خطط الشام - ج ٥

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٥

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩٦

مترا. ومن العاديات القديمة في دمشق مدخل الكنيسة ولا سيما من الغرب وهي التي أصبحت في الإسلام الجامع الأموي.

حوران ولبنان وغيرهما :

ولا تزال خرائب بصرى قصبة حوران ، وأحصن مدن باشان ومعقل الرومان ، شاهدة بما كان في تلك المدينة من الفخامة والعظمة. وكان طولها داخل السور كما قال بورتر ميلا وربع ميل وعرضها ميلا ، ويحيط بالسور ربض كثير الباني ، ومحيطها خمسة أميال لها سور عالي الجدران ، وثيق البنيان ، وقلعة لا أحصن منها في عامة أرض الشام. ويقطع المدينة شارع كبير على طولها يمر في وسطها له بابان جميلان على طرفه وشوارع رحبة وفيها ما يفوق الوصف من غرائب الصناعة ، وبدائع البناء ، وأساليب النقش في الهياكل والكنائس والقبور والمذابح ، وركام الأنقاض وبيوت الأقدمين. وقوس نصر أقيم للقائد فيليبس الذي صار امبراطورا وهو من أهالي بصرى. والمشهد نصف دائرة قطره ٢٧١ قدما وهو مكشوف من الأعلى مثل كل المشاهد الرومانية. وفيها مشهدان وستة هياكل وعشر كنائس أو عشرة مساجد ، عدا القصور والحمامات والسبل والقنوات وأقواس النصر وغير ذلك من المباني الكثيرة وبعضها ما يصلح أن تزدان به أعظم عواصم أوربا الآن.

ولقد شوهد في معظم المدن التي بناها الرومان في هذه الديار وفي غيرها أنها متشابهة في مرافقها إلا قليلا. ففي كل مدينة ساحة عامة (فوروم) وما يتبعها من المرافق ومعبد الكابتول أو معبد المشتري وجونون ومينرفا (ربة الحكمة والفنون والحرب). وكانت في المدن الرومانية بمثابة البيع الكاتدرائية في مدن أوربا الحديثة. وفيها أسواق ذات نضائد من الحجر وفوارات ومقاسم ماء ذات قنوات لا تزال ترى إلى اليوم آثارها. ومراحيض عامة وخاصة. وأماكن للاستحمام فيها مغاطس باردة وحارة وبيوت للتعريق. وقاعات للرياضة والمحادثة ومماش للتنزه. وأفران وأقواس نصر وأبواب تغلق ليلا ودور تمثيل لا يزال في أكثرها مصاطبها المدرّجة ومساكن خاصة.

٢٤١

ومن أهم مصانع الشام عاديات قنوات في جبل حوران وصفها بورثر بقوله : بلغنا أكمة تطل على قنوات فرأينا على اليسار واديا عميقا ، وعلى جانبه الغربي خرائب المدينة القديمة وسورها يتبع الشواهق مسافة ميل ثم ينعطف متعرجا. فيكتنف أرضا عرضها نصف ميل فيها القصور والهياكل والكنائس والمشاهد وما ماثلها من المباني الفخمة قائمة بعضها بإزاء بعض على نسق بديع يدهش الأبصار. ووراء السور في أسفل الوادي وعلى الجبال المحيطة به في القنن الشاهقة وبين حراج البلوط أعمدة رفيعة ، وأبراج مشيدة ، ومدافن عالية. واسمها عند اليونان قناتا وسماها العرب قنوات بلغت أوج مجدها على عهد الرومان ، وكانت من أعظم المدن شرقي الأردنّ. وفي عهد النصرانية تنصر أهلها وحولوا هياكلها كنائس لكنها خربت بعد الفتح الإسلامي وقتل سكانها أو هجروها فلم يعن المسلمون بجعل كنائسها مساجد كما فعلوا في غيرها من مدن الشام.

ثم ذكر أنه لم ير في مدينة أخرى من مدن فلسطين ما رآه في هذه المدينة وبينها تماثيل أسود وفهود وكلاب ، وفيها رأس عظيم للربة عشتاروت أمام هيكل صغير ، وأمام القصر ساحة فسيحة تحتها صهريج كبير سقفه معقود ، كانت المياه تجري إليه بقناة منحوتة في جانب الوادي ، فيجتمع فيه ما يكفي المدينة فصل الصيف. وغربي المدينة على ربع ميل منها هيكل جميل يحيط به رواق من العمد الكورنثية ، وهو قائم على أكمة صناعية وقد سقط أكثره وتصدعت الجدران ، وفيها برج مستدير وآثار سور. وفي بطن الوادي مماش مدرجة وفساقي منسقة وكراسي التماثيل وهيكل صغير وملعب نحتت مقاعده في الصخر. وفوق دكته كتابة يونانية كبيرة الحروف يقال فيها إن مرقص لوسياس بناه على نفقته ووهبه لأبناء وطنه. ويصعد من هذا الملعب بسلم منحوت في الصخر إلى البرج المستدير وهو ضخم الحجارة قديم البناء لم يبق منه إلا ما ارتفاعه عشرون قدما وعلى مقربة منه بقايا قصر مبني بحجارة كبيرة منحوتة وأغلاق أبوابه وكواه من الحجر كلها وهي كثيرة النقش عليها أكاليل بارزة من الأزهار والأثمار.

ومن أهم الآثار في الشام جسر المعاملتين وجسر جبيل بين البلدة ومدافنها

٢٤٢

القديمة ومنها قناتان تمتدان بين نهر الكلب وجونية. والثانية القناة الكبرى التي كانت تنقل مياه الجبل إلى بيروت وهي من عجائب الآثار القديمة. ومنها هيكل دير القلعة بالقرب من بيت مري في لبنان وهيكل أنقا عند منبع نهر إبراهيم وهيكل فقرا فوق مزرعة كفر ذبيان في سفح جبل صنين. وفي لبنان هياكل رومانية أخرى كهيكل زيزا وناوس في جهات أميون قرب طرابلس وتماثيل كثيرة مبعثرة. وفي البترون حصن منيع وملعب وفي بيروت مسرح ، ومن قلاعهم قلعة صربا ويحمور. ومن أجمل حماماتهم حمام شهبة الذي يذكر بخرائبه الفخمة كما قال ري بحمامات كاراكالا في رومية. وكنيسة السويداء التي تشبه كنيسة القديس بولس في رومية. قال ولا شك أنها أجمل قطعة من هندسة روم القسطنطينية في جميع إقليم حوران.

الهندسة الشامية والكنائس والهياكل :

قال أحد علماء الآثار : إن في الشام الوسطى مجالا واسعا للأبحاث العلمية ودرس العاديات ، فإن فيها ما لا يحصى من الأبنية العادية كالهياكل الوثنية والكنائس المسيحية ودور الخاصة والأندية العمومية من أواخر القرن الأول قبل المسيح والقرن السابع للميلاد ، ولأكثرها كتابات تاريخية تزيل الريب في زمانها. وهذه الآثار تتوالى سنة بعد سنة حتى لو جعلت على سياق متواصل لما وجدت عشرة أعشار من السنين خالية من أثر أو آثار.

وقد عدّ ابن خرداذبة من عجائب البنيان ملعب فامية وتدمر وبعلبك ولدّ وباب جيرون قال والروم تقول : ما من بناء بالحجارة أبهى من كنيسة الرّها (أورفة) ، ولا من بناء بالخشب أبهى من كنيسة منبج ، لأنها بطاقات من خشب العناب ، ولا بناء بالرخام أبهى من قسيان أنطاكية ، ولا بناء بطاقات الحجارة أبهى من كنيسة حمص. وبيعة القسيان في أنطاكية هيكل طوله مائة خطوة وعرضه ثمانون وعليه كنيسة على أساطين وكان بدور الهيكل أروقة يجلس عليها القضاة للحكومة والطلبة للدرس ، وعلى أحد أبواب هذه الكنيسة فنجان للساعات يعمل ليلا ونهارا اثنتتي عشرة ساعة ، وفي أعلاه خمس طبقات في الخامسة منها حمامات وبساتين ومناظر حسنة تخرّ منها

٢٤٣

المياه ، وهناك كنائس كثيرة معمولة بالذهب والفضة والزجاج الملون والبلاط المجزع. وكنيسة حمص كما قال المسعودي من بناء هيلانة وهي إحدى عجائب العالم. وكان في مادبا من عمل البلقاء آثار مهمة اكتشفت مثل سوق طوله ١٤٠ مترا له عمد على الجانبين. ومن العجائب آثار عسقلان واشتهرت الشام بطرابيلها أي صوامعها. وفي كتاب لبنان أن من الآثار اليونانية البيزنطية في لبنان كنيسة مشنقة ، ومعبد ناوس فوق شبطين ، ومعبد كفر شليمان ، وكنيسة حدثون وكانت مبلطة بالفسيفساء تمثل رسوما وتصاوير جميلة ، ومن الفسيفساء أمثلة جميلة في بعض الكنائس القديمة في لبنان كفسيفساء كنيسة القديس جاورجيوس في سرح ، وكنيسة كور القديمة ، وما وجد في النبي يونس من دائرة فيها كأس حولها طيور كالطاووس والحجل وبعض الحيوانات الرمزية تاريخها سنة ٥٥٤ م. وكان في بيروت عدة كنائس بيزنطية. ومن الكنائس المهمة كنيسة مريم في دمشق كانت ذات شأن قال ابن جبير في القرن السادس : إن لها عند الروم في دمشق شأنا عظيما وليس بعد بيت المقدس عندهم أفضل منها. وسنعرض للكلام على بقية الكنائس والأديار في الفصل الخاص بها من هذا السفر.

آثار العرب قبل الإسلام :

كان العرب قبل الإسلام يختلفون إلى الشام وكان النبط وهم عرب هم الذين أنشأوا آثار جرش والبتراء. والغسانيون واليهم تنسب آثار كثيرة في الشام الوسطى ومنها قصر النعمان بن المنذر في السويداء وفي حارب. وبنى جفنة أول ملوكها جلق والقريّة وعدة مصانع. وبنى ابنه عمرو دير حالي ودير أيوب ودير الدهناء. وبنى ثعلبة بن عمرو عقة وصرح الغدير في أطراف حوران مما يلي البلقاء. وبنى جبلة بن الحارث من ملوكهم القناطر وأذرح والقسطل. وبنى الحارث بن جبلة وكان مسكنه البلقاء الحفير في البلقاء ، ومصنعه بين دعجان وقصر أبير. وبنى المنذر بن الحارث صربا ورزقا قريبا من الغدير. وبنى جبلة بن الحارث قصر حارب. وبنى الأيهم ابن الحارث من الأديار دير ضخم ودير النبوة وسعف. وبنى عمرو بن

٢٤٤

الحارث قصر الغضا وصفاة العجلات وقصر منار. وكان منزل جبلة بن النعمان بصفين وهو صاحب عين أباغ. وأصلح النعمان بن الحارث صهاريج الرصافة وكان بعض ملوك لخم خربها.

وحكم التنوخيون شمالي الشام قبل أن يجيئها جيوش العرب بقرون ولم نعرف للضجاعم والتنوخيين آثارا تذكر. وآثار الصفا ولغتها المأخوذة من الحميرية العربية بخط سبأ وآثار بني سميدع العرب في السويداء من جملة الشواهد على ذلك. وأقدم أثر عثر عليه العلماء وكتب بالعربية كتابة عثر عليها في زبد للجنوب الشرقي من حلب ، وأخرى في حران جنوبي دمشق من أعمال اللجاة في حوران. الأولى مثلثة اللغات عربية وسريانية ويونانية يرتقي عهدها إلى سنة ٥١٢ ب. م والثانية بالعربية واليونانية تاريخها سنة ٥٦٨ ب. م بيد أن دوسو اكتشف كتابة عربية مكتوبة بالحرف النبطي في حرّة وادي السوط على مسافة كيلو متر من النمرة في حوران إلى جنوبها الشرقي وتاريخ هذه الكتابة سنة ٢٢٣ لبصرى الموافقة لسنة ٣٢٨ للمسيح فتكون هذه أقدم كتابة عربية. وفي الكتابة المذكورة تاريخ وفاة أحد ملوك عرب الشام واسمه امرؤ القيس بن عمرو ملك بني أسد. وزار أحد عمال القياصرة في بادية الشام هذه الكتابة وأولها : «تي نفس (هذا قبر) امرء القيس بر (بن) عمرو ملك العرب كله ذو (الذي) أسر التاج وملك الأسدين ونزار وملوكهم الخ». ونسب دوسو عدة أبنية في سيف البادية إلى الغسانيين.

ولقد أخطأ كلرمون غانو في قوله : ليست المدنية العربية إلا كلمة خداعة لا وجود لها أكثر من فظائع الفتح العربي ، وإن المدنية العربية آخر أنوار المدنية اليونانية والرومانية طفئت بأيد خرقاء ولكنها محترمة وهي الإسلام. ليست الحضارة ثمرة جيل بذاته ولا هي مما يرتجل ارتجالا كالإرث لا يكون ابن يومه بل هو عبارة عن مجموع إرثي من القوى الحية. هو كنز من التوفير أتت عليه مئات من السنين قد يستطيع أحد اللصوص أن يضع يده عليه ويبذّر فيه يوما ، ولكن حياته بأسرها لا تكفي للإيجاد ، فقد احترمت هاته الأمة الحديثة النعمة ما وجدته من الإدارات والمعارف والفنون ، على حين لم يكن وراءها ماض تعتز به ، واقتصرت أن تحول كل شيء إلى منفعتها ، وبلغ

٢٤٥

بها الحال أيضا أن جعلت لدى مسيس الحاجة امتيازات للقائمين على احتكار هذه الفضائل العقلية ، وهي امتيازات جادت بها ، ونار التعصب يحرقها ، فتساهلت معها تساهلا دينيا عجيبا اه. نعم أخطأ في حكمه على العرب وهم ما خربوا العاديات ولكنهم لم يتوفروا على ترميمها بعد أن كان للعرب من البنيان قصر غمدان وكعبة نجران وقصر مأرب وقصر مارد وقصر شعوب والأبلق الفرد وقصر المشتى والفدين وغيرها من المصانع والقصور التي سنعرض لها في هذا البحث كيف يسلبهم كلرمون غانو إبداعهم المجمع عليه.

قصور العرب في الإسلام :

تخلى جمهور من الروم في دمشق عن دورهم في الفتح ولحقوا بهرقل فنزلها الفاتحون ، ثم أخذوا في كل بلد ينزلونه يرمّون ما عور من بنائه ، وربما بنوا بالمدراي باللبن والطين أولا ، ثم عادوا إلى استعمال الحجر. فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه لما بلغه أن سعدا وأصحابه بنوا بالمدر كتب : أكره لكم البنيان بالمدر فأما إذا فعلتم فعرضوا الحيطان ، وأطيلوا السمك ، وقاربوا بين الخشب. وقد كان لبعض الصحابة الكرام ممن فتحوا دمشق دور وقصور منتشرة في أنحاء المدينة مثل دار أبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد وفضالة بن عبيد والعباس بن مرداس وأبي العزيز الأزدي ووابصة بن معبد وطلحة بن عمرو وخالد بن أسيد والنعمان بن بشير الأنصاري وواثلة بن أسقع وهبار بن الأسود وعمرو بن العاص وأوس بن أوس ويزيد ابن نبيشة وعبد الله بن عامر إلى أمثالهم. ولا نعرف إلا مكان دار أبي عبيدة وكان في محلة حجر الذهب أي المحلة التي تعرف اليوم بالبيمارستان وكانت أجمل حيّ في دمشق.

وكان معاوية يقيم أحيانا في غوطة دمشق وينصب الأبنية والأروقة والفساطيط وزعم اليعقوبي أن معاوية كان أول من بنى وشيد البناء وسخر الناس في بنائه ولم يسخر أحد قبله. ولما بنى معاوية داره بدمشق المعروفة بالخضراء ، لقبة خضراء بناها عليها عرفت الدار بها ، وذلك قبلي الجامع الأموي ، دخلها وفد الروم فقالوا : ما أحسن ما بناها للعصافير. وفي رواية أما أعلاها

٢٤٦

فللعصافير وأما أسفلها فللنار ، فهدمها وبناها بالحجر. والغالب أنها ظلت عامرة إلى القرن الخامس وفيها دار الإمارة. واحترقت سنة (٤٦١) وبادت على ما نقل البرزالي. وقرأ المقدسي في بعض الكتب أن ما أنفق على الخضراء ثمانية عشر حمل بغل ذهب. ولما استخلف عبد الملك بن مروان طلب من خالد بن يزيد بن معاوية شراء الخضراء وهي دار الإمارة بدمشق فاشتراها بأربعين ألف دينار ، واشترى منه أربع ضياع بأربعة أجناد الشام اختارهن فاختار من فلسطين عمواس ، ومن الأردن قصر خالد ، ومن دمشق الأندر ، ومن حمص دير زكا.

وبنى الأمويون بعده بيوتا لهم كانت بجوار الجامع ومنها دار عمر بن عبد العزيز مكان المدرسة السميساطية الآن ، ودار هشام مكان تربة نور الدين ، وقصر سليمان بن عبد المل ، مكان سقاية جيرون ، ودار مسلمة ابن هشام بباب البريد. قال الذهبي : بنى سليمان بن عبد الملك دار السلطنة وعمل بها قبة صغرى عالية بدمشق بدرب محرز. وكان لعاتكة ابنة يزيد ابن معاوية قصر خارج باب الجابية بدمشق. وقال ابن عساكر : كانت دار هند بنت معاوية في درب القبلي. وقصر حجاج منسوب إلى الحجاج ابن عبد الملك بن مروان. وقال ابن شاكر : وكان قبله أيضا معروفا بالحجاجية ملكا للحجاج بن يوسف الثقفي فلما ولد لعبد الملك بن مروان ابنه الحجاج المذكور وكانت أمه بنت محمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف الثقفي سمته باسم عمها الحجاج فنحله الأرض المذكورة وبنى له القصر فعرف به ونسب إليه. وقال آخر : إن الحجاج بن يوسف وهب للحجاج بن عبد الملك دارا بدمشق تعرف بدار الحجاج. واسم قصر الحجاج ما زال يدور على الألسن إلى اليوم دون القصر الذي دثر.

وقد بنى الأمويون قصورا لهم في الغوطة وكانوا يملكون جانبا عظيما منها ولكن لم يظهر لها أثر ولا خبر. قال ابن حزم : وكانت دولة بني مروان على علاتها دولة عربية لم يتخذ ملوكها قاعدة لأنفسهم إنما كان سكناهم كل أمير منهم في داره وضيعته التي كانت له قبل الخلافة. ومن قصور الأمويين في حمص قصر خالد بن يزيد بن معاوية جدده في زمن العباسيين عامل تلك

٢٤٧

المدينة الفضل بن قارن الطبري وتحصن به لما وثب به أهلها.

عناية الأمويين وتفننهم :

وفي أيام الوليد بن عبد الملك كانت الناس تتكلم في البنايات والعمائر لزيادة رغبته في البناء فبنت الناس المجالس الحسان ، وذلك لأن الخليفة كان يرغب في البنايات وإتقان المصانع ، وفي عهده دخلت دمشق في طور العواصم والناس على دين ملوكهم. قال أحد المؤرخين : وكان الوليد عند أهل الشام محبوبا لأنه صاحب عمارة وبناء ، عمر الضياع ووضع المنار في الطرقات ، وأعطى المجذّمين وأفردهم ، وقال : لا تسألوا وأخدم كل مقعد خادما ، وأعطى كل ضرير قائدا ، وكتب إلى جميع البلاد بهدم المساجد والزيادة فيها ، وتسهيل الطرق وحفر الأنهار ، وأن تعمل البيمارستانات التي تعالج فيها المرضى ، وهو أول من فعل ذلك وهو أول من أجرى على القراء وقوام المساجد الأرزاق.

قال ابن أبي عيلة رحم الله الوليد ، وأين مثل الوليد ، افتتح الهند والأندلس وبنى مسجد دمشق ، وكان يعطيني قصاع الفضة أقسمها على قراء (فقراء) مسجد بيت المقدس. وعدّ المقدسي من أمصار المسلمين في الشام أو من المدن التي عمرها المسلمون وبعبارة أخرى الأمويون ثم العباسيون على قلة : أنطاكية ، بالس ، المعرتين ، منبج ، قنسرين، سلمية ، تدمر ، اللاذقية ، جبلة ، جبيل ، انطرسوس ، بانياس ، اللجون ، جوسية ، حماة ، شيزر ، وادي بطنان ، داريا ، بانياس ، صيدا ، بيروت ، عرقة ، طرابلس ، الزبداني ، كامد ، عرجموش ، بيسان ، أذرعات ، قدس ، كابل ، عكا ، صور ، الفراذية ، بيت جبريل ، غزة ، عسقلان ، يافا ، أرسوف ، قيسارية ، نابلس ، أريحا ، عمان ، ديلة ، عينون ، مدين ، أذرح ، مآب ، معان.

الجامع الأموي والمسجد الأقصى :

ومن أهم الآثار التي تنم عن ذوق عربي في هذه الديار الجامع الأموي ، وقد جرى ترميمه في أوقات مختلفة والقليل الذي بقي من آثار نقش العرب

٢٤٨

وتصويرهم يدل على ما كان هناك من ذوق سليم ، ويد صناع. وهندسة الجامع الأموي والمسجد الأقصى مقتبسة من الهندسة اليونانية وممزوجة بأشياء إسلامية.

بعث ملك الروم إلى الوليد كثيرا من البنائين والمقدّرين أي المهندسين مع ما بعث إليه من المفصص أي الفسيفساء والذهب قال المقدسي : إن الوليد جمع لبناء الجامع الأموي حذّاق فارس والهند والمغرب والروم. وروى ابن شداد : أن الوليد اقتلع من كنيسة أنطاكية عمدا عجيبة من المرمر والرخام لمسجد دمشق حملت في البحر إلى ساحلها. ولما كان البناء من صنع بنائين مختلفين ساغ أن نقول : إنه جمع أجمل ما في الهند وفارس وآثينة ورومية. أما طرز البناء فالغالب أن بعض الجدر بقيت بحالها كما كانت يوم كونها بيعة أو معبدا للصائبة. ومساجد الشام ومصر مبنية على شكل الكنائس التي قال المؤرخ أو سابيوس : إنها ذات أفنية وأواوين وفساقي ومساكن للقسس.

ولقد بلغ من تفنن الوليد بزخزفة الجامع الأموي ونقشه وتصويره ما يعجب منه ولا يكاد يكون له نظير في هذه الديار فقد قال ابن كثير : إن أرض الجامع الأموي كانت مفصصة كلها وإن الرخام كان في جدرانه إلى قامات وفوق ذلك كرمة عظيمة من ذهب وفوقها الفصوص المذهبة والخضر والحمر والزرق والبيض وسقفه مقرنص بالذهب والسلاسل المعلقة فيه من ذهب وفضة. وقد أنفق فيه خراج الشام سنتين وفي رواية أربعمائة صندوق كل صندوق ثمانية وعشرون ألف دينار. وكان خراج الشام على عهد بني أمية ألف ألف دينار ومائتي ألف دينار. وذكر بعضهم أن الوليد أخذ ربع أعطيات أهل دمشق تسع سنين وكانوا خمسة وأربعين ألفا يستعين بها على عمارة جامع دمشق. قال المقدسي : والجامع جامع دمشق أحسن شيء للمسلمين اليوم ولا يعلم لهم مال مجتمع أكثر منه ومن أعجب شيء فيه تأليف الرخام المجزع كل شامة إلى أختها ، ولو أن رجلا من أهل الحكمة اختلف إليه سنة لأفاد كل يوم صنعة.

دخل المأمون مرة جامع دمشق ومعه أخوه المعتصم ويحيى بن أكثم فازدادوا عجبا قال المأمون لهما : أي شيء يعجبكما من هذا المسجد فقال المعتصم :

٢٤٩

ذهبه فإنا نضعه في قصورنا فلا تمضي عليه عشرون سنة حتى يحول ، وهذا بحاله مع طول الزمن ، كأن الصانع فرغ منه الآن. فقال المأمون : ما أعجبني هذا. فقال يحيى بن أكثم : الذي أعجب أمير المؤمنين تأليف زخارفه فإن فيه عقودا ما يرى مثلها. فقال المأمون : كلا بل أعجبني أنه بني على غير مثال شوهد.

كاد المؤرخون والجغرافيون من العرب يجمعون على أن المسجد الأقصى أحسن من جامع دمشق. عمّر عبد الملك بن مروان سنة ٦٥ الحرم والقبة الكبرى التي فوق الصخرة على أسلوب جميل لم يسبق إليه. قال بعضهم : إن شكل قبه الصخرة مستعار من الهندسة البيزنطية ثم هدم الكنيسة التي كان شيدها يستنيانس وبنى موضعها المسجد الأقصى ، وتنوق في تنميقه وأكمل البناء سنة ٧٢ وقالوا : إن أساس المسجد الأقصى من عمل داود وهو على غاية الحسن والإحكام كما قال ياقوت مبني على الأعمدة الرخام الملونة والفسيفساء التي ليس في الدنيا أحسن منه لا جامع دمشق ولا غيره. وروى ابن العديم أن جامع حلب كان يضاهي جامع دمشق في الزخرفة والرخام والفسيفساء وأن سليمان بن عبد الملك هو الذي بناه وتأنق في بنائه ليضاهي به ما عمله أخوه الوليد في جامع دمشق. وكان سليمان بن عبد الملك يسكن الرملة قبل الخلافة عمّرها وبنى مسجدها الجامع وخرّب له جارتها.

تاريخ الحرم القدسي :

شيد المسجد الأقصى وقبة الصخرة في مكان تل موريا ، وهي منزلة دينية سامية قدسها الوثنيون واليهود والمسيحيون والمسلمون ، وربما كانت بيدرا لأحد اليبوسيين سكان فلسطين القدماء ، وقد بنى فوقها داود بعد فتحه المدينة مذبحا تقدم فيه القرابين. وأمر سليمان سنة (١٠١٣ ق. م) بإنشاء قصر له مكان المسجد الأقصى وهيكل فخم حيث قبة الصخرة. وقد دمره الكلدانيون سنة (٥٨٨ ق. م) وفي السنة العشرين قبل الميلاد شرع هيرودس الكبير بإقامة هيكل وبرج عال في المكان نفسه ولم يتمه ، ودمره جنود الرومان سنة ٧٠ لما استولى طيطوس على بيت المقدس. وبنى الامبراطور ادريانوس سنة ١٣٠ م

٢٥٠

مدينة ايلياء وأمر بتشييد زون كبير للمشتري إله الحرب اثنا عشري الشكل (Dodecastyle) فنصب فيه صنما للمشتري وآخر لديوسقورس أو صنم التوأمين (كاستور وبلوكس) وأقام تمثالا لنفسه بالقرب من الصخرة المباركة. وقضى الفرس على بيت المقدس لما اكتسحوها سنة (٦١٤).

ولما وافى عمر بن الخطاب القدس ذهب توا إلى مكان الحرم الشريف وأزال ما كان فيه من الأقذار ، ولما أفضت الخلافة إلى عبد الملك بن مروان وحيل بينه وبين الحرمين الشريفين لقيام عبد الله بن الزبير خليفة في الحجاز أمر بإنشاء المسجد الأقصى وقبة الصخرة في بيت المقدس ورصد لذلك خراج مصر سبع سنين ففرغ في سنة (٧٢ ه‍) وكتب اسمه منقوشا بالفسيفساء عند مدخل الصخرة من الباب الجنوبي «بنى هذه القبة عبد الملك ... أمير المؤمنين في سنة اثنتين وسبعين تقبل الله منه ورضي‌الله‌عنه آمين» أما الكتابة الأثرية فهي على المثمنات ١ : بسم الله الرحمن الرحيم. لا إله إلا الله وحده لا شريك له. محمد رسول الله صلى الله عليه. بنى هذه القبة المباركة. ٢ : عبد الله عبد [الله الإمام المأمو] ن أمير المؤمنين في سنة اثنتين وسبعين تقبل الله منه ورضي‌الله‌عنه آمين. والكلمات الثلاث الموضوعة ضمن قوسين هي بخط أصفر ونقش أغبر وهي كانت ولا شك [الملك بن مروا] وقد أبدلتها يد صناع. أما الذي تولى عمارة القبة سنة ٢١٦ ه‍ من قبل المأمون فهو صالح ابن يحيى ولكنهم نسوا أن يرفعوا التاريخ الأصلي لبناء القبة وهو سنة ٧٢. وسقط شرقي المسجد وغربيه سنة ١٣٠ بالزلازل وكذلك في سنة ١٥٨ فجدد في سنة ١٦٩ في خلافة المهدي ، وقد أنقص من طوله وزيد في عرضه ، وجدد عمارة قبة الصخرة في أيام المأمون (٢١٦) وزلزلت الأرض ثالثة (٤٠٧) فتهدمت قبة الصخرة وبعض الجدران ، فجددها الظاهر الفاطمي (٤١٣ ه‍) وزيد فيه في زمن الفاطميين البناء المسمى بجامع النساء ، وكان في مسجد بيت المقدس ثلاث مقاصير للنساء طول كل مقصورة سبعون ذراعا. ولما احتل الصليبيون بيت المقدس حولوا قبة الصخرة إلى كنيسة ، والمسجد الأقصى إلى منزل لسكنى ملكهم. ولما استعاده صلاح الدين أعاد الحرم إلى ما كان عليه وأمر بترميم محراب الأقصى وكتب عليه بالفصوص المذهبة ما

٢٥١

نصه : «بسم الله الرحمن الرحيم. أمر بتجديد هذا المحراب المقدس ، وعمارة المسجد الأقصى الذي هو على التقوى مؤسس ، عبد الله ووليه يوسف بن أيوب أبو المظفر الملك الناصر صلاح الدنيا والدين عندما فتحه الله على يديه في شهور سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة ، وهو يسأل الله إذاعة شكر هذه النعمة ، وإجزال حظه من المغفرة والرحمة».

وفي سنة (٦٣٤) عمر في المسجد الملك المعظم عيسى. وفي سنة (٦٦٨) رمّ المسجد والصخرة الظاهر بيبرس. وفي سنة (٦٨٦) عمر فيه المنصور قلاوون ورم فيه كتبغا المنصور لاجين والناصر قلاوون في سلطنته الثالثة وفي أيامه عمر فيه أيضا الأمير تنكز الناصري. ثم جدد الأشرف شعبان (٧٦٩) والظاهر برقوق (٧٨٩) والظاهر جقمق العلائي وفي سنة (٨٧٧) جدد فيه الأشرف أبو النصر. وفي أيام العثمانيين تمت في الحرم عدة عمارات منها ما جدده سليمان القانوني سنة (٩٦٩) ومنها ما جدد في سني ١٢٣٢ و ١٢٥٦ و ١٢٩١ وبعدها.

المسجد الأقصى اليوم :

هو أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ، ووقع الحرم على مساحة مربعة طول الجهة الغربية منها ٤٩٠ مترا والشرقية ٤٧٤ مترا والشمالية ٣٢١ مترا والجنوبية ٢٨٣ مترا يحيط بها سور يختلف ارتفاعه بين ٣٠ مترا و ٤٠. ويبلغ طول بعض الحجارة فيه خمسة أمتار طولا في أربعة أمتار عرضا. وحول السور من جهة الغرب والشمال أروقة فسيحة معقودة يتخللها بعض أبواب الحرم وهي ١٤ بابا. وقد قام جامع الصخرة الشريفة في فناء مربع مفروش بالبلاط النحيت طوله من القبلة إلى الشمال أكثر من عرضه من المشرق إلى المغرب وارتفاعه ثلاثة أمتار يصعد إليه بأدراج من الجهات الأربع ، وعقد على كل درج من أعلاه قناطر هيفاء دعمتها عمد من الرخام. والقبة على بناء فخم مثمن الشكل ، ذرع كل تثمينة منه ٢٩ ذراعا وثلث ذراع (٤٠ / م ٢٠). وقد كسي القسم السفلي من ظاهر بالرخام الأبيض المشجر ، والقاشاني البديع الذي يترقرق فيه ماء الألوان المتزاوجة ، من لازوردي صاف وأخضر قاتم وأبيض ناصع ، يعلو ذلك شبه افريز رسمت عليه آي

٢٥٢

القرآن. وضع هذا القاشاني في أيام سليمان القانوني سنة (٩٦٩) ه وتحتوي كل تثمينة من البناء على سبع طاقات للتي لا باب فيها وعلى ست للتي لها باب. والطاقات المحاذية لأطراف التثمينات مسدودة كلها ، والأخرى مركب عليها الزجاج والشبابيك الحديد. ولجامع الصخرة أربعة أبواب مزدوجة داخلا وخارجا مربعة الشكل بعقود مقوسة ، وأمام الباب الأخير من الخارج رواق مفروش بالرخام عليه سقف مكسو بالقاشاني في وسطه قنطرة معقودة والسقف محمول على ثمانية أعمدة من الرخام مختلفات في النوع واللون ، وللباب المذكور مصراعان ملبسان بالنحاس الأصفر المنقوش ، عليها أقفال نفيسة متقنة الوضع.

ويبلغ دور البناء من الداخل ٥٣ مترا وهو مقسم إلى ثلاث دوائر يفصل بعضها عن بعض صفان مستديران من الأعمدة والأركان يتألف الأول منها من ثماني سوار مسدسة الأضلاع و ١٦ عمودا منها «أبيض وأزرق» عشرة و «أخضر مرسيني» ثلاثة و «شحم لحم» ثلاثة ، والصف الثاني مؤلف من أربع سوار مربعة الأضلاع واثني عشر عمودا منها سبعة «أخضر مرسيني» وخمسة «شحم لحم». والسواري ملبسة بالرخام المشجر والملون البديع ، والأعمدة قديمة جدا وأكثر تيجانها تدل على أنها من الطراز الروماني أو البيزنطي القديم ويربط أعمدة الصف الأول بعضها ببعض وبالسواري بساتل ملبسة بالنحاس الأصفر المنقوش المذهب. وتحمل هذه الأعمدة مع جدار الجامع سقفا مائلا بعض الميل مدهونا بأنواع الدهان قائما على قناطر مرصعة بالفص المذهب متصلا طرفه الأعلى بكرسي القبة. ويزين باطن القبة مجموعة لا نظير لها من الفصوص الملونة تمثل ٦٤ شكلا من الزخارف على نحو ما كان يصنعه فنانو البيزنطيين ، وهي مركبة على سطح موشى بالذهب وفي كرسي القبة ست عشرة طاقة زجاج مذهبة يعلو كلا منها طبقة من الجبس ، مقسمة عيونا مغطاة بقطع الزجاج المختلفة الألوان والأشكال ، تنفذ منها أشعة الشمس صافية ، ملطفة بفضل ألواح الزجاج الخارجية والمشبكات المصنوعة من القاشاني ، وعلى هذه الطاقات نقوش تدل على أنها صنعت في زمن السلطان سليمان سنة (٩٤٥) ه كما أن المرمر الذي يكسوها ركّب في زمن السلطان صلاح الدين وجدد في أيام سليمان القانوني.

٢٥٣

والصخرة الشريفة قائمة على درابزين من خشب منقوش مدهون بأنواع الأصباغ طولها ٧٠ ، ١٧ مترا وعرضها ٥٠ ، ١٣ مترا ويبلغ ارتفاعها عن الأرض نحو ٢٥ ، ١ متر إلى مترين ، وينزل إلى المغارة التي تحتها بإحدى عشرة درجة من جهة القبلة ، وعند باب المغارة قنطرة معقودة بالرخام العجيب على عمودين وبباطنها محرابان كل محراب على عمودي رخام لطيفين ، وأمام المحراب الأيمن صفّة تسمى مقام الخضر يواجهها عمود رخام قائم للسقف وآخر راقد ، وفي الركن الشمالي منها صفّة تسمى باب الخليل ، وجميع باطن أرض الصخرة والمغارة مفروش بالرخام ، وفي وسط المغارة بلاطة مستديرة ينبعث عنها إذا نقر عليها رنين تتجاوب أصداؤه مما يدل على خلو ما تحتها. وحول الدرابزين الخشب مصلى للنساء وهو محاط بالقضب الحديدية من جميع جهاته ، وله أبواب أربعة لا يفتح منها عادة إلا الباب الغربي الموازي لباب النساء وهو من عمل الصليبيين إبان احتلالهم بيت المقدس.

صفة المسجد الأقصى :

يقع المسجد الأقصى جنوبي جامع الصخرة وطوله ٨٠ مترا وعرضه ٥٥ مترا عدا ما أضيف إليه من الأبنية ، وأول ما يقابلك من هذا المسجد عند مدخله من الجهة الشمالية رواق كبير أنشأه الملك المعظم عيسى صاحب دمشق سنة (٦٣٤) ه وجدد من بعده وهو مؤلف من سبع قناطر عقدت على ممشى ينتهي إلى سبعة أبواب ، كل باب يؤدي إلى كور من أكوار المسجد السبعة. وللمسجد عشرة أبواب والبناء قائم على خمسة وأربعين عمودا. والغالب أن هذه الأعمدة قديمة نقلت من أنقاض أبنية متنوعة أقدم عهدا من الحرم. وفوق الأعمدة قناطر يربط بعضها ببعض أخشاب ضخمة مستطيلة ، وفوق القناطر صفان من الطاقات ويتألف باطن السقف من عوارض كلها من الخشب. وعدة ما في المسجد من السواري أربعون ، وهي ضخمة مربعة الشكل مبنية بالحجارة. وبأقصى الباب من جهة الجنوب قبة مرتفعة مزينة بالفصوص الملونة المذهبة. وهي مما رممه صلاح الدين (٥٨٤ ه‍) كما رمّ أكبر جناحي المسجد ، والقبة والجناح على الغالب إنما صنعا في خلافة المهدي

٢٥٤

بعد تهدم المسجد بفعل الزلازل ، وهي كقبة الصخرة من خشب مكسوة بصفائح الرصاص من ظاهرها وبالفص المذهب من باطنها ، ومجدد هذه التزيينات هو الناصر محمد بن قلاوون سنة (٧٢٨) ه وهناك آيات قرآنية كتبت بخط كوفي على جانبي المحراب. والمحراب قائم على أعمدة لطاف من المرمر وبجانبه المنبر وهو من الخشب المرصع بالعاج والآبنوس عمل في عصر نور الدين زنكي ويقابل المنبر دكة المؤذنين وهي على عمد من رخام.

ومن داخل المسجد من جهة الغرب جامع النساء أو الجامع الأبيض ، وهو عبارة عن عشر قناطر على تسع سوار في غاية الإحكام بناه الفاطميون ، ومن جهة الشرق جامع عمر وهو معقود بالحجر والجير ، سمي بذلك لأنه بقية من الجامع الذي بناه عمر رضي‌الله‌عنه حين الفتح. وإلى جانب هذا البناء إيوان كبير معقود يسمى مقام عزير وبه باب يتوصل منه إلى جامع عمر ، وبجوار هذا الإيوان من الشمال إيوان لطيف به محراب يسمى محراب زكريا وهو بجوار الباب الشرقي. وفي صحن المسجد الأقصى شمالا بركة مستديرة من رخام سورت بالقصب الحديدية يقال لها الكأس ، يأتيها الماء بأنابيب خاصة من عيون جارية بالقرب من برك المرجيع المسماة ببرك سليمان أهمها عين عطاب ووادي الآبار.

ومن الآثار المهمة في الحرم البناء السفلي المعقود بالحجر معروف عند الإفرنج بإصطبل سليمان وهو عبارة عن مهد عيسى ومحراب مريم والعقود الواسعة التي يقوم عليها المسجد الأقصى. وكذا البراق الشريف وهو في السور الغربي وجامع المغاربة والمدرسة النحوية المعظمية وفيها اليوم دار كتب المسجد الأقصى وهي من أبنية الملك المعظم (٦٠٤ ه‍) ومنبر القاضي برهان الدين بن جماعة ومحرابه. وقبة السلسلة وهي شرقي قبة الصخرة وعلى شكلها صنعت في أيام عبد الملك بن مروان. وقبة المعراج سنة (٥٩٧) ه. وسبيل قايتباي (٨٨٧ ه‍) وما يحيط بالحرم من المدارس القديمة ..

هذا حاضر المسجد الأقصى وما إليه وقد أثرت فيه عوامل الطبيعة كالمطر والشمس والثلج والأعاصير الشديدة فنقبت ما يكنها من صفائح الرصاص ، ونخرت ما قامت عليه من الأخشاب منذ زمن بعيد ، فبادر المجلس الإسلامي

٢٥٥

الأعلى إلى الكشف عن البناء فتبين أنه يحتاج إلى مئة وخمسين ألف جنيه على أقل تعديل. وألفت لجنة لعمارته برئاسة المعماري كمال الدين واستصرخ الأمم الإسلامية لمعاونته فجمع زهاء ثمانين ألف جنيه ، وشرع حالا بما كان احكم بناؤه من حجر منقوش أو مرمر مسنون أو خزف مصقول أو خشب منجور أو صفر مطلي بالفضة أو مكسو بالتبر ، أو فص مذهب مزين ملون مشجر مزهر مرصع موشى منمق ، ويوشك بفضل الله أن يعود إلى ما كان له من بهجة في الأعصار السالفة.

وصف المقدسي للمسجد الأقصى في القرن الرابع :

وصف المقدسي المسجد الأقصى فقال : هو على قرنة البلد الشرقي نحو القبلة أساسه من عمل داود ، طول الحجر عشرة أذرع وأقل ، منقوشة موجهة مؤلفة صلبة ، وقد بنى عليه عبد الملك بحجارة صغار حسان وكان أحسن من جامع دمشق ، لكن جاءت زلزلة في زمن بني العباس فطرحت المغطى إلا ما حول المحراب ، فلما بلغ الخليفة خبره قيل له : لا يفي برده إلى ما كان بيت مال المسلمين ، فكتب إلى أمراء الأطراف وسائر القواد أن يبني كل واحد منهم رواقا فبنوه أوثق وأغلظ صناعة مما كان ، وبقيت تلك القطعة شامة فيه وهي إلى حد أعمدة الرخام ، وما كان من الأساطين المشيدة فهو محدث ، وللمغطى ستة وعشرون بابا ، باب يقابل المحراب يسمى باب النحاس الأعظم مصفح بالصفر المذهب ، لا يفتح مصراعه إلا رجل شديد الباع قوي الذراع ، عن يمينه سبعة أبواب كبار في وسطها باب مصفح مذهب وعلى اليسار مثلهن ، ومن نحو الشرق أحد عشر بابا سواذج ، وعلى الخمسة عشر رواق على أعمدة رخام أحدثه عبد الله بن طاهر وعلى الصحن من الميمنة أروقة على أعمدة رخام وأساطين وعلى المؤخر أروقة آزاج من الحجارة وعلى وسط المغطى جمل عظيم خلف قبة حسنة والسقوف كلها إلا المؤخر ملبسة بشقاق الرصاص والمؤخر مرصوف بالفسيفساء الكبار والصحن كله مبلط وسطه دكة مثل مسجد يثرب يصعد إليها من الأربعة جوانب في مراق واسعة ، وفي الدكة أربع قباب : قبة السلسلة ، قبة المعراج ، قبة النبي صلى الله عليه

٢٥٦

وسلم. وهذه الثلاث لطاف ملبسة بالرصاص على أعمدة رخام بلا حيطان وفي الوسط قبة الصخرة على بيت مثمن بأربعة أبواب كل باب يقابل مرقاة باب القبلي ، باب إسرافيل ، باب الصور ، باب النساء ، يفتتح إلى الغرب جميعها مذهبة في وجه كل واحد باب ظريف من خشب التنوب مداخل حسن ، أمرت بهن أمّ المقتدر بالله. وعلى كل باب صفة مرخمة بالتنوبية تطبق على الصفرية من خارج. وعلى أبواب الصفاف أبواب أيضا سواذج داخل البيت ثلاثة أروقة دائرة على أعمدة معجونة أجلّ من الرخام وأحسن لا نظير لها قد عقدت عليها أروقة لاطية ، داخلها رواق آخر مستدير على الصخرة ، لا مثمن على أعمدة معجونة بقناطر مدورة فوق هذه منطقة متعالية في الهواء فيها طيقان كبار ، والقبة من فوق المنطقة طولها عن القاعدة الكبرى مع السفود في الهواء مائة ذراع ، ترى من البعد فوقها سفود حسن طول قامة وبسطة. والقبة على عظمها ملبسة بالصفر المذهب ، وأرض البيت وحيطانه مع المنطقة من داخل وخارج على ما ذكرنا من جامع دمشق. والقبة ثلاث سافات : الأولى من ألواح مزوقة ، والثانية على أعمدة الحديد قد شبكت لئلا تميلها الرياح ، ثم الثالثة من خشب عليها الصفائح وفي وسطها طريق إلى عند السفود يصعدها الصناع لتفقدها ورمها ، فإذا بزغت عليها الشمس أشرقت القبة وتلألأت المنطقة ورأيت شيئا عجيبا. وعلى الجملة لم أر في الإسلام ولا سمعت أن في الشرك مثل هذه القبة ، ويدخل إلى المسجد من ثلاثة عشر موضعا بعشرين بابا اه.

أصل الجامع الأموي :

كان الجامع الأموي على ما ذكر المؤرخون معبدا قبل الإسلام ، قال البيروني : إن من آثار الصابئة القبة التي فوق المحراب عند المقصورة ، وكان مصلاهم أيام كان اليونانيون والروم على دينهم ، ثم صار في أيدي اليهود فعملوه كنيستهم ثم تغلب عليها النصارى فصيروها بيعة إلى أن جاء الإسلام وأهله فاتخذوها مسجدا. وقال البرزالي : وبنى اليونان والكلدان هذا المعبد ،

٢٥٧

وكانوا يصلون إلى جهة القطب الشمالي وكانت محاريبه تجاه الشمال وبابه يفتح إلى جهة القبلة خلف المحراب ، وهو باب حسن عن يمينه ويساره بابان صغيران بالنسبة إليه ، وكان غربي المعبد قصر منيف جدا تحمله هذه الأعمدة التي بباب البريد وغربيه قصر جيرون ، داران يكونان لمن يتملك دمشق قديما فهو أقدم معبد.

وقال شيخ الربوة : إن له نحو أربعة آلاف سنة وهو معبد. ولما فتح المسلمون دمشق أخذوا من النصارى النصف الشرقي من هذه الكنيسة التي كانوا يسمونها كنيسة ماريوحنا ، وكان المسلمون والنصارى يدخلون من باب واحد وهو باب المعبد الأصلي في القبلة فينصرف النصارى إلى جهة الغرب والمسلمون إلى الشرق. وكان لا يستطيع أهل الإنجيل أن يجهروا في قراءته بكنائسهم ولا يضربوا بناقوسهم إجلالا للصحابة. فلما أخذت أصواتهم ترفع في صلواتهم أحب الوليد أن يبعدهم عن المسلمين فعوضهم عنه أربع كنائس أخرى. وقيل : إنه بذل للنصارى فيه أربعين ألف دينار فلم يريدوا أن يأخذوها فأخذها كما قال ابن العميد. واحتاج الوليد إلى صناع كثيرة فوجه إليه ملك الروم بمائتي صانع.

وحكى الجاحظ في كتاب البلدان أنه كان مبنيا على الأعمدة الرخام طبقتين : الطبقة التحتانية أعمدة كبار ، والتي فوقها صغار ، في خلال ذلك صورة كل مدينة وشجرة في الدنيا بالفسيفساء الذهب والأخضر والأصفر ، وفي قبليه القبة المعروفة بقبة النسر ليس في دمشق شيء أعلى ولا أبهى منظرا منها ، ولها ثلاث منائر إحداها وهي الكبرى كانت ديدبانا للروم وأقرت على ما كانت عليه وصيرت منارة. وروى البرزالي أنه كان ابتداء عمارة جامع دمشق في أواخر سنة ست وثمانين وتكامل في عشر سنين. وكان الفراغ منه سنة ست وتسعين وفيها توفي بانيه الوليد بن عبد الملك وقد بقيت فيه بقايا من الزخرفة فكملها أخوه سليمان بن عبد الملك وجددت فيه أشياء أخر ، فمن ذلك القبة الغربية التي في صحنه ويسميها الناس قبة عائشة ، وغالب ظني أنها بنيت في سنة ستين ومائة في أيام المهدي ، وأما القبة الشرقية التي في صحنه تجاه مشهد علي بن الحسين فعمرت في أيام المستنصر العبيدي في سنة خمس

٢٥٨

وأربعمائة وكتب عليها اسمه واسم الأئمة الاثني عشر.

وذكر ابن جبير أن طول الجامع من الغرب إلى الشرق مائتا خطوة وهي ثلاثمائة ذراع وذرعه في السعة من القبلة إلى الجوف مائة خطوة وخمس وثلاثون خطوة وهي مائتا ذراع وبلاطاته المتصلة بالقبلة ثلاث مستطيلة من المشرق إلى المغرب سعة كل بلاطة منها ثمان عشرة خطوة ، وقامت البلاطات على ثمانية وستين عمودا منها أربع وخمسون سارية ثمانية أرجل جصية تتخللها واثنتان مرخمة ملصقة معها بجدار الذي يلي الصخرة ، وأربعة أرجل مرخمة أبدع ترخيم مرصعة بفصوص من الرخام ملونة ، وقد نظمت خواتيم ، وصورت محاريب ، وأشكالا غريبة ، قائمة في البلاط ويستدير بالصحن بلاط من ثلاث جهاته سعته عشر خطا ، وعدد قوائمه سبع وأربعون منها أربعة عشر رجلا والباقي سوار. وسقف الجامع كله من خارج ألواح رصاص وأعظم ما فيه قبة الرصاص المتصلة بالمحراب وهي سامية في الهواء عظيمة الاستدارة ، وقد استقل بها هيكل عظيم هو عماد لها يتصل من المحراب إلى الصحن والقبة ، وقد أغصت الهواء فإذا استقبلتها رأيت مرأى هائلا.

وذكر الباحثون من الفرنج أن طول الحرم الأصلي من الشرق إلى الغرب ١٣٠٠ قدم وعرضه من الشمال إلى الجنوب ١٠٠٠ فهو ربع مساحة دمشق كلها. وكان أمام جدرانه الأربعة من الداخل صف من الأعمدة على دائرة كشف علماء الآثار بعضها ، والجامع في وسط هذا الحرم قائم على أسس الكنيسة التي كانت قبله ، وهي قائمة على أسس الهيكل الذي كان قبلها أو على بعضها ، والجدار الغربي من الجامع قديم كله ، ما عدا باب البريد في وسطه فإنه من زمن العرب ، وفي الجدار الجنوبي أنواع البناء كلها ففيه جانب من البناء الشامي اليوناني ، وجانب من البناء المسيحي في عهد ثيودوسيوس واركاديوس من القرن الرابع والخامس للميلاد ، وجانب من البناء العربي من زمن الوليد في القرن الثامن ، وتجديدات أخرى بعد ما احترق في قرون متعددة.

وقال ابن حوقل : إن الوليد جعل أرض الجامع رخاما مفروشا وجعل وجه جدرانه رخاما مجزعا وأساطينه رخاما موشى ومعاقد رؤوس أساطينه ذهبا

٢٥٩

ومحرابه مذهب. الجملة مرصعا بالجواهر ودور السقف كله ذهبا مكتوبا عليه كما يطوف بترابيع جدار المسجد ، وإذا أرادوا غسل سقفه بثق الماء إليه فدار على رقعة المسجد بأجمعه حتى إذا فجر منه انبسط عنه وعن جميع الأركان بالسوية. وأبوابه الأربعة كانت أبواب الكنيسة فبقيت على حالها وفيه ثلاث مقاصير : مقصورة معاوية أحدثها سنة ٤٤ لما وثب عليه بعضهم ليقتله. كان في جدار الصحن القبلي من الجامع حجر مدور على ما روى القزويني شبه درقة منقطة بأبيض وأحمر بذل الفرنج أموالا فلم يجابوا إليه. وقد كان عزم عمر بن عبد العزيز أن يعمد إلى ما في الجامع من الفسيفساء وهو النقش المفصص والرخام فيقلعه وينتزع السلاسل الذهبية ، وكانت ستمائة سلسلة ويجعل مكانها حبالا وينزع غيرها من ضروب الزينة ويبيعها ويجعلها في بيت المال فأرجعه أهل دمشق عن فكره. وذكروا له ما قام به أهل الشام من بنائه على هذه الصورة.

ووصف ابن جبير قبة الرصاص في الجامع الأموي فقال : إنها من أعظم ما شاهده من مناظر الدنيا الغريبة وهياكلها الهائلة البنيان قال : إنها مستديرة كالكرة وظاهرها من خشب قد شد بأضلاع من الخشب الضخام مؤلفة بنطق من الحديد ينعطف كل ضلع عليها كالدائرة ، وتجتمع الأضلاع كلها في مركز دائرة من الخشب أعلاها ، وداخل هذه القبة وهو مما يلي الجامع المكرم خواتيم من الخشب منتظم بعضها ببعض قد اتصل اتصالا عجيبا ، وهي كلها مذهبة بأبدع صنعة من التذهيب مزخرفة التلوين ، بديعة القرنصة ، وفي الجدار حجارة يزن كل واحد منها قناطير مقنطرة ، لا تنقلها الفيلة فضلا عن غيرها ، فالعجب كل العجب من تطليعها إلى ذلك الموضع المفرط السمو ، وكيف تمكنت القدرة البشرية لذلك ، فسبحان من ألهم عباده إلى هذه الصنائع العجيبة اه.

ولنابغة بني شيبان من قصيدة يصف فيها بدائع هذا الجامع في القرن الأول وهي في مدح الوليد بانيه :

قلعت بيعتهم عن جوف مسجدنا

فصخرها عن جديد الأرض منسوف

كانت إذا قام أهل الدين فابتهلوا

باتت تجاوبنا فيها الأساقيف

٢٦٠