ارتفاعها إلى النصف ، وخرب القطر بالأعشار ، وقلّ البدل العسكري ، وحدّث ما شئت عن بلية «القائمة (١)» فمن أجل سقوط أسعارها نزلت الواردات في العام الماضي إلى النصف ، وبقي النصف الآخر في باب النفقات بدون تسديد.

وكلام مدحت باشا يشمل ولايتي سورية وبيروت لأن الولايتين في عهده كانتا ولاية واحدة فكلامه يتناول معظم سورية وفلسطين ، وبالطبع كانت فلسطين أقصى الجنوب وحلب في أقصى الشمال على هذه الصورة أو أشد ، لأن روح المملكة كان واحدا ، وهي «المركزية» الشديدة ، وكانت في الدور الذي سلف «لا مركزية» ولكنها أشبه بالفوضى. ولم تتغير الحالة المالية عن عهد مدحت باشا بل ظلت تعسة إلى رحيل الأتراك عن الشام ، وإن كانت الارتفاعات زادت في العقود الأربعة الأخيرة ، لانتشار الأمن في الجملة ، بتأسيس المحاكم النظامية التي قضت على الأشقياء بعض الشيء ، وكفت البادية عن العيث. بعد أن كانت تأتي لأخذ الخوّة من القرى القريبة من الحواضر ، ولزيادة النفوس بقلة الأوبئة وسد العجز المالي ، ولا سيما في الساحل بما أدخله المهاجرون إلى أميركا وغيرها من الشاميين ، فكانوا وما زالوا يحملون إلى هذه الديار أموالا تدخل في تحسين الزراعة والصناعة وتزاد بها الحركة التجارية. وكانت الدولة العثمانية كلما سلخت عنها الولايات النائية تزيد في مقدار الجباية والمظالم ، فالدخل ينقص على الدوام بسلخ الممالك من جسمها ، والخرج يزيد لأن أهل الإستانة عالة على أهل الولايات ، يشقى هؤلاء لينعم أولئك ، ويبنوا القصور ويتمتعوا بالحور والولدان.

الاشتطاط في الأعشار والقسط في الجباية :

ولم يكف الحكومة العثمانية زيادتها في العشور حتى بلغت ثلاثة عشر إلا

__________________

(١) الورق النقدي الذي أصدرته الدولة في حرب روسيا وكان سبب ابتزاز قسم عظيم من ثروة الأمة.

٧٨

ربعا في المئة ، تؤخذ من الحاصل والمحصول عدا ما يلحقها من ظلم الملتزمين والعشارين ، وهو قد يبلغ عشرين في المئة أو أكثر من ذلك في بعض الأنحاء ، ولم يكفها زيادة الأموال والضرائب الأخرى إلى ضعفين بل إلى أضعاف ما كانت قبل عشرين سنة ، بل زادت في العشر والخراج زيادة مهمة مدة الحرب العامة ، دع ما أحدثته من التكاليف الحربية واستلبته من أموال الفلاحين وعروضهم ومواشيهم ، ولو لا ارتفاع الأسعار ودخول ملايين من الليرات التي اقترضتها الدولة من ألمانيا لتنفقها على الجيش الذي جمعته وجلبته من القاصية ، لو لا ذلك لبقي عشرة في المئة فقط من قرى هذا القطر عامرا ، ولآضت الحال أتعس مما كانت قبل ستين أو سبعين سنة ، أيام كان الفلاحون لا يستطيعون زراعة أراضيهم لقلة الأيدي العاملة ، فيجلبون أناسا من العبيد يستخدمونهم في الحرث والكرث.

وبعد الحرب كثرت الجباية والمغارم خصوصا لقلة الذهب في الأيدي والاستعاضة عنه بالورق النقدي ، فزادت الجباية في بعض المحال أربعة أضعاف ، فعلت الشكوى ، وأخذت أسعار البياعات تعلو وتسفل في المدة القليلة ، والمقرر على الرعايا ينزل ويرتفع على تلك النسبة ، فتضرر الناس من هذا ، وكان البلاء في ذلك عامّا في كل بلد لم يستقر سعر ورقه المالي على وتيرة واحدة ، أو لم تواز قيمته قيمة الذهب ، واضطرت حكومات الشام إلى الإنفاق أكثر من قبل على صغار عمالها وكبارهم ، لئلا تترك لهم مجالا إلى الرّشى والتلاعب بحقوق المساكين والضعفاء ، وأن تقوم ببعض الأعمال اللازمة في الحكومات المتمدنة ، فانفرجت مسافة الخلف بين الدخل والخرج ثم تعادلا وأخذت الحكومة تفكر في إلغاء طريقة الأعشار والاستعاضة عنها بمال مقطوع وزادت الضرائب على العقارات بنسبة أجورها.

خراج الأرض والعقارات (١) :

هذه الضريبة من التكاليف غير الشرعية التي أحدثت أواخر أيام سلطنة بايزيد الثاني ، وكانت المرتبات التي تقطع على كل بلدة من البلدان توزع بمعرفة

__________________

(*) كتب هذا الفصل السيد رفيق الحسامي.

٧٩

لجنة مؤلفة من الوالي أو المتصرف أو المتسلم ورجال الشرع ووجوه البلدة وأعيانها يراعى فيها عدد النفوس الذكور ، أو الدور الموجودة في كل بلدة. وكان هذا التوزيع يسجل في المحاكم الشرعية ، وكان كل فرد يخضع لذلك التوزيع ، ويدفع ما يصيبه مرتاحا بحيث لا يبقى منه شيء في ذمم المكلفين. وقد دام الحال على هذا المنوال مدة أربعة أو خمسة عصور.

ولما تسرب الخلل إلى القوانين الموضوعة وأعلنت التنظيمات الخيرية ، كان من جملة الإصلاحات التي تذرع بها السلطان محمود وأقرها السلطان عبد المجيد تسجيل الأرضين والعقارات كافة في البلدان والقرى ، وذلك بتقدير قيم لها ، واستيفاء الضريبة على نسبة قيمتها. وكانت هذه الضريبة تجبى بمعرفة المختار في المدن والقرى (شيوخ الصلح أو شيوخ القرية). وهذا بموجب تذكرة إجمالية «طوب سركي» تدفع إلى المختار فيجبي ما يصيب كل شخص من المكلفين ، ويدفع المجبيّ في كل أسبوع أو خمسة عشر يوما أو شهر بحسب مقدار ما يجبى أو بحسب تعقيب الحكومة أو إهمالها.

ولما رأت الحكومة بأخرة أن بعض المختارين يتلاعبون بهذه الأموال ، وكثيرا ما كانوا يفرضون على الأهلين فرائض تربو على ما يصيبهم من التكاليف بدعوى النقص في الأموال حتى آضت الحال إلى تعذر الجبايات ـ منعت المختارين من معاملة الجباية وألفت لجانا خاصة ، وأنشأت ترسل لكل مكلف تذكرة باسمه يذكر فيها مقدار ما أصابه من الضريبة في كل سنة. وبها يجبي جابي الفرع المقيم به المكلف والذي يتأخر عن دفع دينه نجوما (تقاسيط) معينة تنذره رسميا حتى إذا لم يبادر في عشرة أيام من تاريخ تبليغه الإنذار إلى دفع ذمته ، تحجز أمواله المنقولة أو غير المنقولة فيما إذا لم يكن له أموال منقولة وإذا كان ممن لا يملك شيئا غيرها يحبس أحدا وتسعين يوما ، إذا ثبت اقتداره على الوفاء.

وفي سنة (١٩٢٥) أصدرت الدولة قانونا للجباية لم يخرج بجوهره عن النظام السابق إلا ما كان من الاكتفاء بحبس المدين شهرا واحدا بدلا من أحد وتسعين يوما على ما كان في النظام السابق إلى غير ذلك من العقود الشرعية التي لا علاقة لها بجوهر هذا النظام القديم ولا يزال التعامل جاريا على هذا النمط.

٨٠