خطط الشام - ج ٥

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٥

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩٦

مراكز البريد والبرق في الشام :

دمشق مركز البريد ، دمشق باب توما ، دمشق الميدان ، عفرين ، حلب ، اعزاز ، الباب ، بصرى ، دير الزور ، درعا ، جرابلس ، جسر الشغور ، دومة ، أريحا ، أزرع ، حماة ، حارم ، حمص ، خربة الغزالة ، أدلب ، قطنا ، القنيطرة ، القطيفة ، معرة النعمان ، منبج ، النبك ، عمر آغا ، الرقة ، سلمية ، السويداء ، يبرود ، الزبداني ، الإسكندرونة ، أنطاكية ، آرسوز ، بيلان ، قريق خان ، الريحانية ، السويدية ، كسب ، بلودان ،.

هذا في دولة سورية ، وهذه مراكز البريد في لبنان :

بيروت ، جديدة المتن ، جونية ، جبيل ، البترون ، أنفة ، طرابلس ، زغرتا ، عكار ، غزير ، أميون ، بشرّي ، الدامور ، صيدا ، صور ، تبنين ، بنت جبيل ، جزين ، النبطية ، مرجعيون ، حاصبيا ، بعبدا ، عاليه ، دير القمر ، بعقلين ، بيت مري ، برمانا ، بكفيا ، بيت شباب ، الشوير ، بسكنتا ، بحمدون ، صوفر ، حمانا ، زحلة ، رياق ، بعلبك ، الهرمل ، جب جنين ، مشغرة ، حصرون ، أهدن ، دومة لبنان ، حدث الجبّة ، عين زحلتا ، سوق الغرب ، سير ، قرطبا ، الشويفات.

وهذه أسماء مراكز البريد في بلاد العلويين :

بانياس ، جبلة ، القدموس ، القرداحة ، اللاذقية ، المشتى ، العمرانية (مصياف) ، أرواد ، صافيتا ، صهيون ، طرطوس ، تل كلخ.

وإليك أسماء مراكز البريد والبرق في فلسطين :

عكا ، العفولة ، بئر السبع ، بيسان ، غزة ، حيفا ، يافا ، جينين القدس ، لدّ ، المجدل ، نابلس ، ملبس ، الرملة ، ديران ، سمخ ، صرفند تل أبيب ، طور كرم ، زمارين.

وقد أصبحت فلسطين في عهد الانتداب الإنكليزي مربوطة كلها حتى قراها بشبكة من سلك الهاتف فنازع الهاتف البرق في هذا القسم الجنوبي من أرض الشام وأصبحت المواصلات فيه سريعة للغاية.

٢٢١

وهذه جريدة أسماء مراكز البرق والبريد في شرقي الأردن :

اربد ، أم قيس ، دير أبو سعيد ، الحصن ، الرمتا ، الزرقا ، الصلت ، الطفيلة ، عجلون ، عمان ، القطرانة ، الكرك ، مادبا ، معان ، جرش.

أما مراكز البرق خاصة في ولايات الانتداب الإفرنسي في الشام فهي كما يلي :

(سورية) : حلب ، الإسكندرونة ، أنطاكية ، آرسور ، اعزاز ، الباب ، بيلان ، بلودان ، بصرى ، دمشق ، دير الزور ، درعا ، جرابلس ، جيرود ، جسر الشغور ، دومة ، ريحا ، ازرع ، حماة ، حارم ، حسيه ، خربة الغزالة ، حمص ، إدلب ، قطنا ، قرق خان ، القنيطرة ، القطيفة ، معرة النعمان ، معبطلي ، منبج ، النبك ، عمر آغا ، الرقة ، الريحانية ، سلمية ، السويداء ، السويدية ، الزبداني ، يبرود.

(لبنان) : عكار ، عاليه ، أميون ، بعبدا ، بعقلين ، بعلبك ، البترون ، بشرّي ، بيت شباب ، بيت مري ، بيروت ، بحمدون ، بحنس ، بنت جبيل ، بسكنتا ، بكفيا ، برمانا ، الدامور ، دير القمر ، ظهور الشوير ، جزين ، جب جنين ، جبيل ، جونية ، اهدن، أنفة ، غزير ، حمانا ، حاصبيا ، حصرون ، الهرمل ، قب الياس ، مشغرة ، مرجعيون، النبطية ، راشيا ، رياق ، صيدا ، صوفر ، تبنين ، طرابلس ، ميناء طرابلس ، صور ، زحلة، زغرتا.

(العلويون) : بانياس ، جبلة ، حفه ، القدموس ، القرداحة ، اللاذقية ، مصياف ، المشتى ، أرواد ، صافيتا ، طرطوس ، تل كلخ.

فمجموع المراكز ٤٥ في لبنان و ٤٠ في سورية و ١٢ في العلويين.

٢٢٢

المصانع والقصور

تقاسيم المصانع وعظمتها :

إن قطرا كهذا القطر البديع ، تعاقب الحكم عليه الحثيون والمصريون والبابليون والأشوريون والفرس والفينيقيون والإسرائيليون والرومان واليونان والعرب والترك والتتر والشركس ، وأعجب الفاتحون بخيراته ، واغتبطوا بالاستيلاء عليه ، لموقعه الممتاز بين الأقطار والقارات ، فجعلوه محط رحالهم ، ومجازا إلى فتوحهم ، لا يستغرب منه إذا رأينا فيه مصانع تشهد لبانيها بسلامة الذوق ، وجودة الإبداع ، وعظمة الباني.

إن الشعوب التي أنشأت مصانع وادي موسى وجرش وعمان ومأدبا وبعلبك وتدمر وأفامية ودمشق وحلب والقدس كانت ولا شك ذات معرفة بالهندسة ، لا تقل عن أهل هذا العصر بها ، لأن ما شادوه صارع الأيام وصرعها ، وبقيت منه هذه البقايا على كثرة ما تناولها من الهدم والتحريق ، بأيدي المخربين ، من الظالمين والمظلومين ، وسطا عليها من عوامل الطبيعة القاسية.

تنقسم مصانع الشام إلى قسمين : مدني وديني ، فالمدني كالقلاع والحصون والأبراج والمناور والمراصد والقصور والجسور والسكور والقنوات والمواني والطرق والدور والقبور والمستشفيات. والديني كالمعابد والبيع والأديار والكنائس والجوامع والمساجد والمدارس والرّبط والخانقاهات والملاجئ وما شاكلها.

مصانع الأمم القديمة :

ومن أقدم مصانع الشام ما وجد في قرية الحصن في عجلون من أنصاب

٢٢٣

(Dolmens) يبلغ عددها المئتين على ما قال مالون ، وهي عبارة عن ثلاثة أحجار عادية ضخمة أحدها طويل منبسط ، يبلغ طوله ثلاثة أمتار في عرض مترين ، يركز أفقيا فوق حجرين آخرين مربعين مستطيلين ، ومنها ما يبلغ علوه ٨٠ س ومنها ضعف ذلك. وقد زعموا أنها كانت مذابح دينية وأنها هي المشارف التي تكرر ذكرها في الأسفار المقدسة. والرأي المرجح أنها كانت قبورا ، ولا يعرف لها تاريخ أكيد. والعلماء يجعلون عهدها في الطور المعروف بطور الظران. وربما كانت أقدم عاديات الشام.

ومن أقدم مصانع الحثيين قلعتهم التي أنشأوها على الفرات في كركميش (جرابلس) فبقيت حسكة في حلق نينوى إلى نحو سنة ٧١٠ قبل الميلاد حتى استولى الأشوريون عليها. وبنو إسرائيل كالحثيين لم يتركوا في فلسطين منبتهم ومطلعهم سوى آثار ضئيلة. وأهم ما بقي من آثارهم ، معبدهم في القدس أو معبد سليمان الذي جمع إليه الصناع والمهندسين من صور بمساعدة الملك حيرام سنة ١٠١٣ قبل الميلاد ، وقد حرق هذا المعبد فرمم غير مرة على عهد ملوك يهوذا سنة ٥٨٨ قبل الميلاد ، ولما عاد اليهود بعد ثنتين وخمسين سنة من أسرهم في بابل جددوا المعبد على مثال الأول في الجملة ، وكانت دثرت محاسنه الأولى ، ثم وقع ترميمه في أدوار مختلفة ولم يصب هذا المعبد بأذى على عهد السلوقيين خلفاء الإسكندر المقدوني في الشام ، ولا في زمن بومبيوس الروماني ، لأنه كان من عادة اليونان والرومان ولا سيما الرومان ، أن لا يقاتلوا الأمم التي يدوخونها على أربابها. وربما اقتبسوا ممن غلبوهم على أمرهم عباداتهم من غير نكير.

وسّع هيرودوس ملك اليهود معبد سليمان ، وانتهى على عهد نيرون ، وكان عمل فيه ألف كاهن وألوف من العملة دهرا طويلا. وقد قيل : إن سليمان خزن من غنائمة لبناء معبده مئة ألف وزنة من الذهب ومليون وزنة من الفضة ، قدرت بسكة زماننا بثمانمائة وتسعة وثمانين مليونا ونصف مليون جنيه ، وذلك ما عدا الحديد والنحاس والخشب. فكمل بناؤه سنة ١٠٠٥ قبل الميلاد وكان فخر أورشليم ، وأجمل بناء في العالم. وقد شيد بجانب الهيكل الشرقي رواق من السواري أي العمد ، فأدار الملوك المتأخرون

٢٢٤

هذا الرواق حول جميع البناء ، وبقي هيكل سليمان ٤٢٤ سنة إلى أن خربه ملك بابل. وتحيط بالهيكل الذي رمه هيرودوس في محل الحرم الشريف عدة دور ، منها دار الأمم ، وهي الدار الخارجية ، ثم دار النساء ، ثم دار إسرائيل ، ثم دار الكهنة ، ثم الهيكل ، وقد هدم الرومان هذا الهيكل سنة ٧٠ م.

ولا يزال الباحثون منذ ثلاثة قرون ينقبون عن كل ما له علاقة بهذا المعبد ، وكان خاصا بالخشب الثمين الذي جيء به من أرز لبنان وغيره ، مموها بالذهب والفضة ومحلى بالعاج والأحجار الكريمة ، وفيه من الأواني الثمينة والمدى والأحواض وأدوات البيوت ، ما صحّ أن يعدّ خلاصة علم الفينيقيين بالصنائع النفيسة. والفينيقيون هم في الحقيقة البانون للهيكل.

هندسة الفينيقيين وآثارهم :

لم يشتهر الفينيقيون بالعناية بالبناء والهندسة عنايتهم بالربح والكسب وارتياد القاصية ، ومع هذا أعجب الغربيون لعهدنا بالمكاتب التجارية التي أقامها الفينيقيون في شواطئ يونان وإيطاليا وصقلية وغاليا وابيريا وإفريقية. بيد أن هذا الشعب لم يخلف من آثار مدنيته أدنى ما خلفته الشعوب القديمة. وربما كان الباقي منها بل ما ثبت قيامه على عهد حضارتهم ، أقل مما خلفته تدمر والبتراء. ولم يثبت أن بقي للفينيقيين معبد من معابدهم إلى عهدنا على كثرة ما بنوا منها كما يقول التاريخ.

أما آثار الفينيقيين المدنية كالحصون والقبور وغيرها ، فإن الباقي من أساس حصن صور الذي أعجز اقتحامه القدماء الفاتحين كسراغون بخت نصر والإسكندر ، لا يدل على كبير أمر ، وقد بنى الإسكندر بين البر والجزيرة فيها سدّه الغريب ، وكان بناء صور إلى عصر ابن بطوطة «ليس في الدنيا أعجب وأغرب شأنا منه» وقال ابن جبير : إنه يضرب المثل بحصانتها وذلك أنها راجعة إلى بابين ، أحدهما في البر والآخر في البحر ، وهو يحيط بها من جهة واحدة ، فالذي في البر يفضى إليه بعد ولوج ثلاثة أبواب أو أربعة ، كلها في ستائر مشيدة محيطة بالباب ، أما الذي في البحر فهو مدخل بين برجين مشيدين إلى ميناء ليس في المدن البحرية أعجب وضعا منها ، يحيط

٢٢٥

بها سور المدينة من ثلاثة جوانب ، ويحدق بها من الجانب الآخر جدار معقود بالجص. وكانت بيوت صور كبيوت طرابلس ذات طبقات ست وسبع وثمان على عهد الفينيقيين.

ولا يزال سور بانياس بين طرطوس واللاذقية قائما ، ولا يعرف إذا كان من صنع الفينيقيين أو البلاسجيين ، لأنه أشبه بعمل البلاسجيين سكان إيطاليا ويونان القدماء. وهكذا يقال في أسوار بيروت وصيدا وجزيرة أرواد وعمريت ومعبد هذه على رأي (رنان) أقدم معبد بل يكاد يكون المعبد الوحيد الذي بقي من آثار العنصر السامي. أما قبور الفينيقيين فهي أهم ما اكتشفت في أرضهم ، وكلها تقريبا نقرت في الصخر كمثيلاتها في أرجاء يهوذا والعرب ، أي عبارة عن عقود كبرى جعلت فيها النواويس لأسرة برأسها. والقبور التي ظهرت في عمريت هي أهم ما عرف من نوعها وكذلك ما ظهر في جبيل وصيدا ولا سيما النواويس الأربعة التي وجدت في هذه المدينة ، ولا تزال محفوظة في متحف فروق.

بحث الأثريون في فلسطين عن المعاهد الدينية في الأكثر ، وامتدوا في حفرياتهم إلى أرض العرب للعثور على مدنية يعتدّ بها سبقت الرومان واليونان. وكل ما عثروا عليه تافه في الحقيقة. وقد تبين لهم أن البيوت كانت كقصور الملوك تحتوي على دائرتين : دائرة الرجال أو الثويّ وهو المكان المعدّ للضيف «السلاملك» ، ودائرة الحريم ، شأن قصور الشرق الإسلامي لهذا العهد. وما قصر هركان في عراق الأمير ، وحصون القدس ، وبرج أنطونينا ، إلا من بقايا الهندسة اليونانية الرومانية. وتقلّ في فلسطين وشمالي غربي ديار العرب القبور التي يرد عهدها إلى الزمن الذي يسبق العصر اليوناني. وقبور مدائن صالح التي نحتت في الصخر يستدل منها أنها مثال من أمثلة البناء الأشوري. وقد اختلفت الظنون في هذا الشأن، والأثريون يوالون النبش ليكشفوا شيئا يستدلون منه على مدنية أقدم أمة نزلت الأرض المقدسة.

عاديات الرومان :

أقيمت عدة أنصاب في الشام لملوك الرومان منها ما عثر عليه الأثريون.

٢٢٦

ذكر وادنكتون كتابة وجدها في السويداء كأنها كتبت تحت نصب أقيم لأحد ملوك الرومان فيه «للملك اليوس قيصر أدريانوس انطونينوس بيوس العاهل» ، ووجدت كتابة في قرية أم الجمال في حوران كتب فيها «للعاهل القيصر مرقس اورليوس انطونينوس اغسطس قاهر الأرمن والبرتيين». ولهذا القيصر كتابة أخرى في سهوة الخضر من جبل حوران ، وأخرى في الشهبة المسماة فيليبولي نسبة الى الملك فيلبس العربي ، ووجدت في السويداء أيضا كتابة يونانية مؤذنة بإقامة أثر تكرمة للملك كومود ، أقامه له دوميتيوس بروكستر والي العربية ، ذكرى جلب الماء إلى المدينة وضواحيها سنة ١٨٧ ، وعثر في جنوبي اللاذقية على مقربة من عدوة النهر الكبير على كتابة تدل على محطة عسكرية. وفي دير القلعة في لبنان على الصخر الذي في جانب البئر كتابة فيها «بسلامة مولانا القيصر لوستيوس سبتميوس ساويروس برتينكس اغسطس ، أقام هذا النصب بوبميابوس اينجيوس نذرا للمشتري».

يصعب الحكم على كل أثر بعينه ، ونسبة كل بناء إلى الأمة التي أقامته ، وكل واحدة منها تركت على الأغلب في هذا القطر أثرا مخلدا متلدا تفاخر به. فالطرق الرومانية التي أنشئت من القدس إلى أرض النبط جنوبي بحيرة لوط ومن شمالها ، وطريق مادبا إلى البتراء والعقبة حتى البحر الأحمر وطريق جرش وادي موسى ، والطريق المبلط شرقي صرخد الممتد إلى العراق ، وكان يسمى بالرصيف ، هي من الآثار المهمة كالمعسكر الروماني في أذرح وآثار قنوات وشهبة وسالة ودامة العليا ولبّن.

عاديات البتراء وجرش وعمان :

عدت البتراء في الجنوب رصيفة لتدمر تباريها بضروب مرافقها ، ومنها الهياكل الجليلة ، والدور الفخمة ، والأندية والمجالس والقصور ، والحمامات والمسارح والمدافن والمسلات ، وقد رأى فيها «دومازفسكي» آثار الهندسة المصرية واليونانية والرومانية والشامية. ومعلوم أن أهل البتراء عرب من النبط شيدوها حوالي القرن السادس قبل الميلاد ، وارتقت على عهد الرومان بعد المسيح بقرنين الى أن زاحمتها تدمر في القرن الثالث. ومن أجمل ما في

٢٢٧

وادي موسى اليوم خزنة فرعون وهي دار الحكم نقرت في الصخر وجعلت ثلاث قاعات وبهوا. وهذا القصر الفخم الذي يدعى خزنة فرعون كان في الغالب معبدا لايزيس ، أنشئ على عهد الامبراطور ادريانوس سنة ١٣١ وفي واجهة هذا القصر رواق يتقدمه بضعة أعمدة كبرى وفوقها ثلاثة أعمدة أصغر منها ونقوش وتيجان ، وربما كان يصعد إلى العلية بلولب من الصخر بدليل ما يشاهد في الحائط من أثر الأدراج. وإذا دخلت هذا الرواق ترى على اليمين قاعة كبرى تلمع أحجارها وتتموج كأنها خرجت الآن من يد نقاشها. وفي الجهة اليسرى قاعة مثلها ، وفي الصدر القاعة الكبرى أو الردهة المدهشة. وكل هذه السواري والتيجان والقاعات والرواق محفور في الصخر أو في هذا الجبل قطعة واحدة فكأن الحجر كان بيد صانعي هذا الهيكل وغيره من الهياكل والنواويس والقصور كالطين يجعلون منه ما يشاءون. والذي يزيد في الدهشة أن الحجر أحمر في هذه الجبال أو من نوع الحجر الرملي ولكنه بمتانته كالصخر الأصم. ثم ترى فيه ذاك اللمعان ، فمن موجة حمراء إلى أخرى زرقاء ، إلى مثلها بيضاء إلى جانبها دكناء ، فسبحان من أنشأ هذا الصخر هنا منقطع النظير ، ورزق بانيه يدا صناعا تتفنن في تقطيعه ونقره ، بما فاق به البناة في سائر عاديات الشام. فإن كانت قلعة بعلبك تنم عن ذوق سليم وعلم واسع بالنقش وجر الأثقال ، فإن هذه العاديات الأزلية تنادي بلسان حالها : هذه عظمة الديان إلى جانب تفنن الإنسان.

وفي هذا الجوار أقدم النواويس وأهمها وبعد ذلك يجيء قصر البنات وهو بناء من الحجر رصفت حجارته كما ترصف الأبنية الضخمة من قلاع وأبراج وأسوار ونحوها. والغالب أنه كان للمتأخرين شبه دار للحكومة وهو مما عمر قبل الإسلام. وهناك ولا سيما في خربة النصارى آثار بعض أديار يدل اسمها ورسمها أنها من عمل النصارى عند ما كانت لهم حكومة هنا على عهد الرومان واليونان. وعلى مقربة من تلك الجبال الشوامخ والمنفرجات والأودية بعض نواويس وآثار ولكنها دون آثار البتراء في المكانة. وفي جبل الصبر ملعب أو صورة تمثل قتالا بين سفن حربية.

ويقول بعض علماء الآثار : إن معظم القبور التي حفرت كانت على مثال

٢٢٨

قبور الحجر ، يرد عهدها إلى الحارث الرابع أحد ملوك البتراء أي ٩ و ٣٠ قبل المسيح وبعده. وليس في وادي موسى أعمدة من قبل الحكم الروماني عليها. وإن ما يشاهد من صور أبي الهول وايزيس ورؤوس الحملان يدل على أن هذا الأقليم تأثر بالمدنية المصرية. والمسلتان القائمتان في النجر تمثل ربي النبطيين اللات والعزى ، وكانت النجر مركز عبادة النبط قبل العهد اليوناني بستة قرون على الأقل ، وقد دخلت المدنية اليونانية البتراء على عهد البطالسة فاختلط العنصران المصري والشامي ، وظل القول الفصل فيها للمدنية اليونانية إلى عهد الحارث الرابع. وفي البتراء ٨٥١ مصنعا من القبور والمعابد والمذابح.

وعدوا من مفاخر وادي موسى الملعب العظيم المنحوت في الصخر ، قطره ١١٧ قدما وفيه ٣٣ صفا من المجالس يسع من ٣٠٠٠ إلى ٤٠٠٠ من المتفرجين والملعب الروماني في عمان (ربة عمون) أكبر الملاعب في الشام. وهو مركب من ثلاث مراتب جعلت المرتبة الأولى خمسة صفوف من المقاعد ، والمرتبة الوسطى أربعة عشر صفا ، وللمرتبة الثالثة ستة وعشرون صفا من المجالس. وهو يسع أربعة آلاف ناظر أيضا. وفي أسفل الملعب حجرتان كبيرتان لسجن الأسود والنمورة والتماسيح.

ويرد تاريخ ارتقاء جرش إلى القرون الأولى للمسيح ، وتاريخ أبنيتها إلى أباطرة القرنين الأول والثاني ، وهي شاهدة بتأثيرات الطراز الروماني حتى في الأصقاع البعيدة ، وكانت جرش من جملة المدن المهمة من بين مدن العرب ، وعمدها الماثلة للعيان ومنها ما بلغ طوله ١٤ مترا وقطره خمسة أقدام ، وملاعبها وهياكلها وساحاتها وحماماتها تذكر بما كان للرومان من مثلها في بعض الأرجاء المهمة التي تولوا الحكم عليها.

وصف شيخ الربوة خرائب جرش وعمان في القرن الثامن بقوله : «ذكروا أن بدمنة مدينتي عمان وجرش بالشام ملعبين ، فأما جرش فمنها تلال وجبال وحجارة منقولة ، وبعض بناء أبوابها قائم في الهواء نحو خمسين ذراعا ، وبهذه الدمنة موضع كصورة نصف دائرة مقطوعة بحائط وذلك الحائط به مجلس للملك ، وأما النصف المستدير فإنه مدرّج ، درج بعضها فوق بعض ، وهي دوائر وكل دائرة فوقانية أوسع من السفلى ، وبين هذه الأدراج

٢٢٩

الدائرة أبواب ومسالك ، وكل درجة وعليها مرتبة من الناس ، وكلهم ينظرون إلى الملك وهو ينظر إليهم كلهم لا يحجبون عنه ولا يحجب عنهم في ذلك المجلس وكأنما هو ليوم الحكم العام فقط ، وبالقرب من هذا الملعب أيضا ملعب وفيه عمد طوال قائمات وفي كل منهن بكرة ، وهن مستديرات المراكز كصورة دائرة ، وكأنما كان على رؤوسها من الحجارة عتبات من عمود إلى عمود وفوق ذلك أبنية لأهلها وآثار شاهدة ، ولا يعلم في الشام من الآثار مثل هاتين المدينتين إلا مدينة بعلبك وباب البريد بدمشق اه».

وصف المحدثين خرائب جرش :

تبدأ خرائب جرش من الجنوب بباب النصر المسمى باب عمان وهو بناء عرضه ٣٠ ، ٢٥ م والشق الأوسط منه ٤٧ ، ٦ على ١٢ مترا من العلو ، وله من كل جهة باب وهذا البناء أشبه بقوس النصر المنسوب لتراجان في مدينة رومية. ولذلك يظن أن البناء يرد عهده إلى القرن الثاني للميلاد. وفي غربي هذا الباب سطح واسع فيه محلان ، وفي الأسفل مسرح لتمثيل الحروب البحرية ، وله بحيرة طولها ٥٠ ، ١٥٥ م وعرضها ٥٥ مترا ، وله أربعة سدود من جنوبها وعمقها ٧٠ ، ٤ م ومقاعد للمتفرجين على طول المحل. وهذا الحوض متصل بقناة مع العين. ويفصل الحائط الشمالي المسرح بملعب كبير قطره ٥٥ ، ٩٠ م لا تزال ترى فيه أربعة صفوف من الدرجات وعلى مقربة من الملعب بقايا مدفن كبير. وعلى بضع خطوات من الغرب بقايا معبد طوله ٣٠ مترا وعرضه ٢٠ ، ٣٠ ، وكان للبناء المحيط به عمد منفردة أحد عشر عمودا من الشمال ومثلها من الجنوب ، وثمانية أعمدة من الشرق ومن الغرب. وكان للدهليز صفان من الأعمدة وله تيجان قورنتية وعرض الرتاج ٧٠ ، ٤ م وكاد طول غرف المتفرجين التي ما زالت جدرانها الجنوبية سليمة إلى عشرة أمتار ٢٥ مترا وعرضها ١٥. وقد فقدت تيجان القواعد المركبة (الركائز) المبنية من الصخر المحكم الوضع وقام في العالي طنف بسيط قليل البروز. ومجموع البناء حسن للغاية. وقام مسرح الجنوب المتصل بالجهة الغربية من هذا المعبد على سور المدينة. ولا يزال ٣٢ صفا من المقاعد سليما. ومعظم

٢٣٠

قطر المسرح ٧٦ ، ٨٧ م. وهناك ممشى على شكل نصف دائرة يتصل مع الأسفل بخمسة سلالم ومع الأعلى بتسعة ، وتقسم هذه الدرجات إلى قسمين وله أربعة دهاليز من جهة الجنوب.

ويمتد في الشمال الشرقي من المعبد والمسرح ميدان ممهد تحيط به عمد لطيفة ، تؤلف نصف دائرة مفتحة نحو الجنوب الغربي. ولا تزال معظم السواري وعددها ٥٦ محفوظة بحالها ، وهي من الطراز اليوناني يتصل بعضها بالآخر من سطوح الأعمدة. وفي الشمال الشرقي من الميدان تبدأ سلسلة أعمدة مستقيمة الأضلاع تجتاز المدينة كلها وطولها ٣ ، ٨٠ مترات وعرضها ٦٠ ، ١٢ مترا والمسافة بين الأعمدة الموضوعة ثلاثة أمتار. ولم يبق من ال ٥٢٠ عمودا سوى ٧١ عمودا قائمة إلى اليوم. أما الأخرى فقد تداعت بالزلازل أو هدمتها يد الإنسان في العهد الحديث ، وقد أصبح أكثر هذه الخرائب مقالع لأهل القرية يأخذون من أبنيتها الجميلة حجارة لبنائهم. وعلو هذه الأعمدة من ٥٠ ، ٦ م إلى ٩ م يدخل في ذلك الأساس والتاج. أما العمد القائمة وسط الشارع فهي من الطرز القورنتي ، وتيجانها من أرقى ما صنع الصانعون. وما كان منها بالقرب من الميدان وعلى نحو الباب من الشمال فهو من الطراز اليوناني.

ويرى الناظر من جانبي الشارع بقايا صف آخر من الأعمدة ربما كانت مجازات بين الأعمدة على طول الدور. وهناك جسر يجتاز القناة على خمس حنايا وعرض الأوسط منها ٤٠ ، ١١ س. وثم بقايا بناء عظيم منقوش كان يتخذ محكمة جعل على شكل نصف دائرة ، نصف قطر دائرتها عشرة أمتار ولها فوارة. وعلى مقربة من هذا خرائب أروقة المعبد الكبير الضخمة العظيمة. وقد تهدم جزء من سطح أعلى الباب الأعظم وهو مجنح بفرج لنوافذ مثلثة الشكل منقوشة أجمل نقش. والنقوش السالمة التي تزين الواجهة الغربية هي من طراز رائق بديع. وهذه الأروقة تؤدي إلى معبد عظيم يدعى عادة معبد الشمس وهو في مستو طوله ٦٥ ، ١٦٠ م وعرضه ٨٥ ، ١٠٤ م يحيط به ٢٦٠ عمودا. وطول المعبد ٧٠ ، ٢٦ م وعرضه ٢٠. ويتألف رواق المعبد من صفين من الأعمدة أحدهما من ست والآخر من أربع. وزيادة على ذلك عمود من كل جهة من الحواجز البارزة من المعبد. وفيه تسع سوار علوها

٢٣١

٨٠ ، ١٣ وعرض الرتاج خمسة أمتار وعرض المجالس ٢٠ ، ١١ م وطولها ٨ ، ١٧. وفي جنوبي المعبد كنيسة ، كاتدرائية ذاث ثلاثة صحون. وفي الجنوب الغربي كنيسة أصغر منها. ويظهر أن كنيسة ثالثة في شرقي الأروقة كانت من جملة الأجزاء المتممة لمعبد الشمس. ومن هناك تنشعب شوارع أخرى وتتقاطع الطرق ، وكانت مزينة بتماثيل ونصب وعمد وسوار لا يزال بعضها أثرا شاهدا على العظمة الماضية.

أما ملعب الشمال الذي كان خاصا على ما يظهر بقتال الحيوانات والصراع فكان له ١٧ صفا من الأدراج ومجموع علوه ١٢ م وفي محيط الدائرة منها بين الصف الثامن والتاسع خمسة معابر أو مماش ترى بين كل واحد منها كوة عظمى وثنتين أصغر حجما على شكل الصدف. والحمامات العامة عبارة من مجموع غرف وعقود يطلق عليها اسم الخان. ومدخلها بناء سلم برمته من عوادي الأيام تعلوه قبة ومساحتة ٧٠ ، ١٦ مترا مربعا. وهناك سلم يوصل إلى محل الحمامات الحقيقي مؤلف من أرض مساحتها ٧٠ ، ٦٧ م طولا و ٣٠ عرضا ولها جناح مصاقب لها من الجنوب طوله ٤٢ م وعرضه ٧٠ ، ١١ م. وبالقرب من جامع القرية بناء آخر قديم كان حماما أيضا وعلى الشاطئ الشرقي من النهر تشاهد حيطان سور كنيسة رابعة طولها ٦٠ مترا وعرضها ٣٦ ، ٦٠ م وحنية المحراب مزدانة بكوى على شكل صدف لم يبق من سواريها سوى تسع قواعد يونانية وبعض أسطوانات. وكان هذا المعبد في الأصل مدفنا للربة نيميزيس ويرد عهدها إلى الامبراطور تراجان.

عاديات تدمر :

ذكر بعض الأثريين أن مدينة تدمر بناها سليمان ليأمن على طريق التجارة ، وقد أصبحت في أوائل النصرانية إحدى المدينتين اللتين جمعتا بين تجارة أوربا وآسيا وأعني البتراء وتدمر. قال ياقوت : وأهل تدمر يزعمون أن ذلك البناء قبل سليمان بن داود عليهما‌السلام بأكثر مما بيننا وبين سليمان. ولكن الناس إذا رأوا بناء عجيبا جهلوا بانيه أضافوه إلى سليمان وإلى الجن. قلنا : وكان القدماء يعتقدون أن بعض مدن ساحل الشام بناها الآلهة قال المعري :

٢٣٢

وقد كان أرباب الفصاحة كلما

رأوا حسنا عدوه من صنعة الجن

وقال النابغة الذبياني :

إلا سليمان إذ قال الإله له

قم في البرية فاحددها عن الفند

وخيّس الجن إني قد أمرتهم

يبنون تدمر بالصّفاح والعمد

خربت آثار تدمر سنة ٢٧٣ م على يد اورليانوس الروماني لما قهر زينب ملكتها. ولما انتقض أهلها عليه عاد فافتتحها عنوة. وأعمل في أهلها السيف أياما متوالية. ثم أمر فبعثرت الأبنية ، وقوضت الهياكل ، ودكت الأسوار ، وهدمت القلاع. فأصبحت تلك المدينة الزاهرة قاعا صفصفا وظلت على هذه الحال قرية حقيرة إلى عهد ديوكليتيانوس أيام استخدمها الرومان لرد غزوات البادية وغيرها.

وصف عاديات تدمر (١) :

وبعد فإن كل ما دونه مؤرخو العرب في تدمر وما وصفها به رحالتهم مختصر جدا لا يستفاد منه الفائدة العلمية اللازمة ويتعذر علينا من النصوص التي اتصلت بنا أن ندرك حقيقة حالة تدمر وعمرانها حين فتحها المسلمون. والمعروف أن تدمر لم تستعد مكانتها ولا بعضها منذ استيلاء اورليانوس عليها في سنة ٢٧٣ م. يوم دك معاقلها وهدم دورها ودرس قصورها فأخذت تدمر حينئذ بالانحطاط إلى أن وصلت إلى ما هي عليه اليوم.

إن اتصل بنا تاريخ هدم تلك المدينة فإنا نجهل ما انتاب البقية الباقية من عمرانها بعد ذلك العهد حتى منتصف القرن الثامن عشر. أيام نزلها في سنة ١٧٥١ المهندسان الإنكليزيان وانكس ووود فرسما مخططا لتلك الخرائب ونقلا إلى بلادهم جملة رقم تدمرية ويونانية تمكن بفضلهما سوينثن وبرتليمي من قراءة حروفها وتفسير معانيها.

ومنذ ذاك العهد اشتهرت تدمر في الغرب ولا سيما عند علماء الآثار وغواتها فكثر شد الرحال إليها وزاد زوارها في السنوات الأخيرة خاصة وذلك بالنظر لسهولة المواصلات وتوفر أسباب الراحة فيها. وبالرغم مما انتاب

__________________

(*) كتب وصف تدمر الأمير جعفر الحسني.

٢٣٣

تدمر من عوامل الهدم والتخريب فإن القسم القليل الذي سلم من كوارث الأيام وأحداث الدهر ينبئ بجمال عظمتها وجلال قدرها. فلا يتأتى لمن يقف وسط تلك الأطلال ويتأمل هذا الإتقان لا تأخذه حيرة في دهشة أو رعشة في وحشة لهذا الإبداع المعجب ودقة الصنعة وتناسب الجمال والعظمة. فكل جزء منها شاهد على سلامة ذوق مخططها ومهارة عمالها وصناعها. فقد جمعت بين الإبداع والإعجاز حتى ليتساءل المرء وهو في القرن العشرين إن كان هذا ثمرة جهود الإنسان أو عمل من صنع الجان.

تعد خرائب تدمر اليوم من أكبر خرائب الشام وأهمها وتنقسم بناياتها إلى ثلاثة أقسام : الهياكل والبلدة والمدافن. ولم يبق من الهياكل سوى الهيكل الكبير وهو هيكل بعل والهيكل الصغير وهو هيكل بعلشاميم. والأول هو أكبر بنايات تدمر وأهمها يقع إلى الجهة الشرقية من البلدة ، وهو عبارة عن فناء واسع مربع الشكل يبلغ طول كل من أضلاعه ٢٣٥ مترا يحيط به جدار ذو نوافذ ارتفاعه نحو من ١٥ مترا ، ومدخله من الغرب. وهذا المدخل يؤدي إلى دهليز قام على عمد يبلغ ارتفاع كل منها ١٤ مترا ومنه تجتاز الواجهة الداخلية وتعتبر هذه من أبدع مصانع تدمر وأتقنها صنعا. ويحيط بهذا الهيكل من داخل الجدار رواق كان قائما على ٣٩٠ عمودا تهدم اليوم معظمه ، وقد شيد في وسط هذا الفناء الهيكل الأصلي وطوله ٦٠ مترا وعرضه ٣١ مترا ونصف المتر. وأقدم كتابة وجدت داخل هذا الهيكل مؤرخة بسنة ١٧ م. ويرجح أن هذا الهيكل بني في أوائل العهد المسيحي.

والهيكل الثاني إلى شمالي البلدة ومدخله من الشرق وهو أصغر حجما من الأول وأقل كلفة. ويكاد يكون مجموعه الخارجي سالما ومع بساطته تجد إتقانا في بنائه ودقة في نقوشه وقد تم بناؤه في النصف الأول من القرن الثاني للميلاد.

إن ما بقي من آثار البلدة هو أروع شيء في خرائب تدمر وأعظم منظرا. ومنها تلك الأروقة التي كانت تمتد من جانبي أهم شوارع البلدة فهي أبهج منظرا لعظمة تلك المدينة وأطول هذه الشوارع هو الذي يخترق البلدة من الشرق إلى الشمال ويقسمها إلى منطقتين وطوله ١٢٠٠ متر وعدد أعمدة كل

٢٣٤

صف يبلغ ٣٧٥ عمودا ارتفاع كل منها ١٧ مترا وقد تهدم معظمها فلم يسلم منها سوى ١٥٠ عمودا. ويخترق هذا الشارع من منتصفه شارع آخر على شاكلته وعند ملتقاهما يؤلفان مصلبا وكان على مقربة منه تمثالا أذينة وزنوبيا. وفي منتصف كل عمود ركيزة قامت عليها تماثيل مشاهير حكامها والصالحين من رعيتها. ولم يزل مدخلها المدينة الشرقي قائما وله منظر رائع ومرأى جميل. وما خلا ذلك من الأنقاض المتراكمة الباقية والأعمدة والأحجار المنحوتة مبعثر مشتت عرف بفضلها أصحاب الهندسة تخطيط أبنية المدينة وهندسة شوارعها وأزقتها.

إن قبور تدمر مبعثرة حول البلدة ومعظمها في الجهة الغربية في واد يعرف بوادي القبور لكثرتها فيه. وهي على نوعين : منها ما هو قائم على شكل أبراج مربعة في ثلاث أو أربع طبقات منقسمة حجرا وفي جدرانها القبور. والنوع الثاني كهوف نقرت في الصخر على سفح الجبل وهي ذات إيوانين أو ثلاثة ، ومن القبور ما هو في الجدر ومنها ما هو على شكل النواويس ويختلف عدد القبور في كل مدفن بين العشرين والسبعين وهو ملك أسرة واحدة أو أكثر. وكان لأبناء الأسر في تدمر عناية خاصة بمدافنهم يتنافسون بإتقانها وزخرفتها ومنها ما هو أشبه بقصور منها بقبور. وكل هذه العناية لحرصهم على راحتهم في دار البقاء كما تنص على ذلك رقمهم القبرية اه.

أقام الرومان بين دمشق وتدمر إلى الفرات اثنين وخمسين حصنا أو قلعة. يبعد كل منها عن الآخر ثلاث ساعات. ولا شك في أن الحرس الروماني كان في بعضها. وبنى الرومان عدة حصون على الطريق الممتد بين بصرى ودمشق ليأمنوا عيث البادية وطريقا من صرخد إلى البصرة وطرقا من حوران إلى البلقاء إلى عقبة أيلة وما إليها ، وكان ذلك في أيام عظمتهم. قال أحد علماء الهندسة من الفرنج : إن الرومان لما أصبحوا سادة الأرض وأمسى معهم جميع الشعوب بمثابة العبيد عدلوا وهم في أوج عزهم عن أعمال في العمران كان فيها عزهم ونجاحهم واستسلموا إلى الكسل وإضاعة الأوقات.

وبعد أن فتحت زينب أو زنوبيا سلطانة تدمر المشهورة القطر المصري عمرت الأبنية التي جلبت إليها الأمم من أقطار الأرض ولا سيما اليونان.

٢٣٥

ولما جاء يوستنيانوس سنة (٥٢٧) جدد بناء الأخربة في تدمر وشيد أبنية أخرى فيها وجعل لها سورا. ثم سطت عليها الزلازل كثيرا. وما يرى اليوم من الأثر الضئيل الباقي من عادياتها شاهد على ما كان هناك من عمران ممتد الرواق. وما استخرج ولا يزال يستخرج من أرضها من التماثيل والأنصاب والشواهد يدل على فضل ذوق وحسن هندسة.

ومن كل أنواع الأنام مصور

شباب وشمط يمرحون وشيب

ومجلس أنس يفسح الطرف ملؤه

قيان تغني وسطه وشروب

وصرعى وقتلى في قتال عساكر

تحول حصون دونهم ودروب

فمن جانب أضحت تصب مدامة

ومن جانب أضحت تشب حروب

خليطان هذا للقراع معبس

يصول وهذا للسماع طروب

وقد حققوا التصوير حتى وجوههم

يبين لنا بشر بها وقطوب

وكل يعاني شغله غير أنه

على فمه دون الكلام رقيب

ملاعب فيها الملك رام بطرفه

وكل ابن دنيا إن نظرت لعوب

وعاشوا طويلا ثم فرق شملهم

زمان أكول للأنام شروب

فلو لا مكان الدين قلّ لفقدهم

بكاء لنا في إثرهم ونحيب

ملوك أقاموا ما أقاموا أعزة

وقد شعبتهم بعد ذاك شعوب

وخيل للرائي ليذكر عهدهم

خيال لعمري إن رأيت عجيب

خيال لهم يهدى إلى كل أمة

لقصد اعتبار إن رآه لبيب

عاديات بعلبك امس واليوم

إن بقايا هيكل الشمس أو المشتري وهيكل الزهرة وهيكل باخوس ودار المذبح أو البهو الكبير الماثلة إلى اليوم في قلعة بعلبك لأكبر دليل على ارتقاء فن الهندسة حتى في العصور التي سبقت الرومان واليونان. وقد عدت أحجار بعلبك ومنارة الإسكندرية (الإسكندرونة) من جلة عجائب الشام. فقد قال الهمداني في أحجار بعلبك : إن فيها حجرا على خمسة عشر ذراعا أقل أو أكثر ارتفاعه في السماء عشرة أذرع في عرض خمسة عشر ذراعا في طول خمسة وأربعين ذراعا. هذا حجر واحد في حائط. وأما منارة الإسكندرية

٢٣٦

فإنه يصعد إليها رجل على برذون حتى يبلغ أعلاها وهي مبنية على سركان من زجاج.

وفي بعلبك هيكلان كبيران طول أصغرهما ٢٢٥ قدما وعرضه ١٢٠ قدما وكان محاطا بأعمدة كبيرة الحجم طول الواحد منها ٤٥ قدما وطول هيكل الشمس ٣٢٤ قدما وكان محاطا بأربعة وخمسين عمودا يبلغ قطر الواحد منها ٧ أقدام وعلوه من قاعدته إلى قمته ٨٩ قدما وقد بلغ طول بعض الحجارة المبني منها الهيكل ٦٤ قدما وسمكه ١٢. قالوا : وكانت هياكل بعلبك تضاهي هياكل اليونان بعظمة بنائها ولكنها دونها بالترتيب والزخرفة. ذكر ابن حوقل أن قلعة بعلبك الحصينة الجميلة من أجلّ مباني الأرض ، وإنما بنيت قلعة دمشق على مثالها ، وهيهات لا تعد من أمثالها ، أين قلعة دمشق من قلعة بعلبك وحجارتها تلك الجبال الثوابت ، وعمدها تلك الصخور النوابت.

قد يبعد الشيء من شيء يشابهه

إن السماء نظير الماء في الزرق

قال شيخ الربوة : وبقلعة بعلبك بيت محكم من الحجر طوله خمسون ذراعا وهو من كل جهة ثلاثون ذراعا وسقفه حجر وفي وسط السقف نسر حجر فارش أجنحته. وفي أربع قرن السقف أربعة أصنام وأسماؤها ودّ وسواع ويغوث ويعوق. وبمقطع الحجارة حجر رابع للثلاثة التي بالقلعة متروك إلى وقتنا هذا وإلى ما يشاء الله مثالا للناس. يعني أن من ههنا حملنا الأحجار الثلاثة المبنية بالقلعة ـ وهو الحجر المعروف اليوم بحجر الحبلى ـ وبالحصن أيضا عمد طول كل عمود نحو عشرين ذراعا وفي الأرض منها نحو أربعة أذرع ودوره نحو ذراعين وأكثر عددها نحو ستين عمودا وكان على رؤوسها عتبات وفوق العتبات البناء المحكم اه.

وإن آثار بعلبك بما فيها من العمد الضخمة ومنها من النوع المعروف بالمحبب (غرانيت) الذي جلب من السودان على ما يظهر تدل دلالة صريحة على أن كل هذا من صنع الرومان وبأيدي مئات الألوف من العملة المسخرين المستعبدين. وهكذا قامت جميع آثار الرومان بإرهاق الإنسان للإنسان. بيد أنهم خلفوا عاديات عظيمة أعلت بين الأمم القديمة ذكرهم ، وجعلتهم موضع الإعجاب على توالي الأحقاب.

٢٣٧

ويصدق على قلعة بعلبك في الوصف ما قاله عبد اللطيف البغدادي في أهرام مصر : إنها صبرت على ممر الأزمان بل على ممرها صبر الزمان. فإنك إذا تبحرتها وجدت الأذهان الشريفة قد استهلكت فيها ، والعقول الصافية قد أفرغت عليها مجهودها ، والأنفس النيرة قد أفاضت عليها أشرف ما عندها لها ، والملكات الهندسية قد أخرجتها إلى الفعل مثلا هي غاية إحكامها حتى إنها تكاد تحدث عن قومها وتخبر بجمالهم وتنطق عن علومهم وأذهانهم وتترجم عن سيرهم وأخبارهم. أو ما قاله في يرابي مصر : فالحكاية عن عظمها وإتقان صنعتها وإحكام صورها وعجائب ما فيها من الأشكال والنقوش والتصاوير والخطوط مع إحكام البناء وجفاء الآلات والأحجار مما يفوت الحصر. ومن أجمل ما وصفت به خرائب بعلبك قول صديقنا خليل مطران من قصيدة :

خرب حارت البرية فيها

فتنة السامعين والنظار

معجزات من البناء كبار

لأناس ملء الزمان كبار

ألبستها الشموس تفويف در

وعقيق على رداء نضار

وتحلت من الليالي بشاما

ت كتنقيط عنبر في بهار

وسقاها الندى رشاش دموع

شربتها ظوامئ الأنوار

زادها الشيب حرمة وجلالا

توجتها به يد الأعصار

رب شيب أتم حسنا وأولى

واهن العزم صولة الجبار

معبد للأسرار قام ولكن

صنعه كان أعظم الأسرار

مثل القوم كل شيء عجيب

فيه تمثيل حكمة واقتدار

صنعوا من جماده ثمرا يج

نى ولكن بالعقل والأبصار

وضروبا من كل زهر أنيق

لم تفتها نضارة الأزهار

وشموسا مضيئة وشعاعا

باهرات لكنها من حجار

وطيورا ذواهبا آيبات

خالدات الغدو والإبكار

في جنان معلقات زواه

بصنوف النجوم والأنوار

وأسودا يخشى التحفز منها

ويروع السكوت كالتزآر

عابسات الوجوه غير غضاب

باديات الأنياب غير ضواري

٢٣٨

في عرانينها دخان مثار

وبألحاظها سيول شرار

تلك آياتهم وما برحت في

كل آن روائع الزوار

ضمها كلها بديع نظام

دقّ حتى كأنها في انتثار

في مقام للحسن يعبد بعد ال

عقل فيه والعقل بعد الباري

منتهى ما يجاد رسما وأبهى

ما تحج القلوب في الأنظار

أنطاكية وحمص وأفامية والبارة ودمشق :

هذا إجمال في المصانع الكبرى في هذه الديار وهندستها ، ومن أهم آثارها أنطاكية التي بناها انطيغنوس وأكمل زخرفها سلوقس سنة (٣٠٠) قبل الميلاد. وكان فيها من عجائب الهندسة اليونانية ما لم يكتب ليونان أن تعمل مثله في أرضها ، ولو لا أن الزلازل تحيفتها في أدوار مختلفة لكانت اليوم من أهم ما يقصد للزيارة. وكانت أنطاكية عاصمة الشرق أيام اغسطس قيصر كما كانت رومية عاصمة الغرب. ومن يدخل أنطاكية ويذكر ما كان فيها من القصور والدور والمعابد والهياكل والحمامات والقنوات ودور التمثيل يبكي لبلد اتفقت الآفات السماوية والأرضية على تخريبه ، ولم يبق من عظمته التاريخية سوى بعض جدران قلعتها القديمة.

ومن جملة آثار الهندسة الرومانية أو اليونانية بحيرة قدس أو خزان حمص وقناة سلمية وجسر قنوات وآثار سبسطية ومنها مصانع حلب ، وهي صورة تامة من نشوء الهندسة ، وقد غنيت هذه المدينة الأخيرة بالمصانع ذات الهندسة العسكرية والدينية والمدنية وما برح معظمها بحاله. ومن أهم ما في شمالي الشام ملعب أفامية (قلعة المضيق) وملعب دفنة وكان فيها معبد أبولون رب الشمس والنور والصنائع والآداب والطب عند قدماء اليونان ، ونصب فيها برياكسيس المهندس الآثيني تمثالا للرب اشتهر بين العارفين بالصنائع الجميلة ، وهو قابض بيده على قيثارة ، وقد صورت صورته على نقود أنطاكية وفيها معبد ديان والزهرة وغيرهما من الأرباب.

وكانت مدينة أفامية على عهد السلاقسة خلفاء الإسكندر من المدن الكبرى بدليل ما ذكره الهمداني من أنه كان فيها ملعب يعد من البناء المذكور في

٢٣٩

العالم. وكانت مستقرا للجيش الرومي. وفيها زرائب وإصطبلات تؤوي ٣٠٠ فيل و ٣٠٠ جاموس و ٠٠٠ ، ٣٠ حصان ترعى في سهلها الخصيب وترد ماءها العذب النمير. وقد دك حصنها بومبيس وكان من أمنع الحصون. وفيها إلى اليوم آثار شارع يمتد من الباب الشمالي وعلى جانبيه سوار وعمد مختلفة الأشكال والحجوم تبلغ نحو ١٨٠٠ سارية يردّ عهدها إلى أواخر حكم الرومان. ولا يزال كثير من الأرتجة والأبواب قائما وهناك خرائب أخرى لم تعلم ماهيتها.

ومنها خرائب البارة في الشمال غربي العاصي. وخرائبها واسعة ومهمة وشوارعها العديدة وبيوتها «على رواية فان برشم» لا تزال محفوظة. منها بقايا خمس أو ست كنائس وبيع. وفي ضواحيها بيوت مهملة عملت من الحجر الصلد يكفي أن تسقف بالخشب حتى تسكن وهي خالية. وإن ما هنالك من مصانع ومعابد وبيع وقصور وكلها تقريبا من العهد المسيحي قد لا يخلو من نقوش ، ويرد عهدها على الأغلب إلى القرن الخامس والسادس ، وفي قلعتها من أحجار البناء ما يبلغ طوله المترين والثلاثة وعرضه ٧٥ س زبرت عليها حروف يونانية. وأغرب ما في عاديات هذه القرية أن خرائبها الواقعة على أربعمائة متر تقريبا ما زالت بحالها تذكر المرء بآثار بومبيه ومساحتها السطحية أربعة كيلو مترات مما دل على عظم المدينة في القديم. وقد قام بين المحلتين قصر ذو طبقتين محفوظ في الجملة اسمه دير سوباط وفيه آثار ونواويس وأبواب أزلية. وقد وجد على أحد أبوابها كتابة يونانية معناها «ليحفظ المولى من ملكك ومخرجك الآن وفي العصور المقبلة آمين» وكانت هذه المدينة في سعة حلب كما يفهم من خططها.

ومن أهم الآثار القديمة بدمشق الشارع العظيم الذي كان يخرقها من الشرق إلى الغرب أي من الباب الشرقي إلى باب الجابية وطوله ١٦٠٠ متر وعلى جانبيه رواقان من العمد وهو اليوم مستور مردوم قامت عليه الدور والحوانيت. وكان مقسوما إلى ثلاثة أقسام الوسط للدواب والعجلات والرصيفان بجانبه للذاهبين والجائين. والباب الشرقي اليوم على ما يرى هو أحد الرصيفين فقط بحيث يستدل من ذلك أن الشارع لم يكن عرضه أقل من خمسة وثلاثين

٢٤٠