خطط الشام - ج ٥

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٥

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٩٦

تأثير الوقف في العمران :

رأينا في أيامنا مزارع ومنها البعيد عن المدن ، المتعذر استثماره بحسب العرف ، قد أصبحت حدائق غلبا بفضل توفر مالكيها على تعهدها ، وطول آمالهم في تحسينها ، إرادة أن يستمتعوا بها هم وأولادهم من بعدهم ، ولو كانت من نوع الوقف لخربت وبارت ، ولأعرضوا عن تعهدها كما هو المشاهد في القرية الموقوفة والأرض الموقوفة. ولكم رأينا الداثر الغامر إلى جانب الزاهر العامر. وحالة المسقفات أو العقارات كحالة المستغلات بل أدهى وأمرّ. وكذلك الحال في الأناسي الذين يعيشون من أوقافهم ومن يعيشون من زراعتهم أو صناعتهم أو تجارتهم ، فتجد في الأولين اتكالا مجسما وهمما متراخية ، وفي الآخرين مضاء وعزما وشمما وحسن ثقة بأنفسهم. وعندي أن من وقفوا الأوقاف وحبسوا الأحباس لأبنائهم ومن يجيء بعدهم قد أضروا بهم أكثر مما نفعوهم ، والرزق كالحياة لا طاقة لصغير أو كبير أن يضمنه لنفسه فكيف به لغيره.

كانت الأوقاف نافعة في الصدر الأول لقلتها ، ولأنها محبوسة على وجوه البر وعلى البائسين خاصة. فقد سأل شيخ عاجز من أهل الذمة عمر بن الخطاب شيئا فقال له : ما أنصفناك أخذنا منك الجزية زمن شبابك ، ولم نكفك مؤونة التكفف أيام عجزك ، وأمر له من مال الصدقة بما يكفيه. من أجل هذا كانت الحبس على هذه الغاية الشريفة مما لا يسع عاقلا إنكار نفعه. ولكن الملوك ومن بعدهم من رجال الدول أنشأوا يجعلون من أموال المغارم أوقافا ، وقلما تشاهد المخلص فيما حبس ووقف.

الأوقاف عند قدماء العثمانيين :

كانت تغلب على ملوك بني عثمان في مبدإ أمرهم البداوة والسذاجة والتدين ، ولذلك ملأوا بروسة وأدرنة والاستانة وكوتاهية وازنيق بأوقافهم ومدارسهم ، وكذلك فعل وزراؤهم وكانوا يتناولون أرزاقهم من مقاطعات يقطعهم إياها سلطان الوقت. فلما غلبت عليهم الحضارة وفتحوا مصر والشام في عهد سليم وتكاملت فتوحهم في عهد سليمان ، أصبحوا يتفننون في ضرب

١٠١

الضرائب على الرعية ، وقد غدا دخلهم لا يوازي خرجهم كما كان سابقا ، وأمسى رجال الأمر فيهم يسيرون على سيرة ملوكهم يعرقون لحم الأمة ليجمعوا أموالا ربما وقفوا بعضها على الأعمال الخيرية ، فكانوا كالتي تزني وتتصدق ، وما كانت صدقاتهم في الحقيقة إلا فرارا بأموالهم من المصادرات لأن مصادرة الوزراء والأمراء بعد المئة العاشرة أصبحت في الدولة العثمانية موردا من الموارد التي تعيش بها الدولة ، بعد أن كانت لأول أمرها تقتصر في دخلها على الجزية الشرعية والخراج الذي كانت تتقاضاه من ملوك النصرانية وأعشار الأملاك السلطانية وريع الجمارك والملاحات والخمس الشرعي من أموال الغنائم.

وإذا كان عمال الدولة لا يأخذون الأموال إلا من حلّها كيف استطاع مثل سنان باشا فاتح اليمن أن يصرف على خيراته ما يربو على مليوني ليرة بسكة زماننا ، ولو قدر هذا المال بقيمته العرفية اليوم لبلغ عشرة ملايين. لا جرم أنه لم يحتجن هذا المبلغ الذي تعجز أمة من الأمم الراقية اليوم عن المفاداة به إلا بارتكاب ضروب المظالم والمغارم. ولو فتح هذا الفاتح ما بين المشرقين وارتكب مثل هذه المنكرات في أموال العباد ما نفع شيئا في قرباته وصدقاته.

وإذا كان مثل جنجي خوجه من مشايخ السلطان إبراهيم ، وهو من أرباب الدجل ، قد جمع من الرشاوى والهدايا والأوقاف ما يربو على مائة ألف كيس والكيس خمسمائة قرش يوم صودر وأخذ خطه بها ، فكيف حال من يقبض على زمام الأمر من الوزراء والولاة ويظل مدة في منصبه ، ثم هو يظن أن إنشاء مدرسة أو جامع مما يبرر أعماله ويكفر عن سيئاته ، وأن ذراريه بمأمن من الفقر لأن الملوك في الغالب كانوا يتركون لهم العقارات والأرضين ويكتفون بمصادرة الأموال فقط.

الوقف من مال غير محلل :

قال في «نتائج الوقوعات» : ومؤلفه من وزراء السلطنة في عهد السلطان عبد العزيز ردا على من قال إن الأسلاف لم يحبسوا ما حبسوه إلا خوف المصادرة

١٠٢

وإرادة أن يتركوا لأولادهم وأحفادهم موردا يعيشون به : إذا كان من الواقفين من هم على هذه الصفة فإن أكثرهم على خلاف ذلك لا محالة ، وقد رأينا في صكوك أحباسهم أنهم وقفوها على الجوامع والمدارس والكتاتيب والخانات والحمامات وعلى إنشاء القلاع وإعاشة القائمين عليها من المرابطين وعلى أبناء السبيل. إذا عرفت هذا وشاهدت ما أبقوه من هذه الآثار الجسيمة النافعة التي ساعدوا بها على نشر المعارف والعلم وعمروا بها المملكة ، فليس من الإنصاف أن تقدم الأصل على الفرع وتذهب إلى سوء الظن فيهم. قال : وإذا جئنا نبحث عن المبالغ التي أنفقت على هذه الأوقاف وعما إذا اكتسبت من وجوه محللة ، فأنا معك بأن كل هذه الخيرات لم تتم بالمال الطيب ، أما وقد جمعت تلك الأموال بصور مختلفة فإن إنفاقها بما ينفع العامة من الأعمال الصالحة أزين في العاقبة وأدعى إلى المحمدة ، من صرفها في الإسراف والسفاهة ، وحابسها يذكر بالرحمة ، ويستفيض اسمه المسجل في عداد المتصدقين.

هذا ما ارتآه الوزير التركي وفي كلامه نظر عند العقلاء إذ أي طاعة تثبت في جنب تلك المعاصي. ولعمري متى ساغ للمرء أن يأكل أموال الناس بالباطل ، ثم يتصدق بها أو ببعضها ويحمد الخالق والخلق أثره. وقد أحسن هذا الوزير بقوله : إن صرفها في هذه السبيل أولى من غيره على كل حال.

قال حجة الإسلام الغزالي : أرباب الأموال والمقتّرون منهم فرق ، ففرقة يحرصون على بناء المساجد والمدارس والرباطات والقناطر وما يظهر للناس كافة ويكتبون أساميهم بالآجر عليها ليتخلد ذكرهم ، ويبقى بعد الموت أثرهم ، وهم يظنون أنهم قد استحقوا المغفرة بذلك، وقد افتروا فيه من وجهين : أحدهما أنهم يبنونها من أموال اكتسبوها من الظلم والنهب والجهات المحظورة ، فهم قد تعرضوا لسخط الله في كسبها ، وتعرضوا لسخطه في إنفاقها ، وكان الواجب عليهم الامتناع عن كسبها ، فإذا قد عصوا الله بكسبها فالواجب عليهم التوبة والرجوع إلى الله تعالى ، وردها إلى ملّاكها إما بأعيانها أو برد بدلها عند العجز ، فإن عجزوا عن الملاك كان الواجب ردّها إلى الورثة ، فإن لم يبق للمظلوم وارث فالواجب صرفها إلى أهم المصالح.

١٠٣

نعم نحن على رأي صاحب «نتائج الوقوعات» من أن جميع الواقفين لم يكونوا على نسبة واحدة في تحصيل الثروة ، وقوله إن أكثرهم صالح يحتاج إلى نظر بليغ ، بل الأولى أن يقال : إن منهم الصالح الذي جمع أمواله من طرق مشروعة وجعلها قربة لمولاه لما اقترب من لقائه ، كأن يدخر المال ويقتصد فيه ويكون إقطاعه أو راتبه عظيما ، أو يرث من آبائه أو غيرهم أو يتجر ويزارع إلى غير ذلك من وسائط الاغتناء المشروع ، وفي سير بعض الأمراء والعلماء وبعض صدور الناس حوادث كثيرة تؤيد هذه القضية.

مضار الأوقاف :

وكيفما دارت الحال فإن الأوقاف على الصورة التي وصلت إليها في هذه الديار عامة كانت أو خاصة قد حملت في مطاويها من المضار ، أضعاف ما توقع واقفوها منها من المنافع ، وخصوصا الأوقاف الأهلية فإنها ضارة من كل وجه ، أما الأوقاف على وجوه البر والتقوى فليس في استطاعة أحد منعها ما دام المرء حرا بماله يصرفه كما يشاء.

وقد أدرك العثمانيون في العهد الأخير مضار الأوقاف الأهلية فقضوا بقسمتها إذا كانت صالحة للقسمة ، أو بيعها وتقسيم ثمنها بين الشركاء ، إن لم تكن كذلك بمجرد طلب أحد الشركاء ، وبذلك تخف مضرتها. على أن أوقاف الجوامع والمدارس وسائر القربات أيضا قد تخلص من ربقة الوقف بحيل يسمونها شرعية واخترعوا لها أسماء كالتحكير والاحترام والإجارتين والمرصد وأخرجوها بهذا العمل عن ملك الوقف إلى ملك خاص. وبهذا كانت تقل الأوقاف حينا وتكثر تارة أخرى ، وفي حلب اليوم ألف وأربعمائة وقف ينظر فيها ديوان الأوقاف ويبلغ ريعها مليوني قرش ما عدا الأوقاف الأهلية ، وكذلك الحال في دمشق والقدس وأوقاف كل بلد بحسب غناه ونفوسه.

منافع الأوقاف :

إن إخراج الزكاة عند المسلمين في القرون الأولى للإسلام ، ثم إنشاء المعاهد الدينية وغيرها في القرون الوسطى وما بعدها ، وحبس الأموال لإطعام

١٠٤

الفقير والزّمن والعاجز عن الكسب ، قد خفف ولا شك من شرور الفاقة بعض الشيء ، وإن كان فيه من جهة أخرى تحبيب التوكل والتواكل إلى الناس. ولم نر في ديارنا ، وتحصيل الرزق فيها أهون منه في أوربا مثلا ، ما نسمع به من ضروب الشقاء الذي يسوق هناك إلى الانتحار وإلى ارتكاب الفظائع. وبعض الأمم المتمدنة اليوم تفكر في قتل العجائز لقلة فائدتهن ، والإبقاء على الكلاب وهذا من أغرب ما سمع. ولم يعهد العرب شيئا من هذا بفضل ما حبسه المتصدقون على ضروب البر ، وإن كان هذا الإفراط في الإفضال على العاجزين عن الكسب ، قد يورث الخمول ويقعد بالهمم عن الكدح.

إلى اليوم لم ينشأ للبشر مجتمع كامل في عامة صفاته ، على كثرة ما جاءه من الشرائع وسنّ لأجله من القوانين ، والسعادة لم يمسسها الناس بأيديهم ، وكأنها محالة الآن. وما ندري إن كانت أسبابها تتم في مستقبل الدهور والعصور ، فلا الوقف وقى الناس من الفقر ، ولا عدمه أفقرهم. هذه القوانين قد تلطف من شرّة الشر ، ولكنها لا تستأصله من جذوره ، لأن لذلك أسبابا أخرى ، ولعله لا يتم المطلوب قبل انقضاء أيام وليال ، وقضاء آجال وأجيال ، والله يحكم لا معقب لحكمه.

تقسيم الأوقاف وإصلاحها (١) :

يقسم الوقف إلى خيري وأهلي ، وينقسم الخيري إلى ديني محض كحبس المساجد والمعابد ، وإلى ديني دنيوي وهو يشمل جميع أنواع الوقوف الخيرية كوقف مدارس العلم ودور الصناعات ورباطات المجاهدين ، وفنادق أبناء السبيل ، ومستشفيات المرضى ، ومقابر الموتى، ونحو ذلك من وسائل الارتفاق العام ، ومثله ما تحبس عينه لينتفع بريعه مصارف الصدقات الشرعية ، سواء أكان الحبس على جميع المساكين أم على فئة مخصوصة منهم.

__________________

(*) اقترحنا على صديقنا الشيخ سعيد الباني أن يكتب لنا رأيه في الأوقاف وطرق إصلاحها فكتب كتابا سماه «الكشاف عن أسرار الأوقاف» فاقتبسنا منه ما هو بمثابة تتمة لما كتبناه في الفصل السابق.

١٠٥

وأما القسم الثاني وهو الأهلي فينقسم إلى طائفي وذرّي ، والأول ما حبسه الواقف على طائفة مخصوصة من الناس. والثاني ما حبسه على ذريته من بعده. وهذه الأقسام تبع لانقسام الوقف باعتبار المتعلق ، لأنه ينقسم باعتبار متعلقه وعوارضه إلى أقسام كثيرة ، فالمتعلق الموقوف له كالعبادة التي وقفت لأجلها المعابد ، والثاني الموقوف عليه وهو المخلوقات التي تتمتع بنعمة ما حبس عليها ، والثالث الأعيان الموقوفة. وأما العوارض فهي كالصحة أو عدمها من الوجهة الشرعية ، وكالضبط أو الإلحاق من الوجهة الإدارية ، وقد يتداخل بعض هذه الأقسام مع فروعها فيقال مثلا وقف خيري صحيح مضبوط.

ولانقسام الأعيان إلى ثابتة ومنقولة انقسم الوقف باعتبار هذا المتعلق إلى وقف الأموال الثابتة ووقف الأموال المنقولة. فالثابتة كأرض الزراعة المملوكة الرقبة والحوائط والبساتين والعرصات والعقارات المسقوفة. وهذا النوع لا خلاف بين جمهور علماء المسلمين بصحة وقفه. وأما الأموال المنقولة صامتة كانت أو ناطقة ، فقد اختلف الفقهاء بصحة وقفها ، والمعتمد الصحة وفقا لما جرى عليه تعامل المسلمين في القديم والحديث من وقف المصاحف والكتب والجنازة ونحو ذلك ، وبالأولى معدات الجهاد كالسلاح والكراع.

والأرض الأميرية سواء أكانت عشرية أم خراجية لا يصح وقفها إلا إذا كانت مملوكة الرقبة ، فإذا ملكها السلطان ملكا شرعيا فله أن يقفها على من يشاء كتصرفه ببقية أمواله المملوكة. والواجب إذا تقييد وقف السلاطين الأرض الأميرية بالأوقاف الأهلية ، إذ لا يسوغ للسلطان أن يفرز مزرعة من أرض بيت مال الأمة العام ويخصها بفئة من الناس على سبيل الحبس والتأبيد ، كما فعل السلطان سليم الأول العثماني حينما استولى على الشام بإفرازه كثيرا من المزارع بدون تملك رقبتها ، ووقفها على أرباب الزعامة الدينية وذراريهم. والعشر الذي تتقاضاه اليوم البقية الباقية من الذرية أو أدعياء النسب المندسون بها ، هو ضرب من السحت يجب أن يتحول مجراه عن هذه الحليمات الطفيلية إلى مصالح الأمة ومرافقها الخيرية العامة.

١٠٦

وخلاصة القول أن هذا النوع من الأوقاف السلطانية غير صحيح ، وبالأخلق وقف الوزراء وعمال الولايات. ولو اقترن بموافقة سلطانهم الأعظم ، لأن عمال القرون المظلمة في عهد الحكم الإقطاعي كانوا يقترفون في إيالاتهم ما شاءوا وشاءت أهواؤهم فيقتلون البررة والأبرياء ، ويعفون عن الجناة وقطاع السابلة الأشقياء ، ويصادرون أموال من يشاءون ، ويصلون بها من يشاءون. فإذا كان الموت والحياة بين شفتيهم ، وحقوق العباد الخاصة ألعوبة بين أيديهم ، وأموال الرعية مباحة لديهم ، فأخلق بهم أن يعبثوا بالحقوق العامة كأرض بيت المال الشائعة الانتفاع بين أفراد الأمة ، فراغا بالبيع أو انتقالا بالإرث ، أو إحياء بالعمل مقابل البدل. فقد كان هؤلاء الظلمة يضعون أيديهم على ما يختارونه من أرض إيالتهم الأميرية المملوكة الانتفاع فضلا عن الشاغرة (وهي ما تدعى بمصطلح قانون الأرضين بالمحلولات الأميرية) ويتملكون هذا الحق بالتفويض من أنفسهم لأنفسهم ، لأنهم الكل بالكل لا يسألون عما يفعلون ، ما داموا يشترون الولاية على الإيالة بثمن مقطوع ، يؤدونه مسانهة إلى سلطانهم أو أعوانه ، وبعبارة ثانية يفهمها عوام الموظفين الحكوميين ، ما دام الولاة يلتزمون الولاية على الإيالة من أعوان السلطان بالمزايدة ، حتى تصل إلى بدلها اللائق أو الفاحش ، ويقع عليهم المزاد الأخير وتحال إلى عهدتهم إحالة قطعية.

وكل وقف من أوقاف السلاطين يتحول من منفعة خاصة إلى مصلحة عامة فهو صحيح والعكس بالعكس. وحكمة ذلك سد الذرائع بوجه الوزراء وعمال الإيالات الظالمين الذين كانوا يطوقون بنفوذهم الأرض الشاغرة ، ويغتصبون المملوكة وينتفعون بحق قرارها ، ثم يحتالون بوقفه خشية المصادرة. وقد مهد لهم سبل الاحتيال المتفقهة المصانعون ، فأفتوهم بصحة الوقف على النفس الذي يروى القول بصحته عن بعض علماء السلف لمصلحة عامة، وهي ترغيب الناس بالوقف لأن مصيره بعد موت الواقف وانقراض ذريته إلى جهة لا تنقطع ، وهي الفقراء والمساكين الذين لا تخلو منهم الأرض في كل عصر وقطر. لكن متفقهة السوء قلبوا هذه المصلحة مفسدة فأعانوا الظلمة بهذه الفتوى وأضرابها على إفراز المزارع من أرض بيت المال ، وحبس

١٠٧

حق قرارها على أنفسهم في حياتهم وعلى ذرياتهم من بعد مماتهم.

هذا رأي نبديه من الوجهة الفقهية النظرية ، ولا نفتي ولا نقضي به من الوجهة الشرعية العملية ، وإن كان مناطه المصلحة العامة التي ترمي إليها الشريعة السمحة الواسعة ما لم تتفق عليه كلمة أهل الحل والعقد من علماء الشريعة الإسلامية ، لأن الفرد يخطئ ويصيب. لكن الذي نقطع بإجحافه من الوجهة القانونية هو مصادرة حق قرار الأرض من المتصرف بها بمجرد تعطيلها ثلاث سنوات عن الحرث والزرع بدون معذرة شرعية ، لأن المتصرف بالمنفعة لم يملكها إلا بأسباب شرعية ، وكل ما يملك بسبب شرعي لا يجوز نزعه من مالكه إلا بأسباب شرعية.

ضروب الحيل وانتهاك حرمة الأوقاف :

الناس محتاجون بسائق الاضطرار إلى البيع والابتياع والمقايضة والمقاسمة ، ما دام الإنسان مدنيا بالطبع ، مضطرا إلى التعامل بالتبادل الذي هو محور دائرة المنفعة الاقتصادية ، وهي دعامة العمران. وقد أورث تهافت السلف على الوقف اصطدام سكونه المؤبد بحركة التعامل الاقتصادي الضروري الاستمرار لأن التصرف بالعقارات الموقوفة بيعا أو شراء ممنوع شرعا ، وبواعث العمران والاقتصاد تقتضي هذا التصرف طبعا ، درءا لخطر الآفات الاجتماعية ، والأزمات الاقتصادية.

ولذا اخترعوا ـ والحاجة أم الاختراع ـ انتزاعا على ما يقولون من قواعد الإمام أحمد بن حنبل ، ما يدعى في الديار الشامية بالمرصد. وهو الدين الذي على ذمة العقار الموقوف أو الاستيفاء من أجرته بعد استيفاء المتولي عليه مقدارا ماليا معجلا من المستأجر يسمى «خدمة» ، وفرض مقدار مؤجل عليه يستوفى منه مسانهة يسمى دينا مؤجلا ، بشرط أن يكون المستأجر على الموقوف لعمارته أو ترميمه دينا بذمة شخصه ، فاذا أيسر فللمتولي أن يؤدي إلى صاحب المرصد ما كان له على رقبة الوقف ليعيدها إلى جهته طوعا أو كرها. ومرمى هذا المخرج ومغزاه تحرير العقارات الموقوفة بالجملة بمنح التصرف بها بيعا وشراء مراعاة للمصلحة الاقتصادية ، مع تقدير مرتب مقابل

١٠٨

هذا المنح ، ومع الاحتفاظ بحق الرجوع بعد أداء الدين حرمة للأحكام الشرعية ، وبنسبة تكاثر العقارات الموقوفة بدمشق مثلا تكاثرت المراصد.

هذا فيما يتعلق بالعقارات المسقوفة ، وأما الأرضون الصالحة للزراعة فقد اخترعوا لمنح التصرف بها ، فراغا أو انتقالا ، مخرجا آخر وهو سراية «شد المسكة» من الأرض الأميرية إلى الموقوفة. ومعناه استحقاق الحراثة في الأرض التي ليست مملوكة الرقبة للحرث مقابل أداء العشر أو الخراج إن كانت أميرية ، وأداء مرتب الوقف إن كانت موقوفة الرقبة بعد أداء حق قرارها. وقد أضحت قضية أرض الزراعة الموقوفة في الشام ذات غموض عظيم في زماننا ، لاختلاط الموقوفة بغيرها ، واختلاط الموقوفة وقفا صحيحا لتملك رقبتها بالموقوفة وقفا غير صحيح لعدم تملك الرقبة ، وكذلك لاختلاط ذات الوقف الأهلي بذات الوقف الخيري فضلا عن ضياع وقف أغلبها واندثاره بتقادم العهد ، ما عدا الأرضين التي صانت الحكومة وقفها وضبطته ، مقابل إفراز العشر والاعتراف باستحقاقه لجهة الوقف سواء أكانت خيرية أم أهلية، وسواء أكان الوقف صحيحا أم غير صحيح.

وإذا كانت قضية الأرض الأميرية باعتبار ذاتها من أشكل المشكلات لما طرأ من التبديل على الخطة التي رسمها سيدنا عمر رضي‌الله‌عنه بعد فتح الشام ، فكيف بما عرض لها من عوارض الوقف المختلفة الأنواع التي استترت على أبناء هذا الزمان ، ما لم يتح لهم الاطلاع على كتب الواقفين ، ومناشير السلاطين المصونة بيد المستحقين أو المتولين ، ويندر أن يطلعوا عليها أحدا لعبثهم بشروط الواقفين من الوجهة الخيرية ، واختلاسهم حقوق المستحقين من الوجهة الأهلية. على أن أغلب أرض الزراعة الموقوفة لا تختلف أحكامها في عهدنا وربوعنا عن بقية الأرضين من وجهة الفراغ والانتقال.

ونحن مع اعترافنا بضرورة اختراع هذا المخرج ، لعلمنا بيسر الشريعة واتساعها وملاءمتها لمقتضيات الزمان والعمران ، لا يسعنا إنكار ما نجم عن اختراعه من اندثار الأوقاف الإسلامية وانهيار معالمها ، لأنه فسح مجالا لابتداع الحيل التي مهدت السبل لاختلاس الأوقاف وطمس معالمها ، ودرس معاهدها. ولما أدرك أرباب الطمع أن المرصد لا يملكهم العقار الموقوف ملكا باتا ، لأن

١٠٩

لمتولي الوقف الرجوع على صاحب المرصد متى أدى إليه دينه على الوقف ، كادوا للأوقاف الإسلامية بحيل ابتدعها بعض متفقهة القرون الوسطى ، ما عرفها الشرع ولا عرفته ووضعوا لها أسماء سموها ما أنزل الله بها من سلطان وهي : القيمة. الجدك (الكدك). الخلو. القميص. الحكر. الاحترام .. ويشمل هذه الأنواع ما يسمى حق القرار (١) في البلاد الشامية والكردار في بلاد خوارزم ، وهو غير حق القرار في الأرض ، بل يريدون به تجوزا الأعيان القائمة سواء أكانت متصلة كالجدران والسقف ، أم منفصلة كالآلات والعدد. وتختلف أسماؤها باختلاف ما حلت به من الأمكنة ، فإن حلت في البساتين والحدائق فاسمها في ديارنا «قيمة» والمراد بها جدران البستان (الدكوك) وما يشتمل عليه من جذور نجمه. وبمصطلح العامة (شروش الفصة) ومعجن مشمشه وبمصطلح العامة (تيغار معك مشمش القمر الدين) وقمامته (المزبلة) وإن وجدت في الحمامات فالمراد بها الفرش والأثاث كالسجاد والوزرات والطاسات. وإن كانت في الحوانيت فتسمى جدكا وهو ما يضعه المستأجر متصلا كالأبواب والرفوف. أما إذا كان منفصلا كعدد المقاهي وآلات الحلاقة فيسمى خلوا أو حق السكنى. ويغلب على الظن أن هذا غير الخلو الذي اصطلح عليه متفقهة القطر المصري بل الأرجح أنهم يعنون بالخلو ما يدعوه متفقهة الشام بالمرصد ، ويقرب منه ما يدعوه متفقهة بلاد الروم بذي الإجارتين ، وهو بلا ريب غير الخلو المراد به وضع اليد والقدم.

ثم إن هذه الأعيان إذا كانت في المطاحن فإنها تسمى قميصا ، والمراد به آلات الطحن كالقطب وحجري الرحى ونحو ذلك من آلات الطحن المنقولة. وإذا كانت مادة بناء قائم في عرصة موقوفة فتسمى حكرا. وصورة احتكارها أن يأذن متولي الوقف للمستأجر بالإنشاء في العرصة الموقوفة على أن يكون ما يبنيه ملكا له ، بعد أن يؤدي إلى المتكلم على الوقف مقدارا معجلا يسمى خدمة ، ويتعهد بأداء مقدار مؤجل يؤدى مسانهة يسمى دينا مؤجلا. وإن كانت غراسا فيسمى غرسها «احتراما». وصورته أن يأذن المتولي على أرض موقوفة ـ ما عدا أرض الزراعة ـ بغرسها لإنسان على أن ما يغرسه يكون

__________________

(١) هو غير حق القرار بالأراضي الأميرية المراد به التمتع بحق حراثتها وزرعها.

١١٠

ملكه أو أن يكون بعضه ملكه ، والآخر ملك جهة الوقف على سبيل التابعية للأرض بعد أن يؤدي إلى المتكلم على الوقف مقدارا معجلا يسمى أيضا خدمة ، ويتعهد بمقدار مؤجل يؤدى مسانهة يسمى أيضا أجرة أو دينا مؤجلا ـ هذا ملخص ما نص عليه المتفقهة المتأخرون.

مصائب الأوقاف :

إن غلو الواقفين بالتهافت على الوقف ، واتخاذ الظلمة المتجرين بالدين الوقف دريئة لصيانة أموالهم المغصوبة من المصادرة ، وتحريج أئمة الحرج الذين سماهم بذلك الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهم المتفقهة المتنطعون ، وتشديدهم على الناس أو تضييقهم ما وسع الله تعالى على عباده ، وتساهل متفقهة السوء بابتداع حيل الأوقاف لإفعام جيوبهم ، وإشباع بطونهم النهمة التي لا تشبع بالقليل لأنهم يأكلون بسبعة أمعاء ـ كل ذلك كان من أعظم البواعث على إضاعة الأوقاف الإسلامية في الشام ، لأن إغراق الأسلاف المتقدمين بالتهافت على الوقف ، ضيق على الذين يلونهم من الأخلاف المتأخرين سعة الأرض الحرة بالحبس عن التصرف بيعا أو ابتياعا أو مقايضة أو مقاسمة إلى آخر ما هنالك من ضروب التصرف المدني. على حين مبنى الشرائع الإلهية كما قال ابن القيم على الحكم والمصالح ، وكلها رحمة وحكمة ، ومصلحة وعدل ، وكل قضية خرجت عن الرحمة إلى النقمة ، وعن الحكمة إلى العبث ، وعن المصلحة إلى المفسدة ، وعن العدل إلى الظلم ، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل. وأرى أن كل ما كان كذلك فهو من الشرع المبدّل.

أضاع هؤلاء الجامدون حكمة الوقف ومصلحته ، وحالوا دون نمو ريع العقارات الموقوفة كحرصهم على شرط الواقف وصفته ، ولو اقتضت منفعة الوقف التغيير والتبديل. وقد نجم عن التهافت على الوقف غلو في الدين أو اتجار به ، وعن تشديد المتفقهة على الناس ابتداع الحيل التي أودت بالأوقاف ، فطفق الناس يتملكون العقارات الموقوفة تملكا محضا ، وإن ظلت عليه شية من مسحة الوقف باسم الحكر أو القيمة أو القميص ونحوها من الحيل الكردارية التي جرأت الظلمة فيما بعد على اختلاس المساجد والمدارس والمقابر مباشرة

١١١

مع عقاراتها الموقوفة عليها بدون التذرع بهذه الحيل ، في زمن آثر كثير من أبنائه الدنيا على الدين لفرط جشعهم. فانفجر بركان الجرأة على الشريعة لتضييق أئمة الحرج ، وفجر المتأخرون لغلو المتقدمين بالتهافت على الوقف. ولم يجد اختراع مخرج المرصد نفعا لصيانة العقارات الموقوفة. إذ لم نسمع ولم نشهد أن المتكلم على وقف أدى إلى صاحب المرصد ما كان له دينا على رقبة الوقف واسترجعها إلى جهته ، بل نمي إلينا عكس ذلك وهو أن أصحاب المراصد كانوا يرشون المتكلمين على الأوقاف ليغضوا الطرف عن انتقال العقارات من الوقف المرصد إلى الملك الحر ، ويرشون أيضا مفوضي تمليك العقارات ليسجلوا العقار الموقوف ملكا صرفا، بل إن بعض المتولين أنفسهم كانوا يخونون الوقف باتخاذهم مخرج المرصد حيلة ، إذ يتذرعون به بدون اضطرار إليه لتحويل العقار من الوقف المحض إلى المرصد ، ويرشون قضاة السوء ليثبتوا اضطرار الوقف إلى الدين والاستدانة ..

أوقاف الذرية :

قوام الوقف ركنان وهما الحبس والتأبيد ، فمتى حبس الواقف العين عن التمليك وأبد الحبس بالتقييد إلى جهة لا تنقطع ، أصبح الوقف مبرما وأضحت العين محبوسة شرعا. ولا يمكن تحريرها من قيد الوقف ، ورجوعها ملكا صرفا كما كانت البتة ، لأن الشرع صانها للجهة الموقوف عليها من تصرف الانتقال والتمليك. ولخوف الواقف من سفه ذريته ، وتبديدها الثروة من بعده ، أو لخوفه من المصادرة أو لغير ذلك من الأسباب المختلفة باختلاف النيات ، لجأ إلى الوقف وقيده بقيود وشروط تلائم رغائبه ، وأبده بالتقييد إلى جهة لا تنقطع بعد انقراض الذرية لئلا يفقد الوقف أحد ركنيه. وما التجاء الواقف إلى الوقف إلا التجاء إلى كنف الشريعة التي شرعت الوقف وصانته بأحكامها. وغير خفي أن حامي حمى الشريعة أمام المسلمين المكلف برعاية أحكامها ، والنائب عنه من هذه الوجهة وزارة الأوقاف في العاصمة ودوائرها الفرعية في الإيالات وملحقاتها. والشريعة لا ترد اللاجئ إلى حماها بالطرق الشرعية. ولهذا لم تفرق قواعدها وأحكامها بين الأوقاف الخيرية

١١٢

والأهلية بالمناعة والصيانة ، فكل من النوعين منيع مصون بنظر الشريعة. واللاجئ إلى الشريعة لاجئ طبعا إلى المكلف بحمايتها ورعاية أحكامها ، فكان حقا على إمام المسلمين والنائبين عنه من الوجهة الوقفية ، صيانة الأوقاف الأهلية كحرصهم على صيانة الأوقاف الخيرية. فهذه القواعد منشأ سيطرة دوائر الأوقاف الحكومية على الأوقاف الأهلية المحضة ، ولا سيما أن الوقف الأهلي الصرف يحتمل أن ينقلب خيريا محضا في أقرب وقت ، بانقراض الموقوف عليهم ، لأن مآل الأهلي إلى الخيري بالعاجل أو الآجل ، لتقييد الوقف بالتأبيد إلى جهة لا تنقطع. وكل ما يعود إلى هذه الجهة فهو من الأوقاف الخيرية ، فحق على دوائر الأوقاف أن تكون في كل آن واقفة بالمرصاد أمام تصرف نظار الأوقاف الأهلية. على أن أغلب من تذرعوا بالوقف الأهلي لصيانة الثروة ، ولا سيما الوزراء وعمال المقاطعات ، كانوا يتبرعون بالأوقاف الخيرية ليوطدوا الأولى بالثانية ، ويعهدوا بالولاية على الجميع إلى الأرشد من ذريتهم. فرعاية لشروط الواقفين لا تنتزع دواوين الأوقاف الولاية من المتولين على الأوقاف الخيرية المتحدة بالولاية على الأهلية ، ما دام المتولي يؤدي دفتر المحاسبة نقيا من الشوائب. وإذا كان الأمر لا يسوغ لديوان الأوقاف أن يضبط الوقف بل يذره ملحقا ، لكن يحق له أن يجبر المتولي أن يؤدي حسابا عن الوقفين الخيري والأهلي لتداخلهما ، وإن لم ترفع إليه شكوى من أرباب الاستحقاق.

الأوقاف في العهد العثماني الأخير :

لهذا العهد ثلاثة أدوار : الأول دور السلطان عبد الحميد الثاني. الدور الثاني دور أخيه محمد رشاد الخامس. الثالث دور أخيهما وحيد الدين محمد السادس خاتمة ملوك بني عثمان. ولم تكن دوائر الأوقاف في الشام على العهد الحميدي أقل من بقية الدوائر الحكومية خللا وفوضى واختلاسا وقلة نظام ، بل كانت أكثر اختلالا من غيرها لأن لها وجهة دينية ذات اتصال بمشايخ الدين الحشويين أو الدجالين ، وهم أبعد الناس عن النظام والانتظام ، فكانت

١١٣

الشؤون الدينية في عهد عبد الحميد مسرح الفوضى لتهاونه بالدين ، واكتفائه على الجملة بالتمويه بشعائره الصورية ورسومه الرسمية ، وكان أعوانه يبيعون على مسمع ومرأى منه الوظائف الدينية كالقضاء الشرعي والفتيا والتدريس العام والوعظ والإرشاد. ومن جملة ما يبيعون وظيفة مدير الأوقاف التي كانت تكد وتجد وتبذل الجهد في جباية أموال الأوقاف ، لتبعث بها بعد السلب والنهب والمقاسمة إلى العاصمة ، فيفيض السلطان من هذه الأموال على الدجالين من مشايخ الطرق وعلماء الرسوم والرتب والأوسمة باسم (إحسانات أو صدقات سلطانية ، أو فدية عن عافية ذاته الملوكية) ويكزّ يديه بالصرف على علماء الدين العاملين فساءت لذلك حال أئمة المساجد وخطباء المنابر والسدنة والمؤذنين والواعظين لفرط التقتير عليهم ، حتى انحصرت هذه الأعمال في البائسين والكسالى والزمنى.

تنقسم الأوقاف إلى خيرية وأهلية. وتنقسم الخيرية إلى مضبوطة وملحقة ، تناط الأولى بدائرة الأوقاف مباشرة. وتركت الثانية لنظارها مع احتفاظ ديوان الأوقاف بالنظارة العامة عليها ، وللديوان حق السيطرة على الأوقاف الأهلية ولا سيما إذا كانت مختلطة بالخيرية. وهي تنقسم إلى جلية وخفية. فالأولى من متعلقات الأوقاف الخيرية المضبوطة ، وهي نفقات أرباب الشعائر الدينية والاختلاس منها تافه جدا بالنسبة إلى نفقات تنوير المساجد والمعاهد وابتياع ما يلزم من الأثاث ، وهو أيضا حقير بالنسبة إلى ترميمها وترميم الأعيان الموقوفة عليها. وأما الإنشاء المحدث أو المجدد فلم يكن معهودا في ذاك العهد لأن ديوان الأوقاف يجبي الأموال من الشام ليبعث بها إلى العاصمة.

وبالجملة لم تكن وسائل الاختلاس الجلية شيئا مذكورا قياسا مع الوسائل الخفية وهي عديدة : أولها أن كثيرا من المساجد والمدارس والزاويات (زوايا مشايخ الطرق الصوفية أو المتصوفة) والمعاهد الخيرية كالمستشفيات أو مطاعم الفقراء (التكايا) ونحوها من الأمكنة المضبوطة أوقافها ، سواء كانت مهجورة أو مقفلة الأبواب لكونها في القرى أو في أحياء منزوية عن المدينة ، فكان ديوان الأوقاف يحسب عليها جميع ما تحتاج إليه من النفقات أضعافا مضاعفة ، كما لو كانت عامرة آهلة مفتحة الأبواب ، في حين أنها لا تنفق عليها شيئا

١١٤

سوى مقدار زهيد لقاء تطبيق المعاملة على الأصول المرعية الإجراء ، بالحصول على وثائق وصول النفقات إلى البائسين المستعارين الذين يستعيرهم الديوان مقابل توقيع الوقائع والأسناد الكاذبة. والوسيلة الثانية أشد خفاء من الأولى ، وهي مواطأة دائرة الأوقاف مع نظار الأوقاف الملحقة الغزيرة الريع على أكل أوقاف المسلمين الكثيرة العدد ، وهي مما حبسه السراة والأمراء والوزراء الأسبقون على ذراريهم ، وعلى المعاهد الخيرية والمعابد ، وجعلوا الولاية عليها في الأرشد على ذريتهم. وذلك أن هؤلاء النظار نظار الأوقاف الخيرية الملحقة كانوا يتقاضون أعشار القرى المضبوطة الوقف من الخزانة العامة باسم الأوقاف الأهلية والخيرية ، على حين درس جل بل كل المدارس والمساجد وأصبحت أسماء لا مسميات لها ، درست وانقلبت حوانيت وفنادق ودورا وقصورا ، وسجلت في سجلات التمليك ملكا حرا لهؤلاء النظار المختلسين ، ثم انتقلت لورثتهم ولمن ابتاعها منهم. وكانوا يتقاضون أموال العشر الخاصة لهذه المعاهد ، ويدرجون بكل قحة وجرأة مبلغا وافرا باسم النفقة على تنويرها وترميمها وفرشها وإقامة شعائرها ، ثم يتغاضى ديوان الأوقاف عن محاولة النظار تحويل الأعيان الجارية بملك الوقف إلى مرصد أو كردار بدون سبب قوي ، ثم إغضاء هذا الديوان عن تحويل الأعيان الموقوفة من الوقف المحض أو لمرصد الكردار إلى الملك الصرف ، ثم تسجيل العقارات الموقوفة على المعابد والمدارس ملكا صرفا للنظار المختلسين إلى غير ذلك من أنواع المواطآت بين ديوان الأوقاف والنظار عليها. وكلها ترجع إلى اختلاس الريع وتغيير الأعيان الموقوفة. وكان ديوان الأوقاف يكتب من حين إلى آخر إلى وزارة الأوقاف في العاصمة بأنه ضبط مدرسة كان بعض الأشرار اتخذها سكنا فأرجعها معبدا تقام فيه الشعائر والصلوات والأوراد والأذكار والأدعية للخليفة الخ.

أما القلب وأعني به مجلس إدارة الأوقاف الأعلى فقد كان على جانب عظيم من الضعف ، وفقا لمقتضيات العهد الحميدي التي يرومها عباد المنافع الخاصة وأعداء المصالح العامة. وإذا كان القلب الذي هو مصدر الحياة ضعيفا بتعفن حجيراته المنبعث عن تغلب الجراثيم الذريعة الفتك ، فكيف تكون حالة شرايين الجثمان وأعضائه ودورة دمه. لا ريب أنها تكون كحال هيكل

١١٥

ديوان الأوقاف وإدارتها ، ما دام أعضاؤها عاطلين من الأهلية علما وخلقا ، ولأكثرهم علائق بوقف خيري أو أهلي ، مما هو مخالف للقانون. فهم لا علم ولا نزاهة ولا غيرة. أما نظار الأوقاف الأقوياء بالمجد الكاذب ، فقد كانوا يتصرفون تصرف الملاك بالأعيان الموقوفة الريع على المعاهد الدينية والخيرية وعلى ذرية الواقفين ، فضلا عما يختلسونه من المدارس وأفنية المساجد ، يتخذون جميع ذلك دورا وحوانيت وحدائق ، وينقلونها في سجلات التمليك من الوقف المحض إلى الملك الصرف. وإذا طالب بعض أرباب الغيرة بإعادة الأوقاف إلى حالها وإجراء أمورها على حقيقتها تقام عليهم الدعاوى المزورة ، وتنصب لهم المكايد وأشراك الانتقام. وكأن لسان حال ديوان الأوقاف ومجلس إدارتها ورئيسه يقول لنظار الأوقاف المختلسين : (سكتنا عنكم لتسكتوا عنا) لأن جميعهم باستنزاف الأموال وسحق الضعفاء سواء.

ولقد انتظم ديوان أوقاف الشام في الجملة بعد إعلان القانون الأساسي (١٩٠٨ م) وتسرب إليها شيء من الإصلاح بفضل الخطط التي رسمها وزير الأوقاف العثمانية العربي خليل حمادة باشا ، وتناقص النهب والاختلاس بالنسبة إلى العهد المنصرم ، غير أن المعاهد والمعابد لم ينلها حظ من زيادة الواردات ، لأنها كانت تنفذ إلى العاصمة فتنفق كغيرها من واردات أوقاف الإيالات العثمانية كإنشاء فنادق كبرى للوقف في الاستانة. وظلت قوانين الأوقاف كما كانت في عهد السلطان عبد الحميد حبرا على ورق. ومما يسجل من أعمال الدولة في الحرب العالمية أنها انتهكت الحرمات باسم الجهاد المقدس ، وذلك باتخاذ المعابد وفي مقدمتها الحرم النبوي الشريف ، والمدارس والمعاهد الخيرية وملاجئ الإسعاف العام ثكنات لمأوى الجنود وإصطبلات لربط الخيول ، وحبس الأنعام ، ومستودعات لادخار أنواع الذخيرة وضروب الميرة. ولما انجلى الترك عن ربوع الشام ، أغاروا على سجلات الأوقاف ووثائقها وأوراقها الخطيرة ونقودها ، كما أغاروا على وثائق أغلب الدواوين وسجلاتها ونهبوا نقودها ، وفي عدادها أموال اليتامى وأمانات المصارف الزراعية ، فأصيبت دواوين الأوقاف من أجل هذا بمصيبة عظيمة.

١١٦

الأوقاف بعد العهد التركي :

وفي عهد الحكومة العربية الفيصلية ألف ديوان الأوقاف تأليفا جديدا ، ولم تلبث أن فاضت واردات الأوقاف عن نفقاتها لأن المبالغ الباهظة التي كانت ترسل إلى العاصمة التركية ظلت في خزانة الدائرة التي شرعت توسع على أرباب الشعائر وتحدث كثيرا من الوظائف. وأخذت ترمم المساجد والمدارس والأعيان الموقوفة وتنشئ المعاهد كالمدرسة السيمساطية بدمشق التي نقضت من أساسها وأنشئت خلقا جديدا ـ ومثل ذلك الإصلاح الذي تم في ترميم الأعيان الموقوفة أو إنشاء الجديد منها في حلب وغيرها ـ حتى إذا تقلص ظل سلطان الملك فيصل واحتلت الجيوش الفرنسية داخلية الشام أصيب ديوان الأوقاف بتبلبل مالي ، وذلك لاستبدال الورقة السورية بالمصرية ، واتخاذ القرش السوري محور التعامل وحظر التبادل بالنقدين الذهب والفضة قبضا وصرفا ، في حين أن الورقة السورية كميزان الحرارة لا تثبت على حالة واحدة في اليوم الواحد ، فارتبكت معاملات دواوين الأوقاف بهذا التبلبل وزاد في نضوب خزائنها ، على الرغم مما زاده القائمون بإدارة شؤونها من زيادة الضمائم الفاحشة على الديون المؤجلة.

وقضت إرادة المفوض السامي الأول أن يتدخل المنتدبون في الشؤون الإسلامية المحضة، وذلك بالإشراف على أوقاف المسلمين دون أوقاف اليهود والنصارى ، في حين أن الدولة العثمانية الإسلامية لم تتدخل بشؤون أوقاف اليهود والنصارى المنضوين تحت لوائها ، سواء أكان ذلك إبان قوتها ، أم أيام ضعفها ، وتركت إدارتها إلى المجالس الطائفية ، كما أن الدولة البريطانية لم تتدخل في مصر بشؤون الأوقاف الإسلامية فاستثنت وزارة الأوقاف المصرية من سيطرة الاستشارة وسلطة المستشارين ، وتركتها مناطة بشخص عزيز مصر مباشرة. وقد نهجت أيضا هذا النهج في فلسطين فتركت إدارة أوقاف المسلمين وجميع شؤونهم الدينية كتقليد القضاء الشرعي والفتيا والوعظ والإرشاد والخطابة والإمامة إلى مجلس ينتخب أعضاءه المسلمون يدعى بالمجلس الإسلامي الأعلى. أما في الأصقاع المشمولة بالانتداب الفرنسي فقد أنشئت المراقبة العامة على

١١٧

شكل مبتدع بين الأشكال الحكومية ، ووضع غريب غير معهود بين الأوضاع الإدارية. وكذلك يقال في مجلس الأوقاف الإسلامية الذي قضت المفوضية بتأليفه ، ففصلت بذلك دواوين الأوقاف الإسلامية عن الحكومات المسلمة الأهلية ، ووصلتها مباشرة بالمفوضية العليا، وجعلت لها مستشارا غير مسلم يتصرف في شؤونها الإدارية والمالية بسلطة واسعة. وكان من إحداث مراقبة الأوقاف إرهاق خزائنها بالرواتب المستحدثة العظيمة ، ولم تأت بعمل يذكر مجاراة لمقتضيات الترقي الحديث استنادا إلى قواعد الشريعة العامة التي يحظرون الاستنباط منها ، ذلك لأن معظم أعضاء مجلس الأوقاف من أعداء التجدد ، وعشاق الاحتفاظ بالقديم وإبقائه على قدمه ، فقد نقضوا قرار مجلس رياسة العلماء المنطوي على ضرورة التذرع باستبدال المساجد الخربة التي لم تعد صالحة لإقامة الصلوات مع استناده إلى مذهب الإمام ابن حنبل بالشروط المنصوص عليها.

وسائل إصلاح الأوقاف :

ضيق بعض متفقهة القرون الوسطى دائرة الشريعة الواسعة ، وقلبوا يسرها عسرا ، ومرونتها صلابة ، وصوروها عقبة كؤودا في سبيل الارتقاء ، بما ابتدعوه من القيود المنبعثة عن الجمود ، وبما أقاموه من السدود المنيعة دون دخول منافذ ينابيع العلم ، وما سدلوه من الحجب الكثيفة على نوافذ نور العقل. احتال فريق منهم على الشريعة فاختلقوا باسمها حيلا تقلبها رأسا على عقب ، انقيادا لا هواء العلماء والأغنياء ، بسائق الجشع وحب الجاه ، وافتاتوا على دين الفطرة بحشو أودس ما تنبو عنه حكمته وأصوله وفروعه التي ترمي جميعها إلى السعادة البشرية في الدارين. فقد قيد المتنطعون بالتحريف والتشديد الوقف بقيود وشروط وحدود ، حالت دون ارتقاء الأوقاف وعمرانها ونمو ثروتها ، وقضت على حكمة الوقف وإرادة الواقفين ، كما ابتدع المحتالون حيلا نجم عنها ضياع الأوقاف كالمرصد وضروب الكردار، حتى آل حال الأوقاف إلى ما آل من المصير الفاجع.

وبعد فالواجب الآن على أهل الحل والعقد تأليف لجنة مختلطة من علماء

١١٨

الشريعة المجددين ، وعلماء الحقوق والإدارة والاقتصاد ، ليدون أعضاؤها مجموعة لأحكام الأوقاف الشرعية على نسق جديد ، مغترفين من بحر الشريعة المحيط ، ومن كل مذهب من مذاهب الأئمة المجتهدين ، ما هو أصلح وأضمن لسعادة الأوقاف وارتقائها وإثرائها ، وصيانتها من عبث العابثين ، واعتداء المعتدين ، وجمود الجامدين ، وما هو أكثر ملائمة لروح الزمان ، ومقتضيات العمران ، وفقا لما يرمي إليه الشرع وقواعده العامة من انتقاء الأصلح وترجيح الأحسن.

ثم إن الملحق بالشعائر الدينية نوعان ، وهما التدريس الخاص بالمدارس الدينية ، والإرشاد الدقيق في الزوايا الصوفية. أما الأول فهو تعليم العلماء فلامذتهم العلوم الدينية ووسائلها ، وجل هؤلاء إن لم نقل كلهم متبرعون تلا تعلق والحال هذه لدواوين الأوقاف بهم. وإنما التذرع بإصلاح أساليب لعليمهم ، واستئصال الفوضى الضاربة أطنابها في هذه المدارس ، وهذا شأن من يتولى شؤون العلوم الدينية كرئيس العلماء أو شيخ الإسلام مثلا. أما إذا وجدت وظيفة تدريس خاص بأحد العلوم في إحدى المدارس بأجر رتبه الواقف ، وكان صاحب هذه الوظيفة يتقاضى الراتب من خزانة الأوقاف ، فإن للدائرة حق النظر فإذا كان صاحب الوظيفة غير قائم بها لعدم أهليته فإنه يعزل ، وإن كان غير قائم بها كسلا فإنه ينذر. أما النوع الثاني وهو الإرشاد الدقيق فقد أجدبت الزوايا الصوفية من التصوف بمعناه الصحيح ، وأقفرت من المرشدين الكاملين ، والمريدين الصادقين ، وأضحت مقر المشايخ الدجالين تلعطلين ، والمريدين الكسالى العطلين. فأمثال هؤلاء يجب طردهم من الزوايا التي لم ينشئها الواقفون ليأوي إليها الضالون المضلون ، باسم التصوف والطرق الصوفية ، وإذا كان لهم أوقاف يجب تحويلها إلى مصارف البر والإحسان والإسعاف العام.

أشرنا إلى ما أنتاب الأعيان الموقوفة من الدرس والطمس والاختلاس سواء أكانت معابد أم مدارس أم مقابر أم ملاجئ إسعاف أم عقارات موقوفة الريع. وهذا النوع الأخير أضحى من المتعسر إن لم نقل من المتعذر إنقاذه من الاختلاس بعد مرور الزمن وعدم دلالة الظاهر عليه ، كدار كانت جارية

١١٩

بملك الوقف ، ثم لعبت بها الأيدي ، فانتقلت من ملك الوقف الصرف إلى ملك مختلسها المعتدي الأثيم. أما إذا لم يمض عليها مرور الزمن ، وكانت معلومة الحدود والبقعة ، فيجب حتما على دواوين الأوقاف إقامة الدعوى على المختلس أو ورثته ، كما يجب عليها التنقيب على ما كان من هذا القبيل. والمرجع في الاهتداء هو سجلات المحاكم الشرعية وكتب الواقفين. والواجب على دواوين الأوقاف الإيعاز إلى نظار الأوقاف الأهلية والخيرية الملحقة بإبراز كتب الواقفين فيما إذا لم يعثر عليها بين سجلات المحاكم الشرعية ، وإنذارهم بوضع اليد على الوقف إذا أبطأوا بالإبراز. أما النوع الأول فهو أسهل إنفاذا من العقارات الموقوفة الريع ، لأن ما اختلس من نحو المساجد أو المدارس أو المقابر وانقلب حوانيت أو دورا أو حدائق أو غير ذلك ، وأضحى ملكا صرفا للمختلسين أو ورثتهم أو المبتاعين منهم مطموسة ، لتبدل شكل المدرسة مثلا بعد اختلاسها وطمس معالمها ، فإن كانت آثارها لا تزال قائمة كالقباب والقبور والمحاريب فعلى دائرة الأوقاف التذرع بالوسائل القانونية لإنقاذها من المختلسين ، وإن تبدل شكلها ومحي رسمها ، وجهلت حدودها ، ومضى عليها مرور الزمن ، وانقطع الأمل من إرجاعها فهي برقبة مختلسيها. ومصباح الهداية المنير إلى المعابد والمعاهد المختلسة والمدارس الدارسة والمقابر المندرسة ، هو كتب تواريخ المدن الشامية والرسائل والأسفار الموضوعة في الخطط والآثار.

وما دعا إلى هذا العبث بأعيان الأوقاف وريعها إلا فقدان وازع يزع القائمين بهم ، أو مؤثر أدبي يردعهم ، أو رأي عام يكبح جماحهم ، أو مؤاخذة حكومة تضرب على أيديهم. ولم نسمع ولم نشهد في ربوعنا أن ناظر وقف خائن مختلس عوقب بسجن أو تعزير وتشهير ، أو بتضمين ومصادرة ، بل جل ما شهدناه في عصرنا الحاضر أن الناظر الضعيف إذا ظهر أثناء محاسبته أدنى شبهة أو خيانة ينحى عن العمل ويساق إلى المحكمة الشرعية ، وهي إما أن تحكم بعزله ، وإما أن تبرئ ساحته وهو الأغلب ، لأن مؤثرات الشفاعة والحنان ونحوهما تعمل عملها. وأما الناظر القوي فلا يسأل عما يفعل. وربما أعين على ظلمه وخيانته واختلاسه مع التبجيل والتوقير!.

وإذا كتب لدواوين الأوقاف حظ من التجدد والإصلاح ، فالواجب

١٢٠