خطط الشام - ج ٥

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٥

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩٦

كالفيروز والنحاس والمغنيزيا فحفروا أول قناة بين النيل وبين البحر الأحمر.

ولما كان النيل يصب في البحر المتوسط أصبح من الممكن إذ ذاك مرور المراكب بين هذين البحرين. ولا تعرف اليوم تلك القناة الصناعية ولا ذلك الفرع الذي حفرته يد الإنسان، ولا شك أنه كان ثمة فرع طبيعي لنهر النيل العظيم جف ماؤه منذ العصور الجيولوجية أي قبل ظهور الإنسان. ويؤكد بعض المؤرخين أن هذا الفرع كان في زمن رمسيس الثاني والناظر إلى خريطة مصر يتمثل لعينيه هذا الوادي القديم وادي تومات ، وفيه قسم من الأراضي الخصيبة المنبتة يقطعه الخط الحديدي بين الزقازيق والإسماعيلية وهذا الوادي هو الفرع القديم الجاف لنهر النيل وهو موضع القناة القديمة. فمجرى هذه القناة يتقارب جدا من القناة الحالية التي تجري فيها المياه العذبة لإرواء الأرضين الواقعة بالقرب من ترعة السويس. ويظهر أن سلسلة البحيرات المتقطعة الواقعة على طريق هذه الترعة كانت متصلة قديما بخليج السويس الطويل ويجري إليه فرع النيل الشرقي القديم المبحوث عنه.

ويظهر من درس الأراضي والارتفاعات والمستحاثات أن أحجار البسوط قد ارتفعت قليلا ولا ريب أن المواصلات كانت على أتمها زمن الامبراطورية الوسطى وفي عهد الامبراطورية الجديدة. فكانت القناة الأولى تصل نهر النيل ببحيرة التمساح ، وذلك في عهد الأسرة الثانية عشرة إلى التاسعة عشرة أي منذ ألفين إلى ألف ومائتي سنة قبل الميلاد. وأن قناة ثانية من عهد الفراعنة أيضا وفي زمنهم الأخير المعاصر للفتوحات الفارسية أي منذ خمسمائة وخمس وعشرين سنة قبل الميلاد ، كانت تصل نهر النيل ببحيرة المرة الكبيرة بواسطة وادي تومات وهذه هي القناة التي قام بحفرها وإصلاحها بسامتيك ونيخاووس من السلالة السادسة والعشرين وذلك بين سنة (٦١٠ و ٥٩٤) قبل الميلاد. وكان مشروعه يقضي بتجديد الفرع القديم لنهر النيل المنفصل عنه في منطقة بوباشيس والمار في وادي تومات. إن هذا العمل الذي ذهب بحياة مائة وعشرين ألف عامل كما ذكر ذلك المؤرخ الشهير هيرودوتس خلال رحلته إلى مصر (أي بعد سنة أربعمائة وتسع وأربعين ق م) لم ينجح وترك قبل إتمامه ، لأنه أوحي إلى الملك نيكو على ما يقال بأن عمله خدمة للبرابرة

١٤١

أي الفرس ، ولذلك لم تتم هذه القناة إلا بعد مائة سنة أنشأها الملك داريوس الأول الفارسي. على أن القناة القديمة كانت أوسع من هذه القناة الحالية. وقد ظهرت آثار القناة القديمة المندرسة في سنة (١٧٩٨) وتظهر الآثار الآن في أماكن عديدة. وقد استعمل قسم منها لمجرى القناة الجديدة المستعملة لإسالة الماء العذب ، وقد عرفنا من الجدران المائلة والمرتفعة ومن الأحجار المنحوتة أن عرض القناة القديمة كان خمسة وأربعين مترا في عمق خمسة أمتار. وذكر المؤرخ هيرودوتس أن طولها أربعة أيام وقد كانت معدة إذ ذاك لسير السفن. وتكريما لإنجاز عمل القناة أقام داريوس عدة مسلات تذكرة ومفخرة.

وجاء بعد ذلك البطالسة وجهدوا لتجديد عمل هذه القناة وأخذوا يقاومون الطبيعة في العصر الرابع والثالث والثاني والأول ق م. وكانوا يرمون إلى المحافظة على طريق نهر النيل إلى البحر الأحمر من البحيرة المرة وجعله أبدا صالحا لمرور الزوارق. كلفهم ذلك جهودا عظيمة وقاموا بأعمال صناعية دقيقة ، كالسدود والأحواض وأعمال أخرى كان القصد منها دفع المياه المالحة عن النيل وعن الأراضي المصرية ، ثم أهمل شأنها في القرن الأول ق م.

وبعد فإن تاريخ هذا العمل العظيم أي قناة السويس القديمة ينتهي في عهد الرومانيين. وقد كان آخر من قام بحفر هذه القناة القديمة التي امتلأت بالرمال الامبراطور تراجان الروماني بين سنة (٩٨ و ١١٧) بعد الميلاد وقد فتح على عهده نهر تراجان الذي كان يبتدئ بالقرب من القاهرة ويمتد إلى خليج السويس في البحر الأحمر ، وهذا النهر هو القناة المبحوث عنها آنفا. طمتها الرمال وارتفع مستوى الأرض فضاع أعظم أثر من آثار القدماء يعد من بدائع القرون الغابرة.

ولما افتتحت العرب مصر كانت قناة النيل والبحر الأحمر عبارة عن ذكرى قديمة العهد جدا. ومع هذا يرجع الفضل والشرف في إحياء هذه الذكرى القديمة منذ اثني عشر قرنا للعرب الفاتحين وهم آخر من أحيا هذه الذكرى قبل أهل المدنية الحاضرة. وأعظم من هذا أنهم هم أول من فكر بالطريقة الحديثة لإيجاد قناة بين البحرين المتوسط والأحمر. ذلك لأن مملكة العرب كانت متسعة الأرجاء وتحتاج للمواصلات في كل وجه خلافا لمملكة

١٤٢

الفراعنة فإنهم لم يفكروا إلا بما يفيد مصر وحدها. فالحاجة عند العرب كانت ماسة لربط الصلات بين جزيرتهم وما افتتحوا من الممالك الأخرى. وقد قام بهذه المهمة عمرو بن العاص أحسن قيام وتبعه في ذلك الخليفة العباسي هرون الرشيد. ولعدم وسائطهم الفنية الحديثة لم يتمكنوا من فتح ترعة عظيمة كالترعة الحالية وإن فكروا بها مليا ، ولما أشكل عليهم الأمر لم يحجموا عن جعل النيل واسطة الاتصال بين ممالكهم. وكان القصد من استعمال النيل هذه المرة الوصل بين البحر المتوسط والبحر الأحمر. وعلى هذا قاموا بإصلاح قناة الأقدمين التي تبتدئ من الزقازيق على النيل. وكانوا يأتون في سفنهم من الشمال ويدخلون في بحيرة المنزلة ثم في النيل ومن هناك يتبعون القناة التي أصلحوها إلى أن يدخلوا البحر الأحمر ومنه يتجهون نحو جزيرة العرب. وكانوا بهذه الصورة ينقلون من مصر ما يحتاجونه من الحنطة إلى جزيرتهم.

ويحدثنا التاريخ أن عمرو بن العاص نقل في هذه الترعة الحنطة من الفسطاط إلى القلزم (السويس) ومن هناك إلى جزيرة العرب عن طريق البحر الأحمر. وقد بقيت القناة صالحة للسير مدة من الزمن حتى جاء الخليفة المنصور العباسي وقام بطم هذا الطريق المفيد مخافة أن تنقل الذخائر إلى القائم بالحجاز إذ ذاك من أرض مصر. وعلى هذه الصورة انقطع حبل الوصل للمرة الأخيرة بين البحرين مدة ألف سنة ونيف. على أن فكرة اتصال البحرين ما زالت باقية منذ ذلك العهد وهي الفكرة التي لم يسبق أحد إليها. وكانت من الأعمال التي لا مندوحة للمدنية من تطبيقها. وجاء البنادقة قبل العرب بفتح ترعة لتضرر تجارتهم من افتتاح طريق رأس الرجاء الصالح ولكنهم لم يفلحوا. وفي سنة (١٦٤١) عرض لايبنيس العالم الرياضي الشهير على ملك فرنسا لويس الرابع عشر بأن يؤلف جيشا لافتتاح مصر ، وكان من جملة ما طلبه فتح هذه الترعة للوصول منها إلى الهند ، ولكن لم يتم شيء من هذا كما وقع ذلك للسلطان مصطفى الثالث العثماني الذي فكر أيضا بفتحها ، وكان الأمر كذلك مع علي بك زعيم المماليك الذي لم يكتب له النجاح أيضا. وقد ارتأى فتحها أيضا كولبر الشهير وكثير من وزراء لويس الخامس عشر ولويس السادس عشر.

١٤٣

ويظهر أن كل من حاولوا ربط البحرين هم إفرنسيون أو أصدقاء لفرنسا ، اتفقوا على هذا الأمر للفت في عضد إنكلترا التي كانت تحصر طريق رأس الرجاء الصالح. ولما جاء نابليون مصر نظر في الأعمال الأولى لفتح الترعة سنة (١٧٩٨). وقام مهندسه لوپير بدرس المشروع وعمل المصورات اللازمة عملا بإشارة سيده غير أنه أخطأ في حسابه خطأ عظيما إذ وجد أن مستوى الماء في البحر الأحمر أعلى من مستواه في البحر الأبيض بنحو تسعة أمتار وتسعين سانتيما ، في حين ليس من فرق بين مستوى البحرين وبذلك كان لوپير السبب في تأخير هذا العمل مدة طويلة.

بقيت المواصلات مقطوعة بالفعل بين السويس والبحر المتوسط مدة ألف ومائة سنة أي منذ سنة (٧٥٥) إلى سنة (١٨٥٤) ميلادية أو من عهد المنصور إلى الزمن الذي قام به بحفر الترعة الحالية فرديناند دليسبس الذي برهن على عكس ما ادعاه مهندس نابوليون. وقد قام المهندسون لينان بك واستيفانسون ونيكريللي وبوردالو بمساحات دقيقة بين سنة (١٨٤٨ و ١٨٥٧) وأثبتوا بصورة نهائية خطأ المهندس لوپير.

أقنع دليسبس الخديوي سعيد باشا بفائدة الترعة وأحرز في سبعة أيام موافقته على ذلك. وصدر المنشور الخديوي بفتح الترعة يوم ٣٠ تشرين الثاني سنة (١٨٥٤). فعارضت بريطانيا في فتح الترعة مدعية أنها تريد المحافظة على كيان الدولة العثمانية من الأخطار التي ستحدثها هذه الترعة المشؤومة. ولم يرجع دليسبس عن مشروعه فأسس شركة وعرض في ٥ تشرين الثاني سنة (١٨٥٨) أسهمها للبيع. وكان عدد هذه الأسهم (٠٠٠ ، ٤٠٠) سهم بيع منها (٠٠٠ ، ٢٠٧) سهم في فرنسا واشترك في شراء هذه الأسهم جميع الطبقات. أما ما بيع في البلدان الأخرى فلم يتجاوز الثلاثة بالمائة. واكتتب الخديوي سعيد باشا لنفسه بما بقي من الأسهم أي بنحو خمسة وأربعين بالمائة من مجموعها ووضع تحت إدارة القائمين بالأعمال خمسة وعشرين ألف عامل بأجرة زهيدة جدا. وأسست هيأة إدارية للقيام بهذا المشروع وجرى الاحتفال بالموضع الذي أنشئت فيه بور سعيد في ٢٥ نيسان سنة (١٨٥٩) وذلك قبل أن تتم موافقة الباب العالي وقبل أن تضع المعارضة البريطانية سلاحها. ومع هذا كانت

١٤٤

أعمال الحفر تتقدم بوسائط ابتدائية ، فتنقل أتربة الحفريات على ظهور الحمير. ولنا أن نقدر الصعوبات التي اقتحمها القائمون بالعمل إذا فكرنا بأن ما كان يحتاجه العمال من الماء للشرب كان ينقل على ظهور الإبل وكان يكلف هذا النقل ستة وخمسين ألف فرنك في الأسبوع حتى انتهى عمل القناة المعدة لإسالة الماء العذب.

وفي ١٨ تشرين الثاني سنة (١٨٦٢) جرى فتح أول قطعة من الترعة وقد ترأس هذا الاحتفال الفخم دليسبس صاحب هذا المشروع. وحطم السد أثناء الاحتفال فدخلت مياه البحر المتوسط إلى بحيرة التمساح فكان هذا الاحتفال فخما مهيبا. ومات الخديوي سعيد باشا فأضاع دليسبس أكبر نصير له. على أن هذه المصيبة لم تمنعه من الحصول على موافقة السلطان العثماني وذلك في سنة (١٨٦٦) وجيء يومئذ بآلات الحفر الضخمة ذات قوة (٢٢) ألف حصان واستغنوا عن الأدوات الابتدائية. وجرى افتتاح هذه الترعة في ١٧ تشرين الثاني سنة (١٨٦٩) فاجتمع في ذلك الاحتفال خمس وخمسون سفينة أتت من أوربا ، وممن حضر امبراطور النمسا وأولياء عهد بروسيا وهولاندا وغيرهم. وقد أنفق على هذه الترعة تسعة عشر مليون ليرة إنكليزية.

ولما رأت إنكلترا فائدة هذه الترعة ندمت على تباعدها عن مديد المساعدة لأول الأمر وقررت أن تستعيض عما فاتها من الوقت. ففي تشرين الثاني سنة (١٨٧٥) تمكن ديزرائيللي وزير إنكلترا من ابتياع مائة وستة وسبعين ألف سهم كانت ملك الخديوي سعيد باشا وذلك بمبلغ أربعة ملايين ليرة إنكليزية وفي تسعة أيام دخل ثلاثة أعضاء إنكليز في هيأة إدارة الترعة وسقطت تلك المعارضة التي اشتدت بين إنكلترا وبين شركة الترعة. وفي سنة (١٨٨٢) أهملت فرنسا مصالحها في مصر فعسكرت الجيوش البريطانية في القاهرة فاحتج فرديناند دليسبس على خرق حياد الترعة فلم يجد احتجاجه نفعا.

وفي سنة (١٨٨٥) وضعت قواعد الاتفاق الفرنسي الإنكليزي لإدارة شؤون الترعة. وكان أثر هذا الاتفاق عظيما جدا وخصوصا أيام الحرب العامة. فكانت هذه الترعة خندقا حصينا بيد الحلفاء للمحافظة على مصر. ولما هاجم (٥ ـ ١٠)

١٤٥

الترك الترعة سنة (١٩١٥) قام بالدفاع عنها الجنرال مكسويل ونجح على أيسر وجه. ولم تمض مدة قليلة بعد الحرب حتى عادت الترعة إلى ما كانت عليه قبلها وهي اليوم إحدى الطرق البحرية العظيمة في العالم أجمع. وقد مر منها في سنة (١٩٢٥) ٥٣٣٧ سفينة. وكان مجموع ما تحمله هذه السفن (٩٣٥ ، ٧٦١ ، ٢٦) طنا.

لا جرم أن إصلاح الترعة وجعلها صالحة لسير السفن كل حين عمل شاق يتطلب جهودا عظيمة. وكان عرض الترعة في بادئ أمرها اثنين وعشرين مترا في القعر وثمانية أمتار عمقا. في حين أنها اليوم خمسة وأربعون مترا عرضا في القعر بعمق عشرة أمتار ونصف ، مما يدل على أن العمل فيها متواصل وأن عرضها قد تضاعف. ثم إن عرض الترعة على مستوى سطح الماء يختلف بين المائة والعشرين والمائة والأربعين مترا وقد يبلغ المائة والستين ، وطولها ١٦٨ كيلو مترا.

وتقرر مؤخرا أن يجعل عمق الماء ثلاثة عشر مترا وعرض الترعة في القعر ستين مترا. هذا والنفقات تزداد يوما فيوما. وقد بلغ ما صرف على هذه الترعة منذ البدء فيها في سنة (١٨٥٩) إلى يومنا هذا ما يقرب المليار من الفرنكات الذهبية. ويبدو في ميزانيات هذا العمل عجز ظاهر من أول الأمر. وكان ما استحصل من هذا العمل لا يتجاوز الستة ملايين من الفرنكات على الرغم من الرسوم الباهظة الموضوعة على التجارة والبواخر وتحسنت الحالة في العهد الأخير.

وفي سنة (١٩٢٣) بلغت الواردات غير الصافية ٤١٩ مليون فرنك وكان الصافي من الواردات سنة (١٩٢٤) ٢٦٤ مليون فرنك. اسم هذه الشركة «الشركة العمومية لترعة السويس البحرية» وهي شركة مصرية بقانونها وشركة دولية عمومية بالاسم. غير أن حقيقتها شركة إفرنسية وأكثرية هيأة ادارتها إفرنسية أيضا. ورئيسها الذي خلف دليسبس إفرنسي أبدا. ومركز إدارتها في باريز وقد دفعت هذه الشركة عن سنة (١٩٢١) ١٤ مليون فرنك إلى الحكومة الفرنسية ضرائب عن أموالها. ومركز الإدارة العامة أيضا في باريز تقوم بإدارة الثلاث شعب الموجودة في مصر والتي يديرها موظفون إفرنسيون.

١٤٦

وهذه الشعب هي : إدارة الأشغال ، إدارة المركز ، إدارة سير السفن. ويقوم بأعباء هذه الشعب الثلاث ٥٠٠ موظف وربان و ٢٥٠٠ عامل. وإذا أضفنا إلى هذه الأرقام عيال هؤلاء الموظفين والعمال وأولادهم بلغ عدد من لهم علاقة مباشرة بشركة الترعة ١٤ ألف نفس.

الترعة العظيمة عن طريق فلسطين :

قبل اتفاق ترعة السويس الذي صيرها ترعة محايدة دولية ، فكر الإنكليز في فتح طريق بحري يمر بفلسطين. وذلك لإضعاف نفوذ الفرنسيين في الشام ونفوذ الروس في فلسطين ، فارتأوا وصل البحر المتوسط ببحيرة لوط ثم البحر الأحمر. وذلك بواسطة قناة تبتدئ من مدينة حيفا ، فتملأ وادي الغور الذي ينخفض ٣٩٣ مترا عن سطح البحر ، ثم تتصل هذه القناة بالعقبة الواقعة على شاطئ البحر الأحمر بعد أن تقطع وادي العربة. وبهذا يكون للإنكليز طريق حربي تبلغ به بريطانيا الهند إذا أغلقت في وجهها ترعة السويس وينافسون ترعة السويس.

إن سهل يزرعيل لا يرتفع سوى مائة متر عن سطح البحر. في حين يرتفع وادي العربة بين البحر الميت والبحر الأحمر مائتين وأربعين مترا. فلو فرضنا أنه أمكن المرور من هذه السهول المرتفعة التي تتطلب أعمالا صناعية دقيقة يتساءل المرء عما سيكون مصير الماء الجاري من البحرين إلى هذه الهوة الطبيعية أي وادي الغور فإنه يتبخر في الحال كما هو الشأن بماء نهر الشريعة الذي يصب في بحيرة لوط. فقد حسب السير اوليفان أن هوّة الغور التي ينخفض قعرها ٤٠٠ متر تقريبا عن سطح البحر تملأ في خمس سنوات. وقد قدّر علماء آخرون بأن المدة اللازمة لامتلاء هذا الوادي لا تقل عن عشرة أمثال المدة التي حسبها اوليفان. ومهما تكن هذه المدة أي مدة امتلاء هذه الحفرة طويلة أو قصيرة ، فإن عملا كهذا سيغير إقليم فلسطين حتما ، ويحصل من جراء هذا العمل الكبير ملجأ للسفن الكبيرة ، وهذا ما يتجلى به سبب تحمس الإنكليز لهذا المشروع منذ أربعين سنة.

طول هذه الترعة العظيمة ٤٠٠ كيلو متر منها ١٩٢ كيلو مترا فقط يقتضي

١٤٧

حفرها بعرض ٦٠ مترا وبعمق ١٢ مترا. ومهما تكن فكرة فتح هذه الترعة عظيمة ، ومهما تكن الاستفادة من قوة الماء الذي سينصب في وادي الغور جيدة ، لا يتأتى إخراج هاتين الفكرتين إلى حيز العمل دع أن ثروة البلاد المعدنية المشهورة بجوار بحيرة لوط يصعب أن تذهب هدرا تحت غمر المياه لها ، ثم إن نفقات العمل ستكون باهظة وقد قدّرها اوليفان من مليار إلى مليارين من الفرنكات ، وقدّرها غيره بخمسة مليارات ، مما يجلب خسائر عظيمة ولا يفيد رؤوس الأموال التي ترصد له.

الترعة بين البحر المتوسط والخليج الفارسي :

وهناك مشروع آخر أشد غرابة من هذا ألا وهو وصل البحر المتوسط بالخليج الفارسي، وذلك بترعة تبتدئ من السويدية وتمر بأنطاكية وحلب وباليس على الفرات. وبإصلاح نهر الفرات بحيث يغدو صالحا لسير السفن حتى شط العرب. وقد قدرت نفقات هذا المشروع بسبعين مليون ليرة عثمانية ذهبا. فلو فرض بان الملايين الليرات لا شأن لها فإننا نتساءل عن فائدة هذا الطريق النهري الطويل الذي لا ينقص طوله عن طول طريق البحر الأحمر ، فضلا عن أن ارتفاع الأرض في جوار حلب هو ٤٠٠ متر ، مما يجعل هذه الفكرة بعيدة التحقيق أيضا.

مرفأ غزة :

تبعد مدينة غزة عن ساحل البحر خمسة كيلو مترات ، وترتفع عن سطح البحر ٥٥ مترا ، وتفصل بين المدينة والبحر تلال قليلة الارتفاع لا يتجاوز أعلاها ١٥ مترا. والساحل مملوء بطبقات رمل لا تتمكن البواخر من الاقتراب منه. وقد تكونت هذه الرمال بما تقذفه مياه النيل من الرمال إلى البحر المتوسط فتسوقها الرياح الغربية إلى هذا الساحل. والظاهر أن مرفأ غزة كان في معظم أدوار التاريخ دون سائر موانئ الشام ولم يكتب له أن ينتفع به حق الانتفاع إلا في أوقات قليلة.

١٤٨

مرفأ يافا :

خربت مدينة يافا في الحروب الصليبية فأضحت عبارة عن قرية تتألف من بضعة بيوت. وقد بدأت في التجدد أواخر القرن السابع عشر. وكان المرفأ إذ ذاك غير صالح لإرساء السفن كما هي حالته لهذا العهد. ولذلك كانت ترسي السفن الفرنسية في مرفأي عكا وصيدا. وحصنت يافا في القرن الثامن عشر وأخذت تزداد عمرانا إلى أن جاء نابليون في سنة (١٧٩٩). وقد ازدادت مكانتها وكثر عدد سكانها لعهدنا ، وذلك لقربها من القدس ومرور الخطوط الحديدية منها ومهاجرة اليهود والألمان إليها ، وكان جماع هذه الأسباب العامل الكبير في تقدم هذه المدينة. ومضت أدوار كانت كلمة الذهاب إلى يافا تدل عند الغربيين على عمل خطر. حتى إن بعض التجار كان يراهن الراحلين إلى الأراضي المقدسة على ثرواتهم بمعنى أن المسافر يقبض ما يعادل ثروته من التاجر الذي راهنه إذا عاد إلى أرضه سالما. كما أن المسافر يترك ثروته لهذا التاجر إذا لم يعد إليها. وهذا مما يدل على أن الخطر في دخول السفن هذا المرفأ كان قاب قوسين أو أدنى. وكانوا يعتقدون أن احتمال حدوث الخطر أكثر من السلامة. وتحسنت الحال قليلا منذ ذلك العهد ، ومع هذا لم يزل تفريغ السفن في ساحل يافا من الأمور الصعبة الخطرة.

إن مرفأ يافا صغير وقليل العمق وهو مسدود بخط من الصخور البارزة عن سطح الماء وليس له سوى مدخل صغير بين الشمال والشمال الغربي من المدينة. وقد وقع توسيع هذا المدخل بالنحت ونسف الصخور بالمفرقعات وهناك ممر آخر في جهة الشمال في عرض ٢٠٠ متر ليس بصالح للانتفاع لما يطمه من طبقات الرمل. وهذه الصخور الممتدة من الساحل إلى عرض البحر هي بمثابة سد طبيعي تكون في طول ٣٠٠ متر. ويكوّن من هذا السد ملجأ أمين للسفن الصغيرة الحجم ، ولكن قعر البحر يرتفع يوما فيوما لتكوّن جنس من الحجر المركّب من الرمل والأصداف بواسطة نوع من الملاط المترسب من الماء ، فليس ثمت عمق يزيد على الخمسة أمتار إلا بعد ٥٠٠ متر من الساحل بحيث لا تتمكن البواخر الضخمة من الإرساء إلا بعيدة عن

١٤٩

الشط نحو ٧٠٠ متر مما يتعذر معه تفريغ السفن. ويكون التفريغ بواسطة زوارق كبيرة تسيرها نواتية من أهل هذه المدينة بمهارة فائقة. وكثيرا ما يصطدم هؤلاء الربابنة بالصخور من شدة الأمواج العظيمة التي تهب بريح الشمال في فصل الصيف ورياح الغرب في الشتاء. وأصحاب هذه الزوارق يتقاضون أجورا باهظة من الركاب لكثرة الأخطار التي تحيط بهم. من أجل هذا لا يتيسر للسفن أحيانا تفريغ بضائعها وإنزال ركابها بل تسير بهم إلى مرافئ حيفا وبيروت وبور سعيد.

ثم إن قعر البحر مركب من رمال ومزيج من الحصى ومواد لزجة أخرى لا تمكن المراسي من مقاومتها عند وقوف السفن. ولذلك تبقى هذه السفن موقدة بخارها خوفا من مفاجأة الرياح الغربية الشديدة المزعجة. فالخطر والحالة هذه عظيم جدا في إنزال الركاب. فبناء مرفإ على الطراز الحديث هو عمل إنساني مفيد. وأول من درس هذا الموضوع الدكتور زامبل ثم أهمل أمره وذلك قبل سنة (١٨٧٥) في الوقت الذي جرى فيه قلع الصخور ونسفها بالمواد النارية. وفي سنة (١٨٨٠) طلب وزير الأشغال في الدولة العثمانية بناء سد في عرض البحر طوله كيلو متر واحد. وقد قدّر نفقات هذا المشروع بأربعة ملايين فرنك. وفي سنة (١٨٩٠) كثر طلب هذا الامتياز ، ومن الطالبين شركة ري بساتين البرتقال في يافا ثم شركة من القسطنطينية وشركة سكة حديد يافا القدس. والظاهر أن فتح مرفإ جديد كبير يتطلب نفقات طائلة لا تكفي تجارة هذه المدينة لتسديد الفوائد الناتجة عن هذه النفقات.

مرفأ حيفا :

تقوم مدينة حيفا على خليج صغير يبعد عن عكا جنوبا ثلاثين كيلو مترا ، وكان نزلها منذ أواخر القرن الماضي نفر من الألمان ، وأسسوا مستعمرات صغيرة ، وأبنية جميلة ، فزادت مكانتها التجارية ، وزادت نفوسها ، ووفرت مرافقها ، والمرفأ الحالي القريب من سهل قيشون وهو بطائح ومستنقعات يتجه نحو الشمال الشرقي في مأمن من الرياح الجنوبية والغربية بجبل الكرمل الذي يمتد داخل البحر من الجنوب إلى الجنوب الغربي وينتهي فيه عموديا.

١٥٠

ولذلك تبتعد السفن من هذا المرفأ عند اشتداد العواصف في البحر المتوسط إذا تعذر إرساؤها في مرفإ يافا. أما الرياح الشمالية والشمالية الغربية فشديدة جدا في هذا المرفإ ، وعمق الماء فيه لا يتجاوز الخمسة أمتار إلا بعد مسافة كيلو متر واحد في عرض البحر من الساحل كما هي الحالة في جميع السواحل الشامية. ولذلك ترسو السفن الكبيرة في عرض البحر وتفرغ بضاعتها وركابها في الزوارق الصغيرة التي لا تحتاج لعمق عظيم من الماء. وخير طريقة لإنشاء مرفإ مدينة حيفا هو عمل سد في عرض البحر يبتدئ من شمالي المدينة ويتجه من الغرب إلى الشرق بطول كيلو متر ونصف فيبلغ عمق الماء مقدارا كافيا لدخول السفن الكبيرة حتى تقترب من الرصيف فيمكن تفريغها على أيسر وجه ويتأتى ردم البقعة المثلثة التي تحصل بين السد وبين الساحل بحيث تكون صالحة لتوسيع المدينة وزيادة الأرصفة على عمق كاف. وقد أصبح دخول السفن إلى المرفإ من المدخل الشرقي سهلا في كل وقت إذ أضحى المرفأ آمنا من العواصف والرياح الشمالية فعمل كهذا يفيد كل الفائدة خصوصا ومدينة حيفا متصلة بالداخلية بواسطة الخط الحديدي الحجازي ، ونفقات هذا المشروع باهظة لا يؤمل تسديد فوائدها في بادئ الأمر. وقد فكّر الترك في إنشاء مرفإ حيفا بل أعطوا به امتيازا تحضيريا فحالت الحرب العامة دون تحقيق المشروع.

ولما دخل البريطانيون فلسطين رأوا أن إيجاد مرفإ يجب أن يتم في أول فرصة تسنح ، وكان التنافس بين يافا وحيفا لأن بقية المرافئ كغزة وعكا ليست إلا مراسي بسيطة. ويافا وحيفا هما أهم المواني في فلسطين. والقسم الأعظم من البضائع التي ترد إلى فلسطين تأتي عن طريقهما. ففي سنة (١٩٢٥) دخلت المواني الفلسطينية (٢٤٧٢) سفينة حمولتها (٠٤٢ ، ٨٩٥ ، ١) طنا. وقد كان نصيب يافا وحيفا منها ما يأتي : يافا (٧٣٤) سفينة حمولتها (٤١٤ ، ١٦) طنا و (٥٠٤) بواخر حمولتها (٤٠٥ ، ١٤٣ ، ١) أطنان. حيفا (٥٤٢) سفينة حمولتها (٧٥١٢) طنا و (٢٥٠) باخرة حمولتها (١٣٤ ، ٦٨٨) طنا. والناظر إلى الأرقام يرى يافا أولى من حيفا بالمرفإ الحديث. وصقع يافا من أكثر بقاع فلسطين سكانا وثروة. ولا ريب في أن مستقبلها زاهر

١٥١

وفيها عنصر من عناصر ثروة فلسطين وهو البورتقال وهي منفذ القدس إلى البحر. هذه هي كل مزايا يافا. أما عيوبها فضيق مساحتها ورداءة مينائها وتعرضها للرياح بحيث تعطل فيها أعمال الشحن من ٨٠ إلى ١٠٠ يوم في العام. أما حيفا فتعد بالنسبة إلى يافا مدينة جديدة فلم يكن سكانها سنة (١٩٠٤) يزيدون على عشرة آلاف فبلغوا في سنة (٩٢٢) ٢٥ ألفا وهم اليوم يزيدون على ٣٥ ألفا. وتعزى هذه الزيادة إلى ازدهار الصناعة في جوارها لاتصالها بدمشق وبجنوب الشام بسكة الحجاز. وميناء حيفا جيد يحميه جبل الكرمل في الجنوب من الرياح ولا ينقطع العمل فيه إلا أياما معدودة في العام. وأخيرا قررت حكومة فلسطين إنشاء مرفإ في حيفا على الطراز الحديث وأخذت تضع المصورات والتصميمات ووقع اختلاف بين فريقين من المهندسين ففريق يقول بإنشاء المرفإ في شمال حيفا والفريق الآخر يذهب إلى إنشائه في الجنوب. ولا تلبث هذه الاختلافات أن تزول ويخرج هذا المشروع إلى عالم الوجود بما اقترضته الحكومة لهذه الغاية من الأموال الطائلة.

مرفأ عكا :

مدينة عكا مفتاح فلسطين كانت ذات مكانة حربية اعترف بها نابليون وازدادت شأنا منذ فتحت قناة السويس ويرسم خليج عكا قوسا بشكل نصف قطع ناقص محوره الكبير يمر من حيفا ومن عكا. قامت المدينة في شبه جزيرة تمتد من الشمال إلى الجنوب. ولئن كان البحر محفوظا من الشمال فهو معرض لرياح الجنوب والغرب. والإرساء إذا بمرفإ حيفا أسهل منه في عكا. أما المرفأ القديم فحالته جيدة لمكان السد الممتد من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي. وقد امتلأ هذا الحوض بالرمال ولم يبق فيه من العمق سوى مترين فقط. ترسي السفن الكبيرة في عرض البحر ومع ذلك لا تأمن الأخطار في بعض أيام الشتاء والربيع. أما من جهة إنشاء مرفإ جديد في عكا فمما يصعب عمله ، لأن ذلك يقتضي نفقات باهظة لا تتناسب مع تجارة هذه المدينة.

مرفأ صور :

كان مرفأ صور المشهور في العصور الغابرة في جزيرة منفصلة عن الساحل

١٥٢

اتصلت بالأرض بعد أن أنشأ الإسكندر طريقا بينها وبين الساحل. ثم اتسع هذا الطريق اتساعا كبيرا بما كان يحمله البحر من الرواسب حتى أضحت الجزيرة جزءا من الساحل. ولم يبق في العهد الأخير من المدينة سوى اسمها حتى إن الرحالة المشهور هاسيل كيست السويدي لم ير في المدينة غير عشرة أشخاص في القرن الثامن عشر أي بين سنة (١٧٤٩ و ١٧٥٢) وقد خربت كثيرا بزلزال سنة (١٨٣٧) وبعدئذ ابتدأت تزداد عمرانا ونفوسا. وبالقرب من المدينة وعلى بعد سبعة كيلو مترات من جنوبها خزانات قديمة من عهد الفينيقيين تسمى خزانات رأس العين تسقي المدينة وتروي سهولها حتى ساحل البحر. ولصور مرفآن الأول الصيداوي يقع إلى الشمال وهو المرفأ الحالي ، والثاني المصري وهو إلى الجنوب وهو أكبر من الأول لا يصلح لإرساء السفن لامتلائه بالرمال. ويصلح المرفأ الصيداوي للسفن الصغيرة الحجم ويمكن تعميقه بنفقات قليلة. ولا يتأتى للبواخر الإرساء بالقرب من ساحل البحر. وخط العمق ذو الخمسة أمتار لا يبعد كثيرا عن مدخل المرفإ الصيداوي في حين أن هذا الخط يبتعد كثيرا عن بقية نقاط ساحل هذه المدينة.

مرفأ صيدا :

طمّ الأمير فخر الدين المعني مرفأ صيدا خشية مهاجمة الأسطول العثماني. ولما تولى الحكم أحمد باشا الجزار في عكا وقع بينه وبين القنصل الفرنسي اختلافات عديدة اضطرت الفرنسيس من سكان صيدا أن يتركوا المدينة سنة (١٧٩٠) بدون أن يتمكنوا من أخذ أموالهم ولم يمض ثمانية أعوام أخر حتى أخرجوا منها مرة ثانية ، ومن ذلك العهد ابتدأ شأنها يتضاءل. ولقد كان لصيدا قديما مرفآن كمدينة صور ، الأول في الشمال الغربي ، والثاني في الجنوب الغربي. ومرفأ الشمال الغربي هو المرفأ الحالي وهو ذو شكل مستطيل تحده شرقا قلعة البحر والجسر الموصل بين هذه القلعة وبين الشاطئ. وتحيط بهذا المرفإ من الشمال والغرب سلسلة من الصخور. ومدخله الغربي المنحوت قديما في الصخر لم يعد صالحا للاستعمال. أما مدخله الشمالي فهو الذي يصلح وحده لاجتياز السفن ولا يتجاوز عمقه الثلاثة أمتار. فلو نظف هذا المرفأ من الردم

١٥٣

والأنقاض لعاد صالحا لإرساء البواخر. والسفن الكبيرة ترسي بعيدة عن الشاطئ على مسافة ١٣٠٠ متر. والمرفأ الجنوبي الغربي معرض للرياح الجنوبية الغربية والرواسب المتجمعة من مياه النيل كالمرفإ المصري في مدينة صور.

مرفأ بيروت :

يطلق الإنكليز على خليج بيروت اسم سان جورج وهو يتجه نحو الشمال تأمن فيه السفن من الرياح الجنوبية والشرقية. أما الرياح الشمالية والغربية التي لا تصادف موانع طبيعية فهي تعصف عصفا عظيما في الشتاء وتحدث أمواجا هائلة. وكان الأمير فخر الدين المعني ردم مرفأ بيروت اتقاء مداهمة الأسطول التركي. ولما خلفت السفن البخارية السفن الشراعية رأت البواخر صعوبة جمة في هذا المرفإ وكثيرا ما كانت تضطر للإرساء في عرض البحر كما هي الحالة في بقية سواحل الشام ، ولقد كانت تقضي اليومين والثلاثة لتتمكن من تفريغ شحنها. وكانت العواصف الفجائية الشديدة التي تكثر في السواحل الشامية تضطر السفن إلى الابتعاد عن الشاطئ خوفا من أن تتحطم بصخوره. وقد استمر الحال على هذه الصورة مدة طويلة. ولم يكن الأمر ذا بال يومئذ لأنه لم يكن لبيروت مكانة في التجارة ولعلة كانت واحدة في جميع السواحل. ولما استفاضت تجارة بيروت وزادت مكانتها بسرعة غريبة وذلك بعد سنة (١٨٤٠) اضطر ولاة الأمر أن يعيروا التفاتهم لمرفئها. ففي سنة (١٨٦٣) تقدمت شركة المساجيري ماريتيم بخارطات لهذا المرفإ لأحمد قيصرلي باشا حاكم مقاطعة صيدا ، وقدرت نفقات هذا العمل ب ٣٠٠ ، ٣٧١ ، ٦ فرنك. ولم يسفر هذا التذرع عن نتيجة. وفي سنة (١٨٧٩) لم تتوفق بلدية بيروت التي قررت أخذ امتياز هذا المشروع لنفسها ، لأن الحكومة لم تصدق على قرارها. وفي سنة (١٨٨٠) وضع وزير الأشغال في الدولة العثمانية خارطة سنة (١٨٦٣) موضع النظر في تقريره عن الأشغال العامة ، وبالنظر لضرورة هذا المرفإ والمنافع التي ستنجم عنه والاقتصاد الذي يتأتى من تفريغ البضائع فيه تقدم بعضهم للحصول على امتيازه. ففي سنة (١٨٨٣) ظهر ثلاثة طلاب لهذا العمل ، وفي يد كل منهم الشروط الكافية والضمانات اللازمة ، وكان يظن أن شركة

١٥٤

طريق بيروت ـ دمشق ستتمكن من إجابة طلبها ، ولم تنل هذا الامتياز بل ناله يوسف أفندي مطران بإرادة سلطانية مؤرخة ب ١٩ حزيران سنة (١٨٨٧) لمدة ستين سنة تنتهي في ١٩ تموز سنة (١٩٤٧). وقد اشترط على صاحب الامتياز المباشرة بالعمل بعد سنتين وإنجازه في خمس سنوات على أن يكون طول الرصيف ١٢٠٠ متر وأن ينشأ سدان كبيران يحيطان بالمرفإ ويبقى بين هذين السدين مدخل في عرض ٢٠٠ متر وعمق ثمانية أمتار وأن تكون مساحة هذا المرفإ السطحية على وجه التقريب ٢٣ هكتارا ، وقد يتأتى توسيعه في المستقبل.

واحتفظت الحكومة بحق ابتياع هذا المشروع بعد ثلاثين سنة ، واشترط المنشور السلطاني على السفن الداخلة إلى المرفإ أداء رسوم الدخول والرصيف أو دفع نصف الرسوم إذا كانت السفن تدخل المرفأ ولا تقترب من هذا الرصيف. وبعد هذا تم الاتفاق بين شركة طريق دمشق ـ بيروت وصاحب الامتياز. وفي سنة (١٨٨٨) تألفت الشركة العثمانية للمرفإ والأرصفة والمخازن في بيروت برأس مال خمسة ملايين فرنك تقسم إلى عشرة آلاف سهم باعتبار كل سهم ب ٥٠٠ فرنك. وكانت هذه الشركة إفرنسية بحتة ، فأشاع الإنكليز أن هذا المشروع عقيم جدا لعدم وجود خط حديدي بين بيروت ودمشق ، وأن هذا الخط لا يمكن عمله لشدة الميل في جبل لبنان والجبل الشرقي ولعدم وجود خط حديدي لنقل المحصولات بين المرافئ الشامية وبيروت. وقد بوشر بالأعمال سنة (١٨٨٩) وقامت بإنجازها شركة موزي وطونن ولوزي. واستخرجت مواد البناء اللازمة لهذا المشروع من نهر الموت نقلت على خط حديدي طوله ثلاثة كيلو مترات و ٦٠٠ متر على ساحل البحر وسارت الأعمال إذ ذاك ببطء لمرض العمال بالمرض الوافد. وأضرت الأمطار والسيول فأحدثت خسائر عظيمة. وقد عقد اتفاق جديد بين شركة المرفإ وشركة الخط الحديدي بين بيروت ودمشق وحوران سنة (١٨٩٢) على أن تقرض هذه الشركة الأخيرة خمسة ملايين فرنك بفائدة مقررة لشركة المرفإ. ورهنت هذه الشركة مقابل القرض جميع أبنيتها وأملاكها وآلات المرفإ وأدواته جميعا. وهنالك شروط أخرى اشترطتها شركة الخطوط على الشركة المدينة ضمانة ، وكانت شركة الخطوط تنشئ يومئذ خطوطها مما وسع

١٥٥

مجال الآمال في نجاح المشروعين معا. وبعد انتهاء عمل المرفأ سنة (١٨٩٤) ومد الخطوط الحديدية لم تمض مدة وجيزة حتى خابت الآمال وظهر نقص عظيم في تجارة بيروت. وأسباب هذا النقص عديدة ، منها الاختلافات التي وقعت بين شركة المرفإ ووزارة البحرية العثمانية على مسألة دخول البوارج الحربية العثمانية إلى المرفإ ، ومنها الاختلاف بين شركة المرفإ وإدارة الجمارك بشأن رسم الحمالين والمخازن وتعيين حدود منطقة لشركة المرفإ ، ومنها زيادة رسوم الدخول للمرفإ مما دعا إلى تحويل قسم عظيم من الصادرات والواردات إلى بقية المرافئ الشامية القريبة ، ومنها بعد المسافة بين منتهى الخط الحديدي دمشق ـ بيروت وبين المرفإ.

درست مصورات هذا المرفإ سنة (١٨٨٩) على طول كيلو متر واحد من الساحل بين رأس الشامية ورأس المدور فاستطاعوا اقتطاع أرضين واسعة من البحر مما ساعد على إنشاء رصيف يختلف عرضه بين ١٠٠ و ١٥٠ مترا. ويبدأ أحد السدين من رأس الشامية ويمتد في عرض البحر مسافة ٨٠٠ متر. وينتهي آخره بسد صغير عمودي على هذا السد متجه نحو رأس المدور. وأما السد الثاني فيبدأ برأس المدور ويتجه نحو السد الصغير المذكور فيقترب منه على مسافة ٢٠٠ متر. ويرتفع السد الأول وهو الأعظم طولا وارتفاعا خمسة أمتار عن سطح البحر. وأما السد الصغير والسد الثاني فيرتفعان مترين عن سطح البحر. وتقدر الزاوية التي تحدث بين السد الأول واستقامة الشاطئ ب ٤٥ درجة تقريبا ، وأما الزاوية الكائنة بين السد الثاني وذات الاستقامة فتقدر ب ٦٠ درجة والعمق في منتصف المدخل ١٤ مترا ويتناقص بصورة غير محسوسة من منتهى السد الأول إلى مبدئه أي يتناقص من ١٦ مترا إلى أربعة أمتار ويختلف العمق قرب الرصيف بين ثلاثة وخمسة أمتار. وفي قرب السد الثاني بين ثمانية واثني عشر مترا. حتى لقد تتمكن المراكب الكبيرة من الدخول إلى هذا المرفإ دون أن تستطيع تفريغ شحنها على الرصيف رأسا. ومساحة المرفإ الذي تم عمله ٢٠ هكتارا لا ٥٣ كما جاء في شروط الامتياز ولا يستوعب سوى ١٢ باخرة كبيرة في آن واحد.

١٥٦

فرضتا جونية وجبيل :

أخذت ترتقي مدينة جونية الواقعة على عشرين كيلو مترا تقريبا من شمال بيروت وقد قامت داخل خليج كبير يصلح ملجأ للمراكب الشراعية بل للسفن الكبيرة أيام اشتداد الأنواء ، ولهذه المدينة مرفأ صغير يمكن توسيعه بنفقات قليلة. أما مدينة جبيل فهي في تأخر مستمر ولكنها ذات مكانة أثرية أكثر منها تجارية وما استخرجه علماء الآثار من الغربيين من مطاوي أرضها من العاديات النفيسة دليل على ما كان لها في الأعصر الخالية من المكانة البحرية.

وقد حاول اللبنانيون أواخر الحكم العثماني أن يجعلوا من جونية أو البترون أو غيرهما من المنافذ البحرية في لبنان مرفإ يستغنون به عن بيروت فلم يفلحوا ، لأن ما وراء هذه الموانئ الصغيرة من القرى لا شأن له في استهلاك المتاجر ، ولا اتصال له بمدن كبرى في الداخلية.

مرفأ طرابلس :

إن مرفأ طرابلس غير صالح لإرساء البواخر الضخمة لذلك تبقى فيه بعيدة عن ساحل البحر نحو ١٢٠٠ إلى ٢٠٠٠ متر. وقد بنت شركة الخطوط الحديدية مرفأ صغيرا قرب المحطة محفوظا من جهة البحر ومدت عليه خطوطها ، وإنشاء مرفأ كبير في طرابلس من المسائل القديمة العهد ، لأن شكل المدينة ملائم كثيرا لهذا العمل لوقوعها على الطريق بين جبال لبنان والعلويين. وتمر من هذه الطريق سكة الحديد التي تصل طرابلس بحمص بصورة سريعة وسهلة مما لا مثيل له في بقية السواحل كبيروت مثلا لأنها منفصلة عن الداخل بسلسلة جبال شاهقة لا ممر لها إلا من شواهق عظيمة.

تتألف مدينة طرابلس من قسمين الأول المدينة وهي تبعد عن الشاطئ ثلاثة كيلو مترات والميناء وهذا هو مرفأ المدينة. والسهل بين هذين القسمين غير صحي ويتجه مرفأ الميناء نحو الشمال. وهناك جزيرتان صغيرتان تحفظان هذا المرفأ من الرياح الغربية ، والغربية الجنوبية. والسد القديم الممتد من الشرق إلى الغرب يحفظه من الرياح الشمالية أيضا. فموقع المرفإ إذا يوافق إرساء السفن في كل وقت وإذا اشتدت الأنواء تجد هذه السفن ملجأ منيعا

١٥٧

تأوي إليه. أما البواخر والبوارج التي تحتاج لعمق كبير فإنها تضطر للإرساء في عرض البحر بعيدة عن هذا الساحل.

مرفأ اللاذقية :

يقع مرفأ اللاذقية في سهل خصيب على مسافة نصف ساعة من البحر ، وهذا السهل غير صحي ، ويتجه خليج اللاذقية نحو الجنوب فيرسم قوسا في شكل نصف دائرة وهذه القوس تنتهي من جهة الغرب بالرأس المسمى رأس اللاذقية. فمرفأ هذه المدينة معرض للرياح الجنوبية والغربية ، ويتأتى لهذا المرفإ أن يكون ملجأ صالحا للسفن لو لم يكن مطمورا بالرمال ، وقد ضاق مدخله كثيرا بسبب أنقاض قصر قديم كان مشيدا هناك ، فالسفن العظيمة ترسو في عرض البحر والصغيرة التي لا تتجاوز حمولتها ال ٣٠٠ أو ال ٣٥٠ طنا تدخل المرفأ بسهولة وسط أعمدة من الرخام والمحبّب من أطلال الآثار الغابرة. ولا يتأتى إنشاء فرضة لمدينة اللاذقية على طراز حديث بالفائدة المتوخاة لأن عملا كهذا يتطلب نفقات باهظة ، فالرسوم التي يقتضي وضعها واستيفاؤها لتسديد فوائد تلك النفقات تكون سببا لتحويل قسم عظيم من تجارة هذه المدينة إلى المدن المجاورة لها. وعلى هذا فبناء المرفإ يأتي بنقص كبير في تجارة المدينة ويؤدي إلى عكس الفائدة المطلوبة. وكانت الحكومة العثمانية وضعت مصورا بهذا المشروع وعاضدها نفر كبير من الأهالي. ونرى أن إنشاء طريق بين اللاذقية وحماة أجزل فائدة من إنشاء مرفإ اللاذقية.

مرفأ الإسكندرونة :

تضرب الأمثال بقذارة مدينة الإسكندرونة ومع هذا فقد اتخذت هذه المدينة منذ القرن السابع عشر قاعدة ومرفأ لتجارة حلب وما جاورها من البلدان وذلك لاستبداد بعض حكام طرابلس في ذلك العصر ، وليست مدينة إسكندرونة بالبلد الزراعي ولا الصناعي ويعيش الأهلون من نقل البضائع.

يدخل خليج الإسكندرونة في اليابسة ثلاثين ميلا في عرض عشرين ميلا وموقعه الجغرافي يدعو إلى تأسيس مرفإ بحري يكون من أعظم مرافئ البحر

١٥٨

المتوسط. فللإسكندرونة بموقعها محسنات عظيمة ومهما اشتدت الرياح الهوج في عرض البحر فالأمواج فيها خفيفة ثم إن الرياح الغربية قليلة الهبوب لمكان الجبال المرتفعة التي تعارض هبوبها. وشكل الأرض في قاع البحر ملائم لأن الخطوط المنحنية التي تمر من عمق ثلاثة وأربعة وخمسة أمتار تحت سطح البحر يتباعد بعضها عن بعض بميل خفيف لذلك تصلح لتوسيع أرض المرفإ. وتكفي المسافة بين المنحني المرسوم من عمق ٥ إلى ١٥ لإنشاء عامة لوازم المرفإ بأحسن الشروط. ومواد البناء قريبة وكثيرة في أطراف المدينة. وفي مقالع الإسكندرونة كمية عظيمة من الأحجار الصالحة لبناء الأحواض في البحر ، والمدينة قابلة بأيسر الأسباب أن تصبح من كبريات المدن ، ويصلح الجبل المجاور لها لتأسيس مصايف جميلة ، وهناك عيون كثيرة تفيض ثرة ويقل مثيلها في غيرها من المصايف الجميلة.

والإسكندرونة هي المرفأ الوحيد لمدينة حلب ، انطاكية ، كليس ، عينتاب ، مرعش ، أورفة ، البيرة ، ديار بكر. ولجميع مدن شمال الجزيرة حتى مدينة الموصل. وهذا المرفأ أكبر مرفإ في الشام لأنه يمكنه إرساء البواخر والأساطيل الضخمة. وكان وزير الأشغال العثمانية قدّم تقريرا لإصلاح هذا المرفإ وإنشائه ، وقدّر النفقات بمليوني فرنك ذهبي. على أن عمل مرفإ في الإسكندرونة يقتضي إنجازه وتجفيف المستنقعات المحيطة بالمدينة معا وكان قدّر هذا الوزير نفقات هذا العمل أي تجفيف المستنقعات المذكورة بنصف مليون فرنك ذهبي.

لا يفيد إنشاء مرفإ عظيم مجهز بأحدث الآلات في مدينة الإسكندرونة الفائدة المطلوبة إلا بربطه بخط حديدي كثير الحركة يمكن بواسطته الاتصال مع الداخل الواسع إلى ديار بكر فالموصل فبغداد فإيران. ولذلك اقتضى أن يكون هذا المرفأ هو الطريق الطبيعي للتجارة مع أوربا والبحر المتوسط. ويقوم الخط الحديدي الذي أنشأته شركة سكة حديد بغداد بين الإسكندرونة وطوبراق قلعة المتصل بالخط الأساسي بتسهيل المواصلات مع قليقية. وستتحول تجارة هذه الديار عن مرسين للإسكندرونة إذا جهزت هذه المدينة بفرضتها البحرية الحديثة. وستظل المواصلات مع حلب وما وراءها صعبة لأن عمل

١٥٩

سكة حديد بين الإسكندرونة وحلب عن أقرب طريق يقتضي له المرور من أعالي جبل أمانوس وجعل الميل شديدا على مسافة طويلة. وإذا أريد تخفيف الميل يقتضي إطالة مدى الطريق فلا تختلف إذ ذاك المسافة بين الإسكندرونة وحلب في هذا الطريق الجديد عن طريق طرابلس حمص حلب من حيث المسافة عدا أن هذا أسهل من الأول. بقيت هناك طريقة أخرى للقيام بهذا المشروع وهي خرق الجبال التي تفصل بين الإسكندرونة وحلب بنفق لا يقل طوله عن عشرة كيلو مترات تحت مضيق مدينة بيلان ، وهذا يستلزم نفقات كثيرة ربما زادت على الفائدة المطلوبة ألا وهي ربط حلب وضواحيها بالساحل البحري عن أقرب طريق. أما إذا نظرنا إلى الإسكندرونة بصفتها مرفأ خاصا لحلب فقط بل كما ذكرنا أعلاه للعراق وإيران فتكون النفقة حينئذ متناسبة مع عظمة المشروع.

الخطوط الحديدية :

لقيت شبكة الخطوط الحديدية الشامية بأسرها صعوبات جمة فلم يتيسر إكثار عددها واتساع نطاقها. فسلسلة جبال لبنان تقضي باستعمال الخطوط المسننة. وهبوط أراضي الغور التي تنحدر بصورة شديدة تقرب من الشاقولية وتجعل منها حفرة عميقة تمنع سهولة المواصلات بين الساحل وشرقي نهر الأردن. فهذه الموانع الطبيعية في صورة الجبال اضطرت القائمين بأعمال هذه الخطوط أن يعمدوا إلى الخطوط الضيقة ذات الميل الشديد ، مما أدى إلى كثرة النفقات في الإنشاء وزيادة المنفق على الاستثمار. فالخطوط الحديدية في الشام التي تمكنا من الحصول على بعض الوثائق عنها وعن نبذة من تاريخها والشؤون المتعلقة بها هي على الصورة الآتية :

أولا : طريق بيروت ـ دمشق ، وبيروت ـ المعاملتين ، ودمشق ـ المزيريب ، ورياق ـ حلب ، وحمص ـ طرابلس.

خط بيروت ـ دمشق :

لما كثرت حركة التجارة والنقل على طريق بيروت لم تعد تكفي المركبات

١٦٠