خطط الشام - ج ٥

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٥

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩٦

الآلات والأدوات ومعامله وقاطراته ومركباته وشاحناته وغير ذلك من لوازم التعمير ووسائط سيره فقد بلغت من الجودة درجة يندر وجود نظيرها لدى أغنى الشركات في الأقطار التي خاضت الحرب العامة طول هذه المدة.

وإليك مقادير الآلات والأدوات الخاصة بقسم السير والجر وهي ١٢٠ قاطرة بخارية و ١٢٠٠ شاحنة و ١٠٠ مركبة ركاب من صنوف مختلفة و ٢٠ شاحنة بريد. عدا ما هنالك من عدد كبير من شاحنات الماء (الصهاريج) وأشياء فنية كثيرة ، وأما المعامل فمنها ما كان في القدم جنوبي دمشق وهو معمل مجهز بأحدث الآلات الفنية وكذلك مستودع صغير للمرمات. وفي درعا مصنع صغير ومستودع وفي سمخ مستودع وفي عمان مستودع وفي معان مستودع ومصنع مختصر وفي تبوك مستودع وفي مدائن صالح مستودع ومصنع صغير وفي المدينة المنورة مستودع وفي حيفا مستودع ومصنع صغير.

تقسيم الخط الحديدي الحجازي :

قسم الخط في بدء الاحتلال ثلاثة أقسام : استولت بريطانيا العظمى على قسم فلسطين وسلمته إلى إدارة الخطوط بفلسطين. واستلمت الحكومة العربية الفيصلية قسم سورية ، وأما القسم الثالث فقسم الحجاز أطول مسافات الخط وهو قسم غير مثمر لوقوعه في البادية ولخراب جسوره وأكثر محطاته. وقد قسمت أيضا المعامل الصناعية والآلات والأدوات الفنية إلى ثلاثة أقسام وكان أهل كل قسم من هذه الأقسام إذا وقعوا في منطقتهم على شيء أو ظفروا بشيء وضعوا أيديهم عليه. فالمصانع التي كانت داخل المنطقة الشرقية الفيصلية بقيت لحكومتها ومثلها المعامل الصناعية في فلسطين والحجاز. ورجع ما في فلسطين لحكومة فلسطين وسلمته هذه إلى شركة الخطوط بفلسطين. وما في الحجاز إلى حكومة الحجاز. كذلك القاطرات والشاحنات والمركبات وشاحنات البريد وسائر اللوازم فقد قسمت على الطريقة عينها ولكن كان حظ الحجاز منها قليلا جدا ، فإن جميع ما بقي على الخطوط ووضع اليد عليه لا يتجاوز عدد الأصابع وأكثره مخرب لأنه كان طوال هذه المدة عرضة لهجمات الثائرين. وكذلك الشاحنات والعربات وشاحنات البريد فإن عددها لا يكاد

١٨١

يذكر بالنسبة إلى ما استولت عليه فلسطين وسورية. في حين أن أكثر الخط ممتد في أرض الحجاز.

وقد جرى إصلاح الخط على عهد الحكومة العربية بصورة سطحية وعلى أثر هذا الترميم وصل القطار من المدينة المنورة إلى دمشق في أواخر سنة ١٩١٩ وهي أول مرة دخلها بعد الحرب العامة ولم يتيسر تسيير القطارات بانتظام كما كانت تسير قبلا لعدم إتمام العمائر بصورة فنية تبعث على الطمأنينة ولعدم وجود رأس مال كاف لهذه الغاية. وبقي الحال على هذا المنوال حتى سقوط الحكومة الفيصلية في سورية ودخول الجيش الفرنسي إليها. ولما دخل الفرنسيون دمشق في تموز ١٩٢٠ تركوا إدارة الخط تسير على ما كانت عليه في عهد الحكومة العربية حتى آذار سنة ١٩٢٤ وأحيلت إدارته إلى شركة دمشق ـ حماة وتمديداتها الفرنسية.

الخط الحجازي في شرقي الأردن والحكومة الهاشمية :

يبتدئ هذا الخط في هذه المنطقة من محطة نصيب وينتهي بمعان وكانت من عمل الحجاز وهي على ٣٢٣ كيلو مترا ، وكان في هذه المنطقة مستودعات عديدة وفيها الشيء الكثير من آلات الخط وأدواته وقد سلمتها جميعها حكومة شرقي الأردن إلى إدارة خطوط فلسطين مقابل مقاولة معقودة بينهما.

ولقد أراد الملك حسين تعمير الخط الحجازي ليتسنى له استثماره ويصل مملكته بمملكة ولده الأمير عبد الله فأصدر أمره خلال سنة ١٩٢٢ بتأليف لجنة يعهد إليها النظر في شؤون الخط وترميمه فألفت لجنة للقيام بهذه المهمة في شرقي الأردن وأرسل إليها الملك حسين أربعة آلاف جنيه مصري للترميمات الضرورية فقط. فقررت المباشرة بإصلاح الجسور والمنافذ وفرضت إعانات تقطع من رواتب الموظفين وكذلك من واردات الطوابع الحجازية التي تستوفى داخل المنطقة فبلغ مجموع ما دخل عليها من هذه الموارد خلال مدة التعمير أربعة آلاف جنيه والمجموع ثمانية آلاف جنيه مصري في حين أن الترميمات والإصلاحات الضرورية لا تتم بأقل من ١٠٠ ألف جنيه ليمكن إعادة الخط سيرته الأولى.

١٨٢

وقد أتمت اللجنة إنشاء الخط حتى المدينة المنورة على صورة موقتة لقلة الأموال التي تمكنت من جمعها وبدأ سير الخط رسميا. ونقل خلال استثماره في تلك الحقبة القليلة أكثر من أربعة آلاف زائر إلى المدينة المنورة ذهابا وإيابا وبلغت واردات الخط من الزوار والنقليات التجارية أربعين ألف جنيه.

الخط الحجازي في المؤتمرات :

عقدت معاهدة لوزان بين تركيا والحلفاء في سنة ١٩٢٣ ولم يقرر المؤتمر شيئا في مصير الخط الحجازي لأن الفرنسيين والإنكليز كانوا متفقين على تأليف لجنة إدارية عليا من المسلمين يكون مقرها المدينة المنورة تنظر في شؤون الخط وتسعى لإصلاحه. ولقد نصت المعاهدة التي عقدت بين تركيا والحلفاء في لوزان سنة ١٩٢٣ على عقد مؤتمر في الاستانة مؤلف من ممثلي الدول التي انفصلت عن تركيا ومن ممثلي مجلس الديون العامة لمعرفة واردات تلك الدول. وفي عام ١٩٢٤ عقد هذا المؤتمر فكان فيه مندوبون عن المناطق المنفصلة عن تركيا. وعند تعيين مقادير الواردات والتقاسيط السنوية تقرر تقسيم الخط الحجازي وتجزئته واعتبار كل قسم ملكا للمناطق التي يجتازها هذا الخط. وقد ثبت الحكم المعين وفقا لقرار جمعية الأمم في جلساته الحكمية في جنيف مبدأ اعتبار واردات الخط الحديدي الحجازي على النسبة الكيلو مترية لا على نسبة ما تستفيده كل مقاطعة من الخط الذي يمر منها.

وتقضي المادة ١١٨ من معاهدة لوزان بعقد مؤتمر في باريز بعد مرور شهر من صدور حكم الحكم الذي عهدت إليه جمعية الأمم النظر والحكم في اعتراضات الدول ذات العلاقة بالديون العثمانية العامة. وقد ضربت الحكومة الفرنسية موعدا لعقد هذا المؤتمر في أول تموز سنة ١٩٢٥ بباريز دعت إليه جميع الدول ذات العلاقة بالديون ودعيت الحكومة الحجازية لإرسال مندوب عنها في شهود هذا المؤتمر فأجابت الدعوى ولكن لتحتج على ما لحق بالمملكة الحجازية من الحيف.

وبعد إلحاق معان والعقبة بشرقي الأردن (١٩٢٥) تسلمت إدارة خطوط فلسطين الخط الحجازي الجنوبي حتى المدوّرة في الكيلو متر ٥٧٧ وبما أن

١٨٣

طول الخط الأصلي من دمشق إلى المدينة المنورة عبارة عن ١٣٠٧ كيلو مترات فيكون ما تناط إدارته من هذا الخط بالحكومة الحجازية الحاضرة ٧٣٠ كيلو مترا.

نفقات الخط الحجازي وإصلاحه :

بلغت نفقات الخط الأصلي وفروعه حتى سنة ١٩١٨ وهي السنة التي خرجت الدولة العثمانية فيها من الشام ٣٩٨ ، ٠١٢ ، ٥ ليرة عثمانية ذهبا. فهذه القيمة قليلة جدا بالنسبة لطول الخط وللبوادي الشاسعة القاحلة التي قطعها. ولو لا أن الحكومة العثمانية كانت تستخدم الجنود بأجور زهيدة للغاية لما تيسر لها إنشاء هذا الخط ولكانت اضطرت لإنفاق ضعفي هذا المبلغ على أقل تقدير. والحق يقال إن هذا الخط مدين بإنشائه للجنود العثمانية التي بذلت في سبيله الجهود العظيمة ، بل النفوس الكريمة ، وعدا ذلك فإن المبيعات المحلية والنقليات على اختلاف أنواعها جرت بصورة معتدلة للغاية. وكان معظم الناس يعتقدون ، وهم على صواب في اعتقادهم ، أن تقديم الإعانات إلى الخط وبذل المعاونات في سبيله من أعظم القربات. وبدافع هذه الثقة قدم كثيرون أشياء ثمينة ذات قيم كبيرة كالأخشاب والأحجار والأرضين. فلا بدع إذا قلنا إن هذا الخط ثمرة جهود الأمة الإسلامية ، ومأثرة غراء من مآثرها الخالدة في هذا العصر ، عصر النور والعرفان.

وخلاصة القول أن إصلاح هذا الخط أمر ضروري حيوي بالنسبة للأقطار العربية لما له من العلاقة بها كلها. فمن الواجب على الحكومات العربية أن تسعى كل السعي لإرجاع الخط إلى حالته الأولى ، وتعمل في سبيل تحسين شؤونه أكثر من قبل. وهذا الإصلاح لا يتم إلا بإيصال هذا الخط إلى مكة المكرمة عاصمة الإسلام ، وبربطه بخطوط فرعية مع السواحل كمكة المكرمة بجدة والمدينة المنورة بينبع ومعان بالعقبة فيصبح بهذه الفروع الممتدة إلى سواحل البحر الأحمر والبحر المتوسط من أكبر العوامل لإنعاش التجارة في الأرض التي يمر بها، ويتسع نطاق العمران والتحضير في الصحاري والسهول العربية. ومن جهة أخرى يضمن بهذه الطريقة أيضا نقل الفحم الضروري لاستثمار

١٨٤

الخط على أيسر وجه وبأقل كلفة. وقضية الفحم قضية ذات شأن في حياة الخط ، وكان يبلغ ما يستهلكه من الفحم الحجري نحو ٠٠٠ ، ٣٠ طن في السنة ولا يبعد أن يأتي يوم تمكن فيه الاستفادة من شلالات زيزون وتل شهاب لتوليد الكهرباء فتسير القطارات حينئذ بهذه القوة فتقل نفقات الخط السنوية وتصبح الأجور أقل مما هي عليه الآن فتكثر المواد. وما ذلك اليوم ببعيد إن شاء الله.

تفتقر الأقطار العربية إلى رجال فن وأرباب صنائع إخصائيين يعول عليهم في تسيير شؤونها الفنية. وهي لا تنقص فيها المقدرة والاستعداد للقيام بأصعب الأمور إذا قيض الله لها من أبنائها من يرشدها ويحسن إدارتها. ولقد برهنت على ذلك في كثير من أدوار تاريخها المجيد ، وخصوصا بما قامت به أخيرا من الأعمال أثناء إنشاء الخط الحجازي ، وما بذلته من الجهود في سبيله حتى لقد صرح مدير هذا الخط المسيوديكمان الألماني بشهادته الطيبة لأبنائها في تقريره الذي رفعه للحكومة الفيصلية العربية : إنني عاجز عن وصف سروري من الموظفين والعملة العرب الذين كانوا في إدارتي ، لما هم عليه من حب العمل والنظام ، وما اتصفوا به من شدة الذكاء والمقدرة ، كما شاهدت ذلك في صفوف موظفي المحطات والقطارات والسواق والسير ، وكنت أجد سرورا خاصا عند النظر في أمورهم لما هم عليه من النشاط في كل أمر.

الخطوط الفلسطينية خط يافا ـ القدس :

كانت مدينة يافا في كل أدوارها مرفأ لإنزال الزوار القاصدين لمدينة القدس. ولذلك كانت فكرة إنشاء خط حديدي بين المدينتين من الأمور المتفق على صحتها وجلالة شأنها. لكن بعض المشتغلين بهذه القضايا كان يعتقد صعوبة تنفيذها ، ويرجح إنشاء خط ترامواي لقلة المواصلات التجارية في فلسطين. ذلك لأن كثرة الزوار لا تكون إلا في مواسم معينة من السنة. وكان أول مصوّر قدم للحكومة لعمل سكة حديدية في سنة ١٨٦٤ قدمه الدكتور زامبل الأميركي الألماني. ومنح امتياز هذا الخط إلى يوسف نافون

١٨٥

أفندي في ٢٨ تشرين الأول سنة ١٨٨٨ لمدة ٧١ سنة مع احتمال تمديد هذا الخط إلى غزة ونابلس ، ثم إلى دمشق إذا دعت الضرورة إلى ذلك في المستقبل. وقد باع صاحب هذا الامتياز امتيازه من شركة الخطوط الحديدية العثمانية ليافا ـ القدس وتمديداتها الفرنسية المؤسسة في باريز في شهر كانون الأول سنة ١٨٨٩ بمبلغ مليون فرنك. وشرع بإنشاء هذا الخط في نيسان سنة ١٨٨٩ فصادف المهندسون صعوبات جمة في طريقهم ، خصوصا في القسم الواقع بين عرتوف والقدس والأرض صخرية جبلية وقد استغرق هذا العمل ست سنوات بالنظر لهذه الصعوبات وانتهى في أيلول سنة ١٨٩٢ وافتتح الخط في ٢٦ أيلول سنة ١٨٩٢. وطول هذا الخط ٨٧ كيلو مترا ، وهو خط ضيق منفرد وعرضه متر واحد يجتاز مائة وستة وسبعين جسرا سبعة منها حديدية. وأطول هذه الجسور لا يتجاوز الثلاثين مترا وأقصرها ستة أمتار. وقد تجنب القائمون بالأعمال فتح الأنفاق مما زاد في اعوجاج الخط وكثرة الحفريات الناشئة عن ذلك. فالخط يحاذي وادي صرار ويقطعه في محلات متعددة. واقتلعت إدارة الخطوط الحديدية العثمانية في الحرب العامة قسما من هذه السكة بين يافا ولد أي على مسافة ١٩ كيلو مترا واستعملت قضبه في إنشاء الخطوط العسكرية التي كانت تنشأ إذ ذاك في فلسطين ولم تقتلع بقيته لأنها استفادت منه ووصلته بخط العفولة ـ القدس من لدّ إلى وادي صرار أي مسافة ١٨ كيلو مترا.

خط حيفا ـ دمشق :

ألمعت قبلا إلى أن جبال لبنان الشاهقة وما وراءها من الهضاب الشرقية تمنع سهولة المواصلات بين دمشق وبيروت وتؤلف سدا منيعا بين هاتين المدينتين ، ولذلك رأى من يعنيهم الأمر منذ زمن بعيد وصل دمشق بنقطة من الساحل تكون غير مدينة بيروت. فكانت الأنظار تتجه أبدا إلى مدينتي عكا وحيفا. لأن الخط الذي يصل دمشق بهاتين المدينتين يسهل إنشاؤه لوجود سهل يزرعيل على ما ذكرنا آنفا. وكانت بريطانيا تحلم كثيرا بالحصول على خط حديدي يسير بين احدى المواني الشامية والخليج الفارسي. وخصوصا

١٨٦

بعد احتلالها جزيرة قبرس في البحر المتوسط. ففي سنة (١٨٨٢) نال السادة أبناء سرسق منشورا سلطانيا يخولهم حق إنشاء خط حديدي بين عكا ودمشق آملين إدخال التحسين على أملاكهم الواسعة في مرج ابن عامر راجين معاونة البريطانيين. وكانت فكرة إنشاء خط حديدي سائدة بينهم في ذلك الحين. بيد أنهم لم ينجحوا بعملهم وخسروا عربونهم البالغ ٥٠ ألف فرنك المودع في خزينة الدولة العثمانية.

وفي سنة (١٨٨٩) طلب يوسف الياس أفندي رأس مهندسي لبنان إلى الحكومة العثمانية منحه امتياز هذا الخط مع فرع إلى حوران. وانقضت المدة المضروبة للمباشرة بالعمل ولم يتمكن هو أيضا من القيام بهذا المشروع. وفي ٣٠ أيلول سنة (١٨٩١) أعاد الكرة يوسف الياس أفندي ونال هذا الامتياز مجددا بالاشتراك مع المستر نيللنغ الإنكليزي. واشترطت الحكومة عليهما في في هذا الامتياز إنشاء فرعين لهذا الخط الأول من قرية نوى إلى بصرى في حوران. والثاني من نهر الشريعة إلى حاصبيا. وشرع بالعمل في ١٢ كانون الأول سنة ١٨٩٢ في الوقت الذي باشرت فيه أعمالها شركة بيروت دمشق (٨ كانون الأول سنة ١٨٩٢). ولم تمض مدة حتى توقفت الأعمال على خط حيفا ـ دمشق ولم يتم منه سوى ثمانية كيلو مترات. لأن الشركة التي أسست للقيام بهذا المشروع لم تحصل على المعاونة المالية اللازمة لها في أسواق لندن. وكانت المدة المضروبة لإنهاء العمل تنتهي في شهر تشرين الأول سنة ١٨٩٥ وعلى هذا أنذرت الحكومة العثمانية الشركة في أوائل سنة ١٨٩٥ بوجوب الإسراع بالعمل وبعد إلحاح المساهمين وافقت الحكومة على تمديد المدة ثلاث سنوات أخرى. وبالرغم من هذه التسهيلات لم تقم الشركة بإتمام عملها. وفي سنة (١٨٩٦) أصبح القسم الممدد من الخط في حالة يرثى لها بعد تركه طوال هذه السنين الأخيرة. ثم ظهرت فكرة إنشاء الخط الحديدي لحجازي وربطة بأحد فرض البحر المتوسط فقام السلطان باسترجاع امتياز خط حيفا مستفيدا من ذلك التأخير الذي وقع في أعمال الشركة كما ذكرنا ذلك في عرض الكلام عن الخط الحجازي.

١٨٧

الخطوط العسكرية الفلسطينية :

لم تحل الحرب العامة دون الإدارة العسكرية العثمانية التي تولت السيطرة على الخط الحجازي إذ ذاك وتمديد مئات الكيلو مترات من الخطوط الحديدية بين فلسطين والحدود المصرية داخل فلسطين أيضا. وهذه الخطوط وإن لم يكن لها شأن يذكر بجانب الخط الأصلي فقد أحببنا أن نذكر شيئا عنها تتميما للفائدة.

أنشأت إدارة الخط الأصلي فروعا لها في سورية وفلسطين. منها فرع حيفا ـ عكا وهو ١٧ كيلو مترا وفرع درعا ـ بصرى وهو ٢٧ كيلو مترا وفرع العفولة ـ القدس الذي شرع فيه سنة (١٩١٢) ووصل إلى قرية السيله عند إعلان الحرب العامة وهو ٤٠ كيلو مترا. ومن المسائل التي تستحق الذكر ما أجرته إدارة الخط من الأعمال في أثناء الحرب العامة ذلك أن حملة السويس لما أخفقت أدركت قيادة الجيش العثماني ضرورة تمديد الخط الحديدي حتى السويس بأسرع ما يمكن. وكان القائل بهذه الفكرة جمال باشا الذي تمكن على الدوم من إعطاء المال والرجال لإجراء الأعمال المطلوبة وقد جيء في ذلك الحين بميسنر باشا المهندس الألماني من بغداد لاستلام أعمال الإنشاء وكان هو مهندس الخط الحجازي عند تأسيسه من سنة ١٩٠٠ إلى ١٩٠٨.

كان قسم العفولة ـ القدس الذي شرعت فيه إدارة الاستثمار وصل نابلس في شتاء ١٩١٤ و ١٩١٥. وكانت الفروع المصرية التي بدأت الإدارة بإنشائها من المسعودية في خط العفولة ـ نابلس تمتد في بطاح سارون حتى القدس وليس فيها كثير من الموانع والحوائل الطبيعية. ودعت الضرورة إلى جعل الخط بعيدا عن الساحل ليكون بمأمن من قذائف السفن الحربية. وفي شهر تشرين سنة ١٩١٥ تمكنت الإدارة من إنشاء ١٦٥ كيلو مترا وسلمتها للاستثمار حتى بئر السبع. وهذا العمل بالنظر لما صودف في تنفيذه من المصاعب يعد من الأعمال العظيمة.

وقد استفادت إدارة الأعمال من خط يافا ـ القدس الفرنسي المشاد سابقا بين محطة لدّ ووادي الصرار أي مسافة ١٨ كيلو مترا كما ذكرنا ذلك

١٨٨

آنفا وأدخلت هذا القسم بخط العفولة ـ القدس الذي نحن في صدد الكلام عليه ، ولكنها اضطرت لتعريضه لأن عرضه كان مترا واحدا فجعلته مترا وخمسة سانتيمترات كبقية الخطوط الحديدية الحجازية. وكانت الإدارة لا تملك عند إعلان الحرب سوى ٣٠٠ كيلو متر من قضبه الحديدية و ٥٠ كيلو مترا من العوارض الحديدية فقلعت من خط يافا ـ القدس قسم يافا ـ لدّ ١٩ كيلو مترا وخط حيفا ـ عكا ١٧ كيلو مترا وخط دمشق ـ المزيريب ١٠٣ كيلو مترات وقد أحضر قسم كبير من العوارض من أخشاب الاوكالبتوس في بطاح شارون ومن شجر الصنوبر في جبل لبنان.

وبدئ بإتمام الخط إلى السويس في قلب صحراء سينا قبل أن تم إنشاء قسم بئر السبع. ولكن عمليات الإنشاء لم تتقدم بسرعة كما جرى في قسم مسعودية ـ بئر السبع لأن نقل الامداد للجيش كان من الأسباب الداعية لعدم سرعة العمل. ومع ذلك فقد أنشئ ٦٢ كيلو مترا نحو السويس وراء بئر السبع في صيف ١٩١٦ وكانت المحطة النهائية في القسيمة وعند ما جلا الجيش إلى جهة غزة في ربيع سنة ١٩١٧ اضطرت الإدارة إلى رفع الأقسام الجنوبية من بئر السبع. ثم بدئ بإنشاء فرع من التينة إلى ديرسند ـ بيت حاتون ومن ديرسند إلى الهوج ومسافتها ٥ ، ٥٣ كيلو مترا وبنيت أيضا فروع عسكرية ليضمن معها نقل محروقات الخط وهي طور كرم ـ كفر قرع ٢٤ كيلو مترا. وفرع جلينا ـ خضرا ستة كيلو مترات. وغزة ـ الهيشة ٢٨ كيلو مترا. القصر ـ الهرمل ١٩ كيلو مترا. ومن هذا كله يتضح أنه قد أنشئ في أثناء الحرب من الخطوط ٤٣٧ كيلو مترا وكانت كلها فروعا للخط الحجازي، وذلك رغم الصعوبات الكثيرة في تدارك اللوازم الضرورية.

ولما سقطت جبهة غزة واضطر الجيش للجلاء حتى أواسط فلسطين تركت أقسام الخط في جنوب طور كرم في تشرين الثاني سنة ١٩١٧ في حين أن الإنكليز كانت تسرع أثناء الحرب بإنشاء خط ساحلي من بور سعيد الذي خصص لمدد الجيش الإنكليزي. ولما استولت على فلسطين شرعت بتمديد هذا الخط من فلسطين أيضا في أيلول سنة ١٩١٨ وأوصلته إلى حيفا عند جلاء الجيش العثماني عنها. وبهذه الواسطة تم أول اتصال بين الخطوط المصرية

١٨٩

والحجازية. ولا شك أن هذا الاتصال يفيد البلدين فائدة اقتصادية عظيمة لأنهما ما زالا منذ الأزمان القديمة مرتبطين أحدهما بالآخر ارتباطا ماديا وأدبيا.

بدأ الإنكليز عقبى استيلائهم على فلسطين يتحرون الوسائط والطرق اللازمة لإنشاء خط كبير يخترق الديار العربية من الغرب إلى الشرق ويربط حيفا بالخليج العربي وطول هذا الخط تقريبا ١٥٠٠ كيلو متر ولكن بعد أن تمكنت السيارات من اختراق الصحراء والوصول إلى القطر العراقي بسهولة تأخرت فكرة إنشاء هذا الخط في الوقت الحاضر.

إن مجموع الخطوط الحديدية في فلسطين وشرقي الأردن ٧٠٨ ، ٤٠٥ ، ١ كيلو مترات منها ٨٣٤ ، ٧١٥ كيلو مترا من الخط العريض و ٨٧٤ ، ٦٨٩ كيلو مترا من الذي عرضه ١٠٥ سانتيمترات وهذه التفاصيل :

كيلو مترات

٢٢٣ ٣٧٤ خطوط فلسطين الأصلية.

٤٩١ ٩٨ خطوط فلسطين الجانبية (المحطات) والجوانب مقصات وتفريغ.

٧١٤ ٤٧٢ المجموع.

٨٨٥ ٢٠١ خطوط سينا العسكرية الأصلية.

٢٣٥ ٤١ خطوط سينا العسكرية الجانبية ...

١٢٠ ٢٤٣ المجموع.

٠٤٠ ٢١٢ خط الحجاز في فلسطين الأصلي

٥٤٦ ٣٠ خط الحجاز الجانبي ...

٥٨٦ ٢٤٢ المجموع

٣٤٣ ٤٣٦ خط الحجاز الشرقدنّي الأصلي

٩٤٥ ١٠ خط الحجاز الشرقدنّي الجانبي ...

٢٨٨ ٤٤٧ المجموع.

ثم أنشئ فرع جديد من حيفا خاصا بمعمل نيشر طوله سبعة كيلو مترات.

١٩٠

عدد

١٣٠ القاطرات

١٠٧ مركبات الركاب

٢٢٥٩ قاطرات وشاحنات

«الواردات عن سنة ١٩٢٥ والنفقات»

جنيه مصري

٦٠٤٥٧٩ الواردات

٤٣٨٥٠٤ النفقات

١٦٦٠٦٥ الباقي وهو الربح السنوي

وقد اشترت حكومة فلسطين جميع الخطوط العسكرية والفرنسية وأصبحت ملكا لها.

خط بغداد :

جرى البحث كثيرا في الأندية الانكليزية منذ سنة ١٨٣٤ إلى سنة ١٨٤٥ بشأن الملاحة في نهر الفرات ، فتألفت شركة في سنة ١٨٥١ لإنشاء خط حديدي من السويدية في خليج الإسكندرونة إلى الكويت في الخليج الفارسي. وكان يرأس هذه الشركة الجنرال سير فرنسيس شيزني. نالت امتياز هذا الخط مع وعد الحكومة العثمانية بأن تعطي الشركة ضمانة تضمن لها فائدة ستة بالمئة لرأس المال ، ولكن هذه الضمانة لم يتأكد إعطاؤها. ولما رأى الشعب الإنكليزي عدم اهتمام حكومته بهذا المشروع بصورة رسمية خاف من إخفاقه فلم يكتتب بأسهم الشركة. فلم تتمكن هذه من نيل المعاونة المالية اللازمة فسقط امتيازها. وبعد سنة ١٨٦٩ تجددت فكرة إنشاء خط السويدية ـ الكويت. وفي سنة ١٨٧٢ حبذ هذا المشروع كثير من النواب البريطانيين. وكانت تقدر نفقات هذا الخط بعشرة ملايين جنيه إنكليزي. ومضى زمن وفكرة هذا المشروع تتخبط إلى أن حدثت أمور مهمة حولت الرأي العام الإنكليزي عنها بتاتا. وبعد افتتاح ترعة السويس اقترح بعضهم وصل الإسماعيلية بالكويت بخط حديدي. ولكن هذا المشروع الجديد لم يجد أنصارا ولم يرج

١٩١

الرواج المطلوب في الرأي العام الإنكليزي. وبعد ذلك تألفت جماعة من الروسيين واقترحت طريقة جديدة وهي وصل طرابلس الشام بالخليج الفارسي بخط حديدي ، يتفرع منه فرع إلى كربلاء ، ولكن هذه الفكرة كانت عقيمة لا تستحق الاهتمام لأن خطا جديديا كهذا لا يجوز تمديده في تلك الصحاري القاحلة.

وبالتزاحم الذي حدث بين الدول الغربية لنيل امتيازات في الولايات العثمانية كان الألمانيون آخر من تقدم وذلك في سنة ١٨٨٨ فجاءوا بأفكار جديدة وكان الإنكليز والفرنسيون ممن يهتمون بالخطوط الحديدية العثمانية. ولا يفكرون بغير وصل السواحل بالأصقاع الداخلية وذلك لترويج صناعتهم وتجاراتهم. ولهذا لم ينشئوا سوى خطوط صغيرة كيافا ـ القدس ـ حيفا ودمشق ـ بيروت وطرابلس ـ حمص السويدية أو الإسكندرونة ـ حلب ومرسين ـ أذنة وأضاليا الخ. فكل هذه الخطوط كانت تبتدئ من السواحل وتنتهي بمدن الساحل. خلافا لهذه الخطة الغريبة تقدم الألمان بطريقة جديدة تتفق مع المصالح العثمانية أكثر من الأولى. ففي سنة ١٨٧١ ارتأى فون برسيل المهندس الألماني أن يجعل الاستانة مركز الخطوط الحديدية الأوربية والآسيوية ، فبدلا من أن يكون للمملكة العثمانية عشرون خطا صغيرا لا رابطة بينها اقترح أن تنشأ خطوط أساسية تقطعها عرضا وطولا تكون خير واسطة بيد الحكومة من الوجهة الإدارية والعسكرية. وتصل جميع الأقطار العثمانية بعضها ببعض. وأول خط من هذه الخطوط التي اقترح عملها المهندس برسيل كان خط الاستانة ـ بغداد.

وبناء على اقتراحه هذا ووفقا للمخططات التي رسمها ، شرعت الحكومة العثمانية بإنشاء خطها العظيم الملقب بقاطع آسيا الصغير. وكان القصد من هذا الخط أن يبتدئ من مرفإ حيدر باشا على ساحل البوسفور وينتهي بالكويت على ساحل الخليج الفارسي مارا بازميد مجتازا مضايق نهر سقاريا المعوج فيصل أسكيشهر ومنها يتجه شرقا نحو أنقرة ـ يوزغاد ـ سيواس ـ عربكير خربوط ـ ديار بكر ـ ماردين ـ الموصل ـ بغداد ومن هذه يسير موازيا لدجلة وشط العرب حتى خليج فارس. ودعوا هذا التخطيط بالمخطط الشمالي وكان هذا التخطيط أقصر الطرق وأقلها نفقة ويبلغ طوله ٣٥٠٠ كيلو متر.

١٩٢

قامت الحكومة العثمانية في سنة ١٨٧١ بمد ٩٢ كيلو مترا من حيدر باشا إلى ازميد بمعرفة المهندس برسيل ، ولكن الثورات والحروب المتتابعة في أوربا العثمانية وكذلك التدخلات الأجنبية قد أوقفت استمرار العمل بهذا المشروع مدة ست عشرة سنة. وفي سنة ١٨٨٨ تمكن المصرف الألماني «دويتش بنك» من الحصول على امتياز هذا الخط حتى مدينة أنقرة مع الوعد بتمديد بقية أقسامه إلى مدينة بغداد بضمانة كيلو مترية ١٥ ألف فرنك. وقد وقعت الإرادة السلطانية التي منحت امتياز الخط باسم المصرف الألماني في تشرين الأول سنة ١٨٨٨. وباشر الألمان عملهم في شباط سنة ١٨٨٩. وفي سنة ١٨٩١ تمكنوا من إتمام ٣٠٠ كيلو متر. وفي سنة ١٨٩٣ وصل خطهم إلى أنقرة أي انه مد منه ٥٧٨ كيلو مترا.

كانت مدينة أنقرة بلدة صغيرة قبل جعلها عاصمة الدولة التركية وهي واقعة بأعالي الجبال ترتفع ٩٢٠ مترا عن سطح البحر. وعلى أثر وصولهم إليها طلبوا من الحكومة العثمانية امتياز الأقسام الأخرى ، على أن يجري تعديل في استقامة الخط ، فبدلا من أن يسير من أنقرة إلى يوزغاد وسيواس ، طلبوا تحويله من أنقرة إلى قيصرية. وحصلوا في أول سنة ١٨٩٣ على امتياز قسم قيصرية أي مسافة ٣٢٠ كيلو مترا مع ضمانة كيلو مترية قدرها ١٧٦٥٠ فرنكا وقد سمي هذا التخطيط الجديد بالمخطط الوسطي. ولم يرق في عيني روسيا وكانت تخشى تقدم الألمان في الولايات الشرقية. فلعبت السياسة ألا عيبها بين ليننغراد وبرلين ، وقبل الألمان بتغيير وجهتهم فتركوا أنقرة وشأنها ، وطلبوا من الحكومة إعطاءهم امتياز قسم جديد بين أسكيشهر وقونية. وقد حصلوا على ذلك في سنة ١٨٩٣ وسمي هذا التخطيط بالمخطط الجنوبي مع ضمانة كيلو مترية قدرها ١٥ ألف فرنك. غير أن هذا التخطيط الأخير لم يرق أيضا في أعين الإنكليز والفرنسيين وكانوا يرجون نيل امتيازات في تلك البقاع التي لهم فيها مصالح وخطوط. فاحتجوا لدى الباب العالي وقدموا شروطا أحسن من شروط الألمان ، وقد دعمت الحكومة الفرنسية طلب الماليين الفرنسيين ، وتمكنت من أخذ امتيازات الخطوط الحديدية السورية بين دمشق وحلب. (٥ ـ ١٣)

١٩٣

وصل الخط الحديدي إلى قونية في أواخر سنة ١٨٩٥ وبعد ذلك شعر الألمان بضرورة الاتفاق مع بعض الماليين من الأمم الأخرى ، فأشركوا معهم الفرنسيين ونالوا امتياز خط قونية ـ بغداد في كانون الثاني سنة ١٩٠٢ مع ضمانة كيلو مترية قدرها ٥٠٠ ، ١٦ فرنك وممن اشترك مع الألمان من الفرنسيين بهذا المشروع شركة خط ازمير ـ قصبة وشركة المصرف العثماني. وقد اشترط الفرنسيون مقابل دخولهم في هذه الشركة أن يكون لهم أربعون بالمئة من الأسهم وأربعون بالمئة للألمان وعشرون بالمئة لروسيا ، وأن تكون جميع الحقوق متساوية بين الألمان والفرنسيين كإدارة المشروع وتقديم الأدوات ولم يتم هذا الاتفاق لأسباب سياسية ، ولذلك لم تقبل فرنسا إدخال أسهم هذا المشروع في بورصة باريز. وفي شباط سنة ١٩٠٣ كلف الألمان حكومة لندن تأليف شركة جديدة تكون الأسهم فيها متساوية بين الألمان والإنكليز والفرنسيين أي ثلاثون بالمئة لكل منهن وعشرة بالمئة تبقى للروس أو للحكومات الصغيرة كالبلجيك وهولاندة وسويسرا ، فلم تنجح هذه الطريقة لحل المشكلة القائمة بينهم. وبقي الألمان مدة يساومون الدول الغربية بذلك يهددون الروس تارة بتكميل مخططهم الشمالي المنتهي بأنقرة ، وطورا يهددون الإنكليز والفرنسيين بإتمام مخططهم الجنوبي المنتهي في قونية. وفي ٥ آذار سنة ١٩٠٣ قررت الحكومة العثمانية إعطاء امتياز خط قونية ـ بغداد والبصرة لشركة خطوط الأناضول. وفي ٣٠ تموز من هذه السنة صدر المنشور السلطاني بذلك. واشترط فيه إتمام هذا الخط في ثمانية أعوام أي في سنة ١٩١١. فباشر الألمان عملهم وأتموا قسم قونية ـ بلغورلو وقد أمنتهم الحكومة على الضمانة الكيلو مترية لهذا القسم. وبعد هذا القسم تأتي جبال طوروس الشاهقة. وفي هذه الجبال واد عظيم كان الطريق الوحيد لجيوش الفاتحين من الأقدمين وهو خط الاتصال بين قليقية وصحراء الأناضول. وهذا الوادي لا يزيد عرضه على العشرة أمتار في كثير من النقاط ، والجبال ترتفع حفافيه أكثر من مئتي متر. وكان الإسكندر الكبير والرومان والصليبيون والعرب والسلجوقيون والمصريون يقطعون هذه الجبال ويجتازون هذا الوادي. وقد فكر الألمان

١٩٤

أن يمدوا خطوطهم على هذه الطريق بعد تعريضها بحيث تصلح للسير وبعد أن يبنوا عليها الجسور اللازمة والأنفاق الصغيرة. ولكنهم عدلوا عن هذه الفكرة لشدة الصعوبات في تنفيذها ولكثرة النفقات وخصوصا نفقات الترميم الدائمة التي تكون باهظة. وفوق هذا لا يكون الخط في مأمن من الأنواء الجوية فضلا عن أن بلدة بلغورلو ترتفع عن سطح البحر ١١٥٠ مترا والوادي المذكور يرتفع ١٤٥٠ مترا وتقوم مدينة أذنة على سفح الجبل من الجهة الثانية ولا ترتفع شيئا يذكر عن سطح البحر. فهذه التموجات بالارتفاعات تجعل الطريق المذكورة صعبة جدا ويتعذر مد الخطوط فيها. ولذلك عوّل الألمان على درس طريق ثانية. فبعد أن بحثوا في الجبال عن أقل الطرق كلفة وأسهلها عملا لم يروا سوى طريقة واحدة وهي عمل نفق حلزوني لا يقل طوله عن اثني عشر كيلو مترا ، وإنشاء نفق كهذا هو أيضا من أصعب الأعمال حتى في ديار الغرب القريبة من معامل الحديد ومناجم الفحم ووجود أحدث الآلات فكيف إذا يمكن القيام به في هذه الأرض القاحلة المتأخرة في ميدان المدنية. وبذلك تكون نفقات هذا القسم باهظة ، ولا تكفي الضمانة الكيلو مترية المقررة له وهي ٥٠٠ ، ١٥ فرنك عن كل كيلو متر لسد فوائد رأس المال ، ومع كل ما ذكرناه من الصعوبات لم يضعف هذا من عزيمة الشركة فثابرت على عملها وافتتحت كثيرا من الأنفاق في جبال طوروس وجبال أمانوس وقد كلفها ذلك مبالغ عظيمة. ولما كان عمل الأنفاق أمرا شاقا يحتاج لزمن طويل ، لم تر هذه الشركة بدا من أن تباشر بعملها أيضا من حلب ومن نقاط أخرى. فكان الراكب الآتي من الاستانة مثلا مضطرا للنزول من القطار في محطة بوزنتي والركوب على الدواب أو بالسيارات حتى بلدة إصلاحية وكانت اتصلت بمدينة حلب بخط بغداد الحديدي. وفي سنة ١٩٠٦ اشترت شركة بغداد خط مرسين ـ طرسوس ـ أذنه.

جاءت الحرب العامة فزادت الشركة همة ونشاطا في إتمام ما بقي من الخط بين بوزنتي وإصلاحية ، وذلك بضغط الحكومة على الشركة ، لأنها كانت مضطرة لنقل جنودها وذخائرها وعتادها في القطارات طلبا للسرعة واتصال المواصلات. وقد سبب تأخير حفر الأنفاق تعذّر نقل الفحم إلى

١٩٥

الخطوط الشامية التي كانت تستعيض عن الفحم بحطب الأشجار المثمرة فنتج عن ذلك أضرار عظيمة للشام. وتمكنت الشركة بما أبدته من النشاط والهمة في فتح الأنفاق من تسيير القطارات رأسا بين الاستانة وحلب وذلك في سنة ٩١٧ ـ ٩١٨. أما هذا الخط فهو من الخطوط العريضة وعرضه متر و ٤٤ سانتيمترا ، ونصف القطر الأصغر لمنعطفات الخط خمسمائة متر في حين لا يتجاوز هذا النصف القطر الثلاثمائة متر في بقية الخطوط العثمانية. ووزن القضب الحديدية أكثر من وزن قضب الخطوط الأخرى. لأن القصد من ذلك تزييد السرعة على هذا الخط وجعلها ٧٥ كيلو مترا في الساعة. وتبين من الإحصاءات التي أجراها المسيو ري مدير خط سلانيك ـ الاستانة أن المعدل المتوسط لسعر الكيلو متر في الخطوط الحديدية العثمانية ١١٠ ، ١٨٩ فرنكات يدخل في هذا المبلغ ثمن القاطرات والعجلات والشاحنات والإنشاء ونفقات التأسيس وفوائد رأس المال وكل ما يتعلق بالخطوط من النفقات. وهذا قليل إذا قيس بخط بغداد لأن نفقاته كانت أكثر من غيره فيقتضي والحالة هذه أن يقدر المعدل المتوسط لسعر الكيلو متر بمائتي ألف فرنك أي تسعة آلاف ليرة عثمانية ذهبا.

الخطوط الحديدية بين الشام ومصر :

كان وصل الديار الشامية بمصر موضوع اهتمام المفكرين في كل الأدوار ، لما بين القطرين من العلاقات المادية والمعنوية. وقد فكر في هذه القضية وزير الأشغال العامة في الدولة العثمانية وأشار إليها في تقريره لسنة ١٨٨٠ وإلى ضرورة تمديد خط حديدي من القدس إلى العريش طوله ١٥٠ كيلو مترا ، وقدر نفقات هذا المشروع بعشرين مليون فرنك. وفي سنة ١٨٩١ طلب انطون يوسف لطفي بك إلى الحكومة العثمانية منحه امتياز خط حديدي يبتدئ من العريش على حدود مصر ويمر بغزة ـ يافا ـ حيفا ـ عكا ـ صور ـ صيدا ـ بيروت ، وينتهي بطرابلس حيث يتصل بخطوط الشركة الفرنسية. وكان الإنكليز يحبذون هذا المشروع ويوافقون عليه. غير أنه لم يتم تنفيذه ولم تتصل بنا الأسباب التي حالت دون إخراجه إلى حيز العمل.

١٩٦

وفي غضون الحرب العامة وبعدها ، وعقب انسحاب الأتراك من الشام واحتلال السلطات الإنكليزية والفرنسية لها ، ظهرت فائدة هذا المشروع وبوشر بتنفيذه إذ ذاك حتى تم الاتصال بين حيفا والديار المصرية كما أنه سيتم عما قريب تمديد هذا الخط حتى مدينة طرابلس فيتصل بالخطوط الفرنسية.

الكهرباء وخطوط الترام في دمشق :

تم الاتفاق في ١٩ جمادى الآخرة سنة ١٣٠٧ (٧ شباط سنة ١٣٠٥ ش) بين وزير الأشغال العامة في الدولة العثمانية وبين يوسف أفندي مطران على إنشاء خطوط ترامواي في مدينة دمشق يتفرع من مركز المدينة ويتجه نحو باب مصر (بوابة الله) في منتهى محلة الميدان ، وإلى جامع محيي الدين بن عربي في محلة الصالحية ، وإلى الباب الشرقي ومسجد الأقصاب ، ومن الباب الشرقي إلى دومة ومن باب مصر إلى المزيريب ، على أن تكون الخطوط الخمسة الأولى تجر مركباتها بالخيل ، والخط الأخير أي خط المزيريب تجر مركباته بالبخار. وقد منح يوسف أفندي مطران بموجب هذا الاتفاق امتيازا مدته ستون سنة وتعهد بالمباشرة بالعمل خلال سنة اعتبارا من تصديق مقاولة امتيازه وأن يتم العمل خلال سنتين ونصف. وقد قبلت الحكومة بإعفاء جميع الآلات والأدوات والدواب ولوازم الإنشاء من رسوم الجمرك أثناء العمل. وأعفت الأرضين والأعمال مدة الاستثمار من الضرائب. وقد أذن لصاحب الامتياز بتأسيس شركة مساهمة عثمانية خلال سنة اعتبارا من تاريخ صدور الأمر العالي على أن تبقى جميع الخطوط والمعامل والأدوات الثابتة ملكا للدولة عند انقضاء مدة الامتياز. أما الآلات والأدوات المتحركة كالعجلات وما سواها فالحكومة تبتاعها بتخمين قيمها.

وقد اشترطت الحكومة على صاحب الامتياز تعمير الطرق التي تمر منها خطوط الترامواي بعرض تسعة أمتار ، وكذلك أرصفتها ومجاري المياه فيها. وحددت أجور الركوب بثلاثة أرباع القرش الفضي للدرجة الأولى ونصف القرش للثانية وعلى ما نعلم إن يوسف أفندي مطران لم يقم بتنفيذ مقاولته هذه مدة طويلة من الزمن.

١٩٧

وبعد ذلك تقدم الأمير محمد أرسلان إلى الحكومة العثمانية طالبا إعطاءه امتيازا بتوليد القوة الكهربائية واستثمارها وتم الاتفاق بينه وبين وزير الأشغال العامة بتاريخ ١٨ المحرم سنة ٣٢١ على تنوير مدينة دمشق وضواحيها بالكهرباء أي مسافة عشرة كيلو مترات عن المدينة لمدة تسع وتسعين سنة ، وتعهد صاحب الامتياز بتنظيم الخرائط للمشروع وتقديمها في ثمانية عشر شهرا اعتبارا من تاريخ صدور المنشور العالي ، وبالمباشرة بالأعمال في ستة وثلاثين شهرا بعد المصادقة على المقاولة ، وبإنهاء الأعمال في أربع سنوات اعتبارا من تاريخ تصديق الخرائط ، على أن تعفى مواد الإنشاء واللوازم والآلات والأدوات من رسوم المكس إلى انتهاء أعمال الإنشاء وابتداء الاستثمار ، وأن تعفى أيضا جميع البنايات والأدوات مدة الامتياز من الرسوم. ويتقاضى صاحب الامتياز أثمان التنوير بحسب التعرفة المقررة مدة الامتياز. وأما ما يتعلق بالتنوير العمومي للمدينة فيجب عليه أن يجري تنزيلا يتناقص كلما زادت كمية الكهرباء المصروفة ، ويحسم أيضا عشرة بالمائة لتنوير دوائر الحكومة والجوامع والكنائس والثكنات العسكرية والمستشفيات ، ويسمح لصاحب الامتياز بتأسيس شركة عثمانية خلال سنتين اعتبارا من تصديق المقاولة ، وذلك للقيام بتعهداته وتحتفظ الحكومة بحق شراء الامتياز في كل حين بعد انقضاء ثلاثين سنة ، وتقوم بتخمين قيمة جميع الآلات والأدوات والأبنية والأرضين والمؤسسات التي دخلت في ملك صاحب الامتياز وتشتريها منه. وعند انقضاء مدة الامتياز يجب على صاحبه تسليم عامة البنايات والمؤسسات والآلات والأدوات بلا عوض إلى الحكومة ، وإذا لم يباشر أعمال الإنشاء خلال المدة المعينة بدون أن تكون هناك أسباب قاهرة تمنعه عن مباشرة العمل ، أو إذا لم ينجز العمل بتمامه أو يعطل أعمال التنوير ، أو لم يقم بتعهداته في المقاولة يسقط حقه من الامتياز ، وتضع الدولة يدها ، وتقوم بما يلزم من التدابير الموقتة لتأمين الاستثمار. وكذلك تعين البلدية بالاتفاق مع صاحب الامتياز عدد المصابيح ومواقعها ، وينحصر بيع التنوير وبيع القوة الكهربائية بصاحب الامتياز مدة امتيازه ، سواء كان ذلك للأفراد أو لوسائط النقل العامة ، ويكون حق الترجيح لصاحب الامتياز بتأسيس التلفون إذا قبل بالشروط التي يقدمها طالبو

١٩٨

هذا المشروع ، وتحدد التعرفة العظمى بثمانية قروش عن كل (كيلواتور) أي ما يعادل بارة واحدة عن كل شمعة بالساعة ، ولا يمكن زيادة التعرفة المقررة بدون موافقة الحكومة.

وبعد ذلك توفق الأمير محمد أرسلان بأخذ امتياز آخر يقضي عليه بتقديم القوة الكهربائية اللازمة لتسيير حوافل (الترام) على الخطوط الممنوح امتيازها قديما إلى يوسف أفندي مطران ، وعلى الخطوط التي يمكن الدولة أن تمنح امتيازها لشخص آخر وذلك داخل منطقة تبعد حدودها عشرين كيلو مترا في كل جهة من وسط مدينة دمشق. ويقضي أيضا من جهة ثانية على صاحب امتياز الترامواي الخيلي ، وعلى جميع الشركات التي تؤسس لتسيير الحوافل الكهربائية داخل المنطقة المبينة آنفا ، بمراجعة الأمير محمد أرسلان لاستحصال القوة الكهربائية اللازمة لهم ، إذا أرادوا تسيير حوافلهم بالقوة الكهربائية. وقد حددت مدة هذا الاتفاق بتسع وتسعين سنة ، تبتدئ من تاريخ صدور المنشور العالي ، وأعطيت مدة سنتين لصاحب الامتياز لتأسيس شركة مساهمة عثمانية تقوم بتنفيذ الشروط. كما احتفظت الحكومة لنفسها بحق شراء الامتياز في كل آن ، وذلك بعد مضي ثلاثين سنة من مدته. وقضوا أنه إذا وقع اختلاف بين الحكومة وصاحب الامتياز يفصل فيه مجلس شورى الدولة. وقد صدر المنشور العالي بهذا الامتياز في ٢٥ المحرم سنة ١٣٢١ وعلى ذلك فقد تأسست بتاريخ ٢٣ شوال سنة ١٣٢٢ وفي ١٧ كانون الأول سنة ١٣٢٠ (ش) و ٥ كانون الأول سنة ١٩٠٤ شركة بلجيكية مساهمة باسم الشركة العثمانية السلطانية للتنوير والجر الكهربائي بدمشق ، وحصلت على جميع الامتيازات المتعلقة بهذا الشأن. ومن الشروط التي تعهدت بها هذه الشركة إنشاء خطوط إجبارية من دار الحكومة إلى باب مصر (بوابة الله) بمنتهى محلة الميدان ومن دار الحكومة إلى جامع محيي الدين بن عربي في محلة الصالحية ، وتنوير المدينة وفقا لشروط المقاولات المنعقدة والمصدقة في المناشير العالية بتاريخ ١٠ رجب سنة ١٣٠٧ و ٢٧ المحرم سنة ١٣٢١ ، وكان رأس مال هذه الشركة ستة ملايين فرنك قسمت على اثني عشر ألف سهم وجعلت قيمة كل سهم ٥٠٠ فرنك. وكانت تدير أعمال الشركة لجنة منتخبة من الهيأة

١٩٩

العامة. ومن جملة أعضاء اللجنة في السنوات الأولى عزت باشا العابد.

وباشرت الشركة العمل بإقامة الأبنية والمعامل ومد خطوط الترام وأسلاك الكهرباء خلال سنة ١٩٠٤. والخطوط التي مدتها الشركة ثلاثة يبتدئ الأول من ساحة الشهداء وينتهي في باب مصر في منتهى محلة الميدان وطوله ثلاثة كيلو مترات ونصف كيلو متر وهو خط مزدوج. أما الخط الثاني فيبتدئ أيضا من ساحة الشهداء وينتهي في حي المهاجرين بالصالحية وطوله ثلاثة كيلو مترات ومائتا متر وهو مزدوج حتى الجسر الأبيض والباقي منه حتى المهاجرين خط منفرد. وأما الثالث فيبتدئ من الجسر الأبيض فالصالحية وينتهي عند جامع محيي الدين بن عربي وطوله كيلو متر واحد وهو مزدوج. وعرض هذه الخطوط متر واحد وخمسة سانتيمترات ، كعرض الخطوط الحديدية الفرنسية الضيقة والخط الحجازي. وقد انتهت الشركة من مد الخطوط في ١٢ شباط سنة ١٩٠٧ وبدأت تسير حوافل الترام على الخطوط الممدودة وبدئ أيضا بتنوير المدينة منذ شهر نيسان سنة ١٩٠٧.

جاءت الحرب العامة وقطعت المواصلات بين الغرب والشرق ، وبقيت الشركة تحت سلطة الحكومة العثمانية ، فانقطع ورود البترول من الخارج ، وأصبح أكثر المدن في الدولة العثمانية مظلما إلا مدينة دمشق فقد ظلت تنار بمصابيح الكهرباء ، وذلك بفضل نهر بردى الذي لا يزال يفيض الخيرات على دمشق. ومن هذا تظهر فائدة استعمال القوى الطبيعية. وقد كانت السلطة العسكرية تستفيد من الكهرباء في محطة اللاسلكي وفي كثير من معاملها التي كانت تشتغل في إحضار العتاد والذخائر الحربية.

وفي ٢٩ أيار سنة ١٩٢٣ عقد اتفاق بين الشركة والمفوضية العليا حددت فيه أثمان القوة الكهربائية وأجور الركوب في حافلات الترام وأدخلت شروط جديدة لإصلاح الأسلاك الكهربائية ولتمديد خطوط جديدة ، واستمر العمل بهذا الاتفاق مدة سنتين. وفي ١٣ آب سنة ١٩٢٥ جرى تعديل مقاولة الامتياز القديمة تعديلا مهما وذلك بموجب البروتوكول الثاني عشر الملحق بمعاهدة لوزان وإليك خلاصة ما جاء في هذه المقاولة الجديدة.

يحق للبلدية أن تطلب من الشركة إنشاء خطوط جديدة وإذا لم يتم الاتفاق

٢٠٠