خطط الشام - ج ٥

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٥

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩٦

والمصرية صاحب الثغور الشامية ، ومقدار النفقة على المراكب إذا غزت من مصر والشام نحو مائة ألف دينار.

وذكر المقريزي أن أول ما أنشئ الأسطول بمصر في أيام المعتصم سنة (٢٣٨) فأنشئت الشواني برسم الأسطول وجعلت الأرزاق لغزاة البحر كما هي لغزاة البر ، واجتهد الناس في تعليم أولادهم الرماية وجميع أنواع المحاربة وانتخب له القواد العارفون بمحاربة العدو ، وكان لا ينزل في رجال الأسطول جاهل بأمور الحرب ، وقد قويت العناية بالأسطول على عهد المعز الفاطمي ، فكانت المراكب تنشأ بمدينة مصر وإسكندرية ودمياط من الشواني الحربية والشلنديات والمسطحات وتسير إلى الساحل مثل صور وعكا وعسقلان. وكانت جريدة قواد الأسطول في آخر أمرهم تزيد على خمسة آلاف مدونة ، منهم عشرة أعيان يقال لهم القواد ولهم رواتب دارة ، وكانت عدة المراكب السائرة في أيام المعز لدين الله تزيد على ستمائة قطعة وآخر ما صارت إليه في آخر الدولة نحو مائة قطعة.

ولقد اتخذ المسلمون المناور البحرية لهداية السفن على الشواطئ الشامية ، وكانت في معظم السواحل رباطات للنيل من الأعداء إن قدموا بحرا ، فأهل دمشق يرابطون في بيروت ، وأهل القدس في الرملة أو يافا ، وأهل حمص في طرابلس ، وكان لقرية كفر سلّام من قرى قيسارية في فلسطين رباطات على البحر يقع فيها النفير ، وتقلع إليها شلنديات الروم وشوانيهم معهم أسارى المسلمين للبيع كل ثلاثة بمائة دينار ، وفي كل رباط قوم يذهبون في الرسالات ، ويحمل إليهم أصناف الأطعمة ويضج بالنفير لما تتراءى مراكبهم ، فإن كان الوقت ليلا أوقدت منارة ذلك الرباط ، وإن كان نهارا دخنوا ، ومن كل رباط إلى القصبة عدة منائر شاهقة ، قد رتب فيها أقوام فتوقد المنارة التي للرباط ثم إلى التي تليها ثم الأخرى ، فلا يكون ساعة إلا وقد أنفر بالقصبة ، وضرب الطبل على المنارة ، ونودي إلى ذلك الرباط وخرج الناس بالسلاح والقوة واجتمع أحداث الرساتيق ثم يكون الفداء رجل يشتري رجلا وآخر يطرح درهما أو خاتما حتى يشتري ما معهم. ورباطات هذه الكورة التي يقع بهن الفداء غزة ، ميماس ، عسقلان ،

٤١

ماحوز ، أسدود ، ماحوز يبنا ، يافا ، أرسوف ـ قاله المقدسي. والماحوز هو المكان الذي بينهم وبين العدو ، وفيه أساميهم بلغة الشام ، ومنه الحديث فلم نزل مفطرين حتى بلغنا ماحوزنا. وكانت حيفا تشارك هذه المواني في صنع المراكب وتسمى الأبنية الخاصة بالملاحة البحرية بالجودي إشارة إلى سفينة نوح التي استوت على الجودي في الجزيرة.

وكانت الحروب سجالا بين المسلمين والروم ، ينال المسلمون من العدو وينال العدو منهم ، ويأسر بعضهم بعضا لكثرة هجوم أساطيل الإسلام على مواني العدو ، وكان أول فداء وقع في الإسلام أيام بني العباس ، ولم يقع في أيام بني أمية فداء مشهور ، وإنما كان يفادى بالنفر بعد النفر في سواحل الشام ومصر وغيرها ، إلى أن كانت خلافة الرشيد فوقع الفداء الأول باللامس من سواحل البحر الرومي قريبا من طرسوس في سنة تسع وثمانين ومائة على يد القاسم بن الرشيد وهو معسكر بمرج دابق من قنسرين ، ففودي بكل أسير كان بالروم من ذكر وأنثى ، وحضر هذا الفداء من أهل الثغور وغيرهم من أهل الأمصار نحو من خمسمائة ألف إنسان بأحسن ما يكون من العدد والخيل والسلاح والقوة وقد أخذوا السهل والجبل وضاق بهم الفضاء ، وحضرت مراكب الروم الحربية بأحسن ما يكون من الزيّ معهم أسارى المسلمين ، فكان عدة من فودي به من المسلمين في اثني عشر يوما ثلاثة آلاف وسبعمائة أسير ، وجرى الفداء في أدوار مختلفة. ذكر هذا المقريزي ثم عدد ما وقع من الفداء في أوقات مختلفة إلى القرن الرابع وكان أكثر عدد من فودي به في خلافة الواثق ٤٣٦٢ من ذكر وأنثى.

الأساطيل في القرون الوسطى :

ومعلوم ما كان من أسطول الفاطميين من المنافع في زمن الحروب الصليبية فكان ينجد المسلمين في عسقلان ويافا وصور وبيروت وطرابلس وجبلة واللاذقية. وكانت أساطيل الفاطميين في الساحل مرتبة في عسقلان وعكا وصور وغيرها وذلك قبل أن يغلبهم الصليبيون على الساحل. وكان الأسطول من جملة العوامل في بقاء الأمل باسترجاع ما جرى احتلاله من الأرض

٤٢

وكان الظفر حليف الجيوش البحرية لكثرة ما لها من الامتيازات ، وفي العادة أن الأسطول إذا غنم ما عساه أن يغنم لا يتعرض السلطان منه إلى شيء البتة ، إلا ما كان من الأسرى والسلاح فإنه للسلطان ، وما عداهما من المال والثياب ونحوهما فإنه لغزاة الأسطول لا يشاركهم فيه أحد.

ولم يقصر صلاح الدين ثم الدولة الأيوبية ثم دولة المماليك البحرية ودولة المماليك البرجية في إنشاء السفن الحربية والتجارية ، وإن كانت عنايتهم بجيوشهم البرية أكثر ، وما كان الصليبيون ينالون من المسلمين في الساحل إلا يوم تصل سفنهم من مواني الغرب ويكثر عددها ، حتى إذا أقلعت وخلا الساحل تغزوه مراكب الدولة مقلعة من الثغور ، أو يمد من يجب إمداده من المسلمين في الساحل الشامي ، وعلى الرغم من المعاهدات التي عقدت بين أصحاب مصر والشام وبين أمراء ايطاليا واسبانيا والبرتقال ، بعد القضاء على الصليبيين في الساحل ، فإن بعض الفرنج والروم عادوا إلى طريقتهم القديمة من غزو البحر فغزوا صيدا وبيروت وطرابلس ، ولما غزوا إسكندرية سنة (٧٦٧ ه‍) ارتأى رجال الدولة في مصر أن يعمروا من غابة بيروت مراكب كثيرة ، حمالات وشواني ، للدخول إلى قبرص ، فأحضروا الصناع من جميع المماليك ، وعمروا مسطبة بظاهر بيروت ، وكانت المراكب تعمل بها على بعد من البحر وأحضر الجند من دمشق فأنزل بين البحر والمراكب حذرا من مراكب صاحب قبرس لئلا يحضر العدو على حين غفلة فيحرق ما يعمل من المراكب ، وعملت حمالتان كبيرتان الواحدة باسم (سنقر) والثانية باسم (قراجا) وهما أميران من أمراء ذلك الوقت ، ثم أهمل الأسطول إلى أن جاء الجنوية (٧٨٤ ه‍ ١٣٨٢ م) إلى صيدا وأخذوها ثم جلوا منها ، ثم عادوا فغزوا بيروت ورمى الفرنج المسلمين بالجروخ (١) والمدافع. ـ روى ذلك صالح بن يحيى.

وكانت جزيرة قبرس مما يرغب الفاتحون بالاستيلاء عليه لأنها مفتاح الشام ، وهي تعد من بحره وقطره ، ولذلك كان إذا استولى عليها صاحبها من الروم وقوي سلطانه صانعه صاحب مصر والشام ، وإذا استضعفوه أسروه

__________________

(١) الجروخ جمع جرخ فارسية معناها الدولاب وهي آلة ترمى بها الحجارة والنفط وغيرهما.

٤٣

وحملوه إلى العاصمة فأهانوه وأذلوه. وكان ملك إنكلترا ، أو ملك الانكتار كما يقول مؤرخنا في الحروب الصليبية استعان بهذه الجزيرة ، وقد جعلها ريشاردس قلب الأسد لما جاء بأسطوله العظيم لفض الحرب مع صلاح الدين قاعدة أعماله الحربية البحرية. فانظر كيف يعيد التاريخ نفسه ، وكيف يتسلسل الفكر في الغرب وينقطع في الشرق بانقطاع من يبتدعه ويؤسسه.

وكان الجنوية والبياسنة والبنادقة من سكان سواحل إيطاليا قد استولوا على البحار في تلك العصور كما استولت عليها بريطانيا العظمى في العصرين الأخيرين ، وكانوا احتلوا بعض جزر البحر المتوسط يأتون بعض السواحل الشامية يغزونها ، فكانت حكومات الشام تعنى بالمراكب أشد العناية والاعتماد في نقل الجيوش من مصر والشام على طريق البر لأنه أسلم ، اللهم إلا في أوقات مخصوصة من السنة وعندما يصافي ملوك الفرنجة والروم وصاحب قبرس. وظلت العناية بالأساطيل على عهد حكومات المماليك تختلف باختلاف عقل السلطان المتغلب ، وتفرّغ ذهنه لصيانة مملكته من الطوارئ الخارجية. أما السفن التجارية فزادت العناية بها خصوصا وأهل الشام ما برحوا منذ الزمن الأطول أمة تمارس الأسفار البحرية ، وتعرف من أين تؤكل الكتف في المتاجر ، وقد شوهدت آثار تجارتها حتى في جزائر بريطانيا وبلاد النروج وفنلندة ومعظم سواحل البحر المتوسط.

وكانت الحروب الصليبية معلمة لأهل أوربا على طريق البحار إلى الشرق ، ومعلمة لأهل الشام على اختراق العباب إلى أوربا ، وكل ذلك على سفن ومراكب حفظت أمثلة منها في المتاحف البحرية في الغرب ولا سيما في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا. وكانت السفن الحربية تسمى بأسماء كثيرة منها الأغربة والبسطات والأعواديات والبركوشات والشلنديات والمسطحات والحراريق (الحراقات) واليخوت والشواني والقراقير. ولكثرة اختلاط النواتية والملاحين من أهل الشام وغيرهم من السواحل الإسلامية بأبناء حرفتهم النازلين على الشاطئ المقابل للشاطئ الإفريقي والشامي ، أخذ الفرنج كثيرا من المصطلحات البحرية عن العرب ، ونقلوها إلى لغاتهم محرفة مرخمة ، ولا تزال إلى اليوم تقرؤها في معاجم اللغات اللاتينية خاصة، ومنها «أمير الماء» فحرف

٤٤

منها الفرنج وصاغوا لفظ «اميرال» والأصل فيها أمير الماء أي الربان الأعظم وقائد الأسطول ، وقد أخذ الفرنج من العرب استعمال إبرة السفينة (الحك أو الحقة) وكان العرب أخذوها عن الصينيين فيما قيل وأخذها الفرنج عنهم في الحروب الصليبية.

ولما فتح العثمانيون الشام ومصر كان الأسطول العثماني في إبان قوته ، وكانت بعض سفنهم تقلع من مواني الروم وتأتي ساحل الشام ، وبعضها يقف بالمرصاد لقرصان البحر ، وإذا حدثت فتنة داخلية كانوا يجهزون بعض مراكبهم لتساحل الشام وتشاطئ الأرض التي نجم فيها الشر ، حتى إذا ضعفت بحرية العثمانيين بضعف الدولة ـ ولا سيما بعد أن أحرق أسطولها والأسطول المصري في نافارين يوم الفتنة اليونانية سنة (١٨٢٧) أصبحت السفن التي يتمتع سكان السواحل بمرآها للأمم الحديثة ، ولا سيما الروسيون والجنويون والبنادقة والفرنسيون والإنكليز ، وقلّت سفن البرتقاليين والإسبانيين لأن طرق مستعمرات هاتين الدولتين وتجاراتهما لم تكن على بحرنا ، وسفنهم تمخر العباب إلى وجهات أخرى في أميركا وآسيا. والغالب أن الصناعة أي صنع المراكب كان خاصا بالإستانة ولم يعهد في دور العثمانيين أن أنشأوا سفنا في صناعات الشام. وكان للعثمانيين مراكب في الفرات يستخدمونها لنقل جيوشهم من الشام إلى العراق ، ولا سيما في زمن الثورات والأزمات ، على ما يفهم من كتاب أسفار البحار لكاتب جلبي.

وانحلت بحرية الترك في أواخر أيامهم حتى صرت لا تشاهد في ساحل الشام إلا على الندر مراكب عثمانية ، وهي إذا قيست إلى غيرها تبين الفرق العظيم بين بحرية الأمم المتحركة المتجددة وبحرية الأمة الجامدة الخامدة. وكانت الدولة إن صحت عزيمتها في أواخر أيامها أن تنشئ لها طرادا أو رعادا أو غواصة أو دارعة أو يختا ، توصي عليه في صناعات إيطاليا أو فرنسا أو إنكلترا ، لأن العلم بذلك فقد من بنيها ، ولم تسر مع العصر في الرقي البحري ، كما سارت مع العصر في الجيش البري ، بمعنى أن الدولة العثمانية أصبحت قبيل انقراضها دولة برية فقط ، وكانت تجمع المزيتين

٤٥

البرية والبحرية أيام كانت ترتعد الفرائص منها في الغرب ، ويتمنى عظماء ملوكها أن يخطبوا ودها كل ساعة لقوة أساطيلها وجيوشها.

وقد ظهر في حرب چناق قلعة الأخيرة مثال من ترقي بحرية الحلفاء ، ونموذج من ترقي جيش العثمانيين ، واستبسال قوادهم وضباطهم وأفرادهم. وفي مغادرة الحلفاء ذاك الشاطئ بعد أن أضاعوا زهاء مئة ألف من جنودهم مدة حربهم عليه سنة وزيادة اعتراف ضمني للعثمانيين بتفوقهم بجيوشهم البرية ، وأن العسكري التركي من خير جنود الأرض صبرا وإقداما على الموت.

قصورنا في البر والبحر :

ومن الغريب أن أهل الساحل ، ومنهم قسم يفتخر بأنه من نسل الفينيقيين سادة البحار ، لم تتعلق هممهم على كثرة ما بلغه الشامي من درجات الغنى والتمدن في مهاجره ، أن ينشئوا لهم أسطولا تجاريا صغيرا على النحو الذي تفعل أضعف الشعوب لتغدو وتروح على الأقل بين سواحل البحر المتوسط والبحر الأحمر والبحر الأسود ، يحملون عليها متاجرهم وينقلون قاصديهم وأبناءهم ، ويعتمدون عليها في نقل صادرات القطر ووارداته ، على الصورة التي كانت لليونان قبل أن ينادوا باستقلال بلادهم منذ نحو مئة سنة ، فكان لهم أسطول تجاري قلبوه أسطولا حربيا يوم استقلوا. وأغرب من هذا أن يقال للقطر الشامي إنه مستقل ، وما شوهدت قط في قديم ولا حديث ، أمة مستقلة لا أسطول لها ولا معسكر. وهذا من أغرب ما يدونه المدونون ، من أخبار هذه القرون. ولا سبب لذلك إلا أن بعض أهل الساحل يفضلون أن يعيشوا عبيدا على أن يعيشوا سادة مستقلين ، وكانوا يرون أن فرنسا حاميتهم والمحمي أبدا مقطور في ذنب حاميه.

٤٦

الجباية والخراج

جبايات القدماء :

عزّ علينا الظفر بنص صريح في أصول الجباية عند الأمم القديمة التي انبسط سلطانها على هذا القطر ، وغاية ما عرفنا عن الرومان وهي الأمة الأعرق في المدنية من غيرها والتي طال عهدها سبعمائة سنة ، أنه كان يقضى على الشعب الشامي أن يؤدي الجزية وعشر غلاته ، وإتاوة من المال ، ورسما على كل رأس. وللشعب الروماني مواد مهمة من الجمارك والمناجم والضرائب والحقول الصالحة لزرع الحنطة والمراعي يؤجرونها من شركات متعهدين يسمونهم العشارين ، يبتاعون من الحكومة حق جباية الخراج. وفي كل ولاية عدة شركات من العشارين ولكل شركة مستخدمون من الكتاب والجباة يظهرون في مظهر السادة ، ويتناولون أكثر مما يجب لهم أخذه ، ويسلبون نعمة الأهلين ، وكثيرا ما يبيعونهم كما يباع الرقيق. ولما كان الرومان قد جمعوا ثروة الأمم المغلوبة أصبحت الدراهم كثيرة جدا في رومية ، ونادرة جدا في الولايات ، فكان يتيسر في رومية الاقتراض بفائدة أربعة أو خمسة في المائة ، أما في الولايات فلا يقل عن اثني عشر في المائة. وإذا لم يستطع المدين أن يوفي رأس المال ورباه يعمد الصيارف في تقاضي أموالهم إلى الطرق التي يستعملها العشارون. أوجز أحدهم السياسة الامبراطورية في الرومان بقوله : «الراعي الصالح يجزّ صوف غنمه ولا ينتفه» فمضى قرنان وأباطرة الرومان يكتفون بجز سكان مملكتهم ، يسلبون منهم كثيرا من الأموال ولكنهم يحمونهم من العدو الخارجي.

٤٧

ويقول لامنس : إن الرومان ضربوا الجزية على أهالي الشام ، على الذكور من سن الرابعة عشرة وعلى الإناث من الثانية عشرة إلى سن ٦٥ من عمرهم جميعا وفرضوا عليهم خراجا جبوه من الأملاك يبلغ في المئة واحدا ورسموا أيضا ضرائب ومكوسا على الواردات والصادرات من السلع إلا أن هذه الرسوم مع ثقلها كانت أخف على عاتق الشاميين من المغارم والسخر التي حملهم إياها ملوكهم سابقا ، وكانوا يتقاضونها دون نظام معلوم وفي أي آن شاءوا. اه.

وفي قاموس الكتاب المقدس أن العشار ملتزم الأعشار والضرائب عند الرومانيين وكانوا مشهورين بالظلم والصرامة ، وأن التعشير جرى قبل أيام موسى بكثير بين الأمم القديمة ولا سيما الآسيوية وأدخلها موسى بإلهام إلهي في شريعته وأعطيت العشور للاويين الذين لم يكن لهم نصيب من الأرض فالتزموا أن يأخذوا معاشهم من إخوتهم ، وكانوا يعشرون البقر وبقية المواشي ولم يكن عشر الأعشاب مطلوبا إلا أن الفريسيين كانوا يعشرون النعنع والشبث والكمون. أما الجزية على ما يؤخذ من روايات التوراة فقد علم أن الشريعة الموسوية كانت تفرض على كل معدود نصف شاقل ينفق في سبيل خيمة الاجتماع ، وفي الأيام الأولى من تاريخ العبرانيين إلى أيام الملوك لم تكن للخدمة المدنية والعسكرية وإنما قدم الشعب من عمله ومقنياته تبرعا حتى جعل الملوك جزية أو خراجا على الأرض وأكمل ذلك سليمان إلى درجة ثقيلة جدا على الشعب.

الجباية في الإسلام :

اعتمدت العرب أول الفتح في تنظيم دواوين أموالها على الروم في الشام ، ينظرون لهم في مسائل الدخل والخرج ، ووضع التوازن بحسب عرف تلك الأيام ، وذلك لأن العرب كانوا لأول أمرهم نصف أميين أو نصف متحضرين وأهل الشام أعرق منهم في الحضارة وما ينبغي لها ، حتى كان زياد يقول : ينبغي أن يكون كتاب الخراج من رؤساء الأعاجم العالمين بامور الخراج.

ولقد كان الإسراف يبدو في الأموال أيام الترف والنعيم ، ويتجلى الاقتصاد فيها على عهد الجدّ والإصلاح ، وذلك يرجع على الأغلب إلى من يتولى

٤٨

أمر الأمة من خليفة أو سلطان أو ملك أو أمير ، فإذا صلح الرأس صلح الجسد كله. وإذ كانت دواعي الإنفاق محصورة في الداخل ، وكان النقد أقل من هذه الأيام بالطبع ، والتفنن في ضبط الشؤون الاقتصادية لم يبلغ مبلغه في القرون الأخيرة ، وحركة المعاملات والمقايضات محدودة ، وأضعف من العصور الحديثة ـ كانت المسائل المالية لعهد العرب إلى السذاجة لأول الأمر شأنهم في عامة أمورهم.

والجباية أول الدولة كما قال ابن خلدون تكون قليلة الوزائع كثيرة الجملة ، وآخر الدولة تكون كثيرة الوزائع قليلة الجملة ، فإن كانت الدولة على سنن الدين فليست إلا المغارم الشرعية من الصدقات والخراج والجزية ، وهي قليلة الوزائع ، لأن مقدار الزكاة من المال قليل ، وكذا زكاة الحبوب والماشية ، وكذا الجزية والخراج وجميع المغارم الشرعية وهي حدود لا تتعدى ، وإن كانت على سنن التغلب والعصبية فلا بد من البداوة في أولها ، والبداوة تقتضي المسامحة والمكارمة وخفض الجناح ، والتجافي عن أموال الناس والغفلة عن تحصيل ذلك إلا في النادر. قال : والدولة تكون في أولها قليلة الحاجات لعدم الترف وعوائده ، فيكون خرجها وإنفاقها قليلا ، ويكون في الجباية حينئذ وفاء بأزيد منها ، بل يفضل منها كثير عن حاجاتهم، ثم لا تلبث أن تأخذ بدين الحضارة في الترف ، فيكثر لذلك خراج أهل الدولة ، ويكثر خراج السلطان خصوصا كثرة بالغة ، فيزيد في مقدار الوظائف والوزائع ، ويستحدث أنواعا من الجباية يضربها على البياعات ، ويفرض لها قدرا معلوما على الأثمان في الأسواق ، وعلى أعيان السلع في المدينة.

ضروب الجباية :

كانت الجباية في الصدر الأول تجمع من الخراج والعشور والصدقات والجوالي (١) أي إن لها أربعة موارد رئيسة ، ثم صارت أصول جهات

__________________

(١) «الفيء» ما يؤخذ من أرض العنوة «الخراج» ما يؤخذ من أرض الصلح «العشر» ما يؤخذ من زكاة الارض التي أسلم اهلها عليها والتي أحياها المسلمون من الأرضين أو القطائع ـ

٤٩

الأموال السلطانية عشرة : الجزية والخراج والعشور والأجور والزكوات وأثمان المبيعات والمقاسمات والغنيمة والفيء والمعادن. وزادت أنواع الجباية على عهد الانحطاط ونسي المتغلبون أو الفاتحون «أن تكثير المالك ماله بأموال رعيته بمنزلة من يحصن سطوحه بما يقتلعه من قواعد بنيانه».

قال الظاهري : إن كثرة الأموال وقلتها بقدر المعرفة باجتلابها من جزى مقررة ، ومتاجر معشرة ، وأخرجة محضرة ، وعشور محررة ، وقسم مقدرة ، وغنائم موفرة ، وفيء من جهات غير منحصرة ، هذا إلى زكوات واجبة ، وأجور لازمة ، وديات دماء ذاهبة ، ومحرر مباحات راتبة ، ومستخرج معادن غير ناهبة ، وعداد نعم سائمة لا سائبة ، ووظائف على أكرة عاملة ناصبة ، إلى غير ذلك من تربيع مزارع ، وتوزيع قطائع ، وتوسيع مراتع ، وتفريع مواضع ، وترجيع طوالع. فهذه جهات أموال جعل الشرع بيد السلطنة زمام استخراجها ، ومكن من استيفائها بسلوك طريقها ومنهاجها ، وفوض فيها حقوقا تجب رعايتها ، عند صرفها وإخراجها اه

وقال الغزالي : وكل ما يحمل للسلطان سوى الأحياء وما يشترك فيه

__________________

ـ «صدقات الماشية» وهي زكاة السوائم من الإبل والبقر والغنم دون العوامل والمعلوفة «الكراع» هي الدواب لا غير «الحشري» هو ميراث من لا وارث له «الركاز» دفين الجاهلية «سيب البحر» هو عطاء البحر كاللؤلؤ والمرجان والعنبر ونحوه. ومن أبواب المال أخماس المعادن وأخماس الغنائم وجزاء رؤوس أهل الذمة جمع جزية وهو معرب كزيت وهو الخراج بالفارسية «مال الجوالي» جمع جالية وهم الذين جلوا عن أوطانهم ويسمى في بعض البلدان مال الجماجم وهي جمع جمجمة وهي الرأس «المكس» ضريبة تؤخذ من التجار في المراصد «الطسق» الوظيفة توضع على أصناف الزروع لكل جريب وهو بالفارسية تشك وهو الأجرة «الاستان» المقاسمة «الإقطاع» أن يقطع السلطان رجلا أرضا فتصير له رقبتها وتسمى تلك الأرضون قطائع واحدتها قطيعة «الطعمة هي أن تدفع الضيعة الى رجل ليعمرها ويؤدي عشرها وتكون له مدة حياته فإذا مات ارتجعت من ورثته والقطيعة تكون لعقبه من بعده «الإبغار» هو الحماية وذلك أن تحمى الضيعة او القرية فلا يدخلها عامل ويوضع عليها شيء يؤدى في السنة لبيت المال في الحضرة أو في بعض النواحي. «التسويغ» أن يسوغ الرجل شيئا من خراجه في السنة وكذلك الحطيطة والتريكة «العبرة» ثبت الصدقات لكورة وعبرة سائر الارتفاعات هو أن يعتبر مثلا ارتفاع السنة التي هي أقل ريعا والسنة التي هي أكثر ريعا ويجمعان ويؤخذ نصفهما فتلك العبرة بعد أن تعتبر الأسعار وسائر العوارض الواقعة «التلجئة» أن يلجئ الضعيف ضيعته الى قوي ليحامي عليها وجمعها الملاجئ والتلاجئ وقد يلجئ القوي الضيعة وقد ألجأها صاحبها اليه. (مفاتيح العلوم).

٥٠

الرعية قسمان : قسم مأخوذ من الأعداء وهو الغنيمة المأخوذة بالقهر. والفيء وهو الذي حصل من مالهم في يده من غير قتال. والجزية وأموال المصالحة وهي التي تؤخذ بالشروط والمعاقدة. والقسم الثاني المأخوذ من المسلمين فلا يحل منه إلا قسمان. المواريث وسائر الأموال الضائعة التي لا يتعين لها مالك. والأوقاف التي لا متولي لها. أما الصدقات فليست توجد في هذا الزمان ـ أي في القرن الخامس ـ وما عدا ذلك من الخراج المضروب على المسلمين والمصادرات وأنواع الرشوة كلها حرام. وقال أيضا : إن أموال السلاطين في عصرنا حرام كلها أو أكثرها وكيف لا والحلال هو الصدقات والفيء والغنيمة لا وجود لها ، وليس يدخل منها شيء في يد السلطان ولم يبق إلا الجزية وإنما تؤخذ بأنواع من الظلم لا يحل أخذها به. فإنهم يجاوزون حدود الشرع في المأخوذ والمأخوذ منه ، والوفاء له بالشرط. ثم إذا نسبت ذلك إلى ما ينصبّ إليهم من الخراج المضروب على المسلمين ، ومن المصادرات والرّشى وصنوف الظلم لم يبلغ عشر معشار عشيرة.

أول ما فرض من الجباية :

عرف أول شيء من المال فرض على أهل دومة الجندل من الكتاب الذي أرسله النبي مع حارثة بن قطن الكلبي من أهل دومة الجندل يقول فيه : هذا كتاب من محمد رسول الله إلى أهل دومة الجندل وما يليها من طوائف كلب لنا الناجية من النخل ولكم الصامتة من النخل ، على الجارية العشر وعلى الغايرة نصف العشر ، لا تمنع سارحتكم ، ولا تعد فاردتكم (١) ، تقيمون الصلاة لوقتها ، وتؤتون الزكاة بحقها ، لا يحظر عليكم النبات ، ولا يؤخذ منكم عشر النبات ، لكم بذلك عهد الله والميثاق ، ولنا عليكم النصح والوفاء وذمة الله ورسوله. شهد الله ومن حضر من المسلمين اه.

واختلف مقدار الجبايات باختلاف العصور. وكان لأول الفتح ضرب الخراج على الأرض والجزية على الرقاب ، وراعى الخليفة الثاني حال الشام فعمل في نواحيها غير ما عمل في غيرها من الأرضين التي فتحت في عهده ،

__________________

(١) الفاردة : الزائدة عن الفريضة أي لا تضم الى غيرها فتعد معها وتحسب. السارحة الماشية.

٥١

راعى كل أرض ما تحتمله وكانت الجزية في بدء الأمر دينارا في كل حول على كل جمجمة ثم وضعها عمر بن الخطاب على الذهب أربعة دنانير ، وعلى الورق أربعين درهما ، وجعلهم طبقات لغنى الغني ، وإقلال المقلّ ، وتوسط المتوسط ، وقيل : جعل على كل رأس موسر ثمانية وأربعين درهما ومن الوسط أربعة وعشرين درهما ومن الفقير اثني عشر درهما. والجزية تؤخذ من غير المسلمين. والخراج يشترك فيه كل من يملك أرضا.

وصالح أبو عبيدة بن الجراح نصارى الشام حين دخلها على أن تترك لهم كنائسهم وبيعهم ، وعليهم إرشاد الضال ، وبناء القناطر على الأنهار من أموالهم ، وأن يضيفوا من مرّ بهم من المسلمين ثلاثة أيام. وصالحهم عمر على ضيافة من مرّ بهم من المسلمين ثلاثة أيام مما يأكلون ولا يكلفهم ذبح شاة أو دجاجة ، وتبيت دوابهم على غير شعير وجعل ذلك على أهل السواد دون المدن.

ولما مسح عمر السواد وضع على كل جريب (١) عامر أو غامر يناله الماء بدلو أو بغيره زرع أو عطل درهما وقفيزا (٢) واحدا. وألغى عمر النخل عونا لأهل السواد. وأخذ من جريب الكرم عشرة دراهم ، ومن جريب السمسم خمسة دراهم ، ومن الخضر من غلة الصيف من كل جريب ثلاثة دراهم ، ومن جريب القطن خمسة دراهم ، ثم حمل الأموال على قدر قربها وبعدها فجعل على كل مائة جريب زرع مما قرب دينارا ، وعلى كل مائتي جريب مما بعد دينارا ، وعلى كل ألف أصل كرم مما قرب دينارا ، وعلى كل ألفي أصل كرم مما بعد دينارا ، وعلى الزيتون على كل مائة

__________________

(١) الجريب : عشر قصبات في عشر قصبات ، والقفيز : عشر قصبات في قصبة ، والعشير : قصبة في قصبة ، والقصبة ستة أذرع ، فيكون الجريب ثلاثة آلاف وستمائة ذراع مكسرة ، وأما الذراع فسبعة أصناف وهو يختلف باصطلاح كل بلد وقطر.

(٢) القفيز : مكيال ثمانية مكاكيك جمع مكوك. وفي القاموس : المكوك مكيال يسع صاعا ونصفا أو نصف رطل إلى ثمان أواقي أو نصف الويبة والويبة اثنان وعشرون أو أربعة وعشرون مدا بمد النبي (ص) او ثلاث كيلجات. والكيلجة تسع منا وسبعة أثمان منا والمنا رطلان ، والرطل اثنتا عشرة أوقية والأوقية إستار وثلثا استار والإستار أربعة مثاقيل ، ونصف المثقال درهم وثلاثة أسباع درهم والدرهم ستة دوانق ، والدانق قيراطان والقيراط طسوجان ، والطسوج حبتان ، والحبة سدس ثمن درهم وهو جزء من ثمانية وأربعين جزءا من درهم.

٥٢

شجرة مما قرب دينارا ، وعلى كل مائتي شجرة مما بعد دينارا ، وكان غاية البعد عنده مسيرة اليوم أو اليومين وأكثر من ذلك ، وما دون اليوم فهو في القرب ، وحمّلت الشام على مثل ذلك. وقد ذكر عن بعض أهل المدينة وأهل الشام أنه تخرج زكاة الخضر من أثمانها على حساب مائتي درهم خمسة دراهم. أما المكوس على البضائع فكانت تختلف باختلاف الأعصار وكانت قليلة في العهد الأول. كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن خذ من تجار المسلمين من كل مائتين خمسة دراهم ، وما زاد على المائتين فمن كل أربعين درهما درهم ، ومن تجار أهل الخراج نصف العشر ومن تجار المشركين ممن لا يؤدي الخراج العشر أي من أهل الحرب.

أول من وضع العشور عمر لقوله عليه الصلاة والسلام : ليس على المسلمين عشر وإنما العشور على اليهود والنصارى وقال : يا معشر العرب احمدوا الله الذي وضع عنكم العشور. ولا تؤخذ الصدقات إلا مرة في السنة إلا أن يجد الإمام فضلا. وكانوا يسمون ما يجمعون من الغنائم الأقباض ويقسمونها بين الفاتحين. وأمر عمر عثمان بن حنيف لما أرسله لمسح السواد أن لا يمسح تلا ولا أجمة ولا مستنقع ماء ولا ما لا يبلغه الماء. ولما فرض على الرقاب وجعل على من لا يجد أي الفقير اثني عشر درهما في السنة قال : درهم في الشهر لا يعوز رجلا. وكان يأخذ الجزية من أهل كل صناعة من صناعتهم بقيمة ما يجب عليهم وكذلك فعل علي.

ذكروا في الفيء والخراج أن من صولحوا إذا عجزوا يخفف عنهم ، وإن احتملوا أكثر من ذلك فلا يزاد عليهم ، وإن تظالموا فيما بينهم حملهم إمام المسلمين على العدل ، ووضع ذلك الصلح عليهم جميعا بقدر ما يطيقون في أموالهم وأراضيهم ، ولا يطرح عنهم شيء لموت من مات ولا لإسلام من أسلم منهم ، ويؤخذ بذلك كل من بقي منهم ما كانوا يطيقونه ويحتملونه. كتب عمر إلى سعد حين افتتح العراق : أما بعد فقد بلغني كتابك تذكر أن الناس سألوك أن تقسم بينهم مغانمهم وما أفاء الله عليهم ، فإذا أتاك كتابي هذا فانظر ما أجلب الناس به إلى العسكر من كراع أو مال فاقسمه بين من حضر من المسلمين ، واترك الأرضين والأنهار لعمالها ليكون ذلك في

٥٣

أعطيات المسلمين ، فإنك إن قسمتها بين من حضر لم يكن لمن بقي بعدهم شيء ، وقد كنت أمرتك أن تدعو الناس إلى الإسلام فمن أسلم واستجاب لك قبل القتال فهو رجل من المسلمين له ما لهم وله سهم في الإسلام ، ومن استجاب لك بعد القتال وبعد الهزيمة فهو رجل من المسلمين وماله لأهل الإسلام لأنهم قد أحرزوه قبل الإسلام اه.

ولما طعن عمر قال : أوصي الخليفة من بعدي بأهل الأمصار خبرا ، فإنهم جباة المال، وغيظ العدو ، وردء المسلمين ، وأن يقسم بينهم فيئهم بالعدل ، وأن لا يحمّل من عندهم فضل إلا بطيب أنفسهم ، وأوصى الخليفة من بعده بأهل الذمة وأن يوفي لهم بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم وأن لا يكلفوا فوق طاقتهم. وكان كثيرا ما يصادر عماله ويجعل أموالهم في بيت المال. ولما ولى سعيد بن عامر بن حذيم حمص وما يليها أمره بوضع الخراج والرفق بالرعية

وقد ارتفع خراج الشام على عهد عمر بن الخطاب خمسمائة ألف دينار. فلما أفضى الأمر إلى معاوية قطع الوظائف على أهل المدن فوظف على أهل قنسرين أربعمائة وخمسين ألف دينار على الجماجم من ذلك الثلثان. وعلى أهل دمشق أربعمائة وخمسين ألف دينار على الجماجم من ذلك الثلثان. وعلى الأردن مائة وثمانين ألف دينار على الجماجم من ذلك الثلثان ، وعلى فلسطين مثل ذلك. ثم جعل بعد ذلك يصطفي الأرض الجيدة ويدفعها إلى الرجل بخراجها وعلوجها والخراج على أصله لا ينقص منه شيء.

عهد الأمويين :

والإقطاع إقطاعان : إقطاع تمليك وهو موات وعامر ومعادن ، وإقطاع استغلال وهو عشر وخراج. واللقاح البلد الذي لا يؤدي إلى الملوك الأربان والأربان هو الخراج وهو الإتاوة. قال مكحول : كل عشري بالشام فهو مما جلا عنه أهله فأقطعه المسلمون فأحيوه وكان مواتا لا حق فيه لأحد فأحيوه بإذن الولاة. وأول من أقطع الأرضين وباعها عثمان ولم يقطعها أبو بكر ولا عمر ولا علي.

٥٤

وكانت الجباية تقل عندما ينكسر الخراج فلا يحمل شيء كثير منه لقحط أو زلزال أو وباء. وكان عمال معاوية يحملون إليه هدايا النيروز والمهرجان فيحمل إليه في النيروز وغيره وفي المهرجان عشرة آلاف ألف. وهدايا النيروز والمهرجان مما رده عمر بن عبد العزيز كما رد السخرة والعطاء وورّث العيالات على ما جرت به السنة. غير أنه أقر القطائع التي أقطعها أهل بيته ، والعطاء في الشرف لم ينقصه ولم يزد فيه ، وزاد أهل الشام في أعطياتهم عشرة دنانير ثم رأى أن ينكثها وسماها مظالم. وكتب إلى عماله عامة : «أما بعد فإن الناس قد أصابهم بلاء وشدة وجور في أحكام الله وسنن سيئة سنتها عليهم عمال السوء قلما قصدوا قصد الحق والرفق والإحسان». وبقي العطاء (الرواتب) على حاله حتى نقص يزيد بن الوليد الناس من عطائهم فسمي يزيد الناقص.

وبينما كان عمر بن عبد العزيز يقول لأسامة بن زيد التنوخي وكان على ديوان الجند بدمشق لما بعثه سليمان بن عبد الملك على مصر يتولى خراجها : ويحك يا أسامة إنك تأتي قوما قد ألحّ عليهم البلاء منذ دهر طويل فإن قدرت أن تنعشهم فأنعشهم. كان سليمان يقول لعامله أسامة : احلب حتى ينفيك الدم. فإذا نفاك فاحلب حتى ينفيك القيح ، لا تبقها لأحد بعدي. فعمل أسامة في مصر أعمالا جائرة حتى استخرج من أهلها اثني عشر ألف ألف دينار.

ولما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة جعل لا يدع شيئا مما كان في أيدي أهل بيته من المظالم إلّا ردها مظلمة مظلمة. خطب على المنبر ذات يوم فقال : أما بعد فان هؤلاء يعني خلفاء بني أمية قد كانوا أعطونا عطايا ما كان ينبغي لنا أن نأخذها منهم وما كان ينبغي لهم أن يعطونا إياها ، وإني قد رأيت الآن أنه ليس عليّ في ذلك دون الله حسيب ، وقد بدأت بنفسي والأقربين من أهل بيتي. اقرأ يا مزاحم ، فجعل مزاحم يقرأ كتابا كتابا فيه الإقطاعات بالضياع والنواحي ثم يأخذه عمر بيده فيقصه بالجلم أي المقراض.

ولقد اجتمع إليه بنو أمية لما عزم عمر بن عبد العزيز على أخذ ما في

٥٥

أيديهم من حقوق الناس ورده على أهله وكلموه فقال : إنكم أعطيتم في هذه الدنيا حظا فلا تنسوا حظكم من الله ، وإني لأحسب شطر أموال بني الدنيا وأمة محمد في أيديكم ظلما ، والله لا تركت في يد أحد منكم حقا لمسلم ولا معاهد إلا رددته. وقال لبني مروان : أدوا ما في أيديكم من ـ حقوق الناس ولا تلجئوني إلى ما أكره فأحملكم على ما تكرهون فلم يجبه أحد منهم. فقال : أجيبوني فقال رجل منهم : والله لا نخرج من أموالنا التي صارت إلينا من آبائنا فنفقر أبناءنا ، ونكفر آباءنا ، حتى نزايل رؤوسنا فقال عمر : أما والله لو لا أن تستعينوا عليّ بمن اطلب الحق لهم لأضرعت خدودكم عاجلا ، ولكنني أخاف الفتنة ، ولئن أبقاني الله لأردن إلى كل ذي حق حقه إن شاء الله. وكان عمر إذا نظر إلى بعض بني أمية فيما روي قال : إني أرى رقابا سترد إلى أربابها.

وضع عمر بن عبد العزيز المكس عن كل أرض ، ووضع الجزية عن كل مسلم ، وأباح الأحماء كلها إلا النقيع. وفرض للناس إلا للتاجر لأن التاجر مشغول بتجارته عما يصلح المسلمين وسوّى بين الناس في طعام الجار. وكان أكثر ما يكون طعام الجار أربعة أرادب ونصف لكل إنسان. وكتب إلى أحد عماله أن استبرئ الدواوين فانظر إلى كل جور جاره من قبلي من حق مسلم أو معاهد فردها عليه ، فإن كان أهل تلك المظلمة قد ماتوا فادفعه إلى ورثتهم. وما زال يرد المظالم من لدن معاوية إلى أن استخلف وقد أخرج من أيدي ورثة معاوية ويزيد بن معاوية حقوقا.

وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة ومن قبله من المسلمين والمؤمنين : أما بعد فانظر أهل الذمة فارفق بهم وإذا كبر الرجل منهم وليس له مال فأنفق عليه فإن كان له حميم فمر حميمه ينفق عليه ، وقاصه من خراجه كما لو كان لك عبد فكبرت سنه لم يكن لك بدّ من أن تنفق عليه حتى يموت أو يعتق. وكتب إليه : ضع عن الناس المائدة والنوبة والمكس ، ولعمري ما هو المكس ولكنه البخس الذي قال فيه الله (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ*). فمن أدى زكاة ماله فاقبل منه ومن لم يؤد فالله حسيبه. وحرم عمر بن عبد العزيز الكلأ في كل أرض.

٥٦

ولم يزل رأيه والذي يشير به على من ولي هذا الأمر من أهل بيته توفير هذا الخمس على أهله فكانوا لا يفعلون ذلك ، فلما ولي الخلافة نظر فيه فوضعه مواضعه الخمسة ، وآثر به أهل الحاجة من الأخماس حيث كانوا ، فإن كانت الحاجة سواء وسع في ذلك بقدر ما يبلغ الخمس ، وإنه ربما أعطى المال من يستألف على الإسلام وإنه أعطى بطريقا ألف دينار استألفه على الإسلام. وأمر أن لا يؤخذ من المعادن الخمس ، وتؤخذ منها الصدقة ، وأنكر التسخير في سلطانه ، وضرب أحدهم أربعين سوطا لأنه سخر دواب النبط. ومما كتبه إلى أحد عماله : أما بعد فخل بين أهل الأرض وبين مبيع ما في أيديهم من أرض الخراج ، فإنهم إنما يبيعون فيء المسلمين والجزية الراتبة. وكتب بإباحة الجزائر وقال : إنما هو شيء أنبته الله فليس أحد أحق به من أحد.

دخل عامل لعمر بن عبد العزيز عليه فقال : كم جمعت من الصدقة فقال : كذا وكذا قال : فكم جمع الذي كان قبلك قال كذا وكذا فسمى شيئا كثيرا من ذلك فقال عمر : من أين ذاك قال : يا أمير المؤمنين إنه كان يؤخذ من الفرس دينار ومن الخادم دينار ومن الفدان خمسة دراهم وإنك طرحت ذلك كله قال : لا والله ما ألقيته ولكن الله ألقاه. وكتب : إني ظننت أن جعل العمال على الجسور والمعابر أن يأخذوا الصدقة على وجهها فتعدى عمال السوء ما أمروا به. وقد رأيت ان أجعل في كل مدينة رجلا يأخذ الزكاة من أهلها فخلوا سبيل الناس في الجسور والمعابر. وكتب إلى عامله أن لا تقاتلن حصنا من حصون الروم ولا جماعة من جماعاتهم حتى تدعوهم إلى الإسلام ، فإن قبلوا فاكفف عنهم ، وإن أبوا فالجزية فإن أبوا فانبذ إليهم على سواء.

وفي عهد عمر بن عبد العزيز وقد أصبحت عادة للخلفاء «إذا جاءتهم جبايات الأمصار والآفاق يأتيهم مع كل جباية عشرة رجال من وجوه الناس وأجنادها فلا يدخل بيت المال من الجباية دينار ولا درهم حتى يحلف الوفد بالله الذي لا إله إلا هو ما فيها دينار ولا درهم إلا أخذ بحقه ، وأنه فضل أعطيات أهل البلد من المقاتلة والذرية ، بعد أن أخذ كل ذي حق حقه»

٥٧

أي فضل أعطيات الأجناد وفرائض الناس. أما من جاءوا من قبل ومن بعد من بني أمية فكانوا أشكالا ومشارب منهم الجمّاعة ومنهم المبدد. فقد كان في بيت مال الوليد يوم قتل سنة (١٢٦ ه‍) سبعة وسبعون ألف ألف دينار ففرقها يزيد عن آخرها. وذكر المؤرخون أن الوليد بن عبد الملك بن مروان أقطع جند أنطاكية أرض سلوقية عند الساحل وصير إليهم الفلثر بدينار ومدّي قمح فعمّروها وأجرى ذلك لهم وبنى حصن سلوقية. والفلثر مقدار من الأرض معلوم كما يقول غيرهم الفدّان والجريب.

عهد العباسيين ومساحة الشام :

وعدّل أبو جعفر المنصور أرض الغوطة غوطة دمشق فجعل كل ثلاثين مدا بدينار بالقاسمي وكان أداء الناس على ذلك. وكان الخلفاء من بني العباس يعمدون إلى إبطال الرسوم عندما يتجلى لهم ضررها ولا يقطعون أمرا بدون أخذ آراء جلة الفقهاء في عصرهم. فقد أمر المعتضد سنة (٢٨٣) بالكتابة إلى جميع البلدان أن يرد الفاضل من سهام المواريث إلى ذوي الأرحام وأبطل ديوان المواريث. وخلف المعتضد هذا في بيوت الأموال تسعة آلاف ألف دينار ومن الورق ألف ألف درهم. وقد كنت ترى في أيام العباسيين عدلا شاملا لا مثيل له حينا وتجد ظلما شائنا في دور آخر ، فعهد الرشيد والمأمون والمهدي والظاهر كان عجبا في العدل وانتظام الجباية. فقد كتب المأمون سنة (٢١٨) إلى إسحاق بن يحيى بن معاذ عامله على جند دمشق في التقدم إلى عماله في حسن السيرة وتخفيف المؤونة وكف الأذى عن أهل عمله قائلا : فتقدم إلى عمالك في ذلك أشد التقدمة ، واكتب إلى عمال الخراج مثل ذلك. وكتب إلى جميع عماله في أجناد الشام جند حمص والأردن وفلسطين بمثل هذا.

والمهدي افتتح أمره بالنظر في المظالم وبسط يده في العطاء فأذهب جميع ما خلفه المنصور وهو ستمائة ألف ألف درهم وأربعة عشر ألف ألف دينار سوى ما جباه في أيامه. والمأمون أقام سنة بدمشق (٢١٤) لمساحة أرض الشام واجتلب لتعديله مساح العراق والأهواز والري وكان جده أبو جعفر

٥٨

المنصور تشبث بذلك فلم يتم له فبعث بقية بن الوليد ليمسح أراض دمشق كما كان بعث إسماعيل بن عياش إلى دمشق فعدل أرضها الخراجية وعدّل أحمد بن محمد أرض دمشق والأردن وكان على ديوان الخراج سنة (٢٤٠) وحمل كل أرض ما تستحقه. وقال المسعودي : احتال كتاب الدواوين على المتوكل لخوفهم منه وقالوا : إن البلد يحتاج أن يعدل ولا يقوم بالتعديل إلا من ولي ديوان الخراج فتوجه سنة (٢٤٠) يعدل دمشق والأردن.

قال الرشيد للحسن بن عمران يوم أدخل عليه في الحديد : وليتك دمشق وهي جنة تحيط بها غدر ، تتكفأ أمواجها على رياض كالزرابي ، واردة منها كفايات المؤن إلى بيوت أموالي ، فما برح بك التعدي لإرفاقهم فيما أمرتك حتى جعلتها أجرد من الصخر وأوحش من القفر. قال : والله يا أمير المؤمنين ما قصدت لغير التوفير من جهته ، ولكن وليت أقواما ثقل على أعناقهم الحق فتفرقوا في ميدان التعدي ، ورأوا المراغمة بترك العمارة أوقع بإضرار الملك وأنوه بالشنعة على الولاة ، فلا جرم أن أمير المؤمنين قد أخذ لهم بالحظ الأوفر من مساءتي اه. وفي أيام الرشيد رفضت ضياع في فلسطين وتركها أهلها فوجه الرشيد هرثمة بن أعين لعمارتها فدعا قوما من مزارعيها وأكرتها إلى الرجوع إليها على أن يخفف عنهم من خراجهم وتلين معاملتهم فرجعوا فأولئك أصحاب التخافيف ، وجاء قوم منهم بعد فردّت عليهم أرضوهم على مثل ما كانوا عليه ، فهم أصحاب الردود.

والمهدي أول من نقل الخراج إلى المقاسمة وكان السلطان يأخذ عن الغلات خراجا مقررا ولا يقاسم وجعل الخراج على النخل والشجر. وأعاد الظاهر من الأموال المغصوبة في أيام أبيه شيئا كثيرا وأطلق المكوس في البلاد جميعها وأمر باعادة الخراج القديم وأن يسقط جميع ما جدده أبوه ، وكان كثيرا لا يحصى ، وفي أيام أبيه خربت العراق وتفرق أهله.

خربت العراق وما إليها من الأمصار والأقطار للشدة في تقاضي الجباية والتفنن في الضرائب وعدم إطرادها على وتيرة واحدة.

وكثيرا ما كان الناس يعذّبون في الخراج ، وقد وقع ذلك في أوائل

٥٩

دولة الأمويين بالشام ، فأخذ جباة الجزية يعذبون بعض أهل الذمة ، ويجعلونهم في الشمس ساعات عقوبة لهم ، فنهى عن ذلك الفقهاء وبطل تعذيب المكلفين من ذاك اليوم. ونص الفقهاء أنه لا يؤخذ شيء من نصراني اتجر في بلاده من أعلاها إلى أسفلها ولم يخرج منها ، وإذا خرج من بلاده إلى غيرها من بلاد المسلمين تاجرا لم يؤخذ منه مما حمل قليل ولا كثير حتى يبيع. وقال مالك في النصراني يكري إبله من الشام إلى المدينة : أيؤخذ منه في كرائهم العشر بالمدينة قال : لا. فإن أكرى من المدينة إلى الشام راجعا يؤخذ منه. ويؤخذ من أهل الحرب ما صالحوا عليه في سلعهم ويؤخذ من عبيدهم كما يؤخذ من ساداتهم. ذكروا أن عمر بن الخطاب قال لأهل الذمة الذين كانوا يتحرون إلى المدينة : إن اتجرتم في بلادكم فليس عليكم في أموالكم زكاة وليس عليكم إلا جزيتكم التي فرضنا عليكم ، وإن خرجتم وضربتم في البلاد وأدررتم أموالكم أخذنا منكم وفرضنا عليكم كما فرضنا جزيتكم ، فكان يأخذ منهم من كل عشرين نصف العشر كلما قدموا من مرة ولا يكتب لهم براءة مما أخذ منهم كما تكتب للمسلمين إلى الحول فيأخذ منهم كلما جاءوا ، وإن جاءوا في السنة مائة مرة ولا يكتب لهم براءة بما أخذ منهم.

وفعل معاوية بالشام والجزيرة واليمن مثل ما فعل بالعراق من استصفاء ما كان للملوك من الضياع وتصييرها لنفسه خالصة وأقطعها أهل بيته وخاصته وهو أول من كانت له الصوافي في جميع البلاد. قال البلاذري : وكانت وظيفة الأردن التي أقطعها معاوية مائة ألف وثمانين ألف دينار ، ووظيفة فلسطين ثلاثمائة ألف وخمسين ألف دينار ، ووظيفة دمشق أربعمائة ألف دينار ، ووظيفة حمص مع قنسرين والكور التي كانت تدعى بالعواصم ثمانمائة ألف دينار ويقال سبعمائة ألف دينار. وكان ارتفاع الشام سنة (٢٠٤ ه‍) وهي أول سنة وجد حسابها بالدواوين بالحضرة ثلاثمائة ألف وستين ألف دينار ، وارتفاع قنسرين والعواصم وارتفاع جند حمص مائتي ألف وثمانية عشر ألف دينار وارتفاع جند دمشق مائة ألف وعشرة آلاف دينار ، وارتفاع جند الأردن مائة ألف وتسعة آلاف دينار ، وارتفاع جند فلسطين مائتي ألف وتسعة وخمسين ألف دينار.

٦٠