خطط الشام - ج ٥

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٥

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩٦

أصوات عجم إذا قاموا بقربتهم

كما تصوّت في الصبح الخطاطيف

فاليوم فيه صلاة الحق ظاهرة

وصادق من كتاب الله معروف

فيه الزبرجد والياقوت مؤتلق

والكلس والذهب العقيان مرصوف

ترى تهاويلهم من نحو قبلتنا

يلوح فيه من الألوان تفويف

يكاد يعشي بصير القوم زبرجه

حتى كأن سواد العين مطروف

وفضة تعجب الرائين بهجتها

كريمها فوق أعلاهن معطوف

وقبة لا تكاد الطير تبلغها

أعلى محاريبها بالساج مسقوف

لها مصابيح فيها الزيت من ذهب

يضيء من نورها (لبنان) و (السيف)

فكل إقباله ـ والله زينه ـ

مبطن برخام (الشام) محفوف

في سرة الأرض مشدود جوانبه

وقد أحاط بها الأنهار والريف

فيه المثاني وآيات مفصلة

فيهن من ربنا وعد وتخويف

ومن أجمل ما وصف به جامع دمشق قول ابن منقذ الكناني من قصيدة :

وكأن جامعها البديع بناؤه

ملك يمير من المساجد جحفلا

ذو قبة رفعت فضاهت قلة

ومنابر بنيت فحاكت معقلا

تبدو الأهلة في أعاليها كما

يبدو الهلال تعاليا وتهللا

ويريك سقفا بالرصاص مدثرا

يعلو جدارا بالرخام مزملا

قد ألّف الأقوام بين شكوله

فغدا الرخام بذاته متشكلا

لم يرض تجليلا بجص فانبرى

بالفص يعلو والنضار مجللا

يغشى سوام اللحظ في أرجائه

من عسجد أرضا ومن فص خلا

فإذا تذر الشمس منه تخاله

يلقا تألق أو حريقا مشعلا

فكأنما محرابه من سندس

أو لؤلؤ وزمرد قد فصلا

وتخال طاقات الزجاج إذا بدت

منه للحظك عبقريا مسدلا

تبدو القباب بصحنه لك مثلما

تبدو العرائس بالحليّ لتجتلى

وعلت به فوّارة من فضة

سالت فظنوها معينا سلسلا

وببابه حركات ساعات إذا

فتحت لها باب تراجع مقفلا

ويريك باريها وكل قد رمى

من فيه يقذفه يصيب سجنجلا

وظل الجامع بحاله بهجة النظار والسفار ، ومفخر دمشق على غابر الأعصار ،

٢٦١

والملوك حتى من العباسيين يرمّون فيه إلى أن التهمه الحريق الأول سنة (٤٦١ ه‍) فذهبت محاسنه ، وذلك في حرب المصريين المغاربة أي الفاطميين مع العراقيين فأحرقوا دارا مجاورة للجامع فتعلقت النيران به فدثرت محاسنه ، وتشوه مظره واحترقت سقوفه المبطنة بالذهب وفصوصه ، وسقطت القبة كما قال الذهبي فأعيدت إلى ما كانت ، واحترق ثانية سنة ٧٤٠ وكان الأصل فيه كما قال ابن مفلح من النصارى بدمشق ، واشتهر ذلك عنهم ، وكتب عليهم محضر به ، ونقضت مأذنة عيسى وجددت من أموالهم لكونهم اتهموا بحريقها بإقرار بعضهم. وهذا الحريق عم جميع الجامع وما حوله من الأسواق. وفي سنة (٧٥٣) كان ثالث حريق وذلك أنه وقع حريق عند باب جيرون فاتصل بالباب بالنحاس الأصفر فنزعوه وكسروا خشبه وكان من نحاس دمشق ومعاملها. وكان في سنة (٧٩٥) حريق سوق الدهستان وسوق الورافين والساعات ونصف المعزية من شرقي الجامع ، ثم أعيد إلى ما كان عليه. ورابع حريق كان في سنة (٨٠٣) عند حضور تيمور وحرقت خزانة المصاحف والكتب فأعيد سنة (٨٠٥) إلى قريب ما كان عليه وخامس حريق كان سنة (٨٨٤).

وأصيب بالزلازل مرات وتعطلت جوانبه وتداعت بعض سقوفه ومنها زلزلة سنة (٥٩٧) فرمي بعض المنارة الشرقية وسقط ١٦ شرفة وتشققت قبة النسر وآخرها زلزال سنة (١١٧٣) فخربت قبة النسر والرواق الشمالي وأعيد بناؤهما من قابل. حتى إذا كانت سنة (١٣١٠) سرت النار إلى جزوع سقوفه فالتهمتها في أقل من ثلاث ساعات فدثر آخر ما بقي من آثاره ورياشه ، وحرق فيه مصحف كبير بالخط الكوفي كان جيء به من مسجد عتيق في بصرى ، وكان الناس يقولون إنه المصحف العثماني ، وجمعت أموال من إعانات وغيرها فنجز القسم الشرقي في سنة (١٣١٧) وفي سنة (١٣٢٠) نجز القسم الغربي وظل العملة في بنائه الذي أرجع إلى ما كان عليه بالجملة عشر سنين وصرف عليه ستون ألف ليرة عثمانية ذهب عدا من تطوعوا للعمل فيه بلا أجر. ولم يبق من محاسن الجامع القديمة إلا جدرانه وبعض كتابات من عهد السلجوقيين والأيوبيين والمماليك على بعض سواريه. وفي دار الآثار بدمشق أيضا حجران كتبابا لخط الكوفي بعمارة قسم من الجامع ، في القرن الخامس وصورتهما :

٢٦٢

الأول ـ (بسم الله الرحمن الرحيم) : شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام. أمر بعمارة هذه القبة والمقصورة والسقف والطاقات والأركان في خلافة الدولة العباسية أيام الإمام المقتدي بأمر الله أمير المؤمنين ، وفي دولة السلطان المعظم شاهنشاه الأعظم سيد ملوك الأمم أبي الفتح ملك شاه بن محمد وأيام أخيه الملك الأجل المؤيد المنصور تاج الدولة وسراج الملة شرف الأمة أبي سعيد تتش ابن ملك الإسلام ناصر أمير المؤمنين وفي أيام وزارة الشيخ الأجل نظام الملك أتابك أبي علي الحسن بن علي الوزير الأجل السيد فخر المعالي ناصح الدولة عميد الحضرتين أبو نصر أحمد بن الفضل من خالص ماله ابتغاء ثواب الله عزوجل في شهور خمس وسبعين وأربعمائة.

الثاني ـ (بسم الله الرحمن الرحيم) : لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا. أمر بعمل هذه المقصورة وترخيم الأركان في خلافة الدولة العباسية أيام المقتدي بأمر الله أبي القاسم عبد الله أمير المؤمنين وفي دولة السلطان المعظم شاهنشاه الأعظم سيد ملوك الأمم مولى العرب والعجم أبي الفتح ملكشاه بن محمد بن داود أمين أمير المؤمنين وأيام أخيه الملك الأجل تاج الدولة وسراج الملة وشرف الأمة أبي سعيد تتش بن ملك الإسلام ناصر أمير المؤمنين الوزير الأجل السيد فخر المعالي ناصح الدولة عميد الحضرتين أبو النصر أحمد بن الفضل من خالص ماله ابتغاء ثواب الله عزوجل في شهور سنة خمس وسبعين وأربعمائة» اه.

قصور الأمويين ومصايفهم ومشاتيهم :

وصف يزيد بن المهلب دار ولي عهد سليمان بن عبد الملك بدمشق فقال : دخلتها فإذا هي دار مجصصة حيطانها وسقوفها ، وفيها وصفاء ووصائف عليهم ثياب صفر وحلي الذهب ، ثم أدخلت دارا أخرى فإذا حيطانها وسقوفها خضر ، وإذا وصفاؤها ووصيفاتها عليهم ثياب خضر وحلي الزمرد ، وإن ولي العهد قاعد على سرير معه امرأته. ووصف حماد الراوية دار هشام بن

٢٦٣

عبد الملك في دمشق فقال : إنها دار قوراء مفروشة بالرخام ، وهو في مجلس مفروش بالرخام، وبين كل رخامتين قضيب من ذهب ، وحيطانه كذلك ، وهشام جالس على طنفسة حمراء ، وعليه ثياب حمر من الخز ، وقد تضمخ بالمسك والعنبر ، وبين يديه مسك مفتوت في أواني ذهب ، يقلبه بين يديه فتفوح رائحته ، وفي المجلس جاريتان لم ير مثلهما قط اه. والله أعلم أكان ذلك حقيقة أم خيالا.

وقد ادعت ميس بل أنه لو لا حوادث القرن السابع أي لو لا دخول العرب الفاتحين لبلغ الشاميون طريقة في هندسة الأبنية خاصة بهم مستقلة عن غيرهم ، وإن امتزج بها شيء من هندسة الأمم الأخرى ، فردّ عليها لامنس بأن هذه المدينة مدينة دمشق لم تمس عاصمة كبرى إلا في عهد بني أمية وبهمتهم. قلنا : ولو لم يعفّ بنو العباس آثار بني أمية في الشام لرأينا فيه أحسن صورة تامة من صور بنائهم. وكان منه ما هو في المدن ومنه ما هو في البادية أو ما يقرب منها. لأن الأمويين كانوا على الأغلب يتحامون نزول دمشق لرطوبتها وحمياتها ، فمنهم من نزل قصر الموقر أو المقور وقصر المشتّى والزيزاء والفدين والأزرق والأغدف والبخراء والأبيض والقسطل والرصافة والزيتونة والجابية وحوّارين والصّنّبرة ودابق وبطنان حبيب وأياير في البلقاء وشمالي الشام وشرقها. وحصن الموقر بالبلقاء على ساعتين من عمان قرب قصر المشتى الواقع على ساعتين من مادبا سكنه يزيد بن عبد الملك وكان رممه فجعله من القصور الجميلة. واستقر الوليد بن يزيد والعباس بن الوليد في القسطل في البلقاء. والوليد في الزيزاء وقصر الأزرق. وابتنى عبد الملك الأبنية حول قصر الموقر وكان له في البرية عدة قصور. وقصر عمرا على قصر المشتى على سبعين كيلو مترا من جهة الشرق وهو في وسط البادية. اكتشف قصر عمرا الأثري موسيل سنة ١٨٩٨ وهو قصر أموي يجمع بين مزايا الصروح الملكية والحصون ، وهو على الشاطئ الشمالي من البحر الميت وكان على ما يظهر حماما حفظت فيه كما قال هرزفلد نقوش عجيبة بحالها لم يحفظ مثلها في صقع آخر من أصقاع الشام ، تمثل مشاهد الحمامات وألعابا رياضية كالجريد وصيودا لأنواع الطيور وقنصا في البحر ولوحات تمثل الصناعات وصورا

٢٦٤

رمزية تمثل أدوار الحياة في البادية والتاريخ والفلسفة والشعر ، وخليفة جالسا على العرش وأعداء الإسلام ورسوم منطقة البروج ورجالا ونساء وأشجارا وحيوانات في كؤوس وفرش ، وشجيرات وعساليج الكرمة والدفلى والنخيل وثمارا وطيورا من أطيار البادية وامرأة عريانة محلاة باللؤلؤ. وكلها تدل على أنها من هندسة الروم والشاميين والفرس. ووجد فيه اسم : «قيصر ، رذريق ، كسرى ، النجاشي» مكتوبا بالعربية والرومية. وإجماع الأثريين على القول إن هذا القصر من عمل الوليد الأول بين سنتي ٧١٢ و ٧١٥ ميلادية. وكذلك قصر المشتى وهو على اثني عشر ميلا شرقي عمان وعلى ساعة من شرقي القسطل في خربة الموقر وهو قصر عظيم يشبه الحصون المنيعة يحيط به سور مربع الشكل تبلغ جوانبه نحو ١٥٠ مترا وفي زواياه أربعة بروج مستديرة ولكل من جوانبه الثلاثة الشرقي والغربي والشمالي بروج يشرف منها اثنان على جهتي باب البناء وهما كثير الأضلاع. ويقسم البناء إلى ثلاث مربعات مستطيلة أوسعها الأوسط فيه أبنية القصر القديمة وطول القصر خمسون مترا في عرض سبعين ويشتمل على حجرة واسعة يليها أربعة منازل. والأبنية كلها مشيدة بالآجر ما عدا طبقتها السفلى القائم عليها البناء فهي مبنية بالأحجار البيضاء. وفي ساحة القصر قطع ضخمة من الرخام الأخضر لم تنحت بعد. وكان وجه البناء الخارجي مزينا بأبدع النقوش ، وهي تمثل جفنة محكمة الصنع ذات أغصان وفروع تمتد على طول البناء تتخللها طيور وحيوانات ليست معروفة كالأسود المجنحة والعنقاء تمرح وتنقر العنب أو تشرب من الكؤوس. اقتطع هذه الصور علماء من الألمان بأمر عبد الحميد الثاني وهي اليوم في متحف برلين. والرأي الشائع أنها من صنع الغسانيين. وفي تلك الأرجاء نحو أربعين خربة لم يكشفها علماء الآثار حتى الآن.

وبنى هشام حصن المثقب على يد حسان بن ماهون الأنطاكي وحوله خندقا وحصن بوقا من أعمال أنطاكية. وكان هشام ينزل في الزيتونة في بادية الشام فلما عمر الرصافة انتقل إليها فكانت منزله إلى أن مات. وكان يزيد يقيم في حوّارين وتدمر ، وابنه خالد يسكن في قصر الفدين في البلقاء. ومن الدور الكبيرة بدمشق دار خالد بن عبد الله بن يزيد أبو الهيثم البجلي القسري من

٢٦٥

أهل دمشق كان أميرا على مكة وولي إمرة العراقين وكانت داره بقنطرة سنان بباب توماء.

وبعض هذه القصور لا تزال أسسه ماثلة للعيان مثل قصر الموقر والمشتى لم ينسفها العباسيون كما نسفوا آثار المدن ونقضوا سور دمشق يوم فتحوها حجرا حجرا ، وأخربوا أيضا قصور الأمويين في حلب مثل قصر سليمان ابن عبد الملك بالحاضر ، وقصر مسلمة بن عبد الملك بالناعورة بحلب ، ومنازل هشام بن عبد الملك في القطيفة من جبل سنير ، وقصري هشام في الرصافة ، وأبقوا في الغالب على قصر خناصرة من أرض الأخصّ لعمر بن عبد العزيز احترموه ولم يبقوا على غير قبره من قبور بني أمية. وفي الأغاني أن المأمون طاف على قصور بني أمية وتتبع آثارهم فدخل صحنا من صحونهم فإذا هو مفروش بالرخام الأخضر كله. والظاهر من كلام المقدسي ان آثار بني أمية كانت موجودة في القرن الرابع خلافا لما هو المعروف من أن العباسيين أتوا عليها كلها. والغالب أن بعض الأبنية لم تعور كثيرا ورمّت فاطلق عليها أسمها الأصلي ونسبت إلى بانيها الأول.

قصور خلت من ساكنيها فما بها

سوى الأدم تمشي حول واقفة الدّمى

تجيب بها الهام الصدى ولطالما

أجاب القيان الطائر المترنما

كأن لم يكن فيها أنيس ولا التقى

بها الوفد جمعا والخميس عرمرما

عمل العباسيين :

قال الجاحظ : من شأن الملوك أن يطمسوا على آثار من قبلهم وأن يميتوا ذكر أعدائهم ، فقد هدموا بذلك السبب المدن وأكثر الحصون ، كذلك كانوا أيام العجم وأيام الجاهلية ، وعلى ذلك هم في الإسلام ، كما هدم عثمان صومعة غمدان وكما هدم الآطام (الحصون) التي كانت بالمدينة ، وكما هدم زياد كل قصر ومصنع كان لابن عامر ، وكما هدم أصحابنا (يعني العباسيين) بناء مدن الشامات (الشام) اه.

أما بنو العباس فلم تبق الأيام من آثارهم مصنعا يعتدّ به في الشام لنحكم على عظمتهم ، وكان من أهمها قناة قرية منين التي جرّها المأمون إلى معسكره

٢٦٦

بدير مران في جبل قاسيون. وهذا عمل مهمّ مما بلغنا خبره لأن الطريق من منين إلى قاسيون يحتوي على أودية وشعاب ونجاد كثيرة ذكر ذلك ابن عساكر. وقد بني للمتوكل العباسي قصر بين داريا ودمشق فلم يعثر له على أثر. قال ابن كثير : إن المتوكل لما جاء دمشق عازما على الإقامة بها سنة أربع وأربعين ومائتين أمر ببناء القصور بها وهي التي بطريق داريا. ومن ذلك يفهم أنها كانت موجودة إلى زمن ابن كثير. وفي سنة (٢٦٢ ه‍) بنى الأمير النعمان دارا عظيمة في بيروت وحصن سور المدينة وقلعتها. أما المتغلبة على الملك في زمن العباسيين مثل الفاطميين والطولونيين والحمدانيين والسلجوقيين فإننا لا نعرف عن آثارهم كبير أمر أيضا ولا سيما بنو طولون وبنو عبيد فإنهم آثروا أن يجعلوا مصانعهم في مصر مقر ملكهم. كما آثر العباسيون أن يجعلوها في العراق وخراسان. ومما بناه ختكين والي دمشق للحاكم بأمر الله جسر الحديد تحت القلعة قلعة دمشق على نهر بردى ، وسخر الناس لأجل عمله وأخذ أموالهم.

ذكر ابن عساكر أن حمزة بن الحسن المعروف بفخر الدولة قاضي دمشق من قبل الفاطمييين جدد في دمشق مساجد ومنابر وقنوات وأجرى الفوّارة التي في جيرون. وذكر أنه وجد في تذكرته سبعة آلاف دينار صدقة في كل سنة وهو الذي أنشأ القيسارية المعروفة بالفخرية توفي سنة ٤٣٤. وكان لشمس الدين بن المقدم من كبار الدولتين النورية والصلاحية (٥٨٤) دار كبيرة بدمشق إلى جانب المدرسة المقدمية ثم صارت لصاحب حماة ثم صارت لقرا سنقر المنصوري ثم للسلطان الملك الناصر وله تربة ومسجد وخان. وكان الملك الأمجد صاحب بعلبك يقيم بداره التي داخل باب النصر بدمشق المعروفة بدار السعادة وهي التي ينزلها النواب ولعلها دار المشيرية التي حرقت في العهد الأخير ودار السعادة هذه أكملت عمارتها سنة (٤٠٨ ه‍) بعد إلزام النائب أهل البلد بعمارتها ، ومرمة ما يحتاج السكنى فيها وتحول إليها فسكنها.

آثار عربية محلية ميناء عكا :

وقد نشأت في القرن الرابع وما بعده في الشام حركة مباركة في العمران قام بها مهندسون من العرب انتهى إلينا قليل من أعمالهم مثل أبي بكر البناء

٢٦٧

المهندس الذي ابتنى ميناء عكا لابن طولون. قال المقدسي : ولم تكن عكا على هذه الحصانة حتى زارها ابن طولون ، وقد كان رأى صور ومنعتها واستدارة الحائط على ميناها ، فأحب أن يتخذ لعكا مثل ذلك المينا ، فجمع صناع الكورة وعرض عليهم ذلك ، فقيل لا يهتدي أحد إلى البناء في الماء في هذا الزمان ، ثم ذكر له جدنا أبو بكر البناء ، وقيل : إن كان عند أحد علم هذا فعنده ، فكتب إلى صاحبه على بيت المقدس حتى أنهضه إليه ، فلما صار إليه وذكر له ذلك قال : هذا أمر هين عليّ بفلق الجميز الغليظة ، فصفها على وجه الماء بقدر الحصن البري ، وخيط بعضها ببعض ، وجعل لها بابا على الغرب عظيما ، ثم بنى عليها بالحجارة والشيد ، وجعل كلما بنى خمسة دوامس ربطها بأعمدة غلاظ ليشتد البناء ، وجعلت الفلق كلما ثقلت نزلت حتى إذا علم أنها قد جلست على الرمل تركها حولا كاملا حتى أخذت قرارها ، ثم عاد فبنى من حيث ترك ، وكلما بلغ البناء إلى الحائط القديم داخله فيه وخيطه به ، ثم جعل على الباب قنطرة ، فالمراكب في كل ليلة تدخل الميناء وتجر السلسلة مثل صور. قال المقدسي : وميناء صور وعكا من العجائب. وقال ابن إياس من أهل القرن العاشر : إن في صور قنطرة ليس في الدنيا أعظم منها وهي على قوس واحدة مثل قنطرة طليطلة بالأندلس إلا أنها دون قنطرة صور. وبنى أحمد بن طولون قلعة يافا ولم يكن لها قلعة من قبل.

وذكر المؤرخون أن جعفر بن فلاح لما فتح دمشق للفاطميين سنة (٣٥٨) نزل بظاهر سور دمشق فوق نهر يزيد وأقام أصحابه هناك الأسواق والمساكن وصارت شبه المدينة ، واتخذ لنفسه قصرا عجيبا من الحجارة ، وجعله عظيما شاهقا في الهواء غريب البناء. وهذه صورة ما وجد على جسر ثورا مكتوبا على حجر بالخط الكوفي على ما حققه استاذنا الشيخ طاهر الجزائري : أمر بعمارة الجسر المبارك مولانا الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين صلوات الله عليه تاج الأمراء ... جيوش ... شرف الملك عمدة الإمام سيف الإسلام معز الدولة وعضدها وأطال الله بقاءه في ربيع الأول سنة (٤٥٦).

وهب صاحب حلب محمود بن نصر لابن أبي حصينة المعري الأديب (٤٥٧) مكانا بحلب تجاه حمام الواساني فجعله دارا وزخرفها فلما تم بناؤها

٢٦٨

نقش على دائرة الدرابزين فيها :

دار بنيناها وعشنا بها

في دعة من آل مرداس

قوم محوا بؤسي ولم يتركوا

عليّ في الأيام من باس

قل لبني الدنيا ألا هكذا

فليحسن الناس إلى الناس

ولما تكامل البناء عمل دعوة حضرها الأمير محمود بن نصر فلما رأى حسن الدار وقرأ الأبيات المتقدمة قال : يا أبا الفتح كم صرفت على بناء الدار قال : يا مولانا هذا الرجل تولى عمارتها ولا أدري كم صرف عليها.

فسأل المعمار فقال : غرّم عليها ألفا دينار مصرية فأمر بإحضار ألفي دينار وثوب أطلس وعمامة مذهبة وحصان بطوق ذهب وسرفسار ذهب فسلمها إلى ابن أبي حصينة وقال له :

قل لبني الدنيا ألا هكذا

فليحسن الناس إلى الناس

وفي الروضتين أن صلاح الدين يوسف كان يزور القاضي الفاضل ليستضيء برأيه فيما يريد فعله في جوسق (قصر) ابن الفراش بالشرف الأعلى في بستانه ، حتى إن الصفي بن القابض لما تولى خزانة دمشق لصلاح الدين بنى له دارا مطلة على الشرف بالقلعة وأنفق عليها أموالا كثيرة وبالغ في تحبيرها وتحسينها وظن أنها تقع من السلطان بمكان فما أعارها طرفا ولا استحسنها ، وكانت من جملة ذنوبه عند السلطان التي أوجبت عزله عن الديوان وقال : ما يصنع بالدار من يتوقع الموت ، وما خلقنا إلا للعبادة والسعي للسعادة ، وما جئنا لنقيم ، وما نروم أن لا نريم.

القصر الأبلق :

ومن المصانع التي كانت بدمشق القصر الأبلق في الميدان القبلي ، وهو قصر عظيم مبني من أسفله إلى أعلاه بالحجر الأسود والأصفر ، بتأليف غريب وإحكام عجيب ، بناه الظاهر بيبرس البندقداري وعلى مثاله بنى الناصر محمد ابن قلاوون القصر الأبلق بقلعة الجبل بمصر. قال ابن فضل الله : وأمام هذا القصر أي أبلق دمشق دركاه (١) يدخل منها إلى دهليز القصر وهو دهليز

__________________

(١) : الدركاه البيت المستطيل أمام الدار يرتفق به.

٢٦٩

فسيح يشتمل على قاعات ملوكية مفروشة بالرخام الملون البديع الحسن ، المؤزر بالرخام ، المفصل بالصدف والفص المذهب إلى سجف السقف ، وبالدار الكبرى به إيوانان متقابلان تطل شبابيك شرقيهما على الميدان الأخضر وغربيهما على شاطئ واد أخضر يجري فيه نهر ، وله رفارف عالية تناغي السحب ، تشرف من جهاتها الأربع على جميع المدينة والغوطة. قال شيخ الربوة : سمي بالقصر الأبلق لكونه مبنيا بالحجارة البيض والحجارة السود. وقد بقي هذا القصر عامرا إلى عهد العثمانيين رآه ابن طولون الصالحي المتوفى سنة ٩٥٣ وقرأ تاريخه ٦٦٨ وقال : إن على أسكفته ضربا من رخام أبيض وسطه مكتوب عمل إبراهيم بن غنائم المهندس. وقد قال العارفون : إن التكية السليمانية قامت على أنقاض ذاك القصر. وذكر ابن تغري بردي أن الأبلق ما زال عامرا تنزله الملوك إلى أن هدمه تيمور لنك في سنة ثلاث وثمانمائة عند حريق دمشق وخرابها.

وبنى علم الدين قيطر المعروف بتعاسيف للملك المظفر في حماة أبراجا وطاحونا على العاصي وعمل له كرة من الخشب مدهونة رسم فيها جميع الكواكب المرصودة وعاونه في عملها المهندس القاضي جمال الدين بن واصل.

المعاهد الدينية والمدنية في العهدين النوري والصلاحي :

ولما قويت حركة العمران في عهد الدولتين النورية والصلاحية بدمشق وحلب والقدس وحماة وطرابلس وبعلبك وغيرها وأخذوا ينشئون فيها المدارس والجوامع والرّبط والمستشفيات والقلاع والجسور ، كان منها ما هو مثال الهندسة العربية مثل واجهة بناء المدرسة العادلية التي شرع ببنائها نور الدين ولم يتمها ، ولما ولي العادل أزال ما بناه نور الدين وبناها كما قال صاحب الروضتين هذا البناء المحكم الذي لا نظير له في بنيان المدارس. ومن البدائع واجهة مدخل المستشفى القيمري في صالحية دمشق ، وهندسة مدرسة الصهيبية في حلب ، وكذلك المدرسة التي كانت بجوار الشهباء وصفها ابن جبير قال : ومن أظرف ما يلحظ فيها أن جدارها القبلي مفتح كله بيوتا وغرفا وله طيقان يتصل بعضها ببعض ، وقد امتد بطول الجدار عريش كرم مثمر عنبا ،

٢٧٠

فحصل لكل طاق من تلك الطيقان قسطها من ذلك العنب متدليا أمامها ، فيمدّ الساكن فيها يده ويجتنيه متكئا دون كلفة ولا مشقة. وقد قيل : إن منارة جامع حلب المثال الوحيد من الهندسة الإسلامية.

ولقد بنى الملك الأشرف بن العادل بدمشق قصورا ومتنزهات حسنة. وكانت عمارة اللاذقية في الحروب الصليبية من أحسن الأبنية وأكثرها زخرفة مملوءة بالرخام على اختلاف أنواعه كما قال ابن الأثير ، فخرب المسلمون كثيرا منها ونقلوا رخامها إلى دمشق وغيرها ، وخربوا البيع التي قد غرم على كل واحدة منها الأموال الجليلة المقدار ، ولما تسلمها تقي الدين عمر حصن قلعتها ، وكان عظيم الهمة في تحصين القلاع والغرامة الوافرة عليها كما فعل بقلعة حماة. وبنى الناصر صلاح الدين من أسرة صلاح الدين يوسف قصرا في قرية القابون بدمشق «لم ير الراؤون مثله» وعمر الشرف الأعلى في دمشق بقصور العظماء.

عمران دمشق في القرون الوسطى :

وبعد أن كانت دمشق في القرن السادس أكثر مدن الأرض سكانا كما قال ابن جبير وكانت في القرن الثامن كما قال ابن تغري بردي أجمل مدينة في العالم بل أغنى مدينة ، أحرق تيمورلنك بعض أحيائها ومدارسها وغرّمها ملايين من الدنانير ، وحمل معه المهندسين والبنائين والنقاشين ، في جملة من حمل من أرباب الصنائع إلى سمرقند ، كما فعل السلطان سليم في مصر لما فتحها في الربع الأول من القرن العاشر ، فحمل إلى القسطنطينية كل صاحب صنعة وعمل نافع وجردها من بدائعها وصناعاتها النفيسة.

وكان في دمشق في القرن التاسع مائة حمام أفردها ابن عبد الهادي في رسالة كما كان في عصره ألف جامع ومسجد في دمشق وضاحيتها وناهيك ببلدة فيها هذا القدر من آثار العمران. ولا غرو بعد هذا إن قال فينا أبو الفضل ابن منقذ الكناني يوم كان لنا القدح المعلى في العمائر :

وإذا مررت على المنازل معرضا

عنها قضى لك حسنها أن تقبلا

إن كنت لا تسطيع أن تتمثل ال

فردوس فانظرها تكن متمثلا

وإذا عنان اللحظ أطلقه الفتى

لم يلق الا جنة أو جدولا

٢٧١

أو روضة أو غيضة أو قبة

أو بركة أو ربوة أو هيكلا

أو واديا أو ناديا أو ملعبا

أو مذنبا أو مجدلا أو موئلا

أو شارعا يزهو بربع قد غدا

فيه الرخام مجزّعا ومفصلا

دور الخاصة :

ومن قصور حلب في القرن الثالث دار واليها زكا الأعور ودار حاجبه فيروز ودار سيما الطويل ودار كورة الخراساني ومنها قصر السلطنة بدمشق. وذكر ابن عساكر أن محمد بن عمرو بن حوى السكسكي كان في إقليم من أقاليم غوطة دمشق يعرف ببيت لهيا بينها وبين دمشق نحو ميل وكان له في هذا الأقليم عدة قصور مبنية بالحجارة وخشب الصنوبر والعرعر في كل قصر منها بستان ونهر يسقيه ، وكان كل جليل يقدم من الحضرة (بغداد) أو من مصر يريدها ينزل عنده وفي قصوره ، وكان ذلك في القرن الثالث. ومن قصور الشام قصر عبد الملك بن صالح في مدينة منبج وكان بناه لنفسه وأنشأ بستانا إلى جانبه. قال ابن الجوزي : هدم أهل دمشق قصر السلطنة في القرن الخامس ودرسوه وكان عظيما يسع ألوفا من الناس. وقصر بطياس في حلب المذكور في شعر البحتري كان عامرا إلى عهد ابن العديم في القرن السادس وكان عامرا إلى عهده برج من الحصن الذي كان بناه مسلمة بالناعورة وكان بنى فيها قصرا بالحجر الأسود الصلد.

وقد خربت محلة الفراديس المعروفة اليوم بمحلة العمارة في فتنة القرامطة سنة (٣٦٣) وكان فيها على رواية ابن القلانسي من البنيان الرفيع في الحسن والبهاء ما لم ير مثله وهو أحسن مكان كان بظاهر دمشق. وقال ابن شاكر : إن اللؤلؤتين كانتا منظرتين ظاهر دمشق مما يلي باب الحديد غربا وكانتا من أعجب البناء. أحرقهما المصريون لما حاصروا دمشق. واللؤلؤتان الصغيرة والكبيرة هما اليوم حدائق في أرض باب السريجة بينها وبين قرية كفرسوسة.

وقنطرة سنجة التي قال فيها ابن حوقل : ليس في الإسلام قنطرة أحسن منها ويقال : إنها من العجائب وسنجة بالقرب من منبج. وقال ابن القلانسي : من اقتراحات شمس الملوك صاحب دمشق الدالة على قوة عزيمته ، ومضاء

٢٧٢

همته ، ومستحسن ابتدائه ، ما أحدثه من البابين المستجدين خارج باب الحديد من القلعة بدمشق الأوسط منها ، وباب جسر الخندق الشرقي منها وهو الثالث لها ، أنشئ ذلك في سنة (٥٢٧) مع دار المسرة بالقلعة والحمام المحدثة على صيغة اخترعها ، وبنية اقترحها ، وصفة آثرها ، فجاءت في نهاية الحسن والطيبة ، والتقويم والاعتدال.

واشتهرت في القرن الخامس دار ابن عقيل صاحب صور (٤٦٥) دخلها أسامة بن منقذ فرآها وقد تهدمت وتغير زخرفها فكتب على لوح من رخام هذه الأبيات :

احذر من الدنيا ولا

تغتر بالعمر القصير

وانظر إلى آثار من

صرعته منا بالغرور

عمروا وشادوا ما ترا

ه من المنازل والقصور

وتحولوا من بعد سك

ناها إلى سكنى القبور

وذكر سبط ابن الجوزي أن أسامة الحلبي بنى دارا بدمشق بأنقاض بيوت الناس فخربت على يد أيوب بن الكامل محمد في سنة (٦٤٧) ، وكان أسامة قد غرّم عليها أموالا عظيمة وأخذ أراضي الناس والآلات بدون الطفيف ، وصح فيه القول القائل : الحجر المغصوب في البناء أساس الخراب. وكانت هذه الدار سبب هلاك أسامة.

تجديد المدن الصغيرة :

من المدن ما نبه ذكره بعد خموله في عهد الدولة الأتابكية والأيوبية مثل حماة فلم يكن لها في القديم نباهة ذكر ، وكان الصيت لحمص دونها ، فلما آلت إلى ملك بني أيوب مصروها بالأبنية العظيمة والقصور الفائقة ، والمساكن الفاخرة ، وفي جوامعها أثر من آثار الصنائع في القرون الوسطى وما قبلها. ومنها ما قام على أنقاض الكاتدرائية القديمة ، ومنها ما حرق وخرب واستعيض عنه مكان آخر ، مثل طرابلس ففي سنة (٦٨٨) فتحت طرابلس وأخرب سورها وكان من الأسوار العظيمة. وأمر السلطان بتجديد مدينة على مثل طرابلس فبنيت ثم سكنها الناس. ومثل ذلك يقال في غزة فقد قال الظاهري :

٢٧٣

إن فيها من الجوامع والمدارس والعمارات الحسنة ما يورث العجب وتسمى دهليز الملك. وكان سور عسقلان عظيم البناء بحيث كان عرضه في مواضع تسع أذرع. وفي مواضع عشر أذرع. وقال ابن فضل الله في بعلبك : إنها مختصرة من دمشق في كمال محاسنها ، وحسن بنائها وترتيبها ، بها المساجد والمدارس والربط والخوانق والزوايا والبيمارستان والأسواق الحسنة. وقال آخر : وبقلعة بعلبك من عمارة من نزل بها من الملوك الأيوبية آثار ملوكية جليلة. وكان على منبج سور بالحجارة المهندسة حصينة جدا. ومن هذه المدن ما أصبح الآن كالقرى مثل المعرة معرة النعمان التي ترى إلى اليوم مسافة ما بين أبوابها ساعة على السائر ، ومثل قيسارية التي قال فيها المقدسي : ليس على بحر الروم بلد أجل ولا أكثر خيرات منها. مر أحدهم سنة أربعين وستمائة بقيسارية فوجد على حائط منها مكتوبا هذه الأبيات :

هذه بلدة قضى الله يا صا

ح عليها كما ترى بالخراب

فقف العيس وقفة وابك من كا

ن بها من شيوخها والشباب

واعتبر إن دخلت يوما إليها

فهي كانت منازل الأحباب

وأزهرت طرابلس على عهد اسندمر الذي بنى القلعة وحماما وسوقا وأنشأ فيها مجاري المياه الغريبة في تقسيمها إلى جميع طبقات الدور ليأمن ساكنوها من الحمى في الطبقات الأرضية ، وقد عمر فيها سنة (٧٠٩) حماما عظيما أجمع من رأوه أنه ما عمر مثله في البلدان ، وعمر قيسارية وطاحونا وأنشأ لمماليكه بها مساكن حسنة البناء تجري المياه إليها بالقنوات ، ومنها ما يطلع إلى أعلاها وتجري في طباقها ، وعمر بعض القلعة وأقام أبراجا وهذه القلعة مجاورة لدار السلطنة بطرابلس ـ قاله النويري

قال الأسدي في سنة أربع وعشرين وثمانمائة عمر ابن بشارة مدينة صور وجعل لها أسواقا ونقل إليها خلقا وحصنها ، قال بعضهم : إنها مدينة السواحل بالشام وقال ابن السمعاني : وكان بها جماعة من العلماء.

القلاع والحصون وقلعة حلب ودمشق :

في الشام كثير من القلاع من بناء القرن الخامس والسادس والذي بعده

٢٧٤

مثل قلعة صرخد قال ابن تغري بردي في حوادث سنة (٤٦٦) وفيها بنى حسان ابن مسمار الكلبي قلعة صرخد. وكتب على بابها أمر بعمارة هذا الحصن المبارك الأمير الأجل مقدم العرب عز الدين فخر الدولة عدة أمير المؤمنين يعني المستنصر صاحب مصر. وذكر عليها اسمه ونسبه. ومثل قلعة حلب وإن كان تاريخها يردّ إلى أبعد من هذا القرن والمهم من أبنيتها بدأ في عهد الإسلام.

وقلعة حلب أفخم ما في الديار الحلبية من القلاع بنيت وسط المدينة على أكمة ربما كانت صناعية ، ويحيط بها خندق عظيم كان القدماء يملأونه ماء ليتعذر الوصول إليها إلا من مدخلها ، وهذا من أحسن ما يتصور العقل ، ويقال : إن حلب القديمة كانت كلها مبنية في هذه القلعة ، تعاورتها الأيدي بالبناء في قرون مختلفة وظلت مسكونة إلى سنة (١٨٢٢ م) أيام خربت بالزلازل. يسير الداخل إلى القلعة على جسر بديع أقيم فوق الخندق ، فيبلغ برجا خارجا جعل في واجهته أنواع من نوافذ الحديد البديع ، قيل : إنه من عهد الظاهر غازي ، لما وجد في مدخله من كتابة تاريخها سنة (٦٠٥) مع بعض الآيات الكريمة. وفي دهليز القلعة المتعرج عدة كتابات ونقوش بارزة على الحجر منها صورة نمرين على يمين الباب ويساره من أجمل ما زبرت أيدي النقاشين على الصخور. فإذا دخل المرء من الباب وجد ساحة وآثار عدة شوارع وركاما من الأنقاض ، بعضها أنقاض جامع ومأذنة ، وأخرى أنقاض أروقة ، وأخرى محال لرصد العدو ، وفي الوسط صهريج كبير ينزل إليه بمئة وخمس وعشرين درجة ، وكان بها دير للنصارى ويقال : إن في أساسها ثمانية آلاف عمود. تعاورها الملوك في الإسلام بالبناء والترميم. ومنهم الظاهر غازي الذي بنى على بابها برجين لم يبن مثلهما قط وجعل لها ثلاثة أبواب حديد. وكان كثير من ملوك حلب يسكنونها. وذكر الغزي أن في قلعة حلب آثار عدة مساجد وأنه كان فيها عشرة مساجد. قال الخالدي شاعر سيف الدولة في وصف هذه القلعة :

وخرقاء قد قامت على من يرومها

بمرقبها العالي وجانبها الصعب

يجر عليها الجو صيب غمامه

ويلبسها عقدا بأنجمه الشهب

إذا ما سرى برق بدت من خلاله

كما لاحت العذراء من خلل الحجب

٢٧٥

فكم من جنود قد أماتت بغصة

وذي سطوات قد أبانت على عقب

ومثل هذا يقال في قلعة دمشق التي سميت (الأسد الرابض) وهي من بناء تاج الدولة تتش سنة (٤٧١ ه‍) جعل بهادار إمارة وسكنها ، ثم زاد الملوك بعده فيها وسكنها كثير منهم. وكانت دار الإمارة قبله تسمى «القصر» بناها العباسيون بعد أن دكوا الخضراء وقصور الأمويين ، فخرب القصر في بعض فتن الفاطميين. وفي سنة (٦٩١) كمل بناء الطارمة وما عندها من الدور والقبة الزرقاء في قلعة دمشق ، فجاءت في غاية الحسن والكمال والارتفاع ، وأنشئ فيها قاعة اسمها قاعة الذهب وفرغ من جميع ذلك في سبعة أشهر. طولها من الشرق إلى الغرب ٣٣٠ وعرضها من الشمال إلى الجنوب ١٧٠ خطوة. وقد خربت في أدوار كثيرة ثم أعيد بناؤها.

ومن القلاع المهمة قلعة بصرى بنيت على مثال قلعة دمشق. وهي أقدم من الإسلام جدد فيها من استولوا عليها بعد في أدوار مختلفة ، دع القلاع والحصون الكثيرة في الشمال والجنوب مثل شقيف ارنون وشقيف تيرون وهونين وتبنين وكوكب وعجلون وقاقون والصبيبة والصلت والهارونية وبيت لاها وحصن أبي قبيس وصافيتا وعريمة ولوقا وتل باشر وعكار وحارم وصهيون وبغراس ودربساك ودركوش واسفونا وبسرفوت وبلاطنس وحصن الأكراد وشيزر والمنيطرة والشغر وبكاس وارسوف وبيت جبرين وحبرون وأرتاح والأثارب وبارين وبارة وإعزاز وصرفند وعدلون وبرج الرصاص وحصن الإسكندرونة والتينات وحلبا وعرقا وبرزية وخناصرة وقسطون وتل اعدى وحصن الحبيس والقدموس ومصيات والكهف والعليقة والخوابي وغيرها من القلاع المعروفة بقلاع الدعوة أي الدعوة الباطنية أو الإسماعيلية. هذا إلى قلاع المدن المشهورة مثل قلعة طرابلس وقلعة حماة وحمص وعكا والكرك والشوبك وصرخد وأذرح وصفد وشميميس. ومعظمها تناطح السحاب بعلوها ، وتشبه الجبال بمتانتها.

بدأ منذ القرن الخامس الغرام ببناء القلاع والحصون لأن المدينة أو الموقع الحربي إذا خليا من حصن يسهل على العدو كل حين أن يجتاحهما. ومن كتاب فاضلي في وصف حصن بيت الأحزان : «وقد عرض حائطه إلى أن زاد على عشرة أذرع وقطعت له عظام الحجارة كل فص منها من سبع أذرع

٢٧٦

إلى ما فوقها وما دونها ، وعدتها تزيد على عشرين ألف حجر ، لا يستقر الحجر في مكانه ، ولا يستقل في بنيانه إلا بأربعة دنانير فما فوقها ، وفيما بين الحائطين حشو من الحجارة الصم، المرغم بها أنوف الجبال الشم ، وقد جعلت سقيته بالكلس ، وأحاطت قبضته بالحجر مازجه بمثل جسمه ، وصاحبه بأوثق وأصلب من جرمه ، وأوعز إلى خصمه من الحديد بأن لا يتعرض لهدمه».

مثال التخريب في الحصون والبيع :

وكثيرا ما كان ساسة هذه الديار يخربون الأسوار والحصون لغرض من الأغراض ، كما خرب عبد الله بن طاهر سنة (٢٠٩) سور معرة النعمان ومعظم الحصون الصغار. مثل حصن الكفر وحصن حناك وحصن كيسوم وغير ذلك. وكما خرب سلاطين الشام منذ استولى عليها الأتابك زنكي إلى أواخر عهد المماليك الحصون التي استولوا عليها أو التي كانوا بنوها لئلا يعود أعداؤهم فيستولوا عليها. وقد ألف جمهور الناس أن ينقضوا البنيان القديم ويعمروا به بناءهم الحديث. ولهذا أمثلة كثيرة في تاريخ العمران في هذه الديار. فقد ذكر العماد الكاتب أن اللاذقية لما استخلصت من أيدي الصليبيين وقع من عدة من الأمراء الزحام على الرخام ، ونقلوا منه أحمالا إلى منازلهم بالشام «فشوهوا وجوه الأماكن ومحوا سنا المحاسن» وبظاهر اللاذقية كنيسة عظيمة نفيسة قديمة بأجزاء الأجزاع مرصعة ، وبألوان الرخام مجزعة ، وأجناس تصاويرها متنوعة ، ولما دخلها الناس أخرجوا رخامها ، وشوهوا أعلامها.

ولما أرادوا في أواخر القرن الماضي بناء رصيف على طول نهر دمشق من صدر الباز إلى داخل مدينة دمشق حملوا إليه من ضخام الأحجار التي كانت في قلعتها. وربما هدم بمثل هذا العامل ما كان في أكثر مدن الشام من دور الضيافة التي ابتدعها عمر بن عبد العزيز. وقصر الفقراء الذي بناه نور الدين في ربوة دمشق. ودار العدل التي بناها نور الدين في دمشق وهي أول واحدة من نوعها بناها لكشف الظلامات. وبنى نور الدين جسر كامد اللوز في سهل البقاع ، كما جدد كثيرا من الجسور والخانات وقنوات السبل

٢٧٧

في أعمال دمشق وغيرها. ولأهل الخير في كل عصر أياد بيضاء في إقامة الخانات والفنادق بين البلدان ومنها خان بناه علي بن ذي النون الإسعردي الدمشقي بقرب الكسوة أول مرحلة للحج الشامي. وما كان في قمم الجبال من المناور التي كانت توقد فيها النيران للإعلام بحركات العدو في الليل وما كان شيد من أبراج حمام الزاجل لنقل الأخبار في النهار. ومن ذلك دمنة القبتين الماثلتين في قنة جبل قاسيون وكان فيه مرصد فلكي بناه المأمون فدثر في جملة ما دثر. واسم القبتين قبة السيار وقبة النصر. وقبة النصر بناها برقوق على سوار قيل : إنه وجد موضعها ذهبا كثيرا مدفونا. ومما اشتهر جسر منبج اتخذ في زمن عثمان بن عفانرضي‌الله‌عنه للصوائف ويقال : بل كان له رسم قديم.

قلاع الصليبيين وكنائسهم :

دخلت الشام في القرون الوسطى هندسة جديدة عسكرية ، وهي هندسة الصليبيين للقلاع والحصون والدور والكنائس ، ولا سيما في طرابلس وبيروت وعكا. واهتم الصليبيون ببناء القلاع والكنائس في الأقاليم التي احتلوها ولا سيما في طرابلس وصور وأنطاكية وعكا والقدس حتى قال بعض الباحثين : إذا استثنينا الدور الروماني فإنه لم يأت على الشام زمن توفرت الهمم فيه على البناء مثل عهد الصليبيين. فإن كل مستعمرة تجارية في المواني البحرية كانت تحاول أن يكون لها على الأقل كنيسة وخانات وحمامات. ثم القلاع التي غصّ بها القطر وهي أحسن نموذج للهندسة الحربية في القرون الوسطى. قال فان برشم : إن على طرابلس صبغة المدن الإيطالية أثرت فيها منذ الحروب الصليبية ، كما أثرت هندسة المدن الإيطالية الكبرى في جميع المواني البحرية في الشام. وكان للطراز الإيطالي التقدم على غيره لأن الطليان أهل البندقية وبيزة وجنوة وطسقانا كانوا أسبق أمم الغرب إلى الاختلاط بسكان الشام للقرب وللعلاقة الدينية بين رومية ونصارى الشرق العربي قبل الحروب الصليبية. وكان عدد الصليبيين من جمهوريات إيطاليا أكثر من غيرهم من الأمم. قال فان برشم : لما كانت سواحل الشام محط رحال الصليبيين ، ونقطة حركاتهم

٢٧٨

الحربية ، تشبعت أبنيتها بالروح الإيطالي ، خصوصا لأن الطليان كانوا إذ ذاك أكثر عددا في هذه الحملات من العنصر الفرنسي. ومن هذه المدن ما دثر مثل طرطوس وصيدا وصور وقيسارية وعسقلان ، ومنها ما هو باق مثل أنطاكية وبيروت واللاذقية وعكا. وفي مدينة طرابلس من بين المدن كلها يتحلى الروح الإيطالي الباقي من القرون الوسطى في أبنيتها وهندستها. ولا تزال قلعة الحصن أو حصن الأكراد والكرك كما يدعوها فرسان الصليبيين محفوظة منذ عهد الصليبيين على ما هي عليه ، وهي آية في باب الهندسة العسكرية ناطقة بلسان حالها بأن الصليبيين نزلوا الأرض المقدسة. ومن هندسة الصليبيين جامع خليل الرحمن وجامع بيروت وطرطوس الكبير وأرواد وصور وصيدا ودير البلمند قرب طرابلس وكنيسة مار يوحنا في جبيل وكنيسة مار شربل في معاد وكنيسة أنفة هذا إلى غير ذلك من البيع في شمالي لبنان وجوار البترون وقد بنوا نحو خمسين قلعة وحصنا في الكور التي احتلوها.

قال رنان : الظاهر أن البنايات المربعة الشكل الضخمة الحجم هي من عمل الطليان وفرسان الهيكليين ، وأن البنايات ذات البرج المدور هي من صنع الفرنسيين وفرسان الاسبتاليين ، وكثيرا ما كان تأثير هندسة اليونان البيزنطيين لقلاعهم. وكان القطر غاصبا بها ـ يعدل ذوق الإفرنج الخاص في هذا المعنى. قال : وفي طرطوس قامت أهم هذه الآثار واستدل بما فيها أن منزل الصليبيين في الشام لم يكن منزل قلعة ، بل وطدوا أنفسهم على احتلالها احتلالا دائما ، وإن في طرطوس بيعة هي أجمل مصنع من المصانع التي بنيت على الطراز الغوتي في هذه الديار.

هندسة البيوت وبيوت دمشق وحلب :

لم يبلغنا أن في القطر دورا يرد تاريخها إلى ألف سنة حتى نعرف حق المعرفة كيف كانت هندسة المساكن كما بقيت مثلا بعض دور قنوات في جبل حوران محفوظة على الصورة التي كانت عليها بنوافذها وأبوابها الحجرية. وكما ادعى القرماني أن في اللجاة من البنيان ما يعجز عن وصفه اللسان ، وكل دورها من الصخر المستحدث ليس في الدار خشبة واحدة بل كلها حجارة

٢٧٩

سوداء منحوتة تنوف على مائتي ألف دار (كذا) كل دار منفردة عن الأخرى لا يلاصقها جدر أخرى ، وكل دار فيها حوش وبئر وله باب من حجر إذا أغلق ووضع خلفه حصاة لا يمكن فتحه أبدا من الخارج. ولكننا على مثل اليقين من أن طرز البناء في دمشق هو كما كان منذ بضعة قرون بل منذ دخول العرب الفاتحين وقبلهم بعصور ، وأن هذا الطراز في بناء بيوت دمشق خلاصة أسلوب قديم ارتقى مع الزمن حتى بلغ ما بلغ في القرون الأخيرة ومنه مثال حي من المدارس والرّبط وغيرها في دمشق.

قال أحد المهندسين المعاصرين : إن التشابه مؤثر بين هندسة دار قديمة ودار عربية ، فقد كانت الدور تشاد ولا تجعل لها نافذة على الشارع ، ويكتفى بطيقان للتهوية ، ولها فناء داخلي تحف به غرف ومخادع وفي وسط الفناء أو الصحن فوارة أو حوض ماء. لا جرم أن المسلمين قد أخذوا عن الرومان هذا الطراز في البناء الذي ينطبق مع هذا على مناخ البحر المتوسط ، ولا نزال نجد فيه مثالا في الأندلس حيث يسمى الفناء الداخلي باسم «باتنو» أو الفناء المبلط.

وكانت دمشق تعتمد في أبنيتها على الحجر غالبا. وزاد الاعتماد على الخشب والطين في الأدوار الأخيرة. قال المقدسي : إن منازل دمشق ضيقة وأزقتها غامة ، وأكثر أسواقها مغطاة ، ولهم سوق على طول البلد مكشوف ، لا ترى أحسن من حماماتها ، ولا أعجب من فواراتها. هذا في القرن الرابع للهجرة. وقال ابن جبير في القرن السادس : إن أكثر أبنيتها بالقصب والطين. وقال ابن فضل الله في الثامن : إن غالب بناء دمشق بالحجر ودورها أصغر مقادير من دور مصر ، لكنها أكثر زخرفة منها ، وإن كان الرخام بها أقلّ ، وإنما هو أحسن أنواعا. قال : وعناية أهل دمشق بالمباني كثيرة ولهم في بساتينهم منها ما تفوق به وتحسن بأوضاعه ، وإن كانت حلب أجل بناء لعنايتهم بالحجر ، فدمشق أزين وأكثر رونقا لتحكم الماء على مدينتها ، وتسليطه على جميع نواحيها ، ويستعمل في عمارتها خشب الحور بدلا من خشب النخل ، إلا أنه لا يغشى بالبياض ويكتفى بحسن ظاهره ، وأشرف دورها ما قرب ، وأجل حاضرتها ما هو في جانبها اه.

٢٨٠