خطط الشام - ج ٥

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٥

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩٦

١
٢

التاريخ المدني

الجيش

جيوش الأشوريين والفراعنة والعبرانيين :

لم تغلب القبائل الأولى التي كانت تسكن الشام على أمرها ، إلا يوم جاءها من أشور جيش منظم في الجملة أغار عليها واستصفى أرضها ، وإذا عرفنا أن الأشوريين عرفوا بسفك الدماء ، وأنهم طالما أسروا شعوبا برمتها ، وأنهم يعتقدون في ملوكهم الخلافة عن الله في الأرض كما كان الروس والعثمانيون يقولون بذلك إلى عهد قريب ـ ندرك مبلغهم من الطاعة، وأن الأرواح كانت نهب صاحب الشأن ، ينهبها كما يشاء ، ويصرفها في السبيل التي يراها. والدولة التي تستطيع أن تأسر أمة بأسرها ، تجيش جيشا يستميت في قيام أمرها ، ويطيع قواده طاعة عمياء.

كان الأشوريون أو الكلدان يغزون في فصل الربيع من كل عام ، وسلاحهم الرمح والسيف ، والترس ، والدرع ، والقوس والنشاب ، ولهم من أدوات النقل المركبات والعربات ، واخترعوا آلات لافتتاح المدن والقلاع. يقسمون جيوشهم ثلاث فرق ، فرقة المشاة وهم القواسة ، وفرقة الفرسان وهم الرماحة ، وفرقة راكبي العربات الحربية وهم حاملو السيوف والأتراس. وكانت الأوامر تصدر إلى القواد من الملك مباشرة ، وتبلغ إلى من يلزم على نظام غريب ، ولم يؤثر أن غلب الجيش الأشوري في وقعة واحدة.

٣

ومن هذا الجيش ذاقت الشام أيام استيلاء الأشوريين عليها القهر والذل.

وكان الفراعنة الذين امتد سلطانهم على بعض أرجاء القطر زمنا يجنّدون أحيانا من الشاميين ، ولكننا لا نعرف كيف كانوا يجندون ، وقد ظهرت نماذج من أنظمتهم الحربية عرفناها بما حفظ من آثارهم في المتحف المصري. وكانوا إلى العز أيام تماسك جيوشهم ، وإلى الذل إذا ضعف نظامهم في جنديتهم ، مثل أيام ملوك الرعاة المعروفين بالهيكسوس وهم العرب أو العمالقة.

واشتهر العبرانيون أولا أنهم أمة حربية ، وكان لكل سبط من أسباطهم حامية أو جيش صغير يدفع به عدوه ، وقد لا يكون من الأسباط الأخرى. ولذلك كان بأسهم بينهم على الأغلب ، فكان العبراني أسدا على نفسه وعلى أبناء جنسه ، ونعامة يوم يوافيه الغريب ، يؤثر أن يرأم للذلة ، على أن يرخص روحه في الذود عن حماه. وكان بقاء الشعب الإسرائيلي في التيه على عهد موسى الكليم سنين طويلة من الحكم التي قصد بها انقراض شيوخهم المستضعفين ، وتربية الشبان على الأخلاق الحربية ، فتجدد شباب هذه الأمة بهذه الرحلة الطويلة. ولما جاءت جيوش بخت نصر الفارسي وأدريانوس الروماني إلى فلسطين أذاقت أبناء إسرائيل الويلات ولم يغن عنهم ما جيّشوه من الجيوش ، ولا ما كتّبوه من كتائب.

جيش اليونان والرومان :

كانت جيوش الأمم القديمة كما هو الحال عند بعض الأمم الحديثة ولا سيما المستعمرة أخلاطا من الشعوب وأجيالا من الناس. والأمة التي يكون جيشها من عنصر واحد أو سواده الأعظم منه تكتب لها الغلبة على الأكثر ، ويكون نظامها أتم وتحمّسها في النيل من العدو أكثر ، وما نظنّ أن الجيش الذي جاء به الإسكندر المقدوني إلى هذه الديار وهو لا يتجاوز الثلاثين ألف راجل وأربعة آلاف وخمسمائة فارس ، إلا مؤلفا من عنصر واحد ، وهو الجيش الذي غلب الفرس على كثرة جيوشهم وقضى على دولتهم وسلطانهم وفتح الشرق القريب والأوسط.

٤

وكان جيش الإسكندر أحسن جيش عهد في اليونان ، ويتألف الجحفل اليوناني من ١٦ ألفا من الرجال مصفوفين ألوفا ألوفا ستة عشر صفا يحمل كل واحد منها رمحا طوله ستة أمتار ، وكان المقدونيون لا يسيرون في ساحة الوغى إلى جهة العدو ، بل يقفون ولا حراك بهم ، ويضربون عدوهم برماحهم من كل جانب ، فيرفع جنود المؤخرة رماحهم من فوق رؤوس الصفوف الأولى ، بحيث كان الجيش يشبه حيوانا عظيما قد انتصب وعليه الحديد ، والعدو يداهمه فيتحطم ، والجيش مؤلف على الأغلب من خيار فتيان الأشراف.

واشتهرت الجيوش الرومانية بشدّتها وحسن نظامها ، وما نظن رومية إلا أنها كانت تجند من أبناء هذه الديار كثيرا ، لأن الشام أنبغت عدة رجال غدوا أباطرة وقوادا في رومية ، فيستحيل ألّا يشترك أبناؤها في جنديتها ، وألّا تكون منهم الكتائب المنظمة والمتطوّعة أو المستأجرة على شروط معينة ، خصوصا والشام كانت ولاية رومانية. وكان يقضى على كل من يدخل الجيش الروماني أن يكون وطنيا رومانيا وأن يكون له مورد ثروة ليجهز نفسه بالسلاح ويأكل ويلبس ، ويعفى الفقراء من هذه الخدمة. وكان من له حق التجند تبعا لقائده من سن السابعة عشرة إلى السادسة والأربعين ، وكان كل فرد في رومية كما كان في المدن الرومانية وطنيا وجنديا معا ، ومتى احتاجت الدولة إلى الجند يصدر القنصل أمره إلى جميع الوطنيين فيأتون ويحلفون يمين الإخلاص والطاعة للقائد ، ويتعاهدون أن يقاتلوا دون أعلامهم ، ويحق للقائد أن يقتل جنديّه أو يبقي عليه ، فلا يستطيع جندي أن يفر من الزحف أو يتزحزح عن محله إلا بأمر قائده ، وسلاحهم الرماح والسيوف ويستعملون الدروع والخوذ والأتراس ويمرنون أبدا جنودهم في إنشاء الطرق والجسور والمجاري ، إذا لم يكن أمامهم عدو يقاتلونه أو متاريس يقيمونها.

الجيش العربي مع الرومي :

فتح الجيش الروماني أعظم مملكة في العصور السالفة ، أيام كانت قوته

٥

تامة ، ورابطته متينة ، وقيادته موحدة ، فلما ضعفت مميزاته ، انحلت المملكة وانقسمت إلى مملكتين : مملكة الروم الشرقية وعاصمتها القسطنطينية ، ومملكة الروم الغربية وعاصمتها رومية. وكان نصيب هذا القطر أن يقع في حصة المملكة الشرقية في القسمة. وهذه المملكة هي التي حاربتها جيوش العرب لما جاءت لفتح الشام.

وكان الجيش الرومي الذي قاتل العرب على اليرموك وفي دمشق وفحل وأجنادين وقيسارية وبيسان وقنسرين وإيلياء مؤلفا من الروم ومن العرب المتنصرة ومن الأرمن ، وجمهرته الروم ، وإذ كان جيشا مرتجلا لم يدرب زمنا وكان جيش العرب روحا واحدا ، كتبت له الغلبة على قلته وكثرة عدد أعدائه وعددهم ، فنال الجيش العربي من الروم ، وإن كانوا لأول أمرهم مشهورين بالطاعة لسادتهم ، ولما جاءتهم العرب كان أمرهم قد انحلّ ، وميزاتهم قد ضعفت ، بل أصبح جيشهم مثال الجيوش المتفسخة ، ووقعتهم على الواقوصة في اليرموك مع العرب من أدهش أمارات الضعف والغفلة.

كان الجيش العربي مشهورا بنظامه وطاعته لقواده ، ومهارة هؤلاء وحنكتهم ، وكانت للعرب عناية خاصة بالاحتفاظ بخطوط رجعتهم ، ولكن أية رجعة لجيش منه من جاء من مكان قصي يبلغ طوله ألفي كيلومتر ، ومنه من أقل ومنه من أكثر ، وإذا فرضنا أن مدينة الرسول كانت أس الحركات الحربية ، وأن العرب كانوا قد فتحوا الحجاز كله يوم جاءوا لفتح الشام ، فجعلوا معسكرهم في أقصى حدودها الشمالية ، فخط الرجعة على كل حال لا يقل عن بضع مئات من الكيلومترات ، يمر في سباسب وبواد لا ماء في أكثرها ولا كلأ ، وكيف كان يتأتى الظفر لو لم يكن قلب كل جندي حصنا قائما بالإيمان ، معمورا بالطاعة للسلطان؟

كان الجيش الذي فتح الشام مخفا مقلا من كل شيء ، مقلا من الزاد ، مقلا من السلاح ، مقلا من الظهر ، والخيول قليلة فيه والإبل أكثر ، والإبل تصبر على العطش أياما، أما الجند العربي فكان يصبر على الجوع والعطش معا. قال جويدي : تعلمت العرب صناعة الحرب من الفرس والروم وكان ذلك سببا لدخول ألفاظ رومية وفارسية كثيرة في لغتهم.

٦

ولما فتحت الشام قسمت خمسة أجناد أي خمسة فيالق بحسب مصطلح هذه الأيام. فسمّيت كل ناحية بجند كانوا يقبضون أعطياتهم فيها ، وكان الجنود أولا من عرب الجزيرة ثم دخل فيهم من دان بالإسلام من جميع الشعوب المغلوبة ، وكان اليمانيون أكثرية الجيش الشامي ، وعليهم جلّ اعتماد رأس بني أمية في الشام. ذكروا أن سفيان بن عوف كان اتخذ من كل جند من أجناد الشام رجالا أهل فروسية ونجدة وعفاف وسياسة وحروب وكانوا عدة له قد عرفهم وعرفوا به.

بعض قوانين الجيش العربي :

ومن الجيش ما كان تحت الطلب في كل ساعة ، ومنه ما يجند أي يجمع في أيام قلائل حين الحاجة ، والأعطيات للجنود دارة في كل شهر ، ولهم معظم المغانم في الحروب ، يتقاسمونها مع قوادهم بحسب بلائهم ورتبهم ودرجاتهم ، وللجند مصطلحات معلومة ولهم أمراء وقواد ، يعرّفون عليهم العرفاء وينقّبون عليهم النقباء ، لتعرف من عرفائهم ونقبائهم أحوالهم كما قال الماوردي ، ولكل طائفة شعار يتداعون به ليصيروا متميزين وبالاجتماع متظافرين ، وللأمير «أن يتصفح الجيش (أي يستعرضه ويفتشه) ومن فيه ليخرج من كان فيه تخذيل للمجاهدين وإرجاف للمسلمين أو عين لهم للمشركين. وإن احتاج أمير المؤمنين إلى جند وكتب إلى من ولاه ناحية من بلاده بإشخاصهم إليه أو إلى أي ناحية من النواحي أو إلى عدو من أعدائه خالفه أو أراد نقض شيء من سلطانه أن ينفذ أمره ولا يخالفه ولا يقصر في شيء كتب به إليه».

وأوجبوا على أمير الجيش في سياسته عشرة أشياء : أحدها حراستهم من غرة يظفر بها العدو منهم ، وذلك بأن يتتبع المكامن ويحوّط سوادهم بحرس يأمنون به على نفوسهم ورجالهم ، ليسكنوا في وقت الدّعة ويأمنوا ما وراءهم في وقت المحاربة. والثاني أن يتخيّر لهم موضع نزولهم لمحاربة عدوهم ، وذلك أن يكون أوطأ الأرض مكانا ، وأكثرها مرعى وماء ، وأحرسها أكنافا وأطرافا ليكون أعون لهم على المنازلة ، وأقوى لهم على

٧

المرابطة. والثالث إعداد ما يحتاج الجيش إليه من زاد وعلوفة ، تفرق عليهم في وقت الحاجة حتى تسكن نفوسهم إلى مادة يستغنون عن طلبها ليكونوا على الحرب أوفر ، وعلى منازلة العدو أقدر. والرابع أن يعرف أخبار عدوه حتى يقف عليها ويتصفح أحوالها حتى يخبرها فيسلم من مكره ، ويلتمس الغرة في الهجوم عليه. والخامس ترتيب الجيش في مصاف الحرب والتعويل في كل جهة على من يراه كفؤا لها. ويتفقد الصفوف من الخلل فيها ، ويراعي كل جهة يميل العدو إليها بمدد يكون عونا لها. والسادس أن يقوّي نفوسهم بما يشعرهم من الظفر ، ويخيل لهم من أسباب النصر ، ليقل العدو في أعينهم فيكون عليه أجرأ وبالجرأة يتسهّل الظفر. والسابع أن يعد أهل الصبر والبلاء منهم بثواب الله لو كانوا من أهل الآخرة ، وبالجزاء والنفل من الغنيمة إن كانوا من أهل الدنيا. والثامن أن يشاور ذوي الرأي فيما أعضل ، ويرجع إلى أهل الحزم فيما أشكل ، ليأمن الخطأ ويسلم من الزلل. والتاسع أن يأخذ جيشه بما أوجبه الله تعالى من حقوقه ، وأمر به من حدوده ، حتى لا يكون بينهم تجوز في دين ، ولا تحيف في حق. والعاشر أن لا يمكن أحدا من جيشه أن يتشاغل بتجارة أو زراعة ، لصرفه الاهتمام بها من مصابرة العدو وصدق الجهاد.

ولهم في هذا الباب قوانين مهمة لا تقل في حفظ رابطة الجيش عن كثير من قوانين الجندية في الحرب والسلم في هذا العهد الحديث ، منها أنه لا يجوز إذا نقض العدو عهدا أن يقتل ما في أيدي المسلمين من رهائنهم. فقد نقض الروم عهدهم زمن معاوية وفي يده رهائن فامتنع المسلمون جميعا من قتلهم وخلوا سبيلهم ، وقالوا : وفاء بغدر ، خير من غدر بغدر. ومنها أنه يجوز لأمير الجيش في حصار العدو أن ينصب عليهم العرادات والمنجنيقات وأن يهدم عليهم منازلهم ، وأن يضع عليهم البيات والتحريق. وإذا رأى في قطع نخلهم وشجرهم صلاحا يستضعفهم به ليظفر بهم عنوة أو يدخلوا في السلم صلحا فعل ، ولا يفعل إن لم ير فيه صلاحا.

وذكر ابن خلدون أن الحرب أول الإسلام كانت زحفا كلها ، والزحف أن تمشي الفئتان المتقاتلتان كل فئة مشيا رويدا إلى الفئة الأخرى

٨

قبل التداني للضراب ، وهي مزاحف أهل الحرب ، وربما استجنت الرجالة بجثثها ، وتزاحفت من قعود ، إلى أن يعرض لها الضراب أو الطعان. وكان العرب إنما يعرفون الكرّ والفر حملهم على إبداله أمران أول الإسلام ، أحدهما أن أعداءهم كانوا يقاتلون زحفا فيضطرون إلى مقاتلتهم مثل قتالهم ، الثاني أنهم كانوا مستميتين في جهادهم لما رغبوا فيه من الصبر ، ولما رسخ فيهم من الإيمان ، والزحف إلى الاستماتة أقرب. وأول من أبطل الصف في الحروب وصار إلى التعبية كراديس مروان بن الحكم ، أبطل الصف فتنوسي قتال الزحف. وزعموا أن امرأة قالت لولدها : إذا رأت العين العين فدغرا ولا صفا ، أي ادغروا عليهم أي احملوا ولا تصفوا صفا.

وكان قواد الجيوش يرسمون الخطط الحربية بحسب قواعد لهم قديمة ، أو يستنبطونها من الحال والموقع ، كما فعل علي بن أبي طالب يوم صفين فدعا زياد بن النضر وشريح بن هانئ فعقد لكل واحد منهما على ستة آلاف فارس ، وقال : ليس كل واحد منكما منفردا عن صاحبه ، فإن جمعتكما حرب فأنت يا زياد الأمير ، واعلما أن مقدمة القوم عيونهم ، وعيون المقدمة طلائعهم ، فإياكما أن تسأما عن توجيه الطلائع ولا تسيرا بالكتائب والقبائل من لدن مسيركما إلى نزولكما إلا بتعبية وحذر ، وإذا نزلتم بعدو أو نزل بكم فليكن معسكركم في أشرف المواضع ، ليكن ذلك لكم حصنا حصينا ، وإذا غشيكم الليل فحفوا عسكركم بالرماح والترسة ، وليلهم الرماة ، وما أقمتم فكذلك فكونوا ، لئلا يصاب منكم غرة ، واحرسا عسكركما بأنفسكما ولا تذوقا نوما إلا غرارا ومضمضة ، وليكن عندي خبركما فإني ـ ولا شيء إلا ما شاء الله ـ حثيث السير في أثركما ، ولا تقاتلا حتى تبدءا أو يأتيكما أمري إن شاء الله.

ولقد كان للجيش ثكنات لإيواء الجند ، قال ابن حوقل : ليس من مدينة عظيمة إلا وبها دار ينزلها غزاة تلك البلدة ، ويرابطون بها إذا وردوها ، وتكثر لديهم الصلات ، وترد عليهم الأموال والصدقات العظيمة ، إلى ما كان السلاطين يتكلفونه ، وأرباب النعم يعانونه وينفذونه ، متطوعين متبرعين ، ولم يكن في ناحية رئيس ولا نفيس ، إلا وله عليها وقف من

٩

ضيعة ذات مزارع وغلات ، أو مسقف من فنادق اه. ولقد جعل بعض الأغنياء دأبهم إذا اجتازت بهم الجيوش أن يقروها ويبروها ، ومن رجال بني أمية من جعل ذلك ديدنه ، وأهل الخير على اختلاف طبقاتهم يتصدقون على الجيش.

واشترط العرب على أهل الذمّة أن يؤووا جندهم ثلاثة أيام على الأغلب ويطعموهم من طعامهم ، عناية من الفاتح بجنوده ، وحتى لا تتبرم الرعية بنزولهم عليهم إن لم يكن لهم حق النزول. وكانوا لأول أمرهم يختارون النزول في الخيام والمضارب ، فإذا كلب الشتاء ينزلون في المدن والقرى ، ويأوون إلى دور الروم الذين رحلوا بقدوم الفاتحين ، وأول من أنزل الجند في بيوت غيرهم الحجاج ، أنزل أهل الشام ببيوت أهل الكوفة.

وكان الأمويون في بعض أدوارهم يجندون الشبان ويجردونهم ليعرفوا عاهاتهم وحالتهم من الصحة. وفي الأغاني أن الحجاج ضرب البعث على المحتلمين ومن أنبت من الصبيان ، فكانت المرأة تجيء إلى ابنها وقد جرد فتضمه إليها وتقول له : بأبي ، جزعا عليه ، فسمي ذلك الجيش جيش بأبي. وقد أحضر ابن عبدل فوجد أعرج فأعفي عنه فقال بذلك :

لعمري لقد جزدتني فوجدتني

كثير العيوب سيء المتجرّد

فأعفيتني لما رأيت زمانتي

ووفقت مني للقضاء المسدّد

وكان غرامهم بالخيل المطهمة يدربونها على الطراد ويربونها ويتعهدونها ، ومن ملوكهم من يستكثر منها جدا لتكون معدّة ليوم الشدة. روى ابن السائب الكلبي أن هشام بن عبد الملك قال يوما لقوامه على خيله : كم أكثر ما ضمّت حلبة من الخيل في الجاهلية والإسلام ، قالوا : ألف فرس وقيل ألفان. فأمر أن يؤذّن بالناس بحلبة تضم أربعة آلاف فرس فقيل له : يا أمير المؤمنين يحطم بعضها بعضا فلا يتسع لها طريق. قال : نطلقها ونتوكل على الله والله الصانع ، فجعل الغاية خمسين ومائتي غلوة والقصب مائة والقوس ستة أسهم ، وقاد إليه الناس من كل أوب ، ثم برز هشام إلى دهناء الرصافة قبيل الحلبة بأيام فأصلح طريقا واسعا لا يضيق بها ، فأرسلت يوم الحلبة بين يديه وهو ينظر إليها تدور حتى ترجع وجعل الناس يتراءونها ـ نقله ياقوت.

١٠

تعبية الجيش العربي :

وذكر بعض العارفين من علماء العرب أن أكثر من وضع شيئا في تعبية الحروب جعل أعداد أصحاب السلاح ٣٨٤ ، ١٦ وجعل جيش العزّل نصف هذا العدد ، وجيش الفرسان نصف جيش العزّل. وذلك أن هذا العدد ينقسم بقسمين إلى أن ينتهي إلى الواحد ، وإذا جعلنا الصّف المتقاطر ستة عشر رجلا يجب أن يكون في هذا العدد من الصفوف المتقاطرة ألف صف وأربعة وعشرون صفا. وهذه الصفوف تنقسم إلى أنواع ، فكل ستة عشر تسمى صفا ، وكل صفين من هذه الصفوف المتقاطرة تسمى عصبة ، وعدد من فيها من الرجال اثنان وثلاثون رجلا ، والمقدم عليهم يسمى صاحب العصبة ، وكل أربعة صفوف متقاطرة تسمى مقنبا ، والذي يرأسه يدعى صاحب المقنب ، وعدد من فيها من الرجال أربعة وستون رجلا ، وكل مقنبين يسميان كردوسا ، وعدد من فيه من الرجال مائة وثمانية وعشرون رجلا من الصفوف المتقاطرة ثمانية ، والمقدم عليها يسمى صاحب المائة ويدعى رئيس الكردوس ، وكل كردوسين يسميان جحفلا ، ويسميان أيضا فئة ، وعدد من فيها من الصفوف المتقاطرة ستة عشر صفا ، ومن الرجال مائتان وستة وخمسون رجلا ، والمقدم عليهم رئيس الفئة أو الجحفل ، وكل جحفل يجمع من هذا العدد خمسة رجال مختارين ومنهم صاحب الراية وصاحب الساقة وصاحب البوق والخادم.

قال : والذي أختاره أن يكون غلمانه خلفه ، يرتبون كترتيب الصفوف المتقاطرة حتى لا يخرجوا عن الصفوف ، وشكل الجحفل مربعا كرقعة الشطرنج ثمانية في ثمانية ، وهذا ستة عشر طولا وستة عشر عرضا. وكل جحفلين يدعيان كوكبة ، وعدد من فيها من الرجال خمسمائة واثنا عشر رجلا ، ومن الصفوف المتقاطرة اثنان وثلان صفا ، ويسمى المقدم عليهم رئيس الكوكبة ، وكل كوكبتين زمرة ، وعدد من فيها من الرجال ألف وأربعة وعشرون رجلا ، ومن الصفوف المتقاطرة أربعة وستون صفا ويسمى صاحبها صاحب الزمرة ، وكل زمرتين طائفة ، وعدد من فيها

١١

من الرجال ألفان وثمانية وأربعون رجلا ، والمقدم عليهم يسمى رئيس الطائفة ، فيها من الصفوف المتقاطرة مائة صف وثمانية وعشرون صفا ، ومن الناس من يسمي الطائفة الجماعة التامة ، ويسمى المتولي عليها رئيس الجماعة التامة ، وكل طائفتين يسميان جيشا وعدد من فيه من الرجال أربعة آلاف وستة وتسعون رجلا ، وفيه من الصفوف المتقاطرة مائتا صف وستة وخمسون صفا ، والمتولي لأمره يدعى رئيس الجيش. وبعض الناس يسميه عسكرا ويسمى المتولي عليها قائد الجيش. وكل جيشين يدعيان خميسا ، وعدد من فيه من الرجال ثمانية آلاف رجل ومائة واثنان وتسعون رجلا ، ومن الصفوف المتقاطرة خمسمائة صف واثنا عشر صفا ، ومن الجيش طائفة ومنهم من يسميه قافلة ، والمتولي عليه يدعى رئيس القافلة ، وكل خميسين يدعيان العسكر الأعظم ، وفيه من الصفوف المتقاطرة ألف صف وأربعة وعشرون صفا ، ومن الرجال ستة عشر ألفا وثلاثمائة وأربعة وثمانون رجلا وهو العدد الأول ، فيصير مجموع العسكر قافلتين وهما أربعة جيوش والأربعة جيوش اثنان وثلاثون كوكبة وهي أربعة وستون جحفلا ، وذلك مائة وثمانية وعشرون كردوسا وهي. مائتان وستة وخمسون مقنبا وذلك الجمع خمسمائة واثنتا عشرة عصبة وعدد ذلك من الصفوف ما تقدم.

شدة الأمويين ومثال من أوامرهم :

وكان الأمويون من أشد الدول في الشام على جنودهم ، وهم في أحسن جند ، لأن الشاميين عرفوا بطاعة السلطان من عامة أهل البلدان ، وبهم يضرب المثل في الطاعة والمشايعة ، وإن لم يخل كل زمن من قوالين بالحق ، ناقمين على القائم بالأمر ، داعين إلى مناقشته. قالوا : وإنما وريت زناد معاوية بأهل الشام ، لأنه كان في أطوع جند منهم. وكان علي بن أبي طالب في أعصى جند من أهل العراق على الضد. والطاعة أول خطة يسلكها الجندي ، وبفضل هذه الصفة المستحسنة رفعت أعلام الأمويين (١) في الصين من الشرق ،

__________________

(١) اول لواء عقده صاحب الرسالة لواء أبيض لعمه حمزة وقال : «خذه يا أسد الله» وأول ما عقدت الرايات في الإسلام يوم حنين ، عقد الرسول راية سوداء من برد عائشة وكانوا قبل ذلك لا يعرفون إلا الألوية وكان اسم رايته العقاب. وكان شعار بني أمية من الألوان البياض ـ

١٢

وفي الأندلس من الغرب وما بينهما من الأقطار والأمصار ، وكان الأمويون إذا عرض لجيوشهم شيء من الضعف يرمّونها برجل قوي الشكيمة فيرد جماحها ، ويجمع على الطاعة قلوبها ، كما فعل زياد والحجاج بالعراق ، ولو لا شدتهما لخرج ذاك القطر عن طاعة بني أمية.

شكا عبد الملك بن مروان إلى روح بن زنباع انحلال عسكره ، وأن الناس لا يرحلون برحيله ولا ينزلون بنزوله ، فقال له : إن في شرطتي رجلا لو قلّده أمير المؤمنين أمر عسكره لأرحل الناس برحيله وأنزلهم بنزوله ، يقال له الحجاج بن يوسف. قال : فإنا قد قلدناه ذلك. فكان لا يقدر أحد أن يتخلف عن الرحيل والنزول إلا أعوان روح بن زنباع ، فوقف عليهم يوما وقد أرحل الناس وهم على الطعام يأكلون ، فأمر بهم فجلدوا بالسياط وطوّفهم في العسكر ، وأمر بفساطيط روح فأحرقت بالنار. فدخل روح على عبد الملك باكيا ، وشكا مما أتاه الحجاج مع رجاله فقال له

__________________

ـ وشعار بني العباس السواد. ويقال للأمويين المبيضة وللعباسيين المسودة. وكانت راية صلاح الدين صفراء وراية الفاطميين خضراء وراية العثمانيين حمراء وبها هلال ومنها راية مصر اليوم فيها بعض التبديل أشبه بشعار والشعار يختلف أيضا. وكان شعار الظاهر بيبرس الأسد ويقول ابن طولون الصالحي : إن سنجق الجراكسة كان من حرير أصفر أطلسي بطرز مزركش بشراريب وهلاله من ذهب شبه نعل المصطفى. وقال غيره : وكانت للمماليك راية كبيرة صفراء وهي مطرزة بالذهب وعليها ألقاب السلطان وبعدها راية عظيمة صفراء أيضا وفي رأسها خصلة من الشعر وهي التي تسمى بالجاليش ويتلو ذلك رايات صفر صغار تسمى الصناجق. وكان اللون الأحمر شعار القيسية واللون الأبيض شعار اليمانية. وجعلوا لون راية دولة الحجاز أيام استقلت عن الترك في الحرب العالمية الأبيض والأحمر والأسود والأخضر جمعوا فيها ألوان دول قديمة أخذوا ذلك فيما قيل من قول الصفي الحلي :

بيض صنائعنا سود وقائعنا

خضر مرابعنا حمر مواضينا

وكانت العرب في كل حروبهم يستميتون دون راياتهم فإذا سقطت الراية فكأن الانحلال دب الى الجيش المحارب. ولما أعلن مجلس نواب الشام استقلال سورية في عهد الملك فيصل جعل رايته راية الحجاز بإضافة نجمة في وسطها. ولما احتل الجيش الفرنسي المنطقة الداخلية جعل شعار الدولة السورية أرضا سماوية اللون وفي وسطها دائرة بيضاء ، ثم تبدل ذلك عندما اتحدت حلب بدمشق فجعلت الراية زرقاء وخضراء وبيضاء يعلوها في إحدى ناحيتيها العلم المثلث الألوان اي العلم الفرنسي ، وجعل علم لبنان أرزة فوقها العلم المثلث. وجعل العلم السوري على الشكل الآتي طوله ضعف عرضه ، ويقسم إلى ثلاثة ألوان متساوية متوازية أعلاها الأخضر فالأبيض فالأسود على أن يحتوي القسم الأبيض منها في خط مستقيم واحد على ثلاثة كواكب حمراء ذات خمسة أشعة.

١٣

الخليفة : عليّ به. فلما دخل عليه قال له : ما حملك على ما فعلت. قال : أنا ما فعلت ، قال : ومن فعل؟ قال : أنت فعلت ، إنما يدي يدك ، وسوطي سوطك ، وما على أمير المؤمنين أن يخلف لروح عوض الفسطاط فسطاطين ، وعوض الغلام غلامين ، فلا يكسرني فيما قدمني له ، فأخلف لروح ما ذهب منه. ولما استقرت البيعة لعبد الملك بن مروان أراد الخروج إلى مصعب بن الزبير فجعل يستنفر أهل الشام فيبطئون عليه فقال له الحجاج ابن يوسف : سلطني عليهم فو الله لأخرجنهم معك. قال له : قد سلطتك عليهم. فكان الحجاج لا يمرّ على باب رجل من أهل الشام قد تخلف عن الخروج إلا أحرق عليه داره ، فلما رأى ذلك أهل الشام خرجوا.

ومن رسالة لعبد الحميد الكاتب على لسان مروان إلى ولي عهده عبد الله ابن مروان حين وجهه لمحاربة الضحاك الخارجي وفيها بعض قواعد الحرب المعروفة عند الأمويين قال : «إذا كنت من عدوك على مسافة دانية وسنن لقاء مختصر ، وكان من عسكرك مقتربا ، قد شامت طلائعك مقدمات ضلالته ، وحماة فتنته ، فتأهب أهبة المناجزة ، وأعدّ إعداد الحذر ، وكتب خيولك ، وعبّ جنودك ، وإياك والمسير إلا مقدمة وميمنة ، وميسرة وساقة ، قد شهروا بالأسلحة ، ونشروا البنود والأعلام ، وعرف جندك مراكزهم سائرين تحت ألويتهم ، قد أخذوا أهبة القتال ، واستعدوا للقاء ، ملحين إلى مواقفهم ، عارفين بمواضعهم من مسيرهم ومعسكرهم ، وليكن ترجلهم وتنزلهم على راياتهم وأعلامهم ومراكزهم ، وعرّف كل قائد وأصحابه موقعهم من الميمنة والميسرة والقلب والساقة والطليعة ، لازمين لها غير مخلين بما استنجدتهم له ، ولا متهاونين بما أهبت بهم إليه ، حتى تكون عساكرهم في كل منهل تصل إليه ، ومسافة تختارها ، كأنه عسكر واحد في اجتماعها على العدة ، وأخذها بالحزم ، ومسيرها على راياتها ، ونزولها على مراكزها ، ومعرفتها بمواضعها ، إن أضلت دابة موضعها عرف أهل العسكر من أي المراكز هي ومن صاحبها ، وفي أي المحل حلوله منها ، فردت إليه هداية ومعرفة ونسبة قيادة صاحبها ، فإن تقدّمك بذلك ، وإحكامك له ، اطراح على جندك مؤونة الطلب ، وعناء المعرفة ، وابتغاء الضالة.

١٤

«ثم اجعل على ساقتك أوثق أهل عسكرك في نفسك صرامة ونفاذا ، ورضا في العامة وإنصافا من نفسه للرعية ، وأخذا بالحق في المعدلة ، مستشعرا تقوى الله وطاعته ، آخذا بهديك وأدبك ، واقفا عند أمرك ونهيك ، معتزما على مناصحتك وتزيينك ، نظيرا لك في الحال ، وشبيها بك في الشرف ، وعديلا في الموضع ، ومقاربا في الصيت ، ثم أكثف معه الجمع ، وأيده بالقوة ، وقوّه بالظهر ، وأعنه بالأموال ، واغمره بالسلاح ، ومره بالعطف على ذوي الضعف من جندك ، ومن رخفت به دابته ، وأصابته نكبة من مرض. أو رجلة أو آفة. من غير أن تأذن لأحد منهم في التنحي عن عسكره ، أو التخلف بعد ترحيله ، إلا المجهود أو المطروق بآفة. ثم تقدم إليه محذرا ، ومره زاجرا ، وانهه مغلظا بالشدة على من مرّ به منصرفا عن معسكرك من جندك بغير جوازك ، شادا لهم أسرا ، وموقرهم حديدا. ومعاقبهم موجعا أو موجههم إليك فتنهكهم عقوبة ، وتجعلهم لغيرهم من جندك عظة ...

«إجعل خلف ساقتك رجلا من وجوه قوادك ، جليدا ماضيا ، عفيفا صارما ، شهم الرأي ، شديد الحذر ، شكيم القوة ، غير مداهن في عقوبة ، ولا مهين في قوة. في خمسين فارسا من خيلك، تحشر إليك جندك ، ويلحق بك من يتخلف عنك ، بعد الإبلاغ في عقوبتهم والنّهك لهم والتنكيل بهم ... ليكن رحيلك إبّانا واحدا ، ووقتا معلوما. لتخف المؤنة بذلك على جندك. ويعلموا أوان رحيلهم. فيقوموا فيما يريدون من معالجة أطعمتهم ، وإعلاف دوابهم ، وتسكن أفئدتهم إلى الوقت الذي وقفوا عليه ، ويطمئن ذوو الحاجات إبان الرحيل. ومتى يكون رحيلك مختلفا تعظم المؤنة عليك وعلى جندك ، ويخلوا بمراكزهم ، ولا يزال ذوو السفه والنزق يترحلون بالإرجاف ، وينزلون بالتوهم ، حتى لا ينتفع ذو رأي بنوم ولا طمأنينة.

«إياك أن تنادي برحيل من منزل تكون فيه. حتى يأمر صاحب تعبيتك بالوقوف على معسكرك. آخذا بفوهة جنبتيه بأسلحتهم ، عدة لأمر إن حضر. ومفاجأة من طليعة العدو إن أراد نهزة ، أو لمحت عندكم غرة ، ثم مر الناس بالرحيل وخيلك واقفة ، وأهبتك معدّة ، وجنّتك واقية ،

١٥

حتى إذا استقللتم من معسكركم ، وتوجهتم من منزلكم ، سرتم على تعبيتكم بسكون ريح ، وهدو جملة وحسن دعة ...

«إياك أن يكون منزلك إلا في خندق أو حصن تأمن به بيات عدوك ، وتستنيم فيه إلى الحزم من مكيدته ، إذا وضعت الأثقال ، وخططت أبنية أهل العسكر لم يمد خباء ، ولم ينتصب بناء ، حتى يقطع لكل قائد ذرع معلوم من الأرض بقدر أصحابه فيحتفروه عليهم ، ويبنون بعد ذلك خنادق الحسك ، طارحين لها دون أشجار الرماح ، ونصب الترسة. لها بابان قد وكلت بعد بحفظ كل باب منهما رجلا من قوادك في مائة رجل من أصحابه. فإذا فرغ من الخندق كان ذلك القائدان أهلا لذلك المركز ... وإياك أن يشهروا سيفا يتجالدون به ، وتقدم إليهم فلا يكون قتالهم بالليل في تلك المواضع من طرقهم إلا بالرماح مسندين لها إلى صدورهم ، والنشاب راشقين به وجوههم ، قد ألبدوا بالترسة ، واستجنوا بالبيض ، وألقوا عليهم سوابغ الدروع ، وجباب الحشو ، فإن صد العدو عنهم حاملين على ناحية أخرى ، كبّر أهل تلك الناحية الأولى وبقية العسكر سكوت ، والناحية التي صدر عنها العدو لازمة لمراكزها ، فعلت في تقويتهم وإمدادهم بمثل صنيعك بإخوانهم. وإياك أن تخمد نار رواقك ، وإذا وقع العدو في معسكرك فأججها ساعرا لها ، وأوقدها حطبا جزلا ، يعرف بها أهل العسكر مكانك وموضع رواقك ، ويسكن نافر قلوبهم ، ويقوى واهن قوتهم ، ويشد منخذل ظهورهم ، ولا يرجفون فيك بالظنون ، ويجيلون لك آراء السوء. وذلك من فعلك رد عدوك بغيظه ، ولم يستقل منك بظفر ، ولم يبلغ من نكايتك سرورا إن شاء الله اه».

هذا وقد كانت الشام على عهد أوائل العباسيين كما كانت في العهد الأموي تخرج جندا لغزو الصوائف والشواتي أي حروب الصيف والشتاء الموجهة إلى الروم. وإن كانوا في جهادهم على الأكثر لا فرق عندهم في الفصول يصيفون ويشتون ويرتبعون ويخرفون.

ذكر المؤرخون أن المأمون أقطع أخاه أبا إسحاق المعتصم الشام ومصر وفرض على دمشق وحمص والأردن ٤٠٠٠ جندي لغزو الصائفة. وذكر

١٦

قدامة أن راتب مغازي الصوائف والشواتي في البر والبحر في السنة على التقريب مائتا ألف دينار. وعلى المبالغة ثلاثمائة ألف دينار. وكان ارتفاع الثغور الشامية ـ أي طرطوس وأذنة والمصيصة وعين زربة والكنيسة والهارونية وبياس ونقابلس ـ نحو المائة ألف دينار تنفق في مصالحها وسائر وجوه شأنها وهي المراقب والحرس والفواثير (الكشافة) والركاضة (البريديون) والموكلون بالدروب والمخايض والحصون وغير ذلك من الأمور والأحوال ، ويحتاج إلى شحنتها من الجند والصعاليك أي الجند غير المنظم.

وكان إذا عصا بعض عمالهم أو نجم ناجم من الثوار يبعثون بالجيوش من العراق كما أرسلوا جيشا لحرب نصر بن شبث ، وجيشا لقتال القرامطة. وكان الجيش الذي ألفه أحمد بن طولون وأولاده من الأسباب القوية في نزع مصر والشام من حكم العباسيين بالفعل. وقد قيل : إن الجيش الذي نظمه أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون لم يتفق مثله لأعظم الفاتحين ، وكان مؤلفا من صقالبة أي من أهل صقلية من الطليان والروم وغيرهم من العناصر.

أدوات التدمير والسلاح والمواصلات :

كان جلّ الاعتماد في القتل والتخريب على المنجنيق والنشاب ، الأول لتخريب الحصون ودك الأسوار والثاني لإزهاق النفوس. والمنجنيق (بفتح الميم وكسرها) آلة ترمى بها الحجارة بشد سوار مرتفعة جدا من الخشب ، يوضع عليها ما يراد رميه ثم يضرب بسارية توصله لمكان بعيد جدا. وفي التاج : آلة قديمة وضعت قبل وضع النصارى البارود والمدافع ، وأول من رمى به الرسول (ص) في حصار الطائف ، وأول من رمى به في الجاهلية جذيمة الأبرش وهو من ملوك قضاعة. ويستعملون الدبابات وهي أشبه بدبابات هذه الأيام (التانك) وهي جمع دبابة آلة تتخذ في الحصار يدخل في جوفها الرجال ثم تدفع في أصل الحصن فينقبونه وهم في جوفها. ويتخذون أيضا الحسك (السلك الحديد) يتحصنون وراءه ويمنعون العدو بعض الشيء من مباغتتهم. واخترع بعض الدمشقيين في حصار المسلمين عكا على عهد

١٧

صلاح الدين سائلا إذا قذف به على الصقالات التي توضع لرمي المنجنيقات تشعلها لحينها، فكان الصليبيون منها في مصيبة. وأهم سلاح عندهم للمهاجمة السيف والرمح وللدفاع الدرع.

ومما كانوا يتقون به مداهمة العدو أن يضعوا مما يلي البلدان من حد الشرق رجالا لتحرق زرعها ونباتها ، وهي أراض مخصبة كانت تقوم بكفاية خيل القوم مرعى ، فكانت تحرق إضعافا لهم ، وإقعادا لحركاتهم ، إذ كانوا من عادتهم أنهم لا يتكلفون علوفة لخيلهم بل يكلونها إلى ما تنبت الأرض ، فإذا كانت أرضا مخصبة سلكوها ، وإذا كانت مجدبة تجنبوها ، وكانوا لا يفطنون لتقصد حريقها ثم فطنوا ، فصاروا يربطون عليها الطرق ويمسكون منها بالأطراف ، وكان ينفق في هذه المحرقات في كل سنة من الخزانة بدمشق جمل من الأموال ، ويجهز فيها أجلاد الرجال. وكان شأنهم في الإحراق استصحاب الثعالب الوحشية والكلاب المنفرة ، ثم يكمن المجهزون لذلك عند أمناء النصاح في كهوف الجبال وبطون الأودية ، وتمضي الأيام حتى يكون يوم ريحه عاصف ، وهواؤه زعزع ، وتعلق النار موثوقة في أذناب الثعالب والكلاب ، ثم تطلق الثعالب والكلاب في أثرها ، وقد جوّعت فتجدّ الثعالب في الهرب ، والكلاب في الطلب ، فتحرق ما مرت به وتعلو الريح النار منه فيما جاوره. هذا إلى ما كانت تلقيه الرجال بأيديها في الليالي المظلمة ، وعشايا الأيام المعتمة. روى ذلك جميعه ابن فضل الله.

واستعمل الملوك والأمراء النشاب للتسلية وإظهار الشجاعة ومعرفة أساليب الرماية ، فإذا رموا أصموا ، وإذا أفضلوا بالغوا ، وقد استعمل الأمين لقتال عساكر أخيه المأمون نصول النشاب من خالص الذهب ونقش عليها هذين البيتين :

ومن جودنا نرمي العداة بأسهم

من الذهب الإبريز صيغت نصولها

يداوي بها المجروح منها جراحه

ويشري بها الأكفان منها قتيلها

واستعمل ذلك كثير من الملوك ومنهم السلطان أحمد بن الملك الناصر ابن محمد بن قلاوون ، وكان يجلس كل يوم بين شراريف قلعة الكرك وهو محصور ويرمي سبعة سهام صيغت نصولها من فضة موشاة بذهب وقد نقش عليها هذان البيتان.

١٨

كان اعتماد الملوك في نقل الأخبار على ثلاثة أمور : البريد وأول من وضعه في الإسلام معاوية بن أبي سفيان حين استقرت له الخلافة ، فوضع البريد لتسرع إليه الأخبار من جميع أطراف مملكته ، أمر بإحضار رجال من دهاقين الفرس وأهل أعمال الروم وعرفهم ما يريد فوضعوا له البرد واتخذوا له بغالا بأكف كان عليها سفر البريد. وقيل : إن أول من وضع البريد عمر بن الخطاب وإن معاوية أصلحه في سلطانه. ولم يزل البريد قائما حتى آن لبناء الدولة المروانية أن ينقض ، ولما أن أغزى المهدي ابنه هارون الرشيد الروم ، وأحب ألا يزال على علم قريب من خبره رتب ما بينه وبين معسكر ابنه بردا ، كانت تأتيه بأخباره ، وتريه متجددات أيامه ،

فلما قفل الرشيد قطع المهدي تلك البرد ، ثم رتب على عهد الرشيد على ما كان عليه أيام بني أمية ، وجعل البغال في المراكز ، وكان لا يجهز عليه إلا الخليفة أو صاحب الخبر، ثم جاءت أدوار فلم يكن بين الملوك وما يريدون معرفته من الأخبار إلا الرسل على الخيل والإبل. فلما أتت الدولة الزنكية أقامت لهذا النّجابة ، وأعدت لها النجب المنتخبة ، ودام هذا إلى سقوط دولة بني أيوب. ولما تولى الملك الظاهر بيبرس كان أحرص ما يحرص عليه مواصلته بالأخبار ، وما يتجدد من أخبار التتر والفرنج. وقال مرة لكاتب الإنشاء شرف الدين عبد الوهاب : إن قدرت ألّا تبيتني كل ليلة إلا على خبر ، ولا تصبحني إلا على خبر فافعل ، واتخذ لذلك هو ومن بعده مراكز البريد ، تشترى الخيل بمال السلطان ويقام لها السواس والعلوفات. ثم مما يليها خيل البريد المقررة على عربان ذوي إقطاعات عليها خيول موظفة تحضر في هلال كل شهر إلى كل مركز أصحاب النوبة فيه بالخيل ، فإذا انسلخ الشهر جاء غيرهم ، وهم لهذا يسمون خيل الشهارة ، وعلى الشهارة وال من قبل السلطان ، يستعرض في رأس كل شهر خيل أصحاب النوبة فيه ، ويدوغها بالداغ السلطاني. وقد جعلوا لها مراكز ومحطات وبنوا عليها خانات وفنادق ومساجد في كل طرف من أطراف المملكة.

هذا ما كان من أمر البريد وأنشأوا في الموصل حمام الزاجل ، فاقتبسه

١٩

خلفاء الفاطميين بمصر والشام ، وبالغوا حتى أفردوا له ديوانا وجرائد بأنساب الحمام. نقله من الموصل نور الدين محمود سنة (٥٦٥) وكانوا في النهار يجعلون جل اعتمادهم عليه في نقل الأخبار ولا سيما زمن الحروب الصليبية ، وله مراكز في هذا القطر من الجنوب إلى الشمال. وحمام الزاجل قديم في الإسلام ولعلّ عهده يردّ إلى ما قبل الدولة العباسية. ومما ذكره المؤرخون أن أماجور أمير دمشق (٢٥٦) أرسل إلى اليرموك رجلا وأعطاه طيورا ، قال له : أرسل الطيور بخبرك طيرا بعد طير. ومن جملة ما يعتمدون عليه في الليل المناور وهي مواضع رفع النار في الليل ، والدخان في النهار ، للإعلام بحركات العدو ، إذا قصدوا البلاد للدخول لحرب أو لإغارة ، ولما يرفع من هذه النيران أو يدخن من هذا الدخان أدلة تعرف فيها اختلاف حالات رؤية العدو والمخبر به ، باختلاف حالاتها تارة في العدو وتارة في غير ذلك. وقد أرصد في كل منوّر الديادب والنظّارة لرؤية ما وراءهم وإيراء ما أمامهم. والمناور المذكورة تارة تكون على رؤوس الجبال وتارة تكون في أبنية عالية. ومواضعها تعرف بها أكثر السفارة ، وهي من أقصى ثغور الإسلام إلى حضرة السلطان ، حتى إن المتجدد بكرة بالفرات كان يعلم به السلطان عشاء في مصر والمتجدد بها عشاء كان يعلم به بكرة. قال صالح بن يحيى : وفي سنة (٦٩٣) جعلت لأمراء الغرب في لبنان درك بيروت ليراقبوا البحر وجعلوا فيها رهجية وحمام بطاقة مدرج إلى دمشق وخيل بريد ، فكانت النار للحوادث في الليل وحمام البطاقة للحوادث في النهار والبريد لما يتجدد من الأخبار وكل ذلك فعلوه خوفا من رجوع الإفرنج. إلى أن قال : وذلك لأجل ما يتجدد من الأخبار ومنع الإفرنج عن الاجتماع بأهل كسروان. والزاجل والمناور تغني عن الهليوستا والابجكتيف أو البروجكتور عند أهل زماننا.

الجيش على عهد ملوك الطوائف :

كانت جمهرة الجيوش الإسلامية على عهد صلاح الدين مؤلفة من عرب وأكراد وأتراك وكان صلاح الدين كمعلمه نور الدين من عظام القواد

٢٠