خطط الشام - ج ٥

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٥

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩٦

يعرف علم التعبية والمصافات ولا يغفل يوما عن تقوية جسمه بالرياضة البدنية ولا سيما لعب الكرة والجريد والصيد والقنص ليستعين بذلك على القتال. وكان أول اتصال صلاح الدين بنور الدين تفوق صلاح الدين بلعب الكرة. وقد ألف صلاح الدين بين القلوب وجمعها على المقصد الذي أراد حتى لا يشعر المرء في جيشه باختلاف في العادات والمنازع.

وارتقى فن الحرب في الدولتين النورية والصلاحية بين الشاميين. والحرب تعلم في الحرب. والجيش الذي يقوده قائد كنور الدين بنفسه مستعينا بمشاهير قواده ثم يقوده صلاح الدين بنفسه ومشاهير قواده مكتوب له الظفر لا محالة. وكان الجند موسعا عليه كل التوسعة ، وهو على قلة عدده بالنسبة لجيوش الصليبيين منصور في أكثر الوقائع. وكانت نسبته نسبة واحد من المسلمين إلى أربعة من الصليبيين كما كان يوم حطين. والفرنجي يلبس زرد الحديد من فرقه إلى قدمه ، وقد لا يقتل إلا إذا جدّل حصانه ، والشاميون مخفون من السلاح. وكان اعتماد الفريقين على النشاب والنبال يقف جمازة في حومة الوغى يأخذ منها من خلت جعابه والسلطان بنفسه يصف الأطلاب ويجهز أبدا جيشه ويعلمه للبيكار والجمازة من آلات المحامل والأطلاب الكتائب والبيكار الحملة أو الحرب. والجندي الغازي موفور الكرامة والقواد عند السلطان كإخوته وأشقائه وأولاده والأموال دارة على الجميع كما قال عبد المنعم الجلياني شاعر صلاح الدين :

إن الملوك الذين امتدّ أمرهم

لم يخزنوا المال بل مهما حووا بذلوا

كذا السياسة فالأجناد لو علموا

بخل الملوك وجاءت شدة خذلوا

ذكر ياقوت أن الملك العزيز صاحب حلب كان طول مملكته من الشرق إلى الغرب مسيرة خمسة أيام ومثلها من الجنوب إلى الشمال. وفيها ثمانمائة ونيف وعشرون قرية كانت تقوم برزق خمسة آلاف فارس مزاحي العلة موسع عليهم ، وفيها من الطواشية المفاريد ما يزيد على ألف فارس ، يحصل للواحد منهم في العام من عشرة آلاف درهم إلى خمسة عشر ألف درهم وفي أعمالها إحدى وعشرون قلعة يقام بذخائرها وأرزاق مستحفظيها.

وكان جيش المماليك (البحرية والبرجية) قوتهم الوحيدة إذا أحسنوا

٢١

يوما فإساءتهم أيام. وطاعتهم وغناؤهم وبلاؤهم تبع للسلطان ، إذا كان على أخلاق ومتانة خضعوا واستكانوا وكانوا آلة خير لقتال الأعداء والخوارج على الملك ، وإلا أصبحوا من أعظم أدوات الشر ، وكانوا يتمحضون للخدمة ويعيشون بالإقطاعات العظيمة التي كانت لهم ، وإذا نشبت الحرب راجت سوقهم وكثر الخير عليهم لأنهم يجهزون من الدولة بالأموال والألبسة والسلاح والكراع. وكلما جازوا بلدا أو فتحوا مصرا اعتدوا على السكان والمكان وأخذوا ما استطاعوا أخذه من مال وعروض وناطق وصامت.

الجيوش الصليبية والتترية :

رأت الشام من ضروب الجيوش على عهد الحروب الصليبية ثم في عهد الحروب المغولية التترية ما يستغرب منه. فإن جيوش الصليبيين كانت مؤلفة من معظم العناصر الفرنجية التي كانت تدين بدين البابوية في أوربا ، بل كانوا يجندون من أحبّ من الوطنيين ولا سيما الموارنة. وكانت جيوش هولاكو وغازان وتيمور لنك ـ مؤلفة من معظم عناصر آسيا. وجميع هذه الجيوش الغربية والشرقية أضرت بهذه الديار أضرارا فاحشة ، لأن النظم الحربية الحديثة لم تكن معروفة إذ ذاك ، فكان القائد بحكم الضرورة يتسامح مع أجناده إذا عرقوا لحم من ينزلون عليهم وكسروه سواء كانوا مسالمين أو محاربين. وطول دور الحروب الصليبية في الشام أورث أهله شجاعة واستهانة بالموت حتى كاد يعد جميع أهله جندا. الشدائد معلمة الشعوب ، وأي شدة على الشام أعظم من أن تجيش أوربا على هذا القطر الصغير قرنين كاملين. وقد اعترف المسلمون للصليبيين بالشجاعة والإقدام ، واعترف هؤلاء للمسلمين بمثل ذلك. ومن أجمل ضروب الإنصاف أن ينصف المرء خصمه ويذكر محاسنه كما يذكر مقابحه.

الجيوش في القرون الوسطى وجمعيات الفتوة :

كانت طوائف الأجناد عدة كثيرة تنسب كما قال القلقشندي كل طائفة منهم إلى من بقي من بقايا خليفة من الخلفاء الماضين منهم كالحافظيّة والآمرية

٢٢

من بقايا الحافظ والآمر أو إلى من بقي من بقايا الوزراء الماضين كالجيوشية والأفضلية من بقايا أمير الجيوش بدر الجمالي وولده الأفضل أو إلى من هي منتسبة إليه كالوزيرية أو غير ذلك من القبائل والأجناس كالأتراك والأكراد والغز والديلم والمصامدة أو من المستضعفين كالروم والفرنج والصقالبة أو من السودان من عبيد الشراء أو العتقاء وغيرهم من الطوائف ولكل طائفة منهم قواد ومقدمون يحكمون عليهم.

وكان الجنود في دولة المماليك يقسمون إلى طبقتين : المماليك السلطانية وهم أعظم الأجناد شأنا وأرفعهم قدرا وأشدهم إلى السلطان قربا وأوفرهم إقطاعا ، ومنهم تؤمّر الأمراء رتبة بعد رتبة. وهم في العدة بحسب ما يؤثره السلطان من الكثرة والقلة. وقد كان لهم في زمن الناصر محمد بن قلاوون ثم في أيام الظاهر برقوق العدد الجم والمدد الوافر ، لطول مدة ملكهما واعتنائهما بجلب المماليك ومشتراها. والطبقة الثانية أجناد الحلقة وهم عدد جم وخلق كثير ، وربما دخل عليهم من ليس بصفة الجند من المتعممين وغيرهم بواسطة النزول عن الإقطاعات. وقد جرت عادة ديوان الجيش عدم الجمع على الجند كي لا يحاط بعدته ويطلع إليه هذا ما رواه القلقشندي وروى ابن فضل الله أنه كان لكل أربعين نفسا منهم مقدم ليس له عليهم حكم إلا إذا خرج العسكر كانت مواقفهم معه وترتيبهم في موقفهم إليه.

وكان أقوش الأفرم إذا مات لأحد من أجناده فرس يحضر الكفل إلى مطبخه ويأخذ من الديوان ستمائة درهم. وإذا خرج إلى بيكار أي حملة فجميع جنوده إلى أن يعودوا لا يطبخ أحد منهم ولا يشتري تبنا ولا شعيرا. وذكر الأسدي أن عبرة العساكر في الشام في القرن التاسع كانت أربعة وعشرين ألف فارس وأنه كان في كل مدينة الأمراء والأجناد. وذكر الظاهري أن الجيوش كانت تنقسم في القرن التاسع أقساما وهي أجناد حلقة وبحرية وتركمان وعرب وأكراد وغير ذلك. وأجناد الحلقة بدمشق اثنا عشر ألفا ، ومماليك كافلها والأمراء بها ثلاثة آلاف. وأجناد الحلقة في حلب ستة آلاف ومماليك كافلها والأمراء بها ألفان. وأجناد الحلقة بطرابلس أربعة آلاف ومماليك كافلها والأمراء بها ألف. وأجناد الحلقة بصفد ألف ومماليك

٢٣

كافلها والأمراء بها ألف. وأجناد الحلقة بغزة ومماليك كافلها والأمراء بها ألف.

وجيش الحلقة هذا هو الجيش القائم دوما على السلاح وهو ما يقابل باصطلاح هذه الأيام جيش الحامية وكان لكاتب الجيش جريدة بأسماء الأجناد وإقطاعاتهم. ويحتاج صاحب ديوان الإقطاع أن يكون ماضيا فيما يسأل عنه من أمور الأجناد وأحوالهم ، متفقدا لمن يغيب منهم بغير دستور. وكان إلى صاحب ديوان الجيش عرض الأجناد وخيولهم وذكر صلاحهم وشيات خيولهم ، أي علائمها وأشكالها ، وكان من شرط هذا الديوان عندهم أن لا يثبت لأحد من الأجناد إلا الفرس الجيد من ذكور الخيل وإناثها دون البغال والبراذين ، وبين يديه نقباء الأمراء يعرفونه أحوال الأجناد من الحياة والموت والغيبة والحضور وغير ذلك ـ قاله القلقشندي.

أما أجناس الجيوش في مصر والشام فكانت منوعة أي من الترك والشركس والروم والصقالبة وغير ذلك من الأجناس المضاهية للترك في الزي. وكانت للعرب على ما يظهر كتائب خاصة بقيادة أمرائهم يستدعون حين الحاجة للقتال على أصولهم. وجيوش بني حمدان وبني مرداس وبني كلاب وبني كلب وآل الفضل وغيرهم من الملوك والأمراء عرب صرف لأن صاحب العصبية عربي لا يأمن غيرهم. وأكثرية الجيش شراكسة أو أتراك على الغالب والباقون من الشاميين.

ولقد كان بعض الخلفاء والملوك والأمراء إذا شاهدوا أعراض الضعف في قوتهم يعمدون إلى طرق ظاهرها بسيط وباطنها قوة لهم ليتقووا بهم عند الحاجة. أي يكونون جيشا يرتجل في الحال ويغني غناءه. كما فعل الناصر لدين الله العباسي سنة أربع وستمائة فتقدم إلى الوزير بجمع رؤوس الأحزاب وأن يكتب في ذلك منشور فدخل الناس من الخاص والعام في الفتوة وسأل ملوك الأطراف الفتوة فنفذ إليهم الرسل وقد ألبسهم سراويلات الفتوة بطريقة الوكالة. فمما كتبه الوزير أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه هو أصل الفتوة ومنبعها ، ومنجم أوصافها الشريفة ومطلعها ، وعنه تروى محاسنها وآدابها ، ومنه تشعبت قبائلها وأحزابها ، وإليه دون غيره ينسب الفتيان. فعل ذلك بمرأى من السلف الصالح ومسمع ، ومشهد

٢٤

من أخيار الصحابة فلم يسمع أن أحدا من الأمة لامه ، ولا طعن عليه طاعن في حد أقامه، إلى أن قال : إن من قتل له رفيق نفسا نهى الله تعالى عن قتلها وحرّمه ، وسفك دما حقنه الشرع المطهر وعصمه ، وصار بذلك ممن قال الله تعالى في حقه (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) أن ينزل عنه في الحال في جمع الفتيان عند تحققه لذلك ومعرفته، ويبادر إلى تغيير رفقته ، مخرجا له بذلك عن دائرة الفتوة ، وإن كل فتى يحوي قاتلا ويخفيه ، ويساعده على أمره ويؤويه ، ينزل كبيره عنه ، ويغير رفاقته ويتبرأ منه ، وإن من حوى ذا عيب فقد عاب وغوى ، ومن آوى طريد الشرع ضل وهوى ، فإن الفتى متى قتل فتى من حزبه سقطت فتوته. ووجب أن يؤخذ منه القصاص ، وإن قتل غير فتى عونا من الأعوان أو متعلقا بديوان في بلد سيدنا الإمام الناصر لدين الله فقد عيب هذا القاتل في حرم صاحب الحرب بالقتل ، فكأنما عيب على كبيرة فسقطت فتوته بهذا السبب. وسلم إلى كل واحد من رؤوس الأحزاب منشور بهذا المثال فيه شهادة اثنين من العدول ، فألزم الناس إجراء الأمر على ما تضمنه هذا المرسوم قائلين في تعهدهم ومتى جرى ما ينافي المأمور به المحدود فيه ، كان الدرك لازما لهم على ما يراه صاحب الحرب أي الخليفة. وهؤلاء الفتيان كانوا يغتالون كل من يخالفهم حتى أفتى الفقهاء بعد ذلك العصر بتحريم الفتوة وأنكروا نسبتها إلى علي بن أبي طالب وهي أشبه بجمعية فوضوية يعمد إلى تقويتها أيام الضعف.

الجيوش العثمانية :

لما جاء العثمانيون لفتح الشام كانت جيوشهم من العسكر المعروف ب (يكي «يني» چري) أي العسكر الجديد ، وقد حرف الشاميون والمصريون هذه التسمية بلفظ الإنكشارية ، وهو الجيش الذي ألفه السلطان أورخان بن عثمان باقتراح الوزير قره خليل جاندارلي على أن يؤلف من أولاد المسيحيين من العثمانيين كالبوشناق والروم والصرب والبلغار والألبان ، يجندون بحسب اللزوم وبموجب قانون التجنيد المعروف عندهم بقانون اللقطاء (دو شرمة) وذلك

٢٥

من أهل الروم ايلي ومن سكان الأناضول على قلة ، ويعفى من ذلك الأرمن وسكان جزيرتي ساقز ورودس ، يأخذونهم من أهلهم من سن العاشرة إلى الخامسة عشرة ويستثنى من ذلك المتزوجون الفتيان ، ويربونهم تربية إسلامية ثم يجعلونهم في الثكنات في الإستانة ، ومنهم من يخدم في قصور السلاطين في أعمال البستنة وغيرها ، ومنهم من يتعلم سبع سنين اللغة التركية خاصة حتى يصبحوا مسلمين أتراكا ثم ينقلون إلى العاصمة ، وكثير منهم ارتقوا في مناصب الدولة حتى أصبحوا وزراء وقوادا عظاما وخدموا العثمانيين خدمة عظيمة ، لأن خلّص الأتراك على الأغلب كانوا يفرون من تعليم أولادهم ، وإن كان الآباء عظماء في السلطنة. فانتقلت الأحكام بالطبيعة إلى أيدي فئة من هؤلاء المتعلمين من الإنكشارية.

ولما أسس أورخان هذا الجيش قصد ذات يوم آماسية وكان فيها رجل من الصلحاء اسمه حاجي بكتاش ، والتمس منه أن يسمي هذا الجيش فسماه الوليّ العسكر الجديد (يكي چري) ودعا له بما معناه : بيض الله وجوههم ، وقوى سواعدهم ، وأرهف سيوفهم ، وأهلك الأعداء بسهامهم ، وكتب لهم الغلبة والتوفيق. قال هوار : ذهب قره خليل جاندارلي في تأليفه هذه الكتائب من المشاة بهذا الفخر ، وكان تأليفها في عصر كانت فيه أوربا في القرون الوسطى ، وليس لها من الجيوش إلا عصابات مسلحة ، بل وقبل تنظيم كتائب الرماة في إنكلترا ، وقبل أن أسس شارل السابع ملك فرنسا جيشا دائما تحت الطلب بقرن واحد. وقال ميشو : «كان العثمانيون بادئ بدء الأمة الوحيدة التي كان لها تحت السلاح جيش دائم منظم مما كان للدولة به التفوق على الأمم التي تريد إخضاعها لسلطانها. وأصبح لمعظم ممالك أوربا في القرن السادس عشر جيوش يقاومون بها أعداءهم ، فانتشر النظام والتربية العسكرية بسرعة بين شعوب النصرانية ، وأخذت المدفعية والبحرية كل يوم تزيدان نظاما ورقيا في الغرب ، على حين كان الأتراك يزهدون في التجارب التي وصلت إليها الجيوش البحرية والبرية ، ولا يستفيدون بتاتا من العلوم التي انتشرت بين أعدائهم وجيرانهم اه».

أسس العثمانيون جيش الإنكشارية على غير مثال في التاريخ ، خالفوا

٢٦

فيه الشريعة الإسلامية التي لا تجيز للملك أن يكره الذميين على استرقاق أولادهم ، واتبعوا فيه العرف والمصلحة ، ثم دخل فيه سوء الاستعمال في القرن السادس عشر على رأي موردتمان ، وذلك بأن أخذوا يتساهلون بإدخال أناس من المسلمين واليهود والنور ، فأخذ جيش الإنكشارية يشبه جيشا من الأسرى على الأصول الإفريقية الجديدة ، وكان ذلك من أسباب تسرّب الفساد إليه.

كان عدد جيش الإنكشارية لأول تأسيسهم ستة آلاف جندي وقيل ألف جندي ، ثم جاوزوا المائة ألف وقائدهم العام «آغا» الإنكشارية ، وهم يقسمون إلى كتائب وتتألف كل كتيبة من مائة إلى خمسمائة مقاتل ، يعلّمون في الولايات على الكرّ والفرّ ويستخدم بعضهم في خدمة الولاة أو في مزارع أرباب الإقطاعات أو في حوانيت أرباب الصنائع ، ويعيش أفراد هذا الجيش من مياوميات طفيفة وهي «اقچه» واحدة لكل فرد في اليوم ، وتزيد إذا أثبت المقاتل في الحرب كفاءة ، ويقبضون ذلك مرة كل ثلاثة أشهر بأبهة وطنطنة ، وتوزع الإقطاعات على المبرزين منهم من الضباط وغيرهم يعيشون بها زمن السلم ، ويقضى عليهم في الحرب أن يجهزوا أنفسهم على نفقتهم.

وكان أغلب الإنكشارية في الولايات من الفرسان وفي العاصمة من المشاة. وسلاح المشاة الدروع والمغافر والأتراس والخناجر مما يخف حمله ، وسلاح الغارات السيوف والرماح والحراب والمعاول يستعملونها في القرب ، ويستعملون في البعد الرماح والبنادق والغدارات. وأسلحة الفرسان سيوف مستطيلة وبنادق بفتيل وبنادق بصوان وغدارات وقفافيز من حديد. وقد استعمل العثمانيون أسلحة نارية تشبه المدافع في وقعة قوصوة المشهورة. وكانت المدافع والمكاحل في عسكر السلطان سليم على مرج دابق من أسباب ظفره بجيش المماليك لأن هؤلاء كانوا خلوا منها.

قال أحمد رفيق : ولقد كان العثمانيون يستعملون من السلاح ما خف محمله حتى إن نعال خيولهم كانت على غاية الدقة وذلك لتسير سيرا سريعا. وكانوا يبدون مهارة فائقة في التقدم وكشف قوة العدو والإحاطة به وتعجيزه.

٢٧

ويكمنون له ويعنون من وراء الغاية بتعليم الجند وتدريبهم حتى يبلغوا بمن يأخذونهم من الأولاد مرتبة الكمال. يعلمونهم الألعاب الرياضية واستعمال القوس والنشاب ثم الرماية بالبنادق ، ويدربونهم على لعب الجريد والمسايفة ليل نهار. وتتبدل الأسلحة بتبدل الزمن.

وكان لكل كتيبة شعار يرسمه المجندون فيها على خيامهم وعلى أبواب ثكناتهم ويشمونهم أي يستعملون لهم الوشم بأيديهم وأرجلهم. وقد أخذ هذا الجيش يفسد على عهد مراد الثالث لأنه رخص سنة (٩٩٠) بقبول الرقاصين والمصارعين في الدخول فيه. وبعد ذلك أخذ يدخل في سلكه أخلاط من كل صنف من الناس بالشفاعات والرّشى ليستفيدوا من امتيازات الإنكشارية. وفي ذلك الوقت أخذ بعض سكان الشام يدخلون في هذا الجيش على ما يظهر. وفي سنة (١١٥٣) صدر الأمر بأن تباع العلوفات فضعفت قوة الجندية في الإنكشارية وأصبح من كانوا من الجند حقيقة لا يقبضون من العلوفات ما يكفيهم فيعيشون بالنهب والسرقة. وكلما أتى الزمن على الإنكشارية زاد تدخلهم في سياسة الملك في الإستانة وأخذوا يخيفون السلاطين ويخلعونهم ويقتلونهم ويعزلون الصدور العظام وينصبونهم أو يقتلونهم ويشردونهم. وآخر من قتلوه من سلاطين العثمانيين سليم الثالث.

ولما تربع محمود الثاني في دست الملك ورأى ما تم لعزيز مصر محمد علي من إنشاء جيش له على النمط الغربي صحت عزيمته على أن يعجل في القضاء على الإنكشارية فاستصدر فتوى بقتلهم فقتلهم الأهالي ورجال البحرية وألغي نظام الإنكشارية سنة (١٢٤١) وسموا هذه الوقعة في الإستانة بالوقعة الخيرية. وقد قتل فيها في العاصمة والولايات ستة آلاف رجل على رواية المؤرخ أسعد افندي. ومن ذاك الوقت ألفت الدولة جندا على مثال الجيوش الأوربية. وكان من الإنكشارية في الشام أن خربوا القرى والضواحي ، وكانوا يعتدون على الأعراض والأموال. ولما صدر الأمر بقتلهم قتل بعضهم هنا ومنهم قسم من الأهالي غير اسمه ورسمه فتغاضت الدولة عنه. هذا هو الجيش الذي بقيت الشام تحت رحمته أكثر من ثلاثمائة سنة ورأت سيئاته وتخريباته.

٢٨

وكان من جملة الجيش عسكر اسمه (اللوند) وهو العسكر الخفيف الذي كانت مملكة البندقية تستخدمه قديما ، ومنهم عسكر اسمه (السكبان) ـ السكبان كلمة فارسية مركبة معناها حارس الكلب ـ قال البوريني : وهم عبارة عن طائفة كان وصفهم أن الواحد منهم يحمل البندقية على ظهره ويقود الكلب في ساجوره (قيده) ويمشي أمام الأمير والكبير حتى يسير إلى الصيد. قال : ولم يكونوا أولا شيئا حتى جاء الشام أمير يقال له أبو سيفين تولى ولاية نابلس فصحب منهم نحو مائة رجل يستعين بهم على رعايا نابلس لأنهم لا يخلون من نوع شراسة ، فاعتاد الأمراء استصحابهم إلى ولاياتهم فكثروا. وقد أضيف هذا العسكر إلى جوقة الإنكشارية. ومن الجند صنف يقال له (السباهية) وهو من الفرسان كانوا يعطون عشر بعض الأراضي على صورة إقطاع ويقومون مقابل ذلك مدة الحرب بمعاونة الدولة في القتال ، يأتون على خيولهم والدولة تعطيهم الذخائر والمؤن. ومنهم صنف يقال له (جبه جي) وهو من العسكر المدرع (زرهلي) من جيوش العثمانيين ، ومنهم (القبوقولي) أي الحراس وأصلهم حراس باب السلطان كثروا في آخر القرن الماضي. ومنهم (الدالاتية) أي الأدلاء وأصل الكلمة فارسية من داله بمعنى الدليل. وكانوا يلبسون في رؤوسهم قلنسوة كالطرطور على ما في محيط المحيط. و (الهوارة) وهم صنف من العساكر غير المنظمة. و (التفكجية) مأخوذة من تفنكجي أي صاحب البندقية وهم جند من رماة البنادق وكانوا للمحافظة ، و (الشوربجية) وهم ضباط الإنكشارية يعمل لهم الحساء أي الشوربة في قدر خاص ، ورتبة الواحد منهم معادلة لرتبة قائد بعرفنا إلى غير ذلك من صنوف الجنود.

الجيوش الحديثة :

كان بعض الأمراء في هذه الديار لا يخلون من مقاتلة على الدوام يستخدمونهم في قيام أمرهم. ومن أهمهم في هذا الباب أولاد معن أمراء الشوف وما إليها فقد كانوا يستطيعون أن يجندوا أربعين ألفا. وذكر فولني في القرن الثامن عشر أنه رأى الأمير في دير القمر جند خمسة عشر ألف

٢٩

جندي في ثلاثة أيام. ومن الجيوش التي رأتها الشام وكانت بالنسبة للجيوش التركية تراعي النظام جيوش مصر مدة حكم إبراهيم باشا ابن محمد علي الكبير فكانت مؤلفة من المصريين والأرناءود والهوارة والهنادي من عرب مصر وكلهم يدربهم ضباط ماهرون وكان في رأس القواد بعض ضباط أجانب من الفرنسيين.

ولما انتشر نظام الجند الجديد ضاقت صدور الناس بالجندية لأنها لم تكن آخذة بأسباب الراحة ولأن الأخلاق الحربية أوشكت أن تزول لطول العهد بها ولا سيما من سكان المدن. على أن سكان البادية كانوا يعفون من هذه الخدمة. والسبب في ذلك أن أمراءهم لم يكونوا من جنسهم فكانت اللغة من جهة والشدة والتقتير عليهم من أخرى من الحوائل دون امتيازهم بالصفات الحربية وإيثارهم التفلت من الجندية إن أمكن.

ولقد أخرجت المدرسة العسكرية في دمشق مدة نصف قرن مئات من الضباط من أبناء الشام خدموا الدولة خدمة صادقة. وكان منهم نبغاء لم يقصروا عن أرقى العناصر العثمانية علما وذكاء ومضاء. ويقال على الجملة : إن هذه الديار في الدور العثماني كانت بعسكرها والحامية الإنكشارية أولا ثم الحامية النظامية آخرا أشبه بمعسكرات عظيمة ، يعمل فريق عظيم من الناس لخدمة الجيش. وكانت رواتب الضباط وجرايات الجنود تخف جدا وكذلك علف الدواب فيسدون العجز بطرق مخزية. ومع عدم العناية بمأكل الجند وملبسه كانوا يوم الغارة أسودا خصوصا إذا حسنت قيادتهم ، لأن الشباب كانوا يتدربون على الصراع والمسايفة والرماية والألعاب الرياضية بجملتها ، فإذا كانت الحرب أو اقتضت الحال الغارة على فريق أو دفع صولة صائل استطاعوا أن يستعملوا السلاح ويحسنوا الطعن والضرب أول تجنيدهم.

وكانت أنظمة العثمانيين الأخيرة محتذاة من أنظمة الجيش الألماني والفرنسي ولنا أن نقول بعد هذا : إنه ليس من أوضاعنا ما شابهنا فيه الأوربيين مدة حكم العثمانيين سوى الجيش. جندت الدولة العثمانية في الحرب العامة نحو ربع مليون من الشام أو سبعا وعشرين قرعة ويمكن أن يقال على الجملة : إنه حارب ربعهم وهلك ربعهم واستخدم ربع في خدم خفيفة وهرب الربع

٣٠

الآخر. ولما غلبت الدولة العثمانية في الشام وانهزم جيشها واستسلم أكثره ولم يتمكن من الثبات أمام قوى الحلفاء الجديدة فانحل الجيش بالطبيعة.

وقد رأى هذا القطر مدة الحرب العالمية الأخيرة جيوشا من الترك والأكراد والألمان والمجر والنمسويين والبوهيميين وغيرهم كما رأى بعد انحلال العثمانية جيوشا من البريطانيين والكناديين والأوستراليين والهنود والفرنسيين والجزائريين والمراكشيين والهنود الصينيين والسنغاليين والسودانيين. وبالجملة رأى جنودا من معظم المستعمرات الخاضعة لبريطانيا وفرنسا فأشبه تبلبل الألسنة في الشام تبلبلها فيه على عهد الحروب الصليبية والمغولية.

ولما أسست الحكومة العربية في المدن الأربع وأعمالها أخذوا يجندون جنودا عربية مأجورة من أهل هذه الديار ثم شرعوا بالتجنيد الإجباري أشهرا قليلة ريثما دخلت فرقة الجنرالين غوابيه ودي لاموط إلى دمشق وحلب وسقطت المملكة في يد الحكومة الفرنسية المنتدبة وفضّ الجيش العربي وصفي. وكان بضعة ألوف مسجلة على الورق. ثم أخذت فرنسا بتأليف جيش مختلط من السوريين والفرنسيين أشبه بالدرك وذلك في الأصقاع الواقعة تحت انتدابها وأبقت فرنسا فرقا من جندها في الولايات التي انتدبت للإشراف عليها ، كما جعلت بريطانيا العظمى في فلسطين اعتمادها على جيشها. وفي الشرق العربي على جيش صغير من الأهلين يعاونه الجيش البريطاني المرابط في فلسطين عند الاقتضاء. وفي ثورة سنة (١٣٤٤) جندت الدولة المنتدبة كتائب من المتطوعة سمتهم الأنصار وكانت جمهرتهم من الشركس والأرمن والإسماعيلية فلقي الأهلون من سوء تربيتهم وقلة نظامهم واعتدائهم على الأبرياء ما أنسى ذكر الإنكشارية. وكانت حجة الحكومة أنها اصطنعت أشقياء لقتال أشقياء. وجعل لبنان كتيبة له من الجند سماها القناصة وهم أشبه بالدرك والشحنة. وربت فرنسا الدرك فأحسنت تربيته وهو من خير أدوات الحكومة في سورية ولبنان ودونه الشرطة المستعملة للهيمنة على الأمن في المدن فإن هذا لم تفلح بتربيته على ما يجب.

٣١

الاسطول

بحرية الفينيقيين والعبرانيين والفراعنة :

ليس في الأيدي نص يركن إليه لمعرفة اصطلاح شعوب الشام القدماء في بحريتهم. وسواحل هذه الديار المستطيلة الممتدة من العريش إلى خليج الإسكندرونة تحتاج في اتصالها إلى مراكب للتجارة وغيرها. ولم يعرف أن عظام الأنهار في الشام كالأردن والعاصي كانت تجري فيها سفن إلا الفرات فإنه كان يحمل مغادي وحراقات وجلبات تذهب وتجيء بين الشام والعراق.

وأهم من عرف بمعاناة البحار أهل فينيقية سكان الساحل الأوسط وما كانوا أعظم شعب بحري درج على هذه الأرض فقط ، بل كانوا أعظم الشعوب القديمة في العالم جرأة على الأسفار في البحار ، وكانت أصولهم على الأرجح من شعوب بحارة جاءوا من البحرين في خليج فارس ونزلوا هذا الساحل الجميل فظهرت كفاءتهم في اختراق العباب في سالف الأحقاب. والصناعات في الناس تكون بالإرث أو ابنة البيئة ، والفينيقيون استوفوا هذين الشرطين فكانوا بحارة بالفطرة والبيئة ، بحارة بالتربية والحاجة.

ومما ساعد الفينيقيين على إجادة صنع السفن كثرة الأخشاب في لبنان ولا سيما شجر الأرز الذي منه كانوا يصنعون مراكبهم الصغيرة والكبيرة. وكانت لهم شؤون ما عرفها غيرهم في السير والإسراء ، والإقلاع والإرساء ، يهتدون بنجمة القطب يستدلون بها على سمت الشمال. ولذلك كانوا يوغلون في البحار ، لا يخشون الأخطار ، حتى لقد اجتازوا البحر المتوسط إلى

٣٢

بحر الظلمات وبحر الشمال وغيره ، ولم ينازعهم منازع من الشعوب في هذا الباب ، لأنهم كانوا يكتمون سرّ الطرق التي يسلكونها ويتشددون في كتمانها. وربما أغرقوا سفنهم إذا اطلع بعض البحارة من الغرباء عنهم على خطة رحلاتهم ، فضلا عن إغراق مراكب من يحاول سرقة أسرارهم في طرقهم البحرية. ولم يعرف غير الفينيقيين جزائر الكاسيتريد أو جزائر سورلنج في الشاطئ الغربي من الجزائر البريطانية.

ولم يؤثر عن العبرانيين أن كان لهم أسطول بل قوارب لا تبعد كثيرا عن الساحل على النمط القديم. أما الفراعنة الذين حكموا جزءا مهما من جنوب الشام وساحله مدة فكانت بحريتهم وصناعتهم (١) في مصر أولا ، ثم جعلت في طرابلس وصور وجبيل لقربها من مستودع الأخشاب الصالحة لصنع السفن. ولم تكن ملاحة للفراعنة من السلائل الأولى حتى الدولة السادسة والعشرين لأنهم ليسوا أمة حربية.

بحرية الرومان واليونان :

كانت البحرية في العهد اليوناني في الشام على مثال بحرية تلك الدولة قوية منظمة. وكانت اليونان أمة بحرية من الطراز الأول في القديم. ألفوا اليمّ منذ عرف تاريخهم ، ومعظمهم جزائريون طالما عاركوا البحر وعركهم. وانطبع سكان الساحل الشامي بطابعهم وساروا على أقدامهم في سلوك سبل البحار. ومثل ذلك يقال في الرومان الذين طال عهدهم في الشام ، فإن أساطيلهم كانت تحمل من شواطئ إيطاليا وإليها تجارات الأمم التي خضعت لسلطانهم. وصعب أن يحكم على بحرية الشام في الدور الروماني ولعلها لم تخرج في كل حال عن طور اليونان ، ولا شك أن بعض المواني الشامية كان لها صناعات كما كان لها في كل دور. ويمكن أن يقال على الجملة : إن الشام لم يعرف له منذ عرف تاريخه إلى الفتح الإسلامي بحرية خاصة وافية بالغرض

__________________

(١) الصناعة في العرف اسم المكان المعد لإنشاء المراكب والسفن نقلت الى لغات الغرب فصارت ارسنال (Arsenal) وعادت الى العرب من طريق الترك باسم «ترسانة».

٣٣

بالنسبة لتلك الأعصر إلا في عهد الفينيقيين وكان في سائر أدواره مندمجا في الأمم القوية التي امتد سلطانها عليه.

العرب والبحار :

كان العرب لا يحبون البحار لبعدهم عنها ولما كان يبلغهم من أخطارها. وقد اتفق في أوائل الفتوح أن العلاء ابن الحضرمي عمل أسطولا واجتاز من البحرين إلى فارس ووصل إلى إصطخر ، ودمر الأعداء بأسطوله فقتل كثير من رجاله ، فغضب عمر بن الخطاب لأن هذا العمل لم يكن عن مشورته. ولما كان معاوية على جند دمشق والأردن ألحّ على عمر في غزو البحر ، فكتب الخليفة إلى عامله في مصر عمرو بن العاص يريده على أن يصف له البحر فكتب إليه «يا أمير المؤمنين إني رأيت البحر خلقا كبيرا يركبه خلق صغير ، ليس إلا السماء والماء ، إن ركد خرق القلوب ، وإن تحرك أزاغ العقول ، يزداد فيه اليقين قلة ، والشك كثرة ، هم فيه كدود على عود ، إن مال غرق ، وإن نجا برق». فكتب عمر إلى معاوية «لا والذي بعث محمدا بالحق لا أحمل فيه مسلما أبدا ... وتالله لمسلم واحد أحب إليّ مما حوت الروم. فإياك أن تعرض لي ، وقد علمت ما لقي العلاء مني ولم أتقدم إليه في مثل ذلك».

وقد علل ابن خلدون امتناع المسلمين عن ركوب البحر بأن العرب لبداوتهم لم يكونوا أول الأمر مهرة في ثقافته وركوبه. والروم والفرنج لممارستهم أحواله ، ومرباهم في التقلب على أعواده ، مرنوا عليه وأحكموا الدربة بثقافته. فلما استقر الملك للعرب وشمخ سلطانهم ، وصارت أمم العجم خولا لهم وتحت أيديهم ، وتقرب كل ذي صنعة إليهم بمبلغ صناعته ، واستخدموا من النواتية في حاجاتهم البحرية أمما ، وتكررت ممارستهم البحر وثقافته ، تاقت أنفسهم إلى الجهاد فيه وإنشاء السفن والشواني ، وشحنوا الأساطيل بالرجال والسلاح ، وأمطوها العساكر والمقاتلة لمن وراء البحر. واختصوا بذلك من ممالكهم وثغورهم ما كان أقرب إلى هذا البحر وعلى ضفته مثل الشام وغيرها.

٣٤

نعم كان العرب بادئ بدء يتخوفون ركوب البحر فقد استعمل الوليد ابن يزيد الأسود بن بلال المحاربي على بحر الشام فقدم عليه أعرابي من قومه ففرض له وأغزاه البحر فلما أصابت البدوي تلك الأهوال قال شعرا منه :

فلله رأي قادني لسفينة

وأخضر موّار السرار يمور

ترى متنه سهلا إذا الريح أقلعت

وإن عصفت فالسهل منه وعور

فيا ابن بلال للضلال دعوتني

وما كان مثلي في الضلال يسير

لئن وقعت رجلاي في الأرض مرة

وحان لأصحاب السفين وكور

وسلمت من موج كأن متونه

حرار بدت أركانه وثبير

لتعترضنّ اسمي لدى العرض حلقة

وذلك إن كان الإياب يسير

وقد كان في حول الشرية مقعد

لذيذ وعيش بالحديث غرير

أول خليفة غزا في البحر الشامي والبحرية الأموية :

منع عمر عماله من غزو البحر بعد إخفاق العلاء في غزوته البحرية. ولما قلد عمر عبد الله بن قيس النظر في ثغور الشام جميعها كتب إليه عمر إني لا أحمل المسلمين على أعواد نجرها نجار وجلفطها الجلفاط (والجلفاط الذي يشد ألواح السفينة) وما زال به معاوية حتى أقنعه. وفي بيروت عمر معاوية المراكب وجهز الجيش إلى قبرس ومعهم أم حرام واسمها الرميصاء بنت ملحان زوجة عبادة بن الصامت فلما رجعت رابطت في بيروت وماتت فيها. ويقول المقريزي : إن الناس كانوا يغزون بنسائهم في المراكب. وشتا المسلمون بأرض الروم سنة اثنتين وأربعين وهو أول مشتى شتوه بها فاستعمل معاوية على أهل المدينة عبد الملك بن مروان وهو يومئذ ابن ست عشرة سنة فركب عبد الملك بالناس البحر. فلما ولي عثمان بن عفان طلب إليه معاوية أن يغزو البحر فوافقه على ذلك ، على أن ينتخب من يحملهم في المراكب ولا يقترع بينهم ، فمن اختار الغزو طائعا يحمله ويعينه ففعل. وغزا معاوية الغزوة الأولى فكان أول مسلم غزا في البحر ، واستعمل على البحر عبد الله بن قيس الحاسي خليفة بني فزارة فغزا خمسين غزوة من بين شاتية وصائفة في البر والبحر ولم يغرق فيه أحد. وأغزى معاوية عقبة بن عامر

٣٥

الجهني في البحر وأمره أن يتوجه إلى أرواد. وفتح هذه الجزيرة جنادة بن أبي أمية فنزلها المسلمون واتخذوا بها أموالا ومواشي يرعونها حولها ، فإذا أمسوا أدخلوها الحصن. ولهم ناطور يحذرهم ما في البحر ممن يريدهم بكيد ، فكانوا على حذر منهم ، وكانوا أشد شيء على الروم يعترضونهم في البحر فيقطعون سفنهم. وكان معاوية يدرّ لهم الأرزاق والعطاء ، والعدو يخافهم. فلما مات معاوية أقفلهم يزيد بن معاوية. وجنادة بن أبي أمية الأزدي من صحابة الشام كان على غزو الروم في البحر لمعاوية زمن عثمان إلى أيام يزيد إلا ما كان من أيام الفتنة فتنة علي ومعاوية وشتى في البحر سنة (٥٩).

وبذلك عرفنا أن معاوية أدرك بصائب رأيه أن سواحل الشام بل الشام لا ينجيها من غزوات الروم إلا إيجاد أسطول عربي يغزو سواحلهم الحين بعد الحين. وإلا تعذرت المحافظة على السواحل وبطلت التجارات. وكان المسلمون قبل ذلك على خطر أبدا يتخطفهم أعداؤهم من عقر دارهم ، ويطردونهم حتى في أرضهم ويحملونهم أسرى يبيعونهم بيع الإماء والرقيق. أي أن الروم يغزون الشام إذا لم يغزهم أهله فحاول معاوية أن يقنع الخليفة الثاني فتحامى هذا الإذن بركوب البحر خوفا على المسلمين ، متأثرا مما أصابهم يوم غزوة البحرين ، ولأنه لم ير ما رآه عامله في الشام من الخطر الذي يدهم القطر إن لم تتواز قوته البحرية بقوته البرية.

قال محبوب المنبجي : وفي السنة الثالثة لعثمان ركب معاوية البحر وصار إلى قبرس فافتتحها وكان معه ألف وسبعمائة سفينة مملوءة سلاحا وأموالا فسبى منها ومن الجزائر المطيفة بها خلقا من الناس ، ونزل على جزيرة أرواد (رودس) ولم يصل إليها ، وفي الربيع رجع في جيوش أعظم وأكثر من الأولى فنزل عليها وضيق عليهم جدا ، فلما رأى أهل أرواد الشدة التي هم فيها والعساكر التي أظلتهم طلبوا الأمان على أن يخرجوا إلى سورية ويسكنوا حيث شاءوا ووفى لهم معاوية بن أبي سفيان وخرجوا منها فأمر بهدم سورها فهدم وأحرق.

وذكر المنبجي أيضا أنه في السنة الرابعة عشرة لمعاوية غزت العرب الروم في لوقية ، فلما توسطوا البحر لحقهم بعض الروم في سفينة فألقى النار في السفن

٣٦

فاحترقت كلها وهم أي الروم أول من أخرج النار وصارت لهم عادة. وقد كان المسلمون في خطب جلل من هذه النار في البحار وهي الصواريخ وكانت إذا أصابت المراكب لا تطفأ بالماء بل تطفأ بالتراب الندي أو الرمل ومخترعها كالينكوس من أهل بعلبك لجأ إلى الروم سنة (٦٧٣ م) فعلمهم هذا التركيب الذي كان له في الحروب البحرية أهاويل.

وممن غزا في أيام معاوية في البحر بسر بن أبي أرطاة وفضالة بن عبيد الأنصاري. وفي سنة (٤٩) كانت غزوة يزيد بن شجرة الرّهاوي في البحر فشتى بأهل الشام. وغزا في البحر أيضا عمرو بن يزيد الجهني (٥٨). وروى المنبجي أن معاوية بن أبي سفيان استعد لقصد القسطنطينية في السنة التاسعة لعثمان والرابعة والثلاثين للعرب ، وأعدّ سفنا كثيرة في مدينة طرابلس على ساحل البحر ، وحمل من السلاح أمرا عظيما ، وأن الروم أحرقوا سفن العرب فبعث معاوية بجيش من البر ففتح قسما من ديارهم وسبى من أهلها مئة ألف نفس. ثم جاء ملك الروم في سفن كثيرة من البحر فلما التقى الجمعان كانت الهزيمة على الروم ، وكاد ملكهم أن يغرق ، وتخلص بعد أن قتل من الروم خلق كثير حتى صار البحر دما ، ورجع العرب بغلبة كبيرة.

وفي هذا برهان جلي على العظمة التي بلغها الأسطول العربي بسرعة ، وما أحرق منه في طرابلس لم يؤثر فيه لأن الصناعة كانت أيضا في عكا وصور وربما في غيرهما من ساحل الشام ، ومن عكا ركب معاوية البحر لغزو قبرس ، وبعد أن أحرق الروميان اللذان كانا في خدمة الأسطول في طرابلس أسطول هذه الفرضة البحرية بأجمعه ، أصبح من المتعذر على معاوية أن يأمن على أساطيله من كان ائتمنهم ، وهل أنباط النصارى في رأي بعضهم ، ممن جعلتهم العرب ربابنة سفنهم ونواتيهم في مراكبهم الحربية ، والغالب أن العرب تعلموا ثقافة البحر من سكان ساحل الشام ثم اعتمدوا على أنفسهم شأنهم في كثير من مقومات مدنيتهم.

ومع هذا كان أكثر البحرية والذين يتكفلون بغزو الروم من أهل الإسلام وكان الروم معهم ولا سيما في القرون الثلاثة الأولى للهجرة في أمر مريج.

٣٧

قال المسعودي : أخبرني بعض الروم ممن كان قد أسلم وحسن إسلامه أن الروم صوّرت عشرة أنفس في بعض كنائسها من أهل البأس والنجدة والمكايد في النصرانية والحيلة من المسلمين ، منهم الرجل الذي بعث به معاوية حين احتال على البطريق فأسره من القسطنطينية ، فأقاد منه بالضرب ورده إلى القسطنطينية ، وعبد الله البطال وعمرو بن عبيد الله وعلي بن يحيى الأرمني والعريل بن بكار وأحمد بن أبي قطيفة وقرنياس البيلقاني صاحب مدينة ابريق (ازنيق؟) وحرس خادس أخت قرنياس ويازمان الخادم في موكبه ، والرجال حوله وأبو القاسم بن عبد الباقي. ومن رجال البحر الذين طالما تبرم بهم الروم ليون الطرابلسي ومعيوف بن يحيى الحجوري من أهل دمشق والمغيرة بن عبيد الأزدي الخراساني ولي غازية البحر في أيام يزيد بن عبد الملك.

وصف أسطول شامي :

وللبحتري قصيدة في مدح أحمد بن دينار يصف فيها مركبا كان اتخذه وهو والي البحر وغزا فيه بلاد الروم. قال العسكري في ديوان المعاني : لم يصف أحد من المتقدمين والمتأخرين القتال في المراكب إلا البحتري ، وعدوا قصيدته هذه من عيون قصائده وفضلوها على كثير من الشعر وهي التي يقول من جملتها :

ولما خطونا دجلة انصرم الهوى

فلم يبق إلا لفتة المتذكر

وخاطر شوق ما يزال يهيجنا

لبادين من أهل الشآم وحضّر

إلى أن قال :

ولما تولى البحر والجود صنوه

غدا البحر من أخلاقه بين أبحر

أضاف إلى التدبير فضل شجاعة

ولا عزم إلا للشجاع المدبّر

إذا شجروه (١) بالرماح تكسرت

عواملها (٢) في صدر ليث غضنفر (٣)

غدوت على «الميمون (٤)» صبحا وإنما

غدا المركب الميمون تحت المظفر

__________________

(١) شجره بالرمح : طعنه.

(٢) عامل الرمح وعاملته : صدره دون السنان والجمع العوامل.

(٣) الأسد الغضنفر كسفرجل : الغليظ الخلق المتغضن.

(٤) الميمون : اسم المركب ، والمظفر : الممدوح.

٣٨

أطلّ بعطفيه ومرّ كأنما

تشرف (١) من هادي حصان مشهر (٢)

إذا زمجر النوتي فوق علاته (٣)

رأيت خطيبا في ذؤابة منبر

يغضون دون الإشتيام (٤) عيونهم

وفوق السماط (٥) للعظيم المؤمّر

إذا عصفت فيه الجنوب اعتلى لها

جناحا عقاب في السماء مهجّر

إذا ما انكفا في هبوة (٦) الماء خلته

تلفع في أثناء (٧) برد محبّر

وحولك ركابون للهول عاقروا

كؤوس الردى من دارعين وحسّر

تميل المنايا حيث مالت أكفهم

إذا أصلتوا حدّ الحديد المذكّر

إذا رشقوا بالنار لم يك رشقهم

ليقلع إلا عن شواء مقتّر (٨)

صدمت بهم صهب العثانين (٩) دونهم

ضراب كإيقاد اللظى المتسعر

يسوقون أسطولا كأن سفينه

سحائب صيف من جهام وممطر

كأن ضجيج البحر بين رماحهم

إذا اختلفت ترجيع عود مجرجر (١٠)

تقارب من زحفيهم فكأنما

تؤلف من أعناق وحش منفر

فمارمت (١١) حتى أجلت الحرب عن طلى

مقطعة فيهم وهام مطيّر

على حين لا نقع ، تطوّحه الصّبا

ولا أرض تلفى للصريع المقطّر

__________________

(١) يقال : أشرف المربأ : علاه كتشرفه وشارفه ومثله تشوف من السطح : تطاول ونظر وأشرف. والهادي المتقدم من كل شيء أو العنق ويقصد به مقدم السفينة.

(٢) المشهر : فرس المهلهل بن ربيعة التغلبي ولعله يريد بالمشهر كل فرس كريم.

(٣) العلاة : السندان حجرا كان أو حديدا. ولعل مراده بالعلاة هنا برج السفينة وقد علاه الربان.

(٤) الإشتيام (الاستينام) رئيس المراكب البحرية الحربية.

(٥) السماط بكسر السين يقال : قام بين السماطين ويقال قام القوم حوله سماطين أي صفين.

(٦) انكفأ القوم : رجعوا وتبددوا وانكفأ إلى كذا : مال إليه. الهبوة : الغبرة ويعني بها رشاش الماء.

(٧) أثناء : طيات.

(٨) المقتر : ذو القتار بالضم وهو الدخان من المطبوخ والشواء.

(٩) الأصهب والجمع صهب : هو الذي يخالط بياض شعره حمرة ، والعثانين : جمع عثنون وهي اللحية يعني بذلك الروم لأنهم شقر اللحى.

(١٠) مجرجر : من جرجر البعير ردد صوته في حنجرته ، والعود : المسن من الإبل والشاء.

(١١) فما رمت : ما برحت مكانك.

٣٩

وكنت ابن كسرى قبل ذاك وبعده

مليئا (١) بأن توهي صفاة ابن قيصر

جدحت له الموت الزعاف فعافه

وطار على ألواح شطب (٢) مسمّر

مضى وهو مولى الريح يشكر فضلها

عليه ومن يول الصنيعة يشكر

إذا الموج لم يبلغه إدراك عينه

ثنى في انحدار الموج لحظة أخزر

تعلق بالأرض الكبيرة بعدما

تقنّصه جري الردى المتمطر (٣)

سواحل الشام ونفقات الأسطول والمناور والرباطات والفداء :

كانت سواحل أجناد الشام كثيرة ، ولكن الصناعة صناعة المراكب كانت في صور وعكا وطرابلس على الأكثر. وسواحل جند حمص في الإسلام انطرطوس وبانياس واللاذقية وجبلة ، وسواحل جند دمشق عرقة وطرابلس وجبيل وبيروت وصيدا وحصن الصرفند وعدلون ، وسواحل جند الأردن صور وعكا ، وسواحل جند فلسطين قيسارية وأرسوف ويافا وعسقلان وغزة ، وسواحل جند قنسرين الإسكندرونة والسويدية. وعلى امتداد سواحل الشام لم يحدثنا التاريخ أنه أغير عليها إلا من البر ، وما جاءها من الحملات البحرية في عدة أدوار ولا سيما على عهد الإسكندر والرومان والصليبيين والأتراك أو الأسطول الإنكليزي سنة (١٧٩٩ م) والأسطول الدولي سنة (١٨٤١) وأسطول الحلفاء سنة (١٩١٨) لم يكن في الحقيقة إلا ثانويا أريد به دك بعض المواقع الحربية بنيران السفن أو ضمان جلب الذخيرة أو عدم قطع خط الرجعة من البر.

وذكر قدامة أنه كان يجتمع إلى مراكب الشام التي كانت تغزو من الثغور الشامية مراكب الشام ومصر من الثمانين إلى المائة ، وإذا عزموا على الغزاة في البحر كوتب أصحاب مصر والشام في العمل على ذلك والتأهب له ليجتمع بجزيرة قبرس ، ويسمى ما يجتمع منها «الأسطول» كما يسمى ما يجتمع من الجيش في البر «المعسكر» ، والمدبر لجميع أمور المراكب الشامية

__________________

(١) المليء بالأمر : المضطلع به القدير عليه.

(٢) الشطب : الطويل الحسن الخلق وقد أراد به المركب.

(٣) المتمطر : الفرس السريع. والأرض الكبيرة هي اليابسة التي نطلق عليها اليوم اسم القارة

٤٠