خطط الشام - ج ٥

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٥

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩٦

(الكارات) ولا الحوافل (الدبليجانس) مع ما هي عليه من الانتظام والسرعة فدعت الضرورة إلى إنشاء سكة حديد بين هاتين المدينتين ، ولكن مشروعا كهذا يصعب تنفيذه لأنه تفصل دمشق عن بيروت سلسلتان من الجبال الشاهقة لبنان الغربي ولبنان الشرقي وذلك بصورة متعامدة على الخط الواصل بين المدينتين. وترتفع هذه الجبال عن سطح البحر إلى ١٤٠٠ أو ١٥٠٠ متر على الأقل وبينهما سهل البقاع الذي يرتفع هو أيضا من ٨٠٠ إلى ١٠٠٠ متر عن سطح البحر فيظهر مما تقدم شدة الصعوبات الكثيرة التي تعترض سير الخط قبل وصوله إلى دمشق المرتفعة ٦٩٠ مترا عن سطح البحر إذ يقتضي على هذا الخط قطع هذه العوارض والسهول.

وفي حزيران سنة (١٨٩١) استحصل السيد حسن بيهم أمرا سلطانيا بامتياز خط حديدي بين دمشق وبيروت. وفي هذا الامتياز رخصة باستعمال بعض الأرضين مجانا ، وإعفاء جميع مواد البناء اللازمة من رسوم المكوس والضرائب بأنواعها. واشترط على صاحب الامتياز استعمال اللغة التركية وحدها ، واستخدام الرعية العثمانية ، وتنظر المحاكم العثمانية في كل اختلاف يحدث خلال العمل. والحكومة العثمانية تحتفظ لنفسها بحق شراء هذا المشروع بعد ثلاثين سنة ، ودفع ثمنه أقساطا على أن لا تكون قيمة القسط أقل من خمسين بالمائة من وسطي الواردات غير الصافية للخمس سنوات الأخيرة ، كما أوجبت على صاحب الامتياز أن يؤسس شركة مساهمة عثمانية خلال ستة أشهر ، وأن يتفق مع شركة طريق بيروت ـ دمشق للتخلي عن حقوقها وأن يدفع عربونا للحكومة مقابل هذا الامتياز. وفي العشر سنوات الأولى من مدة الامتياز يرجح صاحبه على سواه لإنشاء ترامواي على مسافة ثلاثة كيلو مترات من طرفي الخط الحديدي أو تأسيس إدارة لتسيير عجلات أو سيارات بين محطات الخط الحديدي والبلدان القريبة من هذا الخط.

وفي ١٨ نيسان سنة (١٧٩٠) حصل يوسف أفندي مطران على امتياز خط حديدي بين دمشق وحوران. ولما لم يقم بتقديم مصورات المشروع خلال المدة المعينة سقط حقه من ذلك الامتياز. غير أنه استعاده بعدئذ وأسس شركة (٥ ـ ١١)

١٦١

بلجيكية باسم شركة ترامواي دمشق وخط دمشق ـ حوران برأس مال قدره أربعة ملايين فرنك ذهبي تقسم على ثمانية آلاف سهم ، سعر كل سهم منها ٥٠٠ فرنك. ومن جهة أخرى فإن الشركة التي أسست للحصول على الامتياز الممنوح للسيد حسن بيهم سميت باسم الشركة المساهمة العثمانية لخط بيروت ـ دمشق الاقتصادي. وقد رأت هاتان الشركتان من الضرورة الماسة أن تندمجا معا ولا سيما لما أحرزت شركة إنكليزية امتياز خط حيفا ـ دمشق وذلك دفعا للخطر المحتمل حدوثه من هذا الامتياز الأخير. وقد طلبتا الموافقة على ذلك الاندماج من الحكومة العثمانية فقبلت بذلك بالمرسوم السلطاني المؤرخ في ٢٢ تشرين الثاني سنة (١٨٩١) الذي مدّد مدة امتياز هاتين الشركتين إلى ٩٩ سنة اعتبارا من ٣ حزيران سنة (١٨٩١). وعلى هذه الصورة جعلت مدة الشركتين واحدة. وسميت الشركة الجديدة باسم شركة الخطوط الحديدية العثمانية الاقتصادية لبيروت ـ دمشق ـ حوران في سورية. واعتبر تأسيسها نهائيا في صورة عثمانية اعتبارا من ٤ حزيران سنة (١٨٩٢). وقد باعت شركة طريق بيروت ـ دمشق جميع حقوقها المحررة بالمرسوم السلطاني المؤرخ ب ٢٠ تموز سنة (١٨٥٧) من هذه الشركة الجديدة. وذلك بتاريخ ٢ كانون الثاني سنة (١٨٩٢) وقد خصص لكل ذي سهم واحد في شركة الطريق سهمان في شركة الخطوط. واستحصلت شركة المرفإ على مقعدين في مجلس إدارة شركة الخطوط للمنافع المتبادلة بين الشركتين. وصدرت إرادة سلطانية في ٢٥ تموز سنة (١٨٩٢) بتمديد ٤٩ سنة مدة امتياز شركة المرفإ وذلك لجعل مدة الشركات الثلاث متساوية. ولم تمض مدة قليلة حتى تبدل اسم الشركة للمرة الثالثة (١٨٩٣) والسبب في ذلك أن يوسف أفندي مطران صاحب امتياز خط دمشق ـ حوران قد حصل على امتياز جديد خط دمشق ـ حمص ـ حماة ـ حلب ـ البيرة (بيره جك). وعرض على الشركة هذا الامتياز الذي كانت تحلم به فصدرت إرادة سلطانية في ٣٠ أيار (١٨٩٣) تمنح يوسف أفندي مطران إنشاء الخط المذكور واستثماره لمدة ٩٩ سنة. وعلى ذلك أصبح اسم الشركة الشركة المساهمة العثمانية لخطوط بيروت ـ دمشق ـ حوران ـ البيرة وجعلت مدتها ٩٩ سنة تنتهي في حزيران (١٩٩٢) وجرى افتتاح خط بيروت ـ دمشق

١٦٢

في ٣ آب (١٨٩٥).

هذا الخط هو من الخطوط الضيقة عرضه متر وخمسة سانتيمترات. وهو يقطع جبال لبنان بواسطة الخطوط المسننة على مسافة ٣٤ كيلو مترا ، وطوله ١٤٧ كيلو مترا أما ميله فيصل إلى سبعة بالمائة أحيانا ، ويحتوي على أربعة أنفاق لا يتجاوز أطولها ٣٥٠ مترا فاستعمال الخطوط المسننة قد أبطأ سير القطارات إبطاء غريبا ، مما جعل السرعة الوسطية لا تتجاوز ال ١٦ كيلومترا في الساعة ، ويقطع قطار الركاب المسافة بين بيروت ـ دمشق في تسع ساعات ، وتجتاز قطارات الشحن المسافة عينها في ١١ ساعة في حين أن الحوافل كانت تجتاز هذه المسافة أيضا ب ١٣ ساعة. وخط بيروت ـ دمشق يربح نفقات الاستثمار مع فائدة رأس المال.

وإليك جدولا يحتوي أسماء المحطات ومقدار المسافات مع ارتفاع هذه الخطوط عن سطح البحر.

أسماء المحطات

المسافات

كيلومتر

الارتفاعات

متر

بيروت

٠

٠

الحدث

٧

١٥٠

بعبدا

٩

٢٤٢

جمهور

١٢

٣٨٠

عاريا

١٧

٣٨٠

عاليه

٢١

٧٥٠

بحمدون

٢٧

٧٥٠

عين صوفر

٣١

١٢٩٥

«رأس جبل لبنان»

١٤٨٧

المريجات

٤٤

١١٥٠

الجديدة

٤٧

٩٥٠

المعلقة

٥٦

٩٥٠

١٦٣

أسماء المحطات

المسافات

كيلومتر

الارتفاعات

متر

«سهل البقاع»

٩٠٠

رياق

٦٦

٩٠٠

يحفوفا

٧٨

١٣٢٨

«رأس جبل لبنان الغربي»

١٤٠٥

سرغايا

٨٧

١٣٧٠

الزبداني

٩٨

١٢١٣

سوق وادي بردى

١١٥

١٢١٣

دير قانون

١١٩

١٢١٣

عين الفيجة

١٢٣

١٢١٣

الجديدة

١٣٠

١٢١٣

الهامة

١٣٤

٧٤٠

دمر

١٣٧

٧٢٥

دمشق ـ برامكة

١٤٤

٦٩٠

دمشق الميدان

١٤٧

٦٩٠

خط بيروت ـ المعاملتين :

يسير هذا الخط الحديدي على شاطئ البحر ويمر بطريقه على بعض قرى الساحل وأهمها بلدة حونية ، وكان القصد من إنشائه وصل مدينة طرابلس ببيروت ولكنه لم يتم منه سوى ١٩ كيلو مترا عند قرية المعاملتين وهو ملك لشركة الترامواي اللبناني.

خط دمشق ـ حوران :

جرى إنشاء خط دمشق ـ حوران باهتمام وسرعة زائدة وقد تم سنة (١٨٩٣) وبوشر باستثماره في أواسط سنة (١٨٩٤) ، ولم يصادف صعوبة عظيمة في إنشائه فال ١٠٣ كيلو مترات المتألف منها هذا الخط تمر في سهل خفيف التموج بين دمشق ـ المزيريب والميل الأعظم فيه لا يتجاوز الاثنين بالمئة ،

١٦٤

وهو من الخطوط الضيقة كخط بيروت ـ دمشق أي في عرض متر وخمسة سنتيمترات.

وكان لا يحصل إلا على نفقات الاستثمار فقط أي إنه كان لا يؤدي فوائد رؤوس الأموال. ومن العوامل التي دعت إلى عدم نجاحه بعد مرفإ بيروت عن منتهى الخط الحديدي مسافة ٢٤٠٠ متر ولكن شركة الخطوط الحديدية اتفقت مع شركة المرفإ وشركة الترامواي اللبناني على وصل الخطوط بأرصفة المرفإ (٤ شباط ١٨٩٧) وجرى بالفعل ذلك الوصل وبوشر باستثماره في سنة (١٩٠٣) ويبلغ طول هذا القسم ٢٢٠٠ متر وهو أيضا من الخطوط الضيقة وقد كلف عمله جهودا عظيمة ونفقات باهظة ـ أما سكة دمشق ـ المزيريب فقد اقتلعت خطوطها أثناء الحرب العامة لاستعمال قضبانها في إنشاء الخطوط الفلسطينية العسكرية ، ولذلك أصبح هذا الخط من الخطوط التاريخية لأنه لم يجر إرجاعه إلى ما كان عليه حتى إن الشركة الفرنسية صاحبته لا تفكر بإرجاعه على ما نظن ، بعد أن وضعت يدها على إدارة الخط الحجازي. ولا يعقل بقاء خطين متوازيين في منطقة واحدة.

خط دمشق ـ حلب :

كتب وزير الأشغال العامة في الدولة العثمانية في تقريره سنة (١٨٨٠) لوصل مدينة حلب بديار بكر بخط حديدي مارا بالبيرة وأورفة. وكتب المهندس برسيل أيضا في تخطيط الطريق الحديدي ما يقرب مما ارتآه الوزير العثماني على أن يكون الخط في طول ٤٢٠ وفي عرض ٤٤ ، ١ أي من الخطوط الاعتيادية. وفي تقرير الوزير العثماني أيضا خط حديدي يبتدئ من حلب إلى حماة فحمص فدمشق فحوران. وكان قدّر نفقات كل كيلو متر واحد إذ ذاك ب ١٣٠ ألف فرنك ، وطلبت امتياز هذا الخط شركة الباتينيول وأرسلت مهندسيها لوضع التصميمات اللازمة له. وفي سنة (١٨٩٢) طلبت شركة عثمانية مؤلفة من أعضاء مسلمين امتياز هذا الخط من وزارة الحربية وذلك لإنشاء خط عسكري بدون ضمانة كيلومترية. ولكن صدرت الإرادة السلطانية بتاريخ ٣١ أيار (١٨٩٣) بإعطاء الامتياز ليوسف أفندي مطران وكيل الشركة

١٦٥

الفرنسية لخط بيروت ـ دمشق ـ حوران. وقد ذكر بصراحة في أول مادة لهذه المقاولة أن القصد من عمل هذا الخط عسكري بحت. وعلى صاحب الامتياز أن يسير حسب ما قررته وزارة الحربية من التخطيط وأن ضابطا من أركان الحرب سيقوم بدرس هذا المشروع مع اللجنة المخصصة لدرسه. وجعلت مدة الامتياز ٩٩ سنة على أن يكون عرض الخط اعتياديا (٤٤ ، ١) وأن يكون مفردا ويضاف إليه خط ثان في المستقبل. وفي الامتياز شروط أخرى تذكر عادة في المقاولات من هذا النوع ، كإعفاء المحروقات وأدوات الخط جميعها من المكوس ووضع عربون في خزينة الدولة مقداره ٢٢٥ ألف فرنك ، وأنه بحق للدولة اشتراء هذا الخط ودفع ثمنه أقساطا على ألا تكون قيمة القسط أقل من خمسين بالمئة من متوسط الواردات غير الصافية للخمس سنوات الأخيرة وألا يكون المبلغ المدفوع أقل من سبعة آلاف فرنك عن كل كيلومتر واحد. وقد ذكر أيضا أربعة شروط أخرى ذات مكانة عظيمة نذكرها فيما يلي :

(١) أن الشركة قدّ حصلت على حق استثمار المعادن الواقعة في طرفي الخط على مسافة ٢٠ كيلو مترا من الجانبين.

(٢) حصلت الشركة على ضمانة كيلو مترية مضمونة بأعشار البلدان التي يمر منها هذا الخط. وهذا عكس جميع الخطوط الشامية. وألا تكون هذه الضمانة أقل من سبعة بالمئة من رأس المال الموضوع للتأسيس وألا تكون أكثر من ٥٠٠ ، ١٢ فرنك عن كل كيلو متر واحد.

وبما أن هذا الخط الذي أخذ امتيازه ولم يجر إنشاؤه يبلغ طوله أكثر من ٥٠٠ كيلو متر فأعظم ضمانة يقتضى على الحكومة العثمانية دفعها تتجاوز السبعة ملايين و ٢٥٠ ألف فرنك ولما كانت النقليات قليلة على بعض نقاط هذا الخط فستضطر الحكومة لدفع هذا المبلغ برمته تقريبا.

(٣) يحق للشركة أن تمدد خطوطها إلى الشمال لنقطة واقعة بين البيرة حتى تتمكن من وصلها بخط بغداد (المادة ٣).

(٤) ترجح الشركة على سواها للحصول على امتيازات جميع الخطوط التي تقرر الحكومة تمديدها بين الخط الأساسي والسواحل الشامية

١٦٦

بشروط متساوية (المادة ٣٥). وأخيرا وضع وزير المالية مبلغ مليون و ٨٠٠ ألف فرنك بين يدي اللجنة الدولية للديون العامة لتأمين الضمانة الكيلومترية. وكان ذلك في سنة (١٨٩٦). وفي ١٢ تشرين الأول (١٨٩٦) اتفقت الشركة والحكومة العثمانية على تأجيل إنشاء هذا الخط خمس سنوات. وتعهدت الحكومة بدفع تقسيط سنوي مقداره ٣٣ ألف ليرة عثمانية ذهبا أي ٧٥٠ ألف فرنك إلى الشركة مقابل العطل الذي يصيبها من هذا التأجيل.

ومع هذا لم يتم إنشاء هذا الخط إلا لمدينة حلب فقط وجرى عمله على قسمين : الأول رياق ـ حماة. والثاني حماة ـ حلب. وطول القسم الأول وهو خط رياق ـ حماة ١٨٩ كيلو مترا بوشر باستثماره سنة (١٩٠٢) وعرضه متر وأربعة وأربعون سانتيمترا ونصف ، وميله الأعظم اثنا عشر بالألف ، وفي رياق مخزن كبير للفحم ، ومعمل لإصلاح أدوات الخطوط والقاطرات ويعلو هذا الخط في بعلبك ١١٢٠ مترا عن سطح البحر. ثم يهبط إلى حماة المرتفعة ٣٠٧ أمتار. أما القسم الثاني وهو خط حماة ـ حلب فيبلغ طوله ١٤٣ كيلو مترا جرى استثماره سنة (١٩٠٦) وعرضه متر وأربعة وأربعون سانتيمترا ونصف ، وميله الأعظم اثنان في المئة. وقد كان القصد تمديده إلى البيرة كما تقدم ولكن إعطاء امتياز خط بغداد إلى الشركة الأناضولية حال دون تمديده إلى الشمال.

خط حمص ـ طرابلس :

طول هذا الخط ١٠٢ كيلو مترين ، وقد شرع باستثماره سنة (١٩١١) ، وعرضه متر وأربعة وأربعون سانتيمترا ونصف ، وميله الأعظم اثنان بالمئة ، واقتلعت قضبانه أثناء الحرب الكونية العامة واستعملت في تمديد خط بغداد ـ نصيبين ، وخربت كثير من المحطات وبعض الجسور خلال هذه الحرب ، وأعيد الخط إلى ما كان عليه قبلا سنة (١٩٢١) وبلغت إعادته واحدا وعشرين مليون فرنك. وقد بلغت نفقات استثمار خطوط شركة دمشق ـ حماة وتمديداتها عن سنة (١٩٢٦) ، ١٤٢ ، ٧٥٩ ، ٣٤ فرنكا والواردات ٣٢٥ ، ٧٥٩ ، ٥٧.

١٦٧

طريق الحج وإنشاء الخط الحجازي :

كان المسلمون يلاقون صعوبات ومشقات في ذهابهم وإيابهم إلى الأرض المقدسة لأداء فريضة الحج كل سنة ، فكان يستغرق سفر الحاج الشامي أربعين يوما من دمشق إلى المدينة المنورة وعشرة أيام من المدينة إلى مكة المكرمة. خمسون يوما يقضيها الحاج بين دمشق والمدينة فمكة وعشرون يوما على الأقل يمضيها في القيام بالمناسك وزيارة قبر النبي المعظمصلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقضي خمسين يوما في عودته. فهذه أربعة أشهر كاملة للحج الشامي. أما التركي والإيراني وغيرهما من أهالي الممالك الإسلامية النائية فقد كان يحول الحول على أحدهم دون الوصول إلى بغيته. وناهيك بما يعترض الحاج من مشاق الأسفار وأهوالها وما يضطر لصرفه من النفقات الباهظة في هذه السبيل. وكان كثير من الأغنياء يتقاعسون عن القيام بهذه الفريضة لعدم توفر الوسائط اللازمة لراحتهم. فمد خط حديدي إلى الديار المقدسة كان من الضرورة بمكان.

كان الحجاج المسلمون يأتون ألوفا من الأقطار الإسلامية إلى دمشق ويجتمعون فيها انتظارا لسفر موكب الحج ، وكان يتألف هذا الموكب في دمشق ويسير منها متجها نحو الحجاز تحت إدارة حاكم يلقب بأمير الحج. إن قافلة كهذه يصعب جدا سيرها بدون انتظام شديد وكانت تتألف من مشاة وفرسان وهجانة وحمّارة يقدر عددها بعشرة آلاف نسمة وعشرين ألف دابة على الأقل. ولذلك كانت طاعة أمير الحج واجبة على الحجاج ليسهل عليهم قطع هذه الطريق المملوءة بالأخطار والمصاعب دون أن يتركوا أحدا على الطريق أو أسيرا بين أيدي البدو. وكان هؤلاء يثورون على الحكومة من وقت إلى آخر ، وبواسطة الهدايا التي كان يرسلها السلطان لقبائل البدو والعطايا التي يمنّ بها على شيوخهم كانت أطراف دمشق آمنة سالمة ، وكان لا يخشى وقوع حوادث بالقرب منها ، ولذلك كانت القافلة غير آمنة إلا بجوار بلدة المزيريب في حوران.

وفي العادة أن يرحل أمير الحج من دمشق في الخامس من شهر شوال في

١٦٨

ركب مؤلف من جيش صغير مجهز بالأسلحة الكاملة والمدافع الصغيرة ويتبعه الحجاج زرافات ووحدانا. والدمشقيون يقومون بتشييعهم إلى قبر أحمد باشا في الميدان أي إلى جامع العسالي، وتجري المراسم العسكرية والاحتفالات تكريما لهذا الموكب العظيم ، وكانت الحكومة في دمشق تهتم بتشييعه ، ويسير الموظفون وأصحاب الرتب العالية بألبستهم الرسمية أمام المحمل الشريف تحيط بهم صفوف الجند وهجانة البدو حتى نهاية طريق الميدان ، وكانت الموسيقى تصدح أثناء الموكب والمدافع تطلق حين خروجه وعند وصوله إلى القدم والكل فرحون مسرورون من هذا اليوم العظيم.

وبعد ذلك يسير الركب من القدم إلى الكسوة وهناك يجد ماء صالحا للشرب ثم يسير إلى المزيريب فيبقى فيها أربعة أو خمسة أيام وعندئذ يتألف الركب عسكريا وعلى رأسه أمير الحج فيسير قسم من الجيش في المقدمة والقسم الآخر يقوم بحفظ جناحي الركب. وفي كل صباح ومساء تطلق ثلاث طلقات نارية إعلاما بوقت المسير والوقوف وكثيرا ما كان يبلغ طول هذا الركب ثلاثة أو أربعة كيلو مترات. وأما الدرب الذي كان يسير عليه فهو عبارة عن عدة طرق صغيرة حفرتها أيدي الإبل والدواب طول السنين ولا يوجد طريق مرسوم على الطريقة الفنية الحديثة المعروفة اليوم. وكانت المسافة بين دمشق ومكة المكرمة تقدر بأربعمائة وتسعين ساعة وبأربعين مرحلة منها ٩٠ ساعة من المزيريب إلى معان.

ويجتاز الركب من المزيريب إلى المفرق وعين الزرقاء والبلقاء والقطرانة وهنا تشتد صعوبة الدرب ويدب الرعب والخوف في قلوب الحجاج ذلك لأنه كانت المضايق غاصة بعصابات من اللصوص ، والماء الشروب قليل. وكثيرا ما كانت السيول تجرف الركب بأجمعه فلا ينجو منه إلا الحجاج فقط ، فإذا بلغ الركب مدينة معان يستريح فيها قليلا ويتابع سيره فيقطع العقبات المؤدية إلى النفود ، ويبعد هذا المضيق الصعب ثلاث عشرة ساعة عن معان ، وعندئذ يترجل الحجاج عن دوابهم ويسيرون مشاة أمام أمير الحج الذي يصعد على رأس جبل صغير ويجلس مشاهدا الجموع تمر أمامه ، وبعد ذلك يسير لا يشاهد في طريقه سوى رمال سهل النفود القاحل حتى مدائن صالح.

١٦٩

وكثيرا ما يشاهد الحجاج سراب هذه الرمال الجميلة عن بعد. ففي هذه الطريق الصعبة وبين هذه الرمال المحرقة يسرع الركب تخلصا من النصب والتعب ، فيوزع أمير الحج على الحجاج المياه للشرب مجانا ويستأجر مئات من الجمال لتقوم بهذا العمل الخيري ، وكل ذلك لم يكن يجدي نفعا. ولطالما حدثت اختلافات بين الأمير والبدو فتقع المصيبة على رأس الحجاج والركب معا على ما جرى ذلك كثيرا فيملأ الرعب قلوب الحجاج طول الطريق يتحدثون بما وقع في السنين الماضية من الحوادث ويعلم بعضهم بعضا بمحالها ومواقعها ويذكرون ما كان يتبعها من أعمال السلب والنهب.

إن مدائن صالح أخف صعوبة من الأرجاء التي قبلها وأقل خطرا منها. وفيها كثير من الآثار القديمة النبطية. ومنها يسير الركب إلى المدينة المنورة وبعدها إلى مكة المكرمة وأكثر الأراضي الحجازية مؤلفة من جبال وأودية وقليل من الواحات فطريق الركب طريق صعبة ، وفيها آبار متقطعة وليست بجيدة. وهناك أيضا درب آخر يقال له الدرب السلطاني وهو الدرب الأقصر طولا والأشد خطرا. فالحجاج يعرضون عنه حينما تبلغهم ثورة البدو على الحكومة. هكذا كانت حالة الطريق المؤدية إلى الأرض المقدسة وهذه هي المشقات التي كان يلاقيها الحجاج في طريقهم.

إنشاء الخط الحجازي :

وهذا ما دعا الحكومة العثمانية إلى اتخاذ التدابير اللازمة لإزالة هذه الصعوبات والحيلولة دون الأسباب التي كانت تقلق راحتها في الداخل وتظهرها بمظهر العاجز في الخارج أمام دول الغرب. وكان السلطان عبد الحميد الثاني حريصا على توسيع نفوذه المعنوي في جميع الممالك الإسلامية خدمة للإسلام وتوصلا لغاياته السياسية لذلك فقد قرر (سنة ١٩٠٠) مد خط حديدي يصل الشام بالحجاز ويسهل السفر على الحجاج ويأتي الدولة والولايات بالفوائد المادية والمعنوية. على أن هذه الفكرة لم تكن بنت وقتها وليست وليدة رأس عبد الحميد فقد سبقه إليها الدكتور زامبل الأميركي الألماني الأصل فاقترح سنة (١٨٦٤) على الحكومة العثمانية مد خط حديدي بين دمشق وساحل البحر الأحمر.

١٧٠

وفي سنة (١٨٨٠) صحت عزيمة وزير الأشغال العامة في الأستانة على تمديد هذا الخط إلى الأراضي المقدسة. ولكن أكثر المهندسين والجغرافيين كانوا يقولون بتعذر تنفيذ هذا المشروع. لأن الأصقاع التي يجتازها الخط ينزلها قبائل من البدو الرحالة الذين اعتادوا السلب والنهب. وسهولة المواصلات بالوسائط البحرية ورخصها أكثر من البر. وقالوا إن الربح الذي يحصل من نقل الحجاج أثناء الموسم لا يكفي للقيام بجميع النفقات السنوية لهذا الخط العظيم. ولكن كانت هذه الصعوبة في نظر السلطان عبد الحميد أخف مما يتصور. فإدارة الحج ونفقات السفر كانت تستنزف من موازنة الحكومة مبلغ ١٥٠ ألف ليرة عثمانية على الأقل. والهدايا التي ترسل إلى البدو تقوّم ب ٦٠ ألف ليرة عثمانية. وكان السلطان عبد الحميد يأمل من جهة أخرى وصول مبالغ عظيمة من الأمم الإسلامية إعانة لهذا المشروع الإسلامي ولم تبدأ الحكومة بالعمل إلا بعد أن أعلنت عزمها على ذلك في جميع الأقطار الإسلامية مما هو داخل تحت سيطرتها أو خارج عنها. وأبانوا ما ينتج عن ذلك من التسهيل لرواد الحج واستمطرت أكف المسلمين تعضيدا لهذا المشروع الديني المحض. فتحقق أمل السلطان وبدأت الاكتتابات ترد من البلدان الإسلامية وقد افتتح هو نفسه هذه الاكتتابات ب ٣٢٠ ألف ليرة عثمانية ، وتابعه في ذلك الملوك والأمراء المسلمون. فشاه العجم أرسل ٥٠ ألف ليرة عثمانية وخديوي مصر تعهد بإرسال كمية عظيمة من مواد البناء والإنشاء. وألفت الجمعيات في الممالك الإسلامية الخارجة عن حدود الدولة العثمانية لجمع الأموال ، فألف الهنود ١٦٦ جمعية وأهالي لكنو وحدهم أرسلوا ٣٢ ألف ليرة عثمانية وكذلك أهالي رانكون ومدراس أرسلوا ٧٣ ألف ليرة ، وأرسل الميرزا علي أحد أغنياء كلكوتا خمسة آلاف ليرة وأرسل مدير جريدة الوطن في لاهور ٥٠٠٠ ليرة وذلك من الاكتتاب الذي فتحه في جريدته واشترك فيه الهنود والترانسفاليون والصينيون. ولم تنقطع الإعانات مدة إنشاء الخط مما دل على سريان روح التضامن في الشعوب الإسلامية.

والأغرب من هذا أن أحد النمسويين دفع ٢١٠٠ ليرة عثمانية ليحصل على لقب (باشا). وقد جعلت شارات وأوسمة لمن يدفع الإعانات. فالدرجة

١٧١

الثالثة لمن يدفع من ال ٥ ليرات إلى ٥٠ ليرة. والدرجة الثانية لمن يدفع من ال ٥٠ إلى ١٠٠ ليرة. والدرجة الأولى لمن يدفع أكثر من ١٠٠ ليرة ذهبية. وهذه الطريقة كانت نافعة لو لا أن هذه الرتب والأوسمة كانت تباع في الأستانة بأقل مما تتقاضاه دوائر الخط الحجازي. ثم وضعت بعض الضرائب لإعانة الخط ونزل الموظفون عن راتب شهر كامل في بادئ الأمر ثم أكره الموظفون على دفع عشر وأتبهم الشهري في السنة مرة واحدة. وأحدثت طوابع الخط الحجازي وبعض الضرائب الجمركية كما جمعت إدارة الخط جلود الأضاحي من الناس تبيعها وترتفق بثمنها. مما دعا قنصل إنكلترا إلى أن يصرح سنة (١٩٠٤) قائلا : يظهر لي أن احتمال إكمال الخط الحجازي هو أعظم مما كنت أتصور قبل سنة أو سنتين. والحقيقة أن أكثر الناس كانوا إذ ذاك وخصوصا المطلعين على هذا الأمر يظنون أن عملا كهذا هو أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة. وإذا لم يتم هذا المشروع إلى مكة المكرمة ووقف عند المدينة المنورة فذلك لم يكن منبعثا من قلة المال لأن المال أصبح وافرا بعد ما كان يخشى من قلته ويظهر ذلك من الاطلاع على موارد هذا المشروع. فالإخصائيون لا يظنون الآن أن النفقات العامة تتجاوز ١٢٥ مليون فرنك أي خمسة ملايين ونصف ليرة عثمانية. في حين أنه كان يظهر في بادئ الأمر أن هذا المبلغ هو الحد الأصغر لهذا العمل. فقد جمع من الإعانات في الممالك الإسلامية ٧٥٠ ألف ليرة عثمانية أي ١٧ مليون فرنك. والضرائب التي وضعت تضمن موردا قدره ٢٥٠ ألف ليرة سنويا. فهذا المبلغ يسد نفقات الإنشاء. والإعانات تساعد على شراء المواد اللازمة اه.

وفي الواقع أنه لم يكن أحد يتصور أن النتيجة ستكون قريبة التناول بهذه الصورة وأن العمل سيتم على هذه السرعة وهذا النظام لطول المسافة ، وفقدان المياه ، ووعورة المسالك ، وفقر الدولة وضعفها الإداري ، ولكن المشيئة الإلهية قد ذللت كل هذه الصعاب ووفقت في إنجازه ليكون نقطة اتصال بين الأقطار وخير واسطة لتوفير راحة الحجاج وتسهيل مسالك الحج والزيارة.

كان استعمال الإعانات منظما تنظيما حسنا ، وقد وزعت الأجور على العمال والرواتب على الموظفين بصورة منظمة ، ودفع ثمن الأدوات ومواد

١٧٢

الإنشاء في الحال ، مما دعا الناس أن يؤمنوا بإنجاز هذا المشروع. وكان سير العمل سريعا يمدون مائة كيلو متر في العام. وكان أحد المقربين من السلطان عبد الحميد أحمد عزت العابد يدير مع لجنة الحجاز الأموال على طريقة غير مرضية فتسربت الأموال إلى جيوب الخونة ، وأدى سوء الاستعمال في مواد الإنشاء لإضاعة كثير منها. وكان هؤلاء المقربون يحمون بعض رجالهم الذين يتقدمون في صورة ملتزمين وينقدونهم الأموال الزائدة ويعينون بعضهم في وظائف الإدارة.

شرع بإنشاء الخط الحجازي في شهر أيلول سنة (١٩٠٠) مبتدئا به من المزيريب ، وبين دمشق وهذه القرية سكة حديد إفرنسية يمكن نقل الحجاج من الشام إلى المزيريب عليها لا سيما وأن امتياز هذه السكة لا يجيز إنشاء سكة أخرى تحاذيها ، وما كادت الحكومة تمضي في عملها حتى بدأت المنافسة تشتد بين الإدارتين فشعرت الحكومة العثمانية حينئذ بشدة الحاجة إلى اتصال الخط الحجازي بمدينة دمشق. وقررت إنشاء خط درعا ـ دمشق وبوشر بالعمل من دمشق والمزيريب دفعة واحدة. وفي سنة (١٨٩٣) نالت الشركة الفرنسية امتيازها ولم يكن السلطان عبد الحميد يفكر في خطه المقدس ، ولذلك كان سمح لها بإنشاء سكة حديد بين دمشق والمزيريب وبوشر باستثمارها منذ سنة (١٨٩٤) فإنشاء سكة حديدية موازية لخطها من دمشق إلى درعا يجعل المنافسة على أشدها ولذلك احتجت الشركة على هذا العمل فتمكنت من نيل امتياز خط حلب مع الضمانة الكيلو مترية وذلك في شباط سنة (١٩٠٥).

وقد افتتح القسم الأول من الخط الحجازي أي دمشق ـ درعا في أيلول ١٩٠٣ وبعد ذلك بشهر واحد افتتح قسم درعا ـ عمان وتيسر لإدارة السكة الحجازية في أقل من ثلاث سنين مد ٢٢٣ كيلو مترا.

يتجه الخط الحديدي الحجازي بعد خروجه من واحة دمشق نحو الجنوب الشرقي في استقامة سهل حوران فيمر بالمسمية أهم قرى اللجاة ، ثم يقطع هذا الخط سهل حوران الخصيب برمته وهو يمتد إلى سفح جبل الدروز ويصل إلى محطة درعا الواقعة في وسط السهل وهي على ١٢٣ كيلو مترا عن دمشق ، ومن درعا يتفرع فرع حيفا متجها صوب الغرب فيصل البحر ، وأما الخط

١٧٣

الأساسي فيبقى مستمرا في طريقه نحو الجنوب.

من أهم الفوائد التي جنيت من امتداد هذا الخط أن كثيرا من البدو سكنوا تلك الربوع بالقرب من مخافر الجنود العثمانية وامتلك عدد عظيم من مهاجري الشركس الذين كانوا تائهين في شمالي الشام بعض الأراضي هناك وأسسوا القرى والمزارع فيها. وكل هذا العمل لم يكلف أموالا باهظة بالنسبة لغيره من المشاريع. وكانت القاطرات في نهاية سنة (١٩٠٣) تسير إلى مسافة ٣٠٠ كيلو متر من دمشق وبلغت أكلاف الكيلو متر الوسطي حينئذ ٢٠٠٠ ليرة عثمانية ذهبية. ولما بدأت المنافسة بين السكة الحجازية والسكة الفرنسية شعر السلطان عبد الحميد ومهندسوه بشدة الحاجة إلى اتصال الخط الحجازي بمرفإ بحري يستمد منه لوازمه وأدواته ويكون منفذا للأقطار الواسعة التي سيمتد فيها فقرر إنشاء خط حديدي جديد بين حيفا ودرعا.

والناظر إلى مصور القطر يرى لأول نظرة مكانة خليج عكا فسلسلة الجبال الممتدة من مصب نهر العاصي إلى ترعة السويس وهي بمثابة سد عظيم بين الساحل والداخل وليس فيها سوى بعض منحدرات كسهل طرابلس وبيروت ومصب الليطاني أي القاسمية وخليج عكا. وأعظم هذه المنحدرات وأهمها الانخفاض الواقع قرب عكا. إن سلسلتي لبنان الغربي والشرقي المتوازيتين تحولان لارتفاعهما دون المواصلات مع الداخل. وبالطريق الفنية اتصلت دمشق ببيروت وهكذا الشأن في الانخفاض في جوار بحيرة لوط فإنه يعوق المواصلات مع الداخل أيضا. فلم يبق إذا سوى سهل عكا الذي يسهل المرور منه إلى الداخل. ولذلك كانت عكا وحيفا في العصور القديمة والقرون الوسطى حتى القرن التاسع عشر مرفأين طبيعيين لحوران ودمشق. وقد رأى كثير ممن يعنيهم الأمر وصل دمشق وحيفا بخط حديدي لسهولة هذا الطريق كما بيناه آنفا. وكان الإنكليز أشد الناس رغبة بنيل امتياز هذا الخط وخصوصا بعد احتلالهم جزيرة قبرس. وقد تمكن أبناء سرسق من استصدار منشور سلطاني يمنحهم حق إنشاء خط حديدي بين عكا ـ دمشق. ولكنهم لم ينجحوا في عملهم لتعذر معاونة أرباب الأموال في إنكلترا. فخسروا العربون الذي دفعوه إلى خزينة الدولة وقدره خمسون ألف فرنك.

١٧٤

وفي سنة (١٨٨٩) طلب رأس المهندسين في لبنان هذا الامتياز مجددا مع تمديد الخطوط إلى حوران فلم يفلح أيضا. وقد انقضت المدة ولم يعمل عمل بهذا الشأن إلى أن نال الامتياز المهندس اللبناني والمستر بيللنغ الإنكليزي وأسسا شركة الخطوط الحديدية العثمانية في الشام برأس مال قدره ٦٠٠ ألف ليرة إنكليزية. وبوشر بالعمل سنة (١٨٩٢) ثم وقفت الأعمال بعد الكيلو متر التاسع لأن أفكار أرباب الأموال من الإنكليز كانت متجهة نحو معادن الذهب. فجاءت حرب الترنسفال وانصرفت أفكار الإنكليز إليها وأدى ذلك إلى ترك العمل.

ولما قرر السلطان عبد الحميد وصل الخط الحجازي بمرفإ حيفا رأى من الضرورة استرجاع هذا الامتياز وذلك في تشرين الثاني سنة (١٩٠٢). وتمكن مهندسو عبد الحميد من عمل خط حيفا والخط الحجازي بعد استلامهم الأعمال التي تركها الإنكليز. بيد أنهم لم يتخذوا الخط الإنكليزي أساسا لهم بل تركوه وشأنه وجعلوا خطهم الجديد خطا ضيقا كالخط الحجازي وتمكنوا من الوصول إلى درعا نقطة اتصال هذين الخطين بأقل من ثلاث سنوات بالرغم مما اعترضهم من الصعوبات العظيمة أثناء عملهم. وقد كلف هذا الخط من سبعة إلى ثمانية أضعاف المعدل المتوسط لنفقات الخط الحجازي. وحقا إن هذا القسم كان أهم قسم من الخط الحجازي وأحسنه من الوجهة الفنية إذ كانت تتخلله صعوبات فنية لا توجد في سواه.

ويبتدئ هذا الخط من حيفا على ساحل البحر فيرتفع ٨٠ مترا في مرج ابن عامر بعد سير ٤٠ كيلو مترا ، ثم يهبط من أعلى هذا السهل إلى أسفل وادي الشريعة ليمر فوق جسر ينخفض ٢٤٦ مترا عن سطح البحر. وذلك بعد قطع مسافة ٤٥ كيلو مترا ثم يعود فيصعد من جديد إلى ارتفاع ٣٧٦ مترا وذلك بعد مسافة ٤٠ كيلو مترا ، ثم يصل إلى سهل درعا المرتفع ٥٣٠ مترا عن سطح البحر. فكل هذه التموجات من الصعود والهبوط قد اقتضى قطعها مسافة ١٦٨ كيلو مترا. فالقضية صعبة بنفسها وخصوصا ان وأدي اليرموك الواقع في الجهة الشرقية من نهر الشريعة كان شديد الخطر وليس من ممر سواه في تلك البقاع. وبذلك تمكن السلطان عبد الحميد ومهندسوه

١٧٥

من الخلاص من شركة بيروت ـ دمشق ـ حوران وأصبح لهم مرفأ خاص وهو حيفا التي أصبحت تبعد عن درعا ٣٢٣ كيلو مترا بالقطار. وبين درعا وحيفا ستة جسور حديدية اثنان منها بطول ٥٠ مترا والأربعة الأخرى بطول ١١٠ أمتار. ويوجد سبعة أنفاق يختلف طولها بين ال ٤٠ وال ١٧٠ مترا. والخط يقطع نهر الشريعة على جسر من الحجر جميل المنظر والصنع طوله ٦٠ مترا وهو ذو خمس قناطر.

وفي الوقت الذي نجز فيه خط حيفا ـ درعا تم القسم الثالث من الخط الحجازي الواقع بين عمان ـ معان. ففي أول أيلول سنة (١٩٠٤) المصادف للعيد الثامن والعشرين من الجلوس السلطاني ذهب وفد برئاسة طرخان باشا وزير الخارجية العثمانية للاحتفال بافتتاح الخط الحجازي بين دمشق ومعان وطول هذا القسم ٤٥٩ كيلو مترا. وكان هذا الوفد مؤلفا من عظماء رجال الدولة العثمانية.

يسير الخط الأساسي بعد محطة درعا نحو الجنوب الشرقي ثم نحو الجنوب مباشرة فيمر من سهل قاحل تنزل فيه عشيرة بني صخر المؤلفة من ٢٠٠٠ بيت و ٢٠ ألف نسمة وبعد أن يقطع «الحماد» أي السهل المنبسط يمر بالقرب من أطلال الحصون الرومانية القديمة التي يسميها العرب اليوم قلعة المفرق وقلعة السمرة.

وتظل بقايا مدينة جرش القديمة وآثارها وسورها في غربي الخط الحجازي. وهذه الآثار أعظم ما في تلك البقاع. وفي القرب من قلعة الزرقاء الرومانية يقطع الخط وادي نهر الزرقاء على جسر مرتفع جميل الصنع. ثم يصعد الخط في وادي نهر الزرقاء ويصل إلى عمان بالقرب من نبع هذا النهر وذلك بارتفاع ٧٣٧ مترا عن سطح البحر وعلى ٢٢٣ كيلو مترا عن دمشق.

وبعد الخروج من عمان يتجه الخط نحو الجنوب صاعدا سهل الصحراء المائل فيمر من نفق طوله ١٤٠ مترا ويترك بجانبه كثيرا من الآثار القديمة منها المعبد اليوناني في قصر السهل. والمدينة القديمة في لبّن وكذلك الخزان الروماني والقصر العربي في الجيزة أو قلعة الزيزاء. وقبل أن يصل الخط إلى قلعة ضبعة يميل نحو الشرق ويلتف بأطراف وادي الموجب وبعد ذلك يتجه

١٧٦

أيضا نحو الجنوب فيمر من خان الزبيب وقلعة القطرانة وقلعة الحسا وجروف الدراويش وفيها قصر روماني بديع. ويجتاز بقلعة عنزه وتقطن فيها أحيانا قبيلة عنزة المؤلفة من ٧٠٠٠ نسمة. وبعد قلعة الحسا تبدأ الأرضون التي تنزل فيها قبيلة الحويطات. ثم يصل الخط إلى معان المرتفعة ١٠٧٤ مترا عن سطح البحر. وهذه المدينة هي النقطة الوسطى للخط الحجازي ، لأنها تبعد عن طرفيه على أبعاد متساوية والمحطة تبعد كيلو مترين عن مدينة معان ، وفي هذه المحطة أبنية عديدة للسكة الحجازية. وبفضل وصول الخط الحديدي إلى تلك البقاع استتب الأمن فيها وبدأت الحياة الزراعية تظهر شيئا فشيئا. وقد تحضر قسم من البدو وأصبحت تلك الديار في قبضة الحكومة العثمانية بعد أن كانت تابعة لها بالاسم فقط بحيث أن أحد شيوخ البدو المدعو محمد جهل كتب إلى بيير لوتي الكاتب الفرنسي المشهور سنة ١٨٩٤ «بسم الله الذي هو الكل ولا باسم سلطان القسطنطينية الذي ليس بشيء».

وكان قصد القائمين بهذا المشروع الجليل إنشاء فرع للخط بين مدينة معان والعقبة لتقريب المواصلات بين البحر الأحمر والديار المصرية من جهة وبين الخط الحجازي من جهة أخرى ، ولكنهم لم يرغبوا يومئذ في صرف جهودهم في غير الخط الأساسي لأن غايتهم كانت الوصول إلى الأرض المقدسة في أقرب وقت.

يتجه الخط بعد معان نحو الجنوب الشرقي فتلتف حوله الصحراء من جديد ويبتعد عن البحر الأحمر ثم يصعد العقبة الحجازية أو الشامية المرتفعة ١١٥٠ مترا عن سطح البحر. وهذه النقطة هي المفرق الطبيعي للمياه التي تسيل إلى البحر المتوسط والبحر الأحمر. ثم يهبط الخط نحو ملعب بطن الغول المحفور في الصخور الرملية ذات الألوان العديدة المختلفة. وهذه البقعة من أجمل البقاع الطبيعية. وقد يضع السكان هذه الرمال الملونة في القوارير ويبيعونها من الحجاج تذكارا لهذه البقاع. وبعد ذلك يصل الخط إلى محطة المدورة فتنتهي حدود قبيلة الحويطات ، وتبتدئ منازل قبيلة بني عطية. وكان وصول هذا الخط إلى هذه البلدة سنة ١٩٠٦ وهي تبعد ١١٤ كيلو مترا عن معان. وكان (٥ ـ ١٢)

١٧٧

قسم من الخط أيضا على وشك الإنجاز بين المدورة وتبوك وهو على مسافة ١١٧ كيلو. مترا وفي ١ أيلول سنة ١٩٠٧ تم القسم الرابع من الخط الحجازي وهو القسم الواقع بين معان وتبوك الذي يبلغ طوله ٣٣١ كيلو مترا فبوشر باستثماره.

وقد جرى في التاريخ نفسه الاحتفال بافتتاح قسم جديد بين تبوك ومدائن صالح التي تبعد ٩٥٥ كيلو مترا عن دمشق. وفي هذا القسم جسر حجري ذو عشرين قنطرة يبلغ طوله ١٤٣ مترا. وكانت الأرضون فيه قاحلة ولكنها سهلة وأقل عوارض طبيعية من غيرها وكان يكفي أن توضع القضب الحديدية على الأرض حتى يصلح السير عليها وذلك على مسافة كيلو مترات كثيرة. وبعد مدائن صالح يصل الخط إلى العلا التي تبعد ٩٨٠ كيلو مترا عن دمشق. والعلا مدينة صغيرة يقطنها قوم من الزراع يقدر عدده من ثلاثة آلاف إلى أربعة وتقع في واحة جميلة. ويسير الخط بينها وبين المدينة المنورة على طريق القوافل لأن المياه كثيرة في هذه الطريق وبمرور الخط في سهل وادي العلا وهو يرتفع ٧٩٠ مترا عن سطح البحر وذلك بين الزمرد والبئر الجديدة ثم يهبط إلى بلدة الهدية المرتفعة ٣٤٥ مترا عن سطح البحر وهي التي كان يؤمها سابقا حجاج إفريقية من مرفإ الوجه على شاطئ البحر الأحمر. وبعد الهدية يصعد الخط إلى إصطبل عنتر وبئر عثمان ومنهما إلى المدينة المنورة التي ترتفع ٧٠٠ متر عن سطح البحر وتبعد ١٣٢٠ كيلو مترا عن دمشق. وقد وصل أول قطار إلى المدينة المنورة في ٢٢ آب سنة ١٩٠٨ وجرى الاحتفال في أول أيلول المصادف ليوم عيد الجلوس السلطاني. وجرى فيه أيضا افتتاح المحطة التي شيدت خارج أبواب المدينة وقد أنيرت المحطة بمصابيح الكهرباء. وكان سرور أهاليها عظيما جدا حتى حملوا على أكتافهم المشير كاظم باشا رئيس هذه الحفلة مع رئيس المهندسين مختار بك. وقد طلب أهالي المدينة إعادة هذه الأفراح والأعياد بمناسبة وضع أول حجر لبناء جامع الحميدية قرب هذه المحطة. وعلى ذلك فقد أعيد الاحتفال بحضور ثلاثين ألف شخص. ودعي لهذه الحفلة ممثلو الصحف الأجنبية وكثير من الأجانب مما لم يسبق له نظير في الاحتفالات الماضية وقد جرى هذا بمناسبة الانقلاب السياسي في الاستانة.

١٧٨

ولما كان القصد من إنشاء الخط الحجازي خدمة الحجاج وتسهيل المواصلات بين الحجاز وبقية العمالات العثمانية اقتضى الوصول به إلى عاصمة الإسلام مكة المكرمة ومد فروع منه إلى جدة وبعض الولايات العثمانية الأخرى تتميما للفائدة ، وكانت الحكومة مصممة على ذلك. وبإعلان الحكم الدستوري وخلع السلطان عبد الحميد الثاني موجد هذه الفكرة ومؤسس هذا العمل الكبير ، توقف ورود الإعانات من الأقطار الإسلامية فحالت هذه الأسباب دون الوصول إلى هذه الأمنية وأخرت إتمام هذا المشروع العظيم.

وحاولت بعد ذلك حكومة الاتحاديين أن تواصل العمل فلم توفق فأعادت الكرة قبل إعلان الحرب العامة بيسير وأرسلت من القضب الحديدية والآلات والأدوات اللازمة الشيء الكثير ، وكادت إدارة الخط تبدأ بالعمل فأعلنت الحرب العامة وصرفت الوجوه عن جميع أعمال الإصلاح ومنها هذا العمل الجليل. وكل هذا لا يحول دون البحث عن الطريق المناسب لمد الخط الحديدي بين المدينة المنورة ومكة المكرمة ، عسى أن تنهض البلاد العربية من كبوتها فيقوم أبناؤها بإتمام هذا المشروع الحيوي.

الطرق الممتدة بين المدينة المنورة ومكة المكرمة التي يصلح السير عليها ثلاث أو اثنتان إذا اعتبرنا الثالثة فرعا للثانية. فالطريق الأول هو الطريق الشرقي الذي يصل المدينة المنورة بمكة المكرمة رأسا وهو يبعد ١٥٠ كيلو مترا عن شاطئ البحر الأحمر ويمر من أعالي الجبال بين موانع عديدة يصعب سير الدواب المحملة عليها ، ولذلك فإن قوافل الحجاج لا ترغب في المسير عليها وإن كانت أقصر الطرق. وأما الطريق الثانية فهي السلطاني الذي ينخفض من المدينة المنورة نحو ساحل البحر الأحمر إلى مرفإ رابغ ومنه يعود فيصعد إلى مكة المكرمة. وهناك طريق آخر بين المدينة ورابغ ينقص طوله ٦٠ كيلو مترا عن الطريق السلطاني ويسمى الطريق الفرعي لأنه لم يخرج عن كونه قسما من الطريق الثانية.

تفضل قوافل الحجاج السير على الطريق السلطاني لمكانته الرسمية والتاريخية ولسهولة المواصلات عليه ، وعلى هذا فالخط الحديدي المنوي إنشاؤه بين المدينتين المقدستين لا يصلح عمله إلا بالقرب من الطريق السلطاني وعلى طوله مرفأ

١٧٩

رابغ الذي يقع على شاطئ البحر الأحمر يسكنه ٣٠٠٠ نسمة وهو على مسافة ١١٢ كيلو مترا من شمالي جدّة. وليس ثمة من صعوبة في إنشاء هذا الخط لعدم وجود موانع طبيعية كما أن المياه غزيرة على طول الطريق على العكس في الطريق الشرقية.

بقي مبدأ الخط الحجازي حتى سنة ١٩٠٨ في منتهى محلة الميدان بدمشق بالقرب من قرية القدم. وقد بنيت بعد هذا التاريخ محطة القنوات الواقعة في غرب مدينة دمشق على طراز عربي حديث وبشكل جميل يناسب عظمة هذا الخط المقدس. وبالقرب من محطة القدم معمل كبير خصص لإصلاح القاطرات والشاحنات وصب الآلات الحديدية وأعمال النجارة والتدهين والأبنية الخاصة بالمعمل والمخازن تشغل سطحا من الأرض تبلغ مساحته ٦٠٠ ، ١٠ متر مربع. وقد بلغت نفقات إنشاء هذه الأبنية مليون فرنك. وبنيت في محيط تبلغ مساحته ٥٣ ألف متر مربع. أنيرت جميع هذه الأبنية مع الساحة بالأنوار الكهربائية.

الخط الحجازي في عهد العثمانيين وبعدهم :

كان الخط في عهد الدولة العثمانية يدار في جميع أدواره بموازنة مستقلة عن موازنة الحكومة باعتبار أنه وقف إسلامي. وكان في البدء مرتبطا بلجنة عليا في الاستانة يرجع إليها في شؤونه العامة ، ثم طرأت على إدارته طوارئ عديدة غيرت من أوضاعه على ما عرضنا لذلك سابقا ، ثم استقر مرتبطا بإدارة الأوقاف. أما حالته بعد انسحاب الدولة العثمانية من الشام ودخول جيوش الحلفاء فإنه كان تام الأجزاء من حيث وضعه الأساسي ولم يطرأ عليه الخراب سوى في الجهات البعيدة بعض البعد عن العمران. ويمكن اعتبار مبدإ التخريب من بعد المحطات التي تلي محطة عمان جنوبا على أن هذا التخريب يكاد ينحصر في الجسور والمحطات والمصانع والمستودعات وغير ذلك من المباني والمحال التي كان يسهل نسفها. أما القضب الحديدية فظلت سليمة بالجملة ما خلا نقاطا قليلة يسهل إصلاحها وتشييدها.

هكذا كانت حالة هذا الخط عند دخول الحلفاء الشام ، وأما حالته من حيث

١٨٠