خطط الشام - ج ٥

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٥

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩٦

أن تشرع بمحاسبة النظار ، تناقشهم الحساب ، فتبدأ بالأقوياء منهم ، وتغلظ عليهم ، وتكرههم على إبراز كتاب الواقف الأصلي المسجل بحكم الحاكم الخالي من شائباتالتحريف والتبديل ، الحالي بتوقيع أو خاتم القاضي الحاكم بصحته ، فيما إذا فقدت سجلاته ، وأن لا تعتبر الصورة المنقولة عن أصله لأنها عرضة للتحريف والتبديل ، كما يقع ذلك من النظار الخائنين. وإذا أبرز الناظر على وقف كتاب الوقف الأصلي ، يعثر ديوان الأوقاف في الأغلب على موارد أموال غزيرة مختلسة ، وعلى مساجد ومعاهد دارسة ومدارس مندرسة ، كما يعثر عرضا واتفاقا من يحفر بئر ماء على كنز ثمين أو ركاز دفين ، وإذا امتنع الناظر من إظهار كتاب الوقف يستفيد ديوان الأوقاف من اعتبار الوقف من قبيل ما انقطع ثبوته ، واشتبهت مصارفه ، وجهلت شرائطه ، لعدم وجوده في سجلات القضاة ، وما كان كذلك يتحول إلى الإسعاف العام ، ما لم يبرهن المرتزقة على استحقاقهم بإثبات الوقف وشروط الواقف ونسبتهم إليه أو إلى الطائفة الموقوف عليها.

وأرى أن تتخلى المفوضية العليا في بلاد الانتداب الفرنسي عن التدخل بأوقاف المسلمين بواسطة مستشارها الفرنسي المستمد منها نفوذه مباشرة ، فإنه لا فرق بين هذا التدخل وبين التدخل بشؤون الصلاة والزكاة والصيام والحج ، لأن الولاية على الأوقاف الخيرية ولا سيما الدينية المحضة هي من القضايا الشرعية الصرفة ، فلا فرق والحال هذه في الحظر بين إمامة النصراني المسلمين بالصلاة ، وبين ولايته على أوقاف مساجدهم ومعابدهم. وهذا الحظر غير محصور بالإسلام بل هو من ضرورات جميع الديانات. فإن النصرانية مثلا تحظر أن يتعاطى أحبار المسلمين ومشايخهم ما يتعاطاه أساقفة النصارى وقسيسوهم من التعميد والتكليل والتكريس والحرمان والغفران ، كما تحظر ولاية المسلمين الموحدين على أوقاف كنائس النصارى المثلثين وأديارهم ، وهذا سر إحجام الدولة العثمانية المسلمة عن التدخل بأوقاف اليهود والنصارى من رعاياها ، وتركها إدارة أوقافهم والولاية عليها لمجالسهم الطائفية. فالواجب على حكومة الانتداب أن تترك المسلمين في هذه الديار طلقاء التصرف في أوقافهم وتقصر عنايتها على الإرشاد في الشؤون المدنية.

١٢١

ولا أجنح بتة إلى رأي من يقول بإلغاء دواوين الأوقاف الحكومية ، وإناطة الولاية على الأوقاف الإسلامية بمجلس إسلامي أهلي ينتخبه الأهلون على منوال مجلس أوقاف فلسطين، لأن المجالس الأهلية مهما بلغت من النظام والانتظام لا تضارع دواوين الحكومة المسؤولة والمؤاخذة قانونا على الكبيرة والصغيرة. وليسع الشام ما يسع مصر والعراق. ومن رأيي أن تربط إدارة الأوقاف بالحكومات المحلية ، ويجعل لها ديوان خاص يعد في جملة دواوينها. أما أوقاف فلسطين فقد قضت الضرورة إناطة إدارتها بالمجلس الإسلامي الأهلي. لأن البلاد محكومة حكما مباشرا ، بيد أنه قد نشأ من إنشاء هذا المجلس من الشقاق والتخاذل بين الفلسطينيين ما انقسم الناس في الحكم عليه إلى مادح وقادح بدافع المؤثرات الحزبية المتضاربة. أما شرقي الأردن أو حكومة الشرق العربي فإنها مليئة بأوقافها التي انتابها ما انتاب أوقاف بقية الأقاليم من الاختلاس في القرون المظلمة ، ولعل الحكومة تؤسس فيها ديوان أوقاف يشرف على ما في صقعها من معاهد وقف ووقوف محبوسة الريع اه.

١٢٢

الحسبة والبلديات

العرب دعاة مدنية :

لم تقصر العرب في شأن من شؤون المدنية بالنسبة لأعصارهم ، فاستنبطوا بعقولهم ، وطبقوا على شريعتهم ، كل ما يعلي أمرهم ، وتحلو به حياتهم. وكلما ارتقت حضارة الغرب ، وتوفر العاملون من أبنائه على استخراج دفائن هذه المدنية العربية الإسلامية ، تتجلى لنا أمور ما كنا نحن أصحاب تلك المدنية نعلمها ونعمل بها من قبل. انتقلت المدنية إلى العرب من الفرس واليونان والهند. ولكن جاء الإسلام بما فيه من العوامل القوية ، والنظام المدني البديع الذي استخرجه أهل الصدر الأول من روح الكتاب والسنة ، بأجمل مدنية عرفها البشر إذ ذاك ، وما نظنه مهما ارتقى في الأزمان التالية يخرج عن حدّها كثيرا. ونظام العقل نظامه في كل دور وطور.

لم يترك العرب بابا من أبواب المدنية إلا طرقوه ، ولا علما من علوم الصناعات إلا برزوا فيه وعانوه. وتجلت مدنيتهم بأجلى مظاهرها في فارس والعراق ومصر والشام والأندلس أكثر من غيرها من الأقطار التي هذبها الإسلام ، وكانت العرب أساتذة أبنائها. والغالب أن قيام دول عظمى إسلامية في تلك الأقطار على أسس مدنيات قديمة كان من أول الدواعي إلى تجويد مدنيتهم ، ورفع شأنها بين الأمصار على اختلاف القرون والأعصار ، وللأقليم وطبيعته دخل كبير في تثقيف العقول ، ونبذ الجمود والخمول ،

ضاعت أو كادت وا أسفاه أوضاع مدنيتنا القديمة ومشخصاتها ، لأن العرب تمزقوا وتفرقوا بعد استيلاء أناس من الفاتحين على ديارهم ، كانوا

١٢٣

دونهم في سلامة الذوق وجودة الفطرة ، فأفسدوا أخلاقهم بما حملوه إليهم من عاداتهم وتقاليدهم المختلة ، وأوصلوهم إلى درجة من الجهالة لو لم يتداركها في القرن الماضي محمد علي باشا في مصر وخير الدين باشا في تونس ومدحت باشا في الشام والعراق لاضمحل عمرانهم وباد سلطانهم إلا قليلا.

تعريف الحسبة :

وبعد فإن الناظر في أصول الحسبة في الحكومات الإسلامية السالفة ، يعلم أن أجدادنا هيأوا لمدنهم وسكانها جميع ضروب الراحة والهناء ، وحاولوا أن يبعدوا عنها ما أمكن الجور والشقاء. والحسبة بالكسر الأجر وهو اسم من الاحتساب أي احتساب الأجر على الله ، تقول فعلته حسبة وأحتسب فيه احتسابا ، والاحتساب طلب الأجر. وكانت الحسبة وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين ، يعين لذلك من يراه أهلا له ، فيتعين فرضه عليه ، ويتخذ الأعوان على ذلك ، ويبحث عن المنكرات ، ويعزر ويؤدب على قدرها ، ويحمل الناس على المصالح العامة في المدينة ، مثل المنع من المضايقة في الطرقات ، ومنع الحمالين وأهل السفن من الإكثار في الحمل ، والحكم على أهل المباني المتداعية بهدمها ، وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة ، والضرب على أيدي المعلمين في الكتاتيب وغيرها ، من الإبلاغ في ضربهم للصبيان المتعلمين ـ قاله ابن خلدون.

وقال ابن تيمية : وبنو آدم لا يعيشون إلا باجتماع بعضهم مع بعض ، وإذا اجتمع اثنان فصاعدا فلا بد أن يكون بينهما ائتمار بأمر. وتناه عن أمر ، وأولو الأمر أصحاب الأمر ، وذوو القدرة وأهل العلم والكلام. فلهذا كان أولو الأمر صنفين العلماء والأمراء ، فإذا صلحوا صلح الناس ، وإذا فسدوا فسد الناس.

وقال ابن الأخوة : الحسبة من قواعد الأمور الدينية ، وقد كان أئمة الصدر الأول يباشرونها بأنفسهم لعموم صلاحها ، وجزيل ثوابها ، وهي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه ، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله ، وإصلاح بين الناس ، والمحتسب من نصبه الإمام أو نائبه للنظر في أحوال الرعية ،

١٢٤

والكشف عن أمورهم ومصالحهم ، وبياعاتهم ومأكولهم ومشروبهم وملبوسهم ومساكنهم وطرقاتهم ، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.

وكانت الحسبة (المقتبس م ٣ ص ٥٣٧ و ٦٠٩) في الحكومات العربية وحكومات الطوائف ضربا من ضروب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولا يكون من تسند إليه إلا من وجوه المسلمين ، وأعيان المعدلين ، ولا يحال بين المحتسب وبين مصلحته إذا رآها ، والولاة تشد معه إذا احتاج إلى ذلك. وقد قسمت الحسبة إلى ثلاثة أقسام : أحدها ما يتعلق بحقوق الله تعالى ، والثاني ما يتعلق بحقوق الآدميين ، والثالث ما يكون مشتركا بينهما. ويمكن أن تقسم الحسبة إلى دينية ومدنية ، فالديني منها بطل من ديار الإسلام منذ أصبحت حكوماتها لا تحافظ على جوهر الدين بالذات. والمدنية استعيض عنها في القرن الماضي في الولايات العثمانية بالمجالس البلدية ، وبقيت الحسبة معروفة في مصر إلى أواسط القرن الغابر. ومصر آخر ما اضمحل من أقطار العرب وأول من نهض.

الحسبة تجمع الشرطة والصحة والبلدية وعملها :

فالحسبة والحالة هذه أشبه بديوان الشرطة والصحة والبلديات لعهدنا ، وكان المحتسب أو صاحب الحسبة يشرف على المعاملات المنكرة في الدين ، ويجازي عليها في الحال ، فينكر ما يجده مثلا من المنكرات في الأسواق ، ويشدد على السوقة والباعة في صحة القناطير والأرطال والمثاقيل والدراهم والموازين والمكاييل والأذرع ، ويجري قواعد الحسبة على الطحانين والعلافين والفرانين والخبازين والشوائين والنقانقيين (١) والكبوديين والبواريين والجزاريين والرواسين والطباخين والشرايحيين والهراسين وقلائي السمك والزلابية والحلاويين والشرابيين والعطارين والشماعين واللبانين والبزازين والدلالين والحاكة والخياطين والرفائين والقصارين والحريريين والصباغين والقطانين والكتانيين والصيارف والصاغة والنحاسين والحدادين والأساكفة والبياطرة وسماسرة العبيد والجواري والدواب والدور والحمامات ، والسدارين (٢) والفصادين

__________________

(١) النقانقيون : هم الذين يعملون النقانق اي المصير المحشو باللحم والقلوب.

(٢) السدارون : الذين يطحنون السدر وهو من المطهرات كالصابون إذا غش يضر ولا ينفع.

١٢٥

والحجامين والأطباء والكحالين والمجبرين ومؤدبي الصبيان والقومة والمؤذنين والوعاظ والمنجمين وعلى أصحاب السفن والمراكب وباعة قدور الخزف والكيزان والفاخرانيين والغضاريين (١) والأبارين والمسلاتيين (٢) والمرادنيين (٣) والحناويين والأمشاطيين وعلى معاصر السيرج والزيت الحار والغرابليين والدباغين والبططيين (٤) واللبوديين والحصريين والتبانين والخشابين والقشاشين والنجارين والنشارين والبنائين إلى غير ذلك مما يقصد منه منع غش المبيعات ، وتدليس أرباب الصناعات والبياعات.

الحسبة قانون مدني :

اختصوا المحتسب بالنظر في أمور : إحدها إراقة الخمور كلها وكسر المعازف وإصلاح الشوارع ، وذلك باب كبير فيه مسائل إحداها أمر الميزاب والأوحال والأرداغ ، ومنع جلوس الباعة عليها ، ومنع سوق الحمر والبقر للخشابين والآجريين ونحوهم ، ومنع ربط الناس دوابهم فيها ، ومنع عمارة الحيطان في شيء من الشوارع ، ومنع شغل هواء الشارع ، ومنع المبرز في الجوار إلى غير ذلك من المصالح ، مثل النظر بين الجيران في التصرفات المضرة ، كالنظر وسد الضوء إلا فيما يرجع إلى الملك ، كغصب قطعة من الأرض ، ومنع إسبال الإزار ونحوه على الكعبين ، وزجر الرجال عن التشبه بالنساء ، ومنع النساء عن التشبه بالرجال.

ومنع الناس عن تطيير الحمام ، ومنع البغايا وتعزيرهن ، ومنع أوليائهن ومواليهن وأزواجهن ، وأمر غير المسلمين بتطهير الأواني التي يبيعون فيها المائعات كالدهن واللبن ، وأمر الغسالين بإقامة السنة واجتناب البدعة في غسل الموتي ، وحفر القبور والحمل ، وزجرهم عن الغلاء في أخذ الأجرة ، ونصب الصلحاء وذوي الخبرة بهذه الأمور ، وتفحص الجامع يوم الجمعة ،

__________________

(١) الفاخرانيون والغضاريون : هم الذين يصنعون الصحاف (الزبادي أو السلطانيات).

(٢) المسلاتيون : صناع المسلات.

(٣) المرادنيون : الذين يعملون المرادن ، آلات الغزل القديمة ، تعمل من خشب الساسم أو من السنط الأحمر.

(٤) البططيون : كأنها نسبة الى بطة والجمع بطط وبطة الدهن قارورته.

١٢٦

المصلى يوم العيدين ، وإخلاؤهما عن البيع والشراء ، ومنع الفقراء عن التخطي ، ومنع القصاص عن القصص المفتراة ، ومنع النساء السائلات عن الدخول في المصلى ، ومنع الصبيان والمجانين منه ، ودفع الحيوانات المؤذية عن العمرانات كالكلاب العقور ، والنهي عن النجس والأمر بالتنظيف ، ومنع الناس عن الوقوف في مواضع التهم ، كتحدث الرجال مع النساء في الشوارع ، ومنع النقاشين والصباغين والصواغين عن اتخاذ تماثيل ذوات الروح وكبر الصور ، ومنع المسلمين عن الاكتسابات الفاجرة كاتخاذ الأصنام والمعازف والصنج وبيع النبيذ والبختج.

ومنع الناس عن اتخاذ القبور الكاذبة ، وخروج الناس إلى زيارة بعض المتبركين أو بعض المساجد ، على مشابهة الخروج إلى الحج ، ومنع النساء عن التبرج والتفرج بالخروج إلى النظارات وزيارة القبور ، ومنع الناس عن التصرفات في المقابر بلا ملك ، ومنع المطلسمة والسحار والكهان عن بدعهم ، ونهي أصحاب الحمامات عن منكراتهم ، بتطهير المياه وإخلاء الحمام عن المرد ودخول العراة فيه ، وأمرهم باتخاذ الحجب بين الرجال والنساء ، ومنع الناس عن تعلم علم التنجيم مما لا يحتاج إليه في الدين ، وتصديق الناس الكهان والمنجمين ، ومنع الناس عن بدعة ليلة البراءة ، ومنع الناس اللعابين بالنرد والشطرنج ، وتفريق جمعهم وأخذ بساطهم وتماثيلهم ، ومنع القوابل عن إسقاط جنين الحوامل ، ومنع الجراحين عن الجب والخصاء ، ومنع الإقامة في المساجد ووضع الأمتعة فيها ، ومنع الذي أصابه اللّمم عن التكلم بالغيب ، واجتماع الناس عنده زاعمين أنه صادق في إخباره بالغيب ، ومنع الخطاط ومعلم القرآن ومعلم النحو بأجر عن الجلوس في المساجد ، ومنع المعلم عن أخذ شيء باسم النيروز والمهرجان ، وينذر المحتسب معلمي الكتاتيب أن لا يضربوا الصبيان ضربا مبرحا ولا في مقتل ، وكذلك معلمو العلوم بتحذيرهم من التغرير بأولاد الناس ، ويقفون من كان سيء المعاملة فينهونه بالردع والأدب.

١٢٧

عمل المحتسب يحسب البلد :

وكانت وظائف المحتسب تزيد وتنقص بحسب البلد ، ولا يعدو عمل المحتسب الأمور المشتركة بين الناس. فالمحتسب في بيروت يقضى عليه أن ينظر في أمور لا ينظر فيها محتسب دمشق مثلا. ففي بيروت يعنى المحتسب بالاحتساب على السماكين والملح والصير والبوري وقلائي السمك والطيور وصياديها ، ونجاري المراكب وتقديراتها. وجميع المدن مشتركة مثلا في الحسبة على الصيادلة والعقاقير والأشربة والمعاجين والقلانسيين والخرازين وصناع الشراك والأساكفة وصناع الخفاف وصنعة السرابات والزفاتين والنحاتين والدهانين وغشهم والمكارين وغشهم وكساحي السماد وحمالته والغرابيل ومناخل الشعر والوراقين والمبهرجين ، وفيمن يكتب الرسائل على الطرق والرقاع والدروج وكتاب الشروط ، والولاة والقضاة وتدليسهم ، والميازيب ومضرتها والمراصد والمراقب وطباخي الولائم والمحامل وصناعها والروايا والقرب إلى غير ذلك مما كان يستدعيه دينهم وعاداتهم ومدنيتهم.

وذكر السبكي أن على المحتسب النظر في القوت ، وكف غمة المسلمين فيما تدعو حاجتهم إليه من ذلك ، والاحتراز في المشروب ، فلطالما أوهم الخمار أنه فقاعي أو اقسماوي (١) ، وطالما أوهم الطباخ أن لحم الكلاب لحم ضأن. فليتق الله ربه ولا يكن شيء في إدخال جوف المؤمنين ما كرهه الله لهم من الخبائث ، ويحرم عليه التسعير في كل وقت على الصحيح ، وقيل يجوز في زمن الغلاء ، وقيل يجوز إذا لم يكن مجلوبا ، بل كان يزرع في البلد وكان عند الشتاء. وإذا سعر الإمام انقاد الرعية لحكمه ، ومن خالفه استحق التعزير. ومن مهمات المحتسب ولا سيما في الشام أمران ارتبطا به أحدهما النقود من الذهب والفضة المضروبين. ولا يخفى أن في زغلهما هلاك أموال البشر ، فعليه اعتبار العيار في محك النظر والتثبت في سكة المسلمين ، وثانيهما المياه فعليه الاحتراز في سياقها ، وقد جرت عادة أناس في الشام أن يشتري بعضهم قدرا معلوما من نهر ثورا وباناس مثلا ويتحيل لصحته بأن يورد العقد على مقره بما له فيه من حق الماء وهو كذا أصبعا ، ثم يسوقه ويحمله

__________________

(١) الاقسماوي : بائع السويق او المثلجات.

١٢٨

على مياه الناس يرضي طائفة يسيرة منهم. وكان الشيخ الإمام رحمه‌الله يشدد النكير في هذا وله كتاب فيه سماه (الكلام على أنهار دمشق). والحاصل أن الخلق في أنهار دمشق سواء يقدم الأعلا منهم فالأعلا ولا يجوز بيع شيء من الماء ولا مقره ولا يفيد رضى القوم ولا كلهم لأنهم لا يملكون إلا الانتفاع ، بل ولا رضى أهل الشام بجملتهم لأن رضاهم لا يكون رضا من بعدهم ممن يحدث من الخلق اه.

ثلاثة آراء في الحسبة :

وليس هذا كل ما يطلب من المحتسب فقد كان يطلب منه أن يسيطر على العقول أيضا. ذكر ابن الأثير في تقليد أنشأه لمنصب الحسبة : ... واعلم أن الناس قد أماتوا سننا وأحيوا بدعا ، وتفرقوا فيما أحدثوه من المحدثات شيعا ، وأظلم منهم من أقرهم على أمرهم ، ولم يأخذهم بقوارع زجرهم ، فإن السكوت عن البدعة رضا بمكانها ، وترك النهي عنها كالأمر بإتيانها ، ولم يأت بنا الله إلا ليعيد الدين قائما على أصوله ، صادعا بحكم الله فيه وحكم رسوله ، ونحن نأمرك أن تتصفح أحوال الناس في أمر دينهم ، الذي هو عصمة مالهم ، وأمر معاشهم الذي يتميز به حرامهم من حلالهم ، فابدأ أولا بالنظر في العقائد ، واهد فيها إلى سبيل الفرقة الناجية الذي هو سبيل واحد ، وتلك الفرقة هي السلف الصالح الذين لزموا مواطن الحق فأقاموا ، وقالوا ربنا الله ثم استقاموا ، ومن عداهم شعب دانوا أديانا ، وعبدوا من الأهواء أوثانا ، واتبعوا ما لم ينزل به الله سلطانا ، (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) ، فمن انتهى من هؤلاء إلى فلسفة فاقتله ولا تسمع له قولا ، ولا تقبل منه صرفا ولا عدلا ، وليكن قتله على رؤوس الأشهاد ، ما بين حاضر وباد ، فما تكدرت الشرائع بمثل مقالته ، ولا تدنست علومها بمثل أثر جهالته ، والمنتمي إليها يعرف بنكره ، ويستدل عليه بظلمة كفره ، وتلك ظلمة تدرك بالقلوب لا بالأبصار ، وتظهر زيادتها ونقصها بحسب ما عند رائيها من الأنوار ، وما تجده من كتبها التي

١٢٩

هي سموم ناقعة ، لا علوم نافعة ، وأفاعي ملقفة ، لا أقوال مؤلفة ، فاستأصل شأفتها بالتمزيق ، وافعل بها ما يفعله الله بأهلها من التحريق.

ومن تقليد رشيد الوطواط لمحتسب : وأمرناه أن يجعل الزهد شعاره ، والتقوى دثاره والعلم معلمه والدين مناره ، ثم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويقيم حدود الشرع على موجب النصوص والأخبار ، ومقتضى السنن والآثار ، من غير أن يتسور الحيطان ، ويتسلق الجدران ، ويرفع الحجب المسدولة ، ويكسر الأبواب المسدودة ، ويسلط الأوباش على دور المسلمين وحرم المؤمنين ، حتى يغيروا على أموالهم ، ويمدوا الأيدي إلى عوراتهم وأطفالهم ، ويظهروا ما أمر الله بستره وإخفائه ، ونهى عن إشاعته وإفشائه ، فإن عبادة الأوثان خير من ذلك الاحتساب ، والعقوبة الأبدية أولى بمباشره من الأجر والثواب.

وأشار ابن فضل الله في وصية محتسب أن ينظر في الدقيق والجليل ، والكثير والقليل ، وما يحصر بالمقادير وما لا يحصر ، وما لا يؤمر فيه بمعروف أو ينهى عن منكر ، وما يشترى ويباع وليتعرف الأسعار ويستعلم الأخبار ، في كل سوق من غير إعلام لأهله ، ليقيم عليهم من الأمناء من ينوب عنه في النظر ، ويأمره بإعلامه بما أعضل. وقال له : إن النقود قد يكون فيها من الزيف ما لا يظهر إلا بعد طول اللبث ، فليعرض منها على المحك من رأيه ما لا يجوز عليه بهرج ، وما يعلق من الذهب المكسور ويروبص من الفضة ، وما أكلت النار كل لحامه ولا بعضه ويقيم عليه من جهته الرقباء ، وليقم الضمان على العطارين والطرقية في بيع غرائب العقاقير إلا ممن لا يستراب فيه ، وبخط مطبب ماهر لمريض معين في دواء موصوف ، والطرقية وأهل النجامة وسائر الطوائف المنسوبة إلى ساسان ، ومن يأخذ أموال الرجال بالحيلة ويأكلهم باللسان ، ومن وجدته قد غش مسلما ، أو أكل بباطل درهما ، أو أخبر مشتريا بزائد ، أو خرج عن معهود العوائد ، أشهره في البلد ، وغير هؤلاء من فقهاء المكاتب وعالمات النساء وغيرهما ، ومن يقدم على ذلك وارشقهم بسهامك ، وزلزل أقدامهم بإقدامك، ولا تدع منهم إلا من جربت أمانته ، واختبرت صيانته.

١٣٠

الحاجة والحسبة أمس واليوم :

ولقد حدثنا التاريخ أن الناس كانوا يتولون الحسبة بأنفسهم عندما تضعف الحكومات لأن مصلحة أهل كل بلد لا تتم إلا بدفع الأذى بعضهم عن بعض والتواصي بالحق ، والجاهل في ذمة العالم ، والضعيف من حصة القوي. وأهل البلد الواحد متكافلون معنى وضمنا إذا لم يتكافلوا هلكوا ، ولا تتم للفرد فيه سعادة لا تتناول المجموع. وكان قانون الاحتساب يسد حاجات المجتمعات في هذه الديار. نعم إن تلك الأوضاع قد بلغت عند غيرنا في هذا العصر مبلغا عاليا من الرقي بفضل قاعدة توزيع الأعمال ، وكثرة الاختصاصيين في كل فرع من الفروع ، ولكن ديوان الحسبة وحده كان يقوم بأكثر هذه المقومات في المدن الفاضلة ، فكانت الحسبة آخذة برقاب المنافع ، داقة أعناق المضار. ومن الغريب أن عصرنا على رقيه لم يصل في هذا القطر إلى بعض ما كان يتمتع به أهلها في القرون الغابرة ، وأغرب من هذا كيف اهتدوا إلى أشياء فأصلحوها لتوفير راحتهم ورفاهيتهم ، وما بلغوا ما بلغوه من تراتيبهم بدون التوسع في القوانين الفضفاضة شاهدة على تمدنهم ، وأنهم أهل عمليات أكثر مما هم أرباب نظريات ، فسبحان الملهم العظيم.

تأسيس البلديات (١) :

يبدأ عهد الإصلاح في الدولة العثمانية من تاريخ إعلان المنشور السلطاني الصادر في غرة جمادى الآخرة سنة (١٢٧٢) وفيه القواعد الأساسية التي بني عليها ذلك الإصلاح في الشؤون المختلفة ، وفي جملة المعاهد التي أنشئت ، المجالس البلدية التي أحدثت عقب صدور المرسوم المذكور ووضع لها نظام خاص جرى فيه تعديل بحسب الأحوال.

فإن النظام المؤرخ بيوم ٢٣ ربيع الأول سنة (١٢٨٤) الذي يحوي في مطاويه أصول تأليف المجالس البلدية في مراكز الولايات والألوية والأقضية ، قد جرى تعديله فيما بعد كما هو مصرح بذلك في الفصل السابع من قانون إدارة الولايات العمومية (٢٩ شوال سنة ١٢٨٧ و ٩ كانون الثاني سنة ١٢٨٦)

__________________

(١) كتب فصل البلديات السيد أمين الحشيمي.

١٣١

ويقضي هذا القانون بإحداث مجلس بلدي في كل مركز من مراكز الولاة والمتصرفين وقوام المقامات مؤلف من ستة أعضاء ومن رئيس ومعاون ومن طبيب البلدة والمهندس بصفتهما عضوين مشاورين وكاتب ومحاسب موظفين. وينص بأن هيآت المختارين (العمد) والشيوخ في المراكز المبحوث عنها هي التي يحق لها انتخاب الأعضاء للمجالس البلدية من ذوي الكفاءة باتفاق الكلمة أو بأكثرية الآراء ، وأن الحكومة المحلية تصادق على انتخابهم ونصبهم. أما نصب الرئيس فيجب أن يقرّه المتصرف والوالي أيضا ، وأما الرئيس والأعضاء فيخدمون مجانا بلا راتب ، والكاتب والمحاسب يخصص لهما راتب من ريع البلدية ويربط المحاسب بكفالة معتبرة. ويجتمع هذا المجلس مرتين في الأسبوع وينظر في وظائفه المعينة في القانون. وأهمها ما له مساس بإنشاء الأبنية وفتح الطرق وتوسيع الجادات والأزقة والشوارع ، وتنظيف البلدة وتنويرها ، ومراقبة الأوزان والمكاييل ، وتعديل الأجور والأسعار ، وتنظيم مجاري مياه الشرب وقنوات المياه المالحة وغير ذلك من الشؤون التي تنفع في عامة شؤون البلدة.

ثم صدر قانون البلديات (٢٧ رمضان سنة ١٢٩٤) فعدّل كثيرا من مواد الأنظمة السابقة وزاد في اختصاص المجلس والرئيس وغيّر طريقة الانتخاب ، فبعد أن كانت منحصرة في الهيآت المؤلفة من المختارين وأعضاء مجالسهم أصبحت شاملة أفراد الأمة الذين توفرت فيهم الشروط القانونية ، وأصبح لكل واحد منهم حق الاشتراك في الانتخاب بحيث يمكنه أن يكون ناخبا أو منتخبا حسب الشروط المتوفرة فيه ، وزاد في تحسين حالة الدخل وتوفير منابعه وانتظام جبايته.

ومنح هذا القانون مجالس الإدارة في المدن الكبيرة حق تقسيم هذه المدن إلى مناطق ، بحسب سعتها ووفرة سكانها ، وتأليف مجلس بلدي في كل منطقة منها على أن يراعى عدد السكان ولا يقل عن أربعين ألفا في كل منطقة. وأناط بالبلدية وظائف عديدة فوق تلك الوظائف. فعهد إليها إصلاح المدينة وترقية شؤونها من كل الوجوه العمرانية والصحية والأخلاقية. وأوجب الزيادة في عدد الأعضاء فجعلوا اثني عشر عضوا بعد أن كانوا ستة أعضاء

١٣٢

فقط ، على أن تكون تلك الزيادة بنسبة عدد السكان واتساع المحل. وخوّل الحكومة المحلية حق تعيين الرئيس من الأعضاء المنتخبين براتب يتقاضاه من واردات البلدية ، وأما الأعضاء فيبقون بلا راتب كما في السابق على أن يبدل نصفهم في كل سنتين. ثم جرى تعديل هذه المادة بشأن الرئيس فتقرر أن تختار الحكومة لرئاسة البلدية من شاءت من ذوي المقدرة واللياقة ، سواء كان من الأعضاء المنتخبين أو من غيرهم ، ولكنها بعد التجربة عدلت عن هذه الطريقة وأرجعت المادة إلى أصلها.

وفي قانون البلديات أن كل فرد من أفراد الدولة إذا كان يؤدي مائة قرش خراجا وهو في سن العشرين وغير محكوم عليه بجناية ، يحق له أن يشترك في انتخاب أعضاء البلدية. وإذا كان يدفع مائة وخمسين قرشا خراجا وكان عمره خمسا وعشرين سنة وكان غير محكوم عليه بالحبس مدة سنة أو بجزاء آخر يعادله وغير تابع لحكومة أجنبية أو مستخدم عند أحد أو في مجلس بلدي آخر أو متعهد أو كفيل للمتعهدين في دوائر البلدية وكان غير جندي أو حاكم في المدينة أو القصبة فيحق له أن ينتخب عضوا في البلدية.

وفي هذا القانون أن واردات البلدية عبارة عن الرسوم والضرائب المخصصة لها بإذن سلطاني ، وعن أثمان الفضلات الحاصلة من توسيع الطرق وفتح الشوارع وغيرها ، وعن الرسوم التي يجب استيفاؤها من أصحاب الأملاك الذين يستفيدون من فتح الجادات والشوارع لانتفاع عقاراتهم وأملاكهم من شرف الموقع وإحداث البنايات ، إذا قام بناؤها على الطراز الجديد ، ومن الجزاء النقدي ورسوم القنطار والكيل والوزن ورسوم الذبحية ورسم المقاولات المعقودة في الإيجار والاستئجار ورسوم الحيوانات المباعة ضمن حدود البلدية.

وقد خصص للتنوير والتنظيف عشرون في المئة من خراج العقارات والمسقفات وعشرة في المئة من التمتع. وهناك رسوم أخرى للبلدية مثل رسم الرخصة عن الأبنية المنشأة حديثا أو المراد تعميرها وترميمها ، وعن الألعاب المرتبة في المقاصف ومحلات اللهو والطرب ، ومثل رسم العجلات والدواب المعدّة للركوب والنقل وغير ذلك من الرسوم المتروكة للبلدية ، ومن الهبات والتبرعات أيضا. وأهم الرسوم المخصصة للبلدية رسم الدخول (الاوكتروا)

١٣٣

فإنه بالنظر لتنوع موارده يكاد يكون الدعامة القوية في إصلاحات البلدية.

ونص قانون البلديات على وجوب مراقبة الدخل والصرف ، وتنظيم موازنة عامة في كل سنة سالمة من الشوائب والنواقص ، وقضى بتأليف لجنة من أعضاء المجلس الإداري وأعضاء المجلس البلدي مرتين في السنة باسم الجمعية البلدية. وحتم عليها أن تلتئم في نيسان من كل سنة فتنظر في نفقات البلدية عن السنة السابقة ، وفي حساباتها وأعمالها العامة ، ثم تصادق عليها ، وأن تجتمع مرة أخرى في تشرين الثاني من تلك السنة فتنظم الموازنة العامة للسنة القادمة ، وتنظر في الشؤون التي يجب أجراؤها في تلك السنة. ومنح هذه الجمعية حق التعديل في أنظمة البلدية ، والنظر في أحوالها العامة على أن ترفع مقرراتها فيما يتعلق بالتعديل والإصلاح إلى المجالس العمومية في مراكز الولايات.

ولما كان توسيع الطرق وتعبيدها ، وفتح الجادات والشوارع وإحداث الأرصفة وإصلاح مجاري المياه والجداول وتنظيمها ، وإنشاء المدارس والمستشفيات العمومية والثكنات والمعاقل ، والقيام بجميع الأعمال المفيدة التي يشمل نفعها السكان على اختلاف طبقاتهم يتوقف على إطلاق يد البلدية في استملاك الأراضي والبنايات اللازمة للإصلاحات المنوه بها فإن قانون الاستملاك المؤرخ في ٢١ جمادى الأولى سنة (١٢٩٦) والمعدل بقوانين وأنظمة أخرى قد منح البلديات حق الاستملاك في جميع الأرضين والعقارات بمقابل بدلات معتدلة تقدرها لجان مؤلفة من مخمنين محلفين من ذوي الخبرة والنزاهة تبعا لأصول نص عليها هذا القانون. وهذا ما زاد أعمال البلديات تحسينا وإتقانا ، فأصبحت موافقة لأساليب العمران الحديث ومنطبقة على قواعد الهندسة والفن ، وحفظت لأصحاب الأملاك والأرض حقوقهم من الضياع أيضا.

النظام الجديد :

وضع رئيس الدولة السورية قرارا مؤرخا في ١٠ حزيران سنة (١٩٢٥) بتأسيس البلديات في المدن التي لا يتجاوز عدد أهاليها عشرة آلاف شخص فغيّر هذا القرار بعض أحكام القوانين السابقة. وقد نصّ فيه على أن المدن

١٣٤

التي يتجاوز عدد أهاليها مئة ألف نفس تؤلف مجالسها البلدية من عشرة أعضاء ينتخبهم الأهالي وعضوين يعينهما وزير الداخلية باقتراح الوالي أو المتصرف ، وأن المدن التي يبلغ عدد أهاليها بين خمسين ألفا ومئة ألف ، تؤلف مجالسها من ثمانية أعضاء ينتخبهم الأهالي وعضوين يعينهما وزير الداخلية باقتراح الوالي أو المتصرف. والمدن التي لا يتجاوز عدد سكانها خمسين ألفا تتألف مجالسها من ستة أعضاء منتخبين واثنين ينصبهم وزير الداخلية.

ونصّ أيضا على أن المجلس البلدي يجتمع حتما يوم الخميس من كل أسبوع يلتئم فوق ذلك بدعوة من ممثل الدولة المنتدبة أو رئيس الحكومة السورية أو وزير الداخلية أو مستشار البلدية ، وفي الأحوال المستعجلة يجتمع بدعوة من رئيس البلدية أو بطلب من نصف أعضاء المجلس على الأقل.

ونصّ على صورة عقد الجلسات والمذاكرة في القضايا المحالة إلى المجلس البلدي وتدوين المقررات الصادرة منه ، ومنح مستشار البلدية أو المفتش حق حضور الجلسات وإبداء رأيهما أثناء المذاكرة ، وجعل اللغتين العربية والإفرنسية رسميتين ، وأوجب تسطير المحضر باللغة العربية وباللغتين معا كلما سمحت الأحوال.

وأجاز هذا القرار لرئيس الدولة حل المجلس البلدي بقرار منه وباقتراح وزير الداخلية ، واشترط موافقة المفوض السامي على ذلك الحل ، ثم ذكر الأسباب الموجبة للحل كما يأتي : (١) إهمال المجلس واجباته المنصوص عليها في القرار المذكور بعد أن يمر على تبليغه (٤٨) ساعة. (٢) مخالفته أحكام المادة ٢٣ من هذا القرار التي تحظر عليه المذاكرة في موضوع خارج عن سلطته ، أو في موضوع لم يذكر في برنامج أعمال الجلسة. والمذاكرة أيضا في قضية عقد عليها قرار يتعلق بمصلحة بعض الأعضاء الذين اشتركوا في الجلسة ، والمذاكرة بإذاعة نشرات أو خطب وإبداء أمان لها صبغة سياسية أو دينية تتعلق بالإدارة العامة. (٣) إهماله المناقشة في إحدى القضايا المسجلة بصورة نظامية في بيان أعمال الجلسة الأولى خلال أربع جلسات متوالية.

(٤) نقص عدد الأعضاء إلى درجة لم يتمكن معها في أربع جلسات متوالية من إدراك النصاب القانوني.

١٣٥

ونص القرار على تأليف لجنة خاصة بقرار من رئيس الدولة تضم خمسة أعضاء للقيام بوظائف المجلس الذي يكون حله قد تم وفقا للأحكام السابقة ، وصرّح بأنه يجوز تعيين اثنين أجنبيين من دافعي الضرائب في اللجنة المذكورة ، وأن هذه اللجنة تقوم بعامة وظائف المجلس، وأنه يشرع بانتخابات جديدة متى ساعدت الحال على ذلك ، ويعين تاريخ إجرائها بقرار من رئيس الدولة.

ونص القرار على وظائف المجلس البلدي فجعل إنفاذ المقررات المتضمنة للوظائف المذكورة متوقفا على تصديق وزارة الداخلية وإنفاذ غيرها من المقررات مناطا بوضع إشارة عليها من المستشار. والوظائف المهمة هي : تنظيم الموازنة والتعديل في تقدير الرسوم ، ومشترى عقارات يزيد مجموع قيمتها على عشر واردات البلدية ، ووضع ضرائب استثنائية وعقد قروض (لا بد في هذه من الحصول على إذن المفوض السامي) وبيع أملاك البلدية أو مبادلتها ، وترتيب درجات الشوارع والساحات وتزيينها ، وتحديد الأماكن العامة وتوسيعها أو إبطالها ، وإحداث ساحات للأسواق وللصيد والسباق في المواسم وغير ذلك.

وصرح بأن هذه المقررات ترفع إلى وزارة الداخلية ، فإذا لم يبد الوزير رأيه خلال ثلاثين يوما من تاريخ الوصل المعطى منه ، يحق للمجلس البلدي إنفاذ أحكامها ، وإذا رفض الوزير الموافقة عليها خلال تلك المدة فإن للمجلس البلدي حق تمييزها إلى مجلس الشورى. ويكون قراره بشأنها مبرما. وقد نص ذلك القرار على أنه يعين عضو من أعضاء المجلس البلدي رئيسا للبلدية بقرار من رئيس الدولة وبالاستناد إلى اقتراح وزير الداخلية.

ويصرح القرار بأن الرئيس يعين لمدة سنة وأنه يمكن تجديد تعيينه لسنة أخرى بعد انقضاء مدة الرئاسة. وأنه إذا تغيب الرئيس أو وجد سبب آخر يمنعه من الحضور ، فإن أكبر الأعضاء سنا يقوم مقامه في وظائفه ، وإذا تجاوزت مدة غيابه أو مدة السبب المانع من حضوره خمسة عشر يوما فيعين حينئذ وكيل الرئيس بقرار من رئيس الحكومة بناء على اقتراح وزير الداخلية. وأما عزل الرئيس أو تنحيته عن العمل فلا يكون إلا بقرار رئيس الدولة مبني على اقتراح وزير الداخلية ومصادق عليه من المفوض السامي بشرط أن يلمّ بالأسباب الموجبة للتنحية أو منعه.

١٣٦

ويتقاضى رئيس البلدية تعويضا شهريا يعين بقرار من وزير الداخلية ويتناول الأعضاء في نهاية كل شهر تعويضا عن الجلسات التي حضرها كل منهم خلال ذلك الشهر على أن لا يتجاوز مجموع التعويض لكل عضو عشرين ليرة سورية صافية. وقد صرّح القرار بوظائف رئيس البلدية فإذا هي أوسع نطاقا من الوظائف التي خصته بها القوانين السابقة. وتبين أن قرارات رئيس البلدية في دائرة سلطته الخاصة أو بالاستناد إلى مذاكرات المجلس البلدي ، تعرض فورا على وزير الداخلية ولا توضع موضع الإنفاذ إلا بعد مرور خمسة عشر يوما على تسليمها للوزارة المشار إليها ، ويجوز لوزير الداخلية أن يأمر بتنفيذها فورا في الأحوال المستعجلة فقط ، أما المقرارات التي تتضمن تسوية وقتية فإنها تنفذ حالا بعد نشرها أو تبليغها. وفي كل حال لا تسري أحكام القرارات على ذوي العلاقة بها إن لم تنشر وتذع ، هذا إذا كانت أحكامها عامة ، وعلى وجه الانفراد فيما إذا كانت خاصة.

تأثير البلديات في العمران :

للبلديات تأثير عظيم في عمران المدن والقصبات على اختلاف درجاتها لا سيما إذا عهد بإدارة البلدية إلى رجال كفاة يحسنون العمل ، وينطوون على نزاهة ونشاط ، ومع أن بلدية دمشق مثلا وبها نمثل ، وكلامنا فيها يصدق على أكثر مدن الشام لم تحصل على هذا الشرط الأساسي في ترقية شؤونها إلا في الأحايين ، فإن تأثيرها في عمار المدينة ظاهر محسوس لا ينكره أحد ، ومنه اتساع الشوارع والجادات وانتظامها ، ويستثنى من ذلك الأزقة التي ما برحت ماثلة للعيان على الطراز القديم لا يكاد يتخللها الهواء ولا ينفذ إليها النور. ولو أتيح للمدينة حكام وللبلدية رؤساء في الزمان الغابر يقدرون الضرر العظيم الذي يطرأ على الصحة العامة بسبب ضيق المنافذ للهواء والنور. لأزالوا تلك الموانع ، فوسعوا جميع الطرق والأزقة الضيقة ، وخدموا بذلك المدينة أجلّ خدمة ، كما فعل مدحت باشا في سوقه الشهير ، وكما فعل جمال باشا في زمن الحرب ، فإنهما فتحا الشوارع الكبيرة ومهدا سبل الإصلاح في المدينة وكما يفعل الآن رجال السلطة العسكريين فإنهم قد باشروا العمل نفسه بجد ونشاط.

١٣٧

ومن ذلك إحداث المجاري للمياه القذرة وتنظيمها بدرجة تمنع اختلاطها بالمياه الصالحة للشرب. وهذا العمل من أعظم الأعمال المفيدة التي أدخلتها البلدية في برامج إصلاح المدينة ، وصيانة الصحة العامة من الأمراض السارية ، ويليه جر المياه من عين الفيجة بقساطل مستورة لتسلم من جراثيم الأمراض. وإحداث البنايات والأسواق على النمط الجديد مما زاد في رونق المدينة وبهائها ، ووضع الخرائط والمصورات التي قيدت أرباب المساكن والبيوت بإنشائها وفقا للفن والهندسة ، وتوسيع الأزقة تدريجيا ومنع البناء بغير الحجر والآجر. ومنها : إنارة الأزقة والشوارع والساحات العامة وتسهيل المرور ليلا ، ورفع المحاذير التي يكثر حدوثها تحت ستار الظلام كالسرقات وغيرها. ولا يزال التنوير مفقودا في بعض الأزقة ولا سيما الضيقة منها. ومنها إيجاد وسائط للنقل في المدينة مثل قاطرات الترام ، فإنها سهلت انتقال السكان من أقصى المدينة إلى أقصاها بالسرعة المعتدلة وبأجور خفيفة ، ووفرت عليهم الوقت أيضا. ومن ذلك إنشاء المستشفى العام ومدرسة الصناعة ودار الأيتام والعجزة وغير ذلك من المعاهد النافعة التي زادت في تحسين حالة البلدة من الوجهة الصحية والأخلاقية والعمرانية. ذكرنا أمهات المنافع والفوائد العامة التي حصلت في المدينة بتأثير البلدية ، وهناك فوائد أخرى أيضا لا تخفى على ذوي الألباب.

رأي في إصلاح البلدة :

إن قوانين البلدية وأنظمتها التي وضعت في زمن الأتراك ، واستمر العمل بها مع تعديل وتغيير في بعض موادها بحسب الأحوال ، وافية بالحاجة لإدارة الشؤون. ولذلك أرى أن إصلاح البلديات يجب أن يقوم على أساسين متينين يكفيان لتشييد بنيانه : توفير دخلها وحسن جبايته ، وإنفاقه في سبيل ترقيتها وتزيينها.

ودخل البلدية الآن في دمشق مثلا وافر لا يستهان به ، وكل بلدة في الشام ولا سيما أمهات مدنها قد زادت مع الزمن وارداتها. وبعض البلديات لا تقوم مداخيلها بنفقاتها المتنوعة من فتح الجادات وتعمير الطرق وتوسيعها ويكفي ريع الفضلات الحادثة من فتح الشوارع وتوسيع الطرق لتأدية بدلات

١٣٨

الاستملاك إلى أصحاب الأبنية التي يجب هدمها من جرّاء ذلك الإصلاح. ومع هذا فإنه يمكن زيادة الإيراد بطرق عديدة. أما الرسوم فإنها تباع بطرق الالتزام وتجبى بدلاتها وفقا لنظام الأعشار بنفقات معتدلة وفي زمن قصير. وهذا هو المطلوب في جباية الضرائب ، ولذلك لا تكلفها الجباية نفقات باهظة. وتكفي السلطة المخولة للمجلس البلدي في جباية الرسوم وتحصيل الديون لحفظ حق البلدية من الضياع والضرر.

بقي علينا صرف الواردات وإنفاقها في سبيل عمارة المدينة. فلهذه القضية علاقة كبرى بانتخاب الرئيس وأعضاء المجلس البلدي لأن الإيراد مهما كان وافرا فإنه لا يفيد شيئا إذا لم تكن الأيدي المسيطرة على شؤون البلدية أمينة على العمل منقطعة إليه متقنة إياه. ويجب أن يكون الرئيس موظفا تنصبه الحكومة ويشترط أن يكون من ذوي الدربة والحنكة ومن حاملي الشهادات العالية أو المتعلمين بدرجة لا تقل عنها سواء كان منتخبا أو غير منتخب ، وأن يخصص له راتب وافر لينصرف بكليته إلى إيفاء عمله وليحفظ مكانته ووقاره لدى الطبقات التي يمثلها.

وأما الأعضاء فيشترط في انتخابهم أن يكونوا متعلمين تعليما ثانويا ، ويرجح انتقاؤهم من أصحاب اليسار ومن ذوي المكانة ليكونوا في غنى عن تناول الأجور التي يخصصها لهم المجلس البلدي لقاء الكشف والتحقيق عن القضايا المودعة إليهم ، وينجم عنها ما يسيء سمعتهم ويخل بمكانتهم بعض الأحيان.

وعندي أن حجر الزواية في أساس الإصلاح انتقاء الرئيس والأعضاء من خيرة الرجال، وإطلاق أيديهم في العمل ، ووجود الكفاة في الوظائف مع غل أيديهم لا يفيد شيئا. ويصح تطبيق هذه القاعدة في مراكز الألوية والأقضية مع التعديل فإنه يختار فيها المتعلمون والمهذبون من ذوي الشأن وأصحاب اليسار والنزاهة وإلا فإن تزييد الواردات لا يكفي للإصلاح ، والمعول على الأيدي العاملة النزيهة النشيطة والله الموفق للصواب اه.

١٣٩

الترع والمرافىء والطرق (١)

ترعة السويس :

يتناول موضوعنا المرافئ والخطوط الحديدية والكهربائية والطرق المعبدة ، ولما كان افتتاح ترعة السويس بين البحر الأحمر والبحر المتوسط من أعظم العوامل التي أثرت تأثيرا كبيرا في سير المواصلات البحرية ، وتقريب المسافات الشاسعة بين الشام والبلاد الشرقية الأخرى كفارس والهند والصين ، وخصوصا بين الشام وأمها جزيرة العرب وسهولة نقل الحجاج إلى الأرض الحجازية المقدسة ـ رأيت أن أفتتح الكلام بهذه الترعة وبما يتعلق بها من الشؤون الفنية والتاريخية والاقتصادية فأقول :

المواصلات بين البحر المتوسط وبين البحر الأحمر قديمة العهد ، تبدأ من المصريين القدماء على عهد امبراطوريتهم الوسطى أي منذ ألفي سنة قبل الميلاد تقريبا. فالمسألة إذا عريقة في القدم ، وقد عرفت لأول مرة قبل أربعة آلاف سنة على التقريب. وما كانت هذه المواصلات القديمة بين البحرين إلا من قبيل المصادفات ولم تكن غاية ما كان يرمي إليه القدماء. وهؤلاء ما كانوا يتطلبون سوى الحرص على المواصلات بين البحر الأحمر ونهر النيل ليتمكنوا من وصل أهم طرقهم وهو النيل بأعظم طريق بحري يؤدي إلى آسيا وبلاد الحبشة وهو البحر الأحمر. ولذلك قام الفراعنة بتخطيط طريق لا شك أنها من أهم طرق ذلك العهد، بين المكان الذي قامت فيه الآن مدينة القاهرة وبين السويس ، ليسهل عليهم نقل بعض الأحجار والمعادن من سيناء

__________________

(١) كتب هذا الفصل السيد عبد الوهاب المالكي.

١٤٠