خطط الشام - ج ٤

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٤

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٧٦

سبعين راكبا من قبائل قريش كلهم كانوا تجارا بالشام. وكانت تجارة أبي سفيان بيع الزبيب والأدم كما كان الصديق وعثمان وطلحة بزازين. وخافت قريش لما أسلموا من انقطاع السفر إلى الشام للتجارات لمخالفتهم أهل الشام بالإسلام فقال عليه الصلاة والسلام : «إذا هلك قيصر فلا قيصر ، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده» معناه لا قيصر ولا كسرى بعدهما في الشام والعراق ، ولا ضرر عليكم ، فقويت نفوس العرب على الاتجار مع هذين القطرين وكانوا من قبل يملكون المزارع في الشام ويقيمون وينعمون.

واتجر الرسول في الجاهلية وكذلك بعض أصحابه كأبي بكر وعمر وعثمان ، ولما رفرف علم الإسلام على الشام اتسعت الدنيا على الصحابة حتى إن عبد الرحمن بن عوف الزهري أحد الثمانية الذين سبقوا الخلق إلى الإسلام كان تاجرا كثير الأموال بعد أن كان فقيرا ، باع مرة أرضا له بأربعين ألف دينار فتصدق بها كلها وتصدق مرة بسبعمائة جمل بأحمالها قدمت من الشام ، وأعان في سبيل الله بخمسمائة فرس عربية ، وكان الزبير بن العوام ابن عمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأحد العشرة كثير المتاجر والأموال قيل : كان له ألف مملوك يؤدون إليه الخراج فربما تصدق بذلك في مجلسه ، وقد خلف أملاكا بيعت بنحو أربعين ألف ألف درهم وهذا لم يسمع بمثله قط ـ قاله الذهبي.

وكانت مراكب صور وطرابلس تقلع من هاتين الفرضتين بالتجارة إلى سواحل خليج القسطنطينية (بحر إيجه) وخليج البنادقة (الأدرياتيك) وبحر بنطس (الأسود) وجزائر قبرس ورودس واقريطش ، وكل ما قام به خلفاء المسلمين ووزراؤهم لتسهيل الحج على المسلمين من إنشاء الطرق وإنباط المياه على طول الطريق إلى أم القرى ، وإقامة معالم الأمن والراحة فيها للحجاج قد أفاد التجارة.

وكانوا قسموا أرض الشام إلى مراحل وبرد وفراسخ وعنوا بالأمن من وراء الغاية حتى يتجر الناس. وكانت طريق القوافل إلى مصر على الكرك أو على غزة ورفح. قال ريسون : وكانت دمشق مدينة الصناعة الجميلة (٤ ـ ١٦)

٢٤١

مركز تجارة شبه جزيرة العرب ومصر والشام ، وإن العرب رقوا الصناعة البحرية ووضعوا قوانين لحقوق الملاحة واستعاروا بيت الإبرة من الصينيين ، وضبطوا التجارة بفن مسك الدفاتر أيّ ضبط وشرحوا الكفالة وأنشأوا المصارف للفقراء ووضعوا السفاتج المألوفة وردود التمسك وبعثوا روح الحركة في مصارفنا الحديثة وكنت تراهم حيثما سكنوا مهدوا السبيل وأمنوها ، وعمروا المرافئ والفرض ، وأصلحوا وأنشأوا الفنادق والرباطات ورتبوا سير القوافل الاقتصادية ولم تكن المدن الكبرى غير أوساط تجارية كبرى.

وكان الفرات بن حيان أهدى الناس بالطرق وأعرفهم بها وكان يخرج مع عيرات قريش إلى الشام وله يقول حسان :

إذا هبطت حوران من رمل عالج

فقولا لها ليس الطريق هنالك

فإن نلق في تطوافنا وانبعاثنا

فرات بن حيان يكن وهن هالك

ويقول بيكولوتي : إن أربع موان : عكا وبيروت وطرابلس واللاذقية ، وخمس مدن داخلية الرملة ودمشق وحماة وأنطاكية وحلب استفادت من التجارة مع اللاتين ولا سيما مع البيزيين والجنويين والطسقانيين والبنادقة وكلهم إيطاليون وهذه الجمهوريات الأربع ، بيزة وجنوة وطسقانة والبندقية التي كانت تقتسم إيطاليا هي أول من اتجر مع الشام من أمم الغرب وجاراهم بعض تجار من أهل بلجيكا وإنكلترا ثم عدلوا لبعد ديارهم. وكان لهؤلاء الطليان ولتجار أمالفي ومارسيليا مكاتب تجارة في الإسكندرية وفي المدن الساحلية والداخلية في الشام ، يقايضون بواسطتها حاصلات الشرق مع حاصلات الغرب ، ولما فتح الجنويون ثم البنادقة جزيرة قبرس زادت صلات الشام مع هذه الجزيرة التي هي على ٩٣ كيلومترا من ساحل الشام في طرف جون الإسكندرونة وتعد من الشام. وجعل ملوك فرنسا لهم تاجرا إسرائيليا يذهب كل سنة إلى الشرق يبتاع منه حاصلات آسيا. وكثيرا ما كان اليهود سفراء في المفاوضات مع أمراء آسيا.

وذكر ابن خرداذبة أن التجار اليهود الراذائية ، وكانوا يتكلمون بالعربية والفارسية والرومية والإفرنجية (الفرنسية) والأندلسية (الإسبانية أو البرتقالية) والصقلبية (السلافية) يسافرون من المشرق إلى المغرب ومن المغرب إلى

٢٤٢

المشرق برا وبحرا ، ويجلبون من الغرب الخدم والجواري والغلمان والديباج وجلود الخز والفراء والسمور والسيوف يركبون من فرنجة (فرنسا) في البحر الغربي فيخرجون بالفرما «على ساحل مصر» إلى القلزم «البحر الأحمر» وإن شاؤوا حملوا تجاراتهم من فرنجة في البحر الغربي فيخرجون بأنطاكية ويسيرون على الأرض ثلاث مراحل إلى الجابية «في حوران» ، وأما تجار الروس وهم من جنس الصقالبة فإنهم يحملون جلود الخز وجلود الثعالب السود ، والسيوف من أقصى صقلبة «بلاد الروس» إلى البحر الرومي والخارج منهم في البر يخرج من الأندلس أو من فرنجة ، فيعبر إلى السوس الأقصى فيصير إلى طنجة ثم إلى إفريقية «تونس» ثم إلى مصر ثم إلى الرملة ثم إلى دمشق ثم إلى الكوفة ثم إلى بغداد.

وكان يرتفع من فلسطين الزيت والقطين والزبيب والخروب والملاحم والصابون والفوط والجبن والقطن والتفاح والقريش والمرايا وقدور القناديل والإبر والنيل والتمور والحبوب والخرفان والعسل وشقاق المطارح والسّبح والكاغد والبز والأرز ، ومن قدس «حمص وحماة» الثياب المنيرة والبلعسية والحبال ، ومن صور السكر والخرز والزجاج المخروط والمعمولات ، ومن مآب قلوب اللوز ، ومن دمشق المعصور والبلعيس والديباج ودهن البنفسج والصفريّات والكاغد والجوز والقطين والزبيب ، ومن حلب القطن والثياب والأشنان والمغرة ، ومن بعلبك الملابن. واختصت حلب أيضا ـ كما قال ابن الشحنة ـ بالصابون الذي يجلب منها إلى ممالك الروم والعراق وديار بكر وهو أفخر صابون ، ويباع منه بحلب في اليوم الواحد ما لا يباع في غيرها في الأشهر ، ومن خصائصها نفاق ما يجلب إليها من البضائع كالحرير والصوف واليزري والقماش العجمي وأنواع الفراء من السمور والوشق والفنك والسنجاب والثعلب وسائر الوبر والبضائع الهندية ، فإذا حضر إليها مائة حمل حرير فإنه يباع في يوم واحد ويقبض ثمنه ا ه. وذكر ابن بطلان من أهل القرن الرابع من عجائب حلب أن في قيسارية البز عشرين دكانا للوكلاء يبيعون فيها كل يوم متاعا قدره عشرون ألف دينار مستمر ذلك منذ عشرين سنة وإلى الآن ا ه. وكانت تجارة الشام في هذا القرن والذي يليه

٢٤٣

زاهرة جدا ، وقد قسم جعفر بن علي الدمشقي التجار إلى ثلاثة أصناف وهم الخزان والركاض والمجهز.

التجارة في القرون الوسطى :

كانت مراكب باري تسافر إلى مواني الشام قبل الحرب الصليبية وقد عقد أمراء سالرن ونابل وجايت وأمالفي في سنة (٨٧٥ م) معاهدة مع العرب كما عقد صلاح الدين يوسف وجمهورية بيزا معاهدة مؤرخة في ١٥ صفر سنة (٥٦٩ ه‍ ـ ١١٧٢ م) منح بها البيزانيين عدة امتيازات خاصة بالتقاضي والمملكة. وحصل الفلورنتيون (أهل فلورنسه) من قايتباي سلطان مصر والشام على عدة امتيازات وكانت هاتان المعاهدتان من أوائل ما وضع من الامتيازات الأجنبية للأوربيين في الشرق وكان المقصد منها ترويج التجارة الصادرة والواردة.

قال أحد كتاب الإنكليز : إن عكا بقيت بخليجها الجون الطبيعي الوحيد على طول ذلك الساحل ، وكانت مرسى السفن في العصور الوسطى ، ولما كثر اعتماد سكان الشام في طعامهم على الأرز عظم شأن عكا ، لأنها كانت الميناء الوحيد لتوريده. وكان الناس يقولون إذا أراد «باشا» عكا تضرب المجاعة أطنابها في الشام. ولذلك صار امتلاك عكا ضروريا لكل فاتح يريد امتلاك القطر ، فحوصرت أكثر من سائر مدن الشام وكان اتصال أوربا بها أكثر من اتصالها بسواها.

كانت التجارة من أعظم العوامل في الحروب الصليبية ، وأكثر أمم أوربا انتفاعا منها الإيطاليون أهل جنوة وطسقانة والبندقية وبيزا ، وهؤلاء كانت لهم قصور في الشام تدل على غنى ، وسفن الطليان هي أهم الأساطيل التجارية في القرون الوسطى.

واعتاد الأوربيون بعد الحروب الصليبية حاصلات الشرق ، فلم يعد لهم طاقة على الاستغناء عنها ، وملك أزمة التجارة في البحر مع الطليان الكاتالانيون والبروفانسيون والقبرسيون والرودسيون ، وأصبحت جزيرة رودس بمثابة مالطة وجبل طارق اليوم ، وكانت قبرس تهدد شواطئ الشام ومنافذ النيل.

٢٤٤

قال صالح بن يحيى : إن مراكب الإفرنج أخذت تتردد إلى بيروت بعد الحروب الصليبية بالمتاجر قليلا قليلا ، وكانت مراكب البنادقة تحضر إلى قبرس فيرسل صاحب قبرس بضائعهم في شونتين كانتا له إلى بيروت نقلة بعد أخرى ، وكان للقبارسة جماعة من التجار يسكنون فيها أي في بيروت ، ولهم خانات وحمامات وكنائس ثم بطل ذلك.

وتكاثر حضور مراكب طوائف الإفرنج وكانت ضرائب الواردات والصادرات تؤخذ في بيروت ، وهي تبلغ جملة مستكثرة ، وكان على باب الميناء دواوين وعامل وناظر ومشارف وشادّ يوليهم نائب دمشق والمتوفر من المرتبات يحمل إلى دمشق. وذكر لامنس أنه في نحو سنة (١١٣٦ م) جاءت مراكب فرنسية عليها تجار إفرنسيون من مرسيليا ثم أخذت بعض مرافئ جنوبي فرنسا كمونبلية وارل تبعث سفنها ، وبذلت جنوة جهدها لتبقى لها الأفضلية في التجارة مع الشام ، وكانت عكا المرفأ الأعظم بين المواني وقاعدة التجارة ومركز القناصل العاملين ، ثم مرافئ صور وطرابلس والسويدية التي كانت تسمى ميناء مارسمعان ثم بيروت. ومنذ القرن الخامس عشر تقدمت بيروت سائر مواني الشام ، وكان تجار الإفرنج يستبضعون من ديارنا الحرير والقطن بكميات وافرة والكتان والخام والأنسجة الكتانية والحريرية ، وكانت صور لا تزال تتجر بالأرجوان واشتهرت بآنيتها الصينية وزجاجها الفاخر ، ويقبل الأوربيون على حرير أنطاكية وزجاجها ، ويبتاعون السكر بالكميات الكبرى من صور وطرابلس وغيرهما من مدن الساحل ، إلى غير ذلك من ضروب الثمار والعقاقير والحشائش الطيبة والأفاويه العطرية ، وكان البنادقة يجلبون من حلب مقادير عظيمة من القطن والشب والبهار ، وخيرات الهند والعجم تتدفق إليها. ومبدأ اشتداد صلات الشام مع الغرب منذ الحروب الصليبية. وقد أخذ تجار الإفرنج أنفسهم بفضل صلاح الدين ثم أخلافه من بعده يغدون ويروحون في هذا القطر ، والحرب ناشبة بين الفريقين لا يمس أحدهم بأذى ، ولا يعتدى على حقوقه ، حتى اضطر الصليبيون أن يعاملوا تجار العرب على هذه الصورة في الأرض التي بقيت في أيديهم إلى آخر مدة الحرب مثل صور وعكا وأنطاكية لا ينال التجار منهم كبير

٢٤٥

أذى ، وللنصارى على المسلمين ضريبة يؤدونها في أرضهم ، وتجار النصارى أيضا يؤدون في أرض المسلمين على سلعهم. وقد تعقد المعاهدات مع ملوك الإفرنج وتذكر فيها أنواع المتاجر التي يحملونها إلى مواني هذا القطر ومنها الخشب والحديد.

ولم تكن جمهوريات إيطاليا في حرب الصليبيين دولا بحرية من الطراز الأول بل كانت منظمة بأحسن النظم الجمهورية ، ومع هذا فكثيرا ما كانت تشب الحرب بينها حتى تستأثر إحداها بالتجارة في الشام ، فكان الجنويون أعداء البنادقة ، وكذلك كان الكتلانيون ، واضطر البروفانسيون أن يدخلوا تجارتهم إلى هذه الديار بواسطتهم ، وهم يريدون أن يستأثروا بنقل زوار بيت المقدس وأن تمر تجار ما وراء جبال الألب من مثل جوخ الفلاندر في مواني إيطاليا ، وتنقل على سفنهم وتستوفى عنها رسوما خاصة. ولما احتل الجنويون الماغوسة في قبرس بدأ اللاتين بزيارة دمشق وبقية الشام ، وكانت حال التجارة في الدور الثالث من أدوار القرون الوسطى في دمشق على أحسن ما يكون ، فكان التجار الأوربيون إذا انتهوا إليها رأوا فيها عدة زملاء لهم من ممالك مختلفة مثل البندقية وجنوة وفلورنسة وبرشلونة وغيرها ، فيبيعون ويبتاعون ، وكان اجتماعهم في خان برقوق وقد أقام بعض البنادقة في حماة ومنها كانوا يبتاعون القطن. وكان للأوربيين قناصل في الشام منذ الزمن الأطول وأول قنصل كان للبنادقة في مدينة دمشق سنة (١٣٨٤ م) واسمه فرنسسكو داندللو وكانت دمشق مستقر القناصل، إلا أن لا منس يقول : إن أول ما ورد اسم القنصل في جملة النزالة الجنوية التي كانت في عكا أواسط القرن الثاني عشر ودعوه أولا بنائب القمص Vicomte ,Vice ـ Comg ثم انتشرت هذه الرتبة في أماكن شتى في النصف الثاني من ذلك القرن وعرف أصحابها بالقناصل وأطلق أولا على الإيطاليين ، وبعد زمن طويل صار للفرنسيس قنصل.

التجارة في القرون الحديثة :

كانت حلب في هذا الدور من أول المدن التي اتجرت مع الطليان ،

٢٤٦

وقد أقام لهم البنادقة فيها منذ عهد المماليك قناصل من الدرجة الأولى وكان البنادقة يتاجرون من مليونين إلى ثلاثة ملايين دوكا مع حلب كل سنة ، وقد احتفظت الشهباء بمركزها التجاري المهم فكانت نقطة الاتصال بين الخليج الفارسي والبحر المتوسط. ثم انتشر فيها الفرنسيون ولكنهم اضطروا أن يغادروها للاضطرابات السياسية إلى أنطاكية ، كما اضطر تجار الإفرنج في دمشق إلى مبارحتها إلى صيدا وبيروت وعكا. وفي سنة (١٥٠٧ م) عقدت الدولة العثمانية مع فرنسا معاهدة تجارية فكانت سفن فرنسا تأتي إلى مواني الشام ولا سيما طرابلس وصيدا وتأخذ منها حاصلات وتجلب إليها بضائع.

وكثر عديد الإفرنج في حلب أكثر من دمشق ، لأنها أقرب منفذ لاتصال الشرق بالغرب ، فكان تجارهم يأتونها من ثغر السويدية يتجرون مع أهلها ويقايضون محصولاتهم بمحصولاتها ومحصولات الشرق ، ولا سيما الهند وفارس والعراق ، وكانت فرنسا والبندقية أول الممالك الأوربية التي اتجرت مع حلب وعقدت معها الصلات التجارية وأقامت المكاتب ، ثم جاء الإنكليز في القرن السادس عشر وتلاهم الهولانديون ، وقد تناسل بعض الإفرنج في حلب وارتاشوا وتأثلوا وعدوا كأنهم من أهلها ، وكان البنادقة يتجرون بالبهار يأخذونه من حلب بمقادير وافرة كما كانوا يجلبون منها الشب والقطن.

وكان في حلب وكلاء لتجار الهند وبلاد الكرج والفرس والأرمن وغيرهم ، وللبنادقة بين أمم البحر المتوسط موقع ممتاز ، ولئن أفقد حلب فتح الطريق البحري إلى الهند الشرقية بعض مكانتها التجارية ، فقد كانت في القرنين السابع عشر والثامن عشر زاهرة بتجارتها. وكان في حلب سنة (١٧٧٥) ثمانون وكالة تجارية لبيوت تجارية أوربية ، وأكثر اعتماد الأوربيين على سماسرة من اليهود يتجرون بالصادر والوارد ، وكثر تجار الإنكليز فيها منذ عهد ملكهم جاك الأول (١٦١٣ ـ ١٦٢٥).

ونما عدد تجار الأوربيين في عكا وصيدا وبيروت ولا سيما في هذا الثغر ، فأصبح على ما روى لامنس في القرن الخامس عشر ولا سيما بعد عهد تيمورلنك ملتقى شعوب البحر المتوسط. وكنت تشاهد في بيروت مزيجا يصعب وصفه

٢٤٧

من العمائم والطرابيش والكوفيات الحرير وأكسية وبرانس وقفاطين. وفي القرن الثامن عشر اقترح تجار الفرنج أن تعمر ميناء اللاذقية مبينين للحكومة حسن مستقبلها ، فلم يقبل المتصرف هذا الاقتراح وقال : ربما أكون غدا في جدة فلماذا أتخلى عن الموجود وأتطلب مستقبلا مجهولا.

وممن كان لهم اليد الطولى في تنشيط التجارة في هذه الديار فخر الدين المعني الثاني في أوائل القرن الحادي عشر للهجرة. وكثيرا ما كانت مراكب الإفرنج تأتي لمشترى الحنطة إلى مواني عكا وصور والرملة وطنطورة وربما بلغت السفن الصغيرة (البرش) الراسية في عكا نحو ١٥٠. ولقد توسع فخر الدين في الامتيازات الأجنبية فسمح للفرنسيين أن يبنوا خانا عظيما في صيدا ، ولأهل فلورنسة أن يفتحوا قنصلية ، فأصبحت صيدا وميناؤها أوائل القرن السابع عشر أهمّ مواني الشام.

وفي عصر فخر الدين كان يحمل من دمشق إلى الديار المصرية عشرة قافات كما قال صاحب محاسن الشام : وهي قصب الذهب. قبع. قرضية. قرطاس. قوس. قبقاب. قراصيا. قمر الدين. قريشة. قنبريس. ونقل الغزي عن معجم التجارة العام المطبوع سنة ١٧٢٣ (١١٣٦) أن حلب لا تضاهيها بلد بتجارها الذين يقصدونها من أقطار الدنيا ، فإن خاناتها التي لا تقل عن أربعين خانا لا تزال غاصة بالهنود والفرس والترك والفرنج وغيرهم بحيث لا تقوم بكفايتهم. قال : ومن خصائصها التجارية وجود الحمام الذي يأتي تجارها بالأخبار من إسكندرونة بثلاث ساعات بسبب تربيته بحلب وحمله إلى إسكندرونة بأقفاص ، فإذا طرأ خبر علقت البطاقة في رقبة الطير وسرح ، فيصير إلى حلب طالبا لفراخه.

وفي كتاب «الشام على عهد محمد علي» : ما زالت حلب ودمشق المركزين العظيمين للتجارة في الشام ، وما برحت حيفا وبيروت وطرابلس وأنطاكية وإسكندرونة هي المواني التي يكثر اختلاف السفن الأوربية إليها ، وهي المحطات الرئيسة لتجارة الشرق ، فتأتي قوافل بغداد إلى دمشق وحلب حاملة من العجم التنباك والسجاد ، ومن غيرها اللؤلؤ والأحجار الكريمة ، ومن الهند الطيب والعقاقير والأفاويه ، وفي عودتها تحمل جوخا وثيابا من

٢٤٨

عمل أوربة ، وألبسة حريرية من صنع دمشق وحلب ، وبضائع منوعة ومصنوعات خشبية وصدفية ونحاسية ، وبسوء السياسة المخالفة لما هو جار في أوربا ، إذ كان ينشط التجار الغرباء دون التجار الوطنيين ، أصبحت معظم التجارة العربية في الشام تجري تحت اسم أوربي. وقبل أن يفتح إبراهيم باشا الشام كان التجار الوطنيون يدفعون إلى الإفرنج ثلاثة ونصفا أو أربعة في المئة ليتأتى لهم أن يتجروا بأسمائهم ، لأن الإفرنج لا يدفعون على الأكثر زيادة على أربعة في المئة من كل ما يطلب من المكوس والضرائب ، على حين كانت العرب خاضعة لاداء ١٨ أو ٢٠ وربما ٢١ في المئة. وقال : إن عمال إبراهيم باشا كانوا يتجرون ويحتكرون أصنافا من التجارة.

ولما قلّ الأمن في البحر على عهد نابليون وبسوء الإدارة العثمانية وبثورات الإنكشارية سنة (١٨١٤ و ١٨٢٦) وبزلزال سنة (١٨٢٢ و ٢٧ و ٣٢) ووباء سنة (١٨٣٢) وطاعون سنة (١٨٣٧) خربت تجارة حلب ودمشق ، وكثرت البضائع الإنكليزية التي كانت تباع بأثمان بخسة تجيء من طريق ليفورنا في إيطاليا. وكانت الحاصلات الخام التي تعود إلى الشام معمولة ، سبب خراب هذا القطر ، مثل حرائر ليون التي أخذت تسحق حرائر دمشق وحلب ، وبمنافسة حرائر ليون التي تقلد حرائر دمشق أحسن تقليد وتباع بأثمان بخسة ، قضي على صنائع دمشق بعد أن كانت تعمل أكثر من ٤٠٠ ألف قطعة من الحرير والثياب الحريرية الممزوجة بالقطن. وكانت تجارة الحاصلات التي تبتاع بالسلف والسلم ، خراب الفلاح الشامي البائس ، وكان كثير من تجار الأوربيين يستحسنون هذا النوع من التجارة ، ومنهم من كان يمقتها وقد يربح المتجر بها خمسة وعشرين في المئة ، ويعدها صاحب الذمة غبنا ، وكان يصل إلى بيروت كل سنة ١٣٤٠ سفينة تحمل ٧٨٤٨ طنا ويخرج ٨٠٥ سفن تحمل ٥٠٠٥ يخرج منها القطن والحرير والتبغ والإسفنج والفوّة والزيت والصابون بمقدار وافر والسمسم والكمون والعفص. وتجارة الواردات تبلغ ٦٧٠ ، ٣٦٦ ، ٤٤ قرشا منها نحو ١٥ مليونا من مصر وتجارة الصادرات ٢٧٠ ، ٨٧٤ ، ٢٦ منها نحو ١٣ مليونا لمصر ، فكانت الشام تخسر مسانهة نحو ١٨ مليون قرش تسدها سبائك ذهب أو نقودا ، وهذا على عهد الحكومة

٢٤٩

المصرية. وبعض هذه الصادرات قد بطل إصداره اليوم من الشام.

ولقد تضررت حلب ودمشق بفتح البرتقاليين طريق رأس الرجاء الصالح في جنوبي إفريقية سنة (١٤٩٧ م) ، وكان أول من اكتشفه من البيض الفينيقيون نحو القرن السابع قبل المسيح ، وتأذت تجارة حلب ودمشق بفتح الفرنسيين ترعة السويس سنة (١٨٦٨) ، وكان من نكبة الشام بفتح هذه الترعة أن انتقل كثير من تجار دمشق وحلب إلى بيروت والإسكندرية والقاهرة وطنطا وإزمير وسلانيك والإستانة ومانشستر ومارسيليا وميلانو وغيرها من المدن الأوربية والإفريقية والآسياوية ، وقد تحولت تجارة الصين والهند إلى البحر ، وبطل عمل القوافل التي كانت تغدو وتروح بين الشرق الأدنى والأقصى ، وقل عدد الذين يمرون بدمشق من الروم وغربي آسيا للذهاب إلى الحجاز ، وأصبح معظمهم يركب البحر إلى البقاع الطاهرة تخفيفا من عناء الأسفار في القفار وانحصرت التجارة الداخلية في حدود ضيقة ، وأصبحت لا تتعدى حدّ المستهلكات ، وصار لها مواسم قلما تروج في غيرها ، ولما انتظم سير السفن البخارية ، وكثر اختلافها إلى مواني الشام ، وكانت رحلاتها من قبل متقطعة مختلفة المواعيد ، تجرأ الناس على الاتجار وتضاعفت الصلات التجارية بين الشام والأصقاع الإفرنجية.

يقول بعض الكتاب : إن التجارة البحرية لم تنقطع في البحر الرومي في القرن الأول للإسلام إلا بما كان يبدو من حركة الأسطول اليوناني ، ولكن تجارة الشام أصيبت بالتأخر مع أوربا لما أصبح للشام منافس كالبصرة التي كانت لقربها من الهند أكثر منافسة للشام.

وظهرت ظاهرة مهمة في الشام منذ نحو ثمانين سنة أثرت فيه تأثيرا كبيرا وذلك أن جماعة من تجار بيت لحم في فلسطين حملوا مصنوعاتهم الخشبية والصدفية إلى معرض فلادلفيا سنة (١٨٧٦ م) فربحوا كثيرا ولما عادوا كثر المقتفون لآثارهم من التجار وغيرهم من أهل الشام وبدأ الناس بالهجرة طلبا للربح ، وكانت الهجرة مقصورة أولا على سكان الجبال من لبنان وعامل واللكام ثم تعدت إلى سكان السهول ، وكان المستأثر بها سكان القرى فتعدت إلى سكان المدن ، وكان التجار على الأغلب مسيحيين فأصبحوا بعد من

٢٥٠

جميع أهل الأديان من الشاميين ، ولم يلبث نطاق الهجرة أن توسع ، وما نراه في اللبنانين الشرقي والغربي ، وما إليهما من الجبال من الدور والقصور عمر أكثره بدراهم أميركا ، ويقدّر اليوم المهاجرون إلى أميركا الشمالية والجنوبية واوستراليا وغيرها من البلاد التي ترحب بالأيدي العاملة بزهاء سبعمائة ألف مهاجر شامي.

وقد ساعد على دوام الهجرة اختلال المجاري الاقتصادية في السلطنة العثمانية ، ثم استرسال الحكومات العثمانية ثم المنتدبة في إهمال الحركة الاقتصادية وإلقاء الحبل على الغارب. وقد كان عمال العثمانيين يودون لو هاجر جميع المسيحيين من الشام ، لينجوا من دعوى أوربا في حماية الأقلية ولكن بهجرتهم ضعفت التجارة ، وكيف تنجح التجارة في أمة والحكام هم التجار ، وقد رأينا من ذلك أمثلة خلال الحرب العامة ، فكان عمال الأتراك لا فرق بين الكبير والصغير منهم يحتكرون معظم الحاجيات دع الكماليات ، فكنت تراهم كلهم تجارا يؤخرون الأرزاق عن الجند في ساحة الحرب ويقطعون مواد الحياة عن الرعية ، حتى يشحنوا بضائعهم ويغنموا فرصة ارتفاع أسعارها ، فاغتنى بذلك كثير من عمالهم ثم افتقروا بعد حين.

على أن بعض البلدان استفادت كثيرا من الحرب العامة ومعظم المدن التي استفادت حلب ودمشق وبيروت والقدس. قال الغزي : إن التجارة في حلب آخذة بالتقدم منذ ثلاثين سنة ولذا كثر عدد التجار زيادة عظيمة بحيث بلغ ثلاثة أضعاف ما كانوا عليه قبل هذه المدة ، وكان معظم هذه الزيادة في أيام الحرب العالمية فإن أرباح التجارة التي كانت في غضونها جرّت العدد الكبير من ذوي الصنائع اليدوية من صنائعهم إلى الاسترزاق بالتجارة فنجحوا وربحوا أرباحا طائلة ، ونشأ من بينهم أصحاب ثروة تستحق الذكر. إلى أن قال : وفي سنة (١٣٤١) بدأ دولاب التجارة يدور ببطء فأخذت الثروة العامة في حلب بالانحطاط لإغلاق الأناضول أبوابه في وجه تجارة البضائع المعدودة من الكماليات وغلاء أجور النقل في السكة الحديدية وتلاعب الصيارفة والمحتكرين بالأوراق النقدية والنقود الذهبية إلى غير ذلك من الأسباب.

٢٥١

ومن أعظم الفوائد التي نتجت للشاميين من تعلم اللغات الأجنبية كالفرنسية والإنكليزية ، أن كان من هؤلاء المتعلمين وأكثرهم من غير المسلمين عمال لتجارة الواردات من الغرب. واستأثر المسلمون بتجارة الصادرات فكان منهم تجار شاميون في الإسكندرية وطنطا والقاهرة والسودان والإستانة وإزمير ، وكل بلد في الأرض مهما بعدت الشقة إليه ترى فيه تجارا شاميين ، وأنجح تجارهم في مصر والأميركتين وأوستراليا. ولنا تجار في العراق والحجاز وفارس والهند ويابان وجنوبي إفريقية وأواسطها على نحو ما وصفنا شاعر النيل حافظ إبراهيم:

ورجال الشام في كرة الأرض

يبارون في المسير الغماما

ركبوا البحر جاوزوا القطب فاتوا

موقع النيرين خاضوا الظلاما

يمتطون الخطوب في طلب العي

ش ويبرون للنضال سهاما

ومن أهم المواسم التي كانت في فصل مخصوص من السنة تدب فيه روح الحركة في التجارة موسم السياح ، فكان سياح الغرب يأتون أوائل الربيع لزيارة الأماكن المقدسة والمصانع التاريخية في فلسطين وبعلبك وتدمر ودمشق وغيرها ويقدرون بخمسة آلاف سائح كل سنة على الأكثر إلى المدن الوسطى والشمالية وبأكثر من ذلك إلى فلسطين فقط ، والموسم الآخر موسم حجاج إفريقية وآسيا وأوربا وكانوا يقدرون بخمسين ألف حاج ، والفضل في ذلك يرجع لسهولة المواصلات البرية في السكة الحجازية ، ولرخص أجور البواخر في البحر. وموسم الحج بطل بالحرب فنزل معدل من يزورون الشام ويتجرون ويبتاعون. أما موسم فلسطين فإن كثيرا من تجارها أصبح رزقهم موقوفا على ما يربحونه في موسم الزوار في القدس وبيت لحم والخليل والناصرة وغيرها ، وبدأ الشرق العربي يربح كثيرا من السياح الذين يختلفون إلى ذاك الصقع لزيارة جرش وعمان والبتراء وقصر المشتى وغيرها ، كما تربح سورية ولبنان من القاصدين إلى زيارة بعلبك وتدمر وغيرهما ، وصار لموسم الاصطياف في لبنان الغربي والشرقي مكانة اقتصادية ذات شأن كبير في تنشيط الصناعة والتجارة. ومتى انتشر الأمن في القطر ، وكثرت الخطوط الحديدية في البر ، والسفن التجارية في البحر ، وحمت الحكومة التجارة بقوانينها

٢٥٢

وأحكامها العادلة ، ومعاهداتها مع الأمم المجاورة ، انتبه التجار إلى التجدد في متاجرهم. ولا نعد تاجرا من يحرق مخزنه أو ما فيه ليربح ضمانه من الشركة الضامنة ، أو يتلكأ في أداء الذمم التي عليه ، أو يضارب في الأسواق فيؤذي الفقير. أو يعامل صاحب المعمل في الغرب بقليل من الذمة فيتلاعب في الأسعار والصوافي ، فإن هذا مما يؤخر الصادر عنا والوارد علينا، وفي كل ذلك ما يزيد الغبن ويورث الخسارة في العاجلة والآجلة لا محالة.

ولقد ثبت في العهد الأخير ، وخصوصا لما أخذ المسلمون يجارون مواطنيهم المسيحيين في تعلم اللغات الغربية ، ويتقنون أصول التجارة على أساليب أمم الحضارة ، ويتعرفون إلى أوضاعهم الجديدة في استثمار أموالهم في مصارف خاصة بهم ، أن الغربيين يتعذر عليهم أن يتوسعوا بعد في الاتجار في القطر ، وفتح بيوت تجارية على المثال الذي كان لهم وحدهم في القرن الماضي ، وقطع أرزاق الشاميين في عقر دارهم. ذلك لأن التاجر الوطني أقل من التاجر الغربي في مطالبه ، يكتفي بالربح القليل ، ويصبر في الأزمات ، وهو في بلده يعرف ما يصلح له ويروج فيه ، ونفقاته إجمالا أقل من نفقات الغريب. وإذا تساوى الوطني والدخيل من كل وجه ، فالوطني يؤثر معاملة مواطنه لا محالة.

وإذا جارى التاجر العربيّ التاجر الغربيّ أو كاد ، تجلت في ابن الشام أخلاق التجارة ، والنفوذ في قاعدة العرض والطلب ، وبدا في هذا الميدان ذاك الشرف المغيب الذي كان كامنا في نفسه ، وورثه مع الدم المتسلسل فيه من آبائه الأقدمين ، عربا كانوا أو روما أو فينيقيين ، وبذلك أصبح الرجاء معقودا بأن يستأثر الشاميون بتجارة ديارهم. فإن تعلموا باختلاطهم بالأمم الحية ما ينقصهم من ضبط ونظام ، وساعدهم على ذلك قلة من يأتي من الغرب من أرباب الطبقات الأولى في التجارة ، وكان التاجر المتوسط الحال بماله ومعرفته منهم أقل حظا ممن يماثله من الشاميين في أسواق المتاجرات ، وإذ كان من البعيد على النوابغ من كل صنف في الغرب أن يغشوا بلادنا ـ كان في ذلك كله النفع العظيم لنا في تجارتنا ، ومتى حللنا روح الشامي وما انطوى عليه من مراعاة الشرف والاحتفاظ بالثقة ، والبعد عن التدليس

٢٥٣

والمؤالسة ، وإرادة النصح في الجملة ، كان التاجر كل التاجر ، الذاهب في الأرض بجماع المفاخر ، وباستقامة تاجرنا في معاملته ، يدفع عن وطنه كثيرا من الغوائل الاجتماعية ، ولا يهنأ العيش ويطيب ، إلا إذا قلّ توافد الغريب من الجنس الذي قال فيه حافظ :

يقتّلنا بلا قود

ولا دية ولا رهب

ويمشي نحو رايته

فتحميه من العطب

التجارة والاقتصاديات في العهد الحديث (١) :

نشبت الحرب العامة سنة (١٩١٤) ولم تكن الشام على استعداد للدخول في غمارها، ولم تأخذ الأهبة الكافية لمقاومة طوارئها ، وما لبثت الدولة العثمانية والبلاد الشامية التابعة لها أن دخلت في صفوف المحاربين إلى جانب الدولة الألمانية وحلفائها ، فحصرت مواني الشام ، وبدأت أسعار البضائع ترتفع تدريجيا ، وذلك في أصناف الملبوسات كأنواع منسوجات القطن والصوف على اختلاف أنواعها ، أو في المأكولات كأنواع السكر والقهوة والأرز ، أو في سائر الحاجيات والكماليات كالبترول (الكاز) والكحول (السبيرتو) وأنواع المواد القرطاسية والزجاجية والأصباغ والمواد الكيمياوية على اختلاف أنواعها ، وشعر الناس بالحاجة إلى الاقتصاد والتفكر في استجلاب هذه الأصناف من البلاد المجاورة بقدر الإمكان.

وقد اشتدت الأزمة الاقتصادية بفقدان الأيدي العاملة أيضا من المدن والقرى ، بسبب النفير العام والتجنيد في جميع أصقاع الشام ، وكان من تخلصوا من التجنيد الإجباري هم الذين لم يتدربوا على التعليم العسكري فدفعوا بدلات نقدية مرات خلال أعوام الحرب. وكانت هذه البدلات تكلف مبالغ طائلة في السنين الأخيرة ، وأعلنت الدولة العثمانية بعد دخولها الحرب (قانون تأجيل الديون) بقواعد مخصوصة أقرتها.

ولم يلبث الضيق أن عمّ والنقد أن قلّ وخصوصا بعد أن وضعت السلطة العسكرية يدها على جميع وسائط النقل في البلاد مثل السكك الحديدية ودواب

__________________

(١) كتب هذا الفصل السيد لطفي الحفار.

٢٥٤

النقل والمركبات والسيارات ، فكانت أسعار الحاجيات تختلف اختلافا بينا في بلاد الشام القريب بعضها من الآخر ، وذلك بالنسبة للتشدد أو التساهل الذي كانت تبديه الإدارة العسكرية في استخدام أسباب نقل البضائع. انقضت السنة الأولى للحرب فأصبحت دمشق مركزا للجيش الرابع الزاحف على ترعة السويس. وأنشأ يعقد البيوع العظيمة والالتزامات الكبيرة سد لحاجات الجيش المذكور ، فبدأت هذه الأزمة الشديدة بالانفراج ، وأخذت إدارة الجيش تتساهل باستخدام المجندين في إدارات المتعهدين والملتزمين ، ونشطت الحركة التجارية والصناعية في الشام. ولا ينكر أن الجيش الرابع صرف مبالغ طائلة في أسواق التجارة لضمان حاجاته الكثيرة التي لم يتمكن من تأمينها بطرق الإكراه أو بواسطة الضرائب الحربية التي رأى أنها عقيمة لا تفي بالحاجة ، وبعدئذ فكر بعض التجار باستجلاب بعض الحاجات الضرورية التي غلت أسعارها وعزّ وجودها من بلاد نجد التي كانت تستورد بضائعها من الهند وفارس على أيسر وجه وطمأنينة ، لأن أمير نجد عبد العزيز ابن سعود كان مواليا لإنكلترا لا يجد ضيقا ولا رهقا في استجلاب البضائع ومواد الغذاء على اختلاف أنواعها.

ولقد كانت هذه الطريقة من أهم الوسائط لسد حاجات البلاد والجيش ، ولإيجاد حركة تجارية جيدة كانت تدرّ ذهبا وهاجا على المتاجرين والمستوردين ، كما أن كثيرا من التجار اتخذوا وسائط عديدة لاستجلاب بعض البضائع الألمانية والنمسوية بواسطة رجال الجيش واستخدام وسائطهم لنقل هذه البضائع بالاتفاق معهم ، وبتبادل المنفعة بينهم ، وبذلك انفرجت الأزمة الاقتصادية التي بدأت في السنتين الأوليين من الحرب ، واغتنى كثير من التجار والعاملين والوسطاء من رجال الإدارة والجندية باستخدام هذه الوسائط في النقل ونقل أصناف التجارة ، والبلاد محصورة لم يرد إليها شيء قط من طرقها البحرية العديدة. وكثرت النقود الذهبية في التعامل بما أنفق من إدارات الجيش ، وما ورد البلاد من طرق البر من البضائع ، وما كانت بريطانيا العظمى تنفقه في أنحاء البلاد المجاورة عن سعة من الذهب الوهاج لتأييد الثورة العربية ، حتى أصبحت البلاد في أواخر سني الحرب على أحسن حالات اليسر والرخاء.

٢٥٥

فارتفعت أسعار العقارات والمزارع ، وشعر الناس بكثرة النقد الذهب في أيديهم حتى كان المشتري لا يجد من يبيع عقارا أو أرضا إلا بثمن فاحش ، إلى أن دخلت الجيوش الإنكليزية والعربية هذا القطر تحمل معها الذهب وتنفقه بلا حساب ، ويقدر ما أنفقه الجيش الإنكليزي في سنة (١٩١٩) والأشهر الأولى من سنة (١٩٢٠) في أرض الشام بما يقارب الثلاثة ملايين من الجنيهات المصرية.

الورق النقدي والعوامل في تدني الاقتصاديات :

وحدث خلال الحرب أن اتجر كثير من الماليين بأوراق النقد الدولي على اختلاف أنواعه ، وأصبح بعضهم يستورده من طريق ألمانيا والنمسا وسويسرا إلى الإستانة ، ومنها توزع في أنحاء بلاد العرب مثل الكورون النمساوي والمارك الألماني والشلن الإنكليزي والفرنك الفرنساوي والروبل الروسي وأوراق النقد التركية والأسهم اليابانية والعقارية المصرية والأرجنتينية على اختلاف أنواعها ، وأصبحت تباع بقيم تنحط أحيانا عن قيمتها الحقيقية ٢٥ إلى ٥٠ في المئة. وتدنى سعر الروبل الروسي إلى ١٠ و ١٥ في المئة وكذلك المارك والكرون ، فأقبل عدد كبير من التجار وأرباب الأملاك حتى والنساء على مقتناها وذلك على أمل أن تعود إلى أسعارها الأولى بعد أن تضع الحرب العامة أوزارها. ويقدر الخبيرون أن الشام أدت قيمة ما ادخرته من أوراق النقد هذه ما يربو على خمسة ملايين ليرة عثمانية ذهبا ، كان القوم يأمل بيعها بما يقارب أسعارها الأولى ، وبذلك يربحون ربحا عظيما من أيسر طريق.

ثم أعلنت الهدنة عام (١٩١٨) وبدأ تجار الشام يستوردون البضائع المنوعة التي اشتدت حاجتها إليها من البلاد المصرية أولا ثم عقدوا المبيعات المختلفة من أوربا بأسعار عالية ، وقد اضطر أرباب المصانع والمعامل إلى رفع أسعار بضائعهم لعوامل عديدة ، ومنها قلة الأيدي العاملة بعد الحرب العامة ، وغلاء المواد الأولية للصناعات المنوعة ، وارتفاع أسعار الفحم وأجور المواصلات ، وراح الكثيرون بالنظر للحاجة الماسة إلى عقد مبيعات عظيمة من أنواع البضائع المنسوجة والمغزولة على كثرة أنواعها ، ومن الأصناف

٢٥٦

الأخرى كمواد الزجاج والقرطاس والكيمياء وغيرها فأدت الشام أثماناً باهظة وقيماً فاحشةً جداً في ابتياع البضائع المستوردة في سنتي ١٩١٩ و ١٩٢٠ حتى غصت المخازن والمستودعات بهذه الأصناف وضاقت بها الأسواق، وكان لهذا الاندفاع الكلي الذي لا نسبة بينه وبين حاجة البلاد بسبب الأرباح التي كانت تدر أولاً، فعل عنيف وصدمة قوية أُصيبت بها الأسواق فكانت من بوادر الضيق وحدوث الأزمات الاقتصادية للأسباب التالية:

أولاً: إن الشام ولا سيما دمشق كانت تكنز كميات عظيمة من ورق النقد المختلف الضروب فطرأ عليها النزول العظيم وأصبح قسم منها في حكم المعدوم مثل الروبل الروسي والكرون النمساوي والمارك الألماني وغيرها، وكانت خسارة بلاد الشام بها عظيمة ولم تعوض منها شيئاً.

ثانياً: نزول أسعار البضائع المتوالي منذ عام ١٩٢٠ إلى ١٩٢٢ وورود كميات كبيرة من البضائع المتنوعة التي ما زالت مخزونة على التوالي عند أصحابها فطرأ النزول التدريجي عليها، وذهب بقسم كبير من ثروة كبار الأغنياء والتجار.

ثالثاً: حدث بعد أن دخلت الجيوش الفرنسية إلى المنطقة الداخلية في أواخر عام ١٩٢١ أن وضعت الحواجز الجمركية بين جنوب البلاد وشمالها وشرقها، وكانت من قبل وخصوصاً دمشق مركزاً عظيماً لتصدير البضائع والمصنوعات الوطنية إلى الحجاز وفلسطين وشرقي الأردن والعراق والأناضول فأصبحت بمعزل عن هذه البلاد المجاورة، بالنظر للتبدل السياسي الذي حدث بعد الحرب العامة، وصارت مصنوعات الشام التي كانت تصدر إلى هذه الأقطار حرة لا مراقبة عليها ولا قيد من القيود الثقيلة والحواجز الجمركية فكاد يقضى على هذا الصناعات وعلى تجارها وعمالها.

الحواجز الجمركية:

عقدت المفوضية الفرنسية العليا في الشام اتفاقاً مع المفوضية الإنكليزية العليا في فلسطين يوم ٢٢ أيلول سنة ١٩٢١ م لتأسيس جباية الجمارك على (٤ ـ ١٧)

٢٥٧

البضائع التي تتبادل هاتان المنطقتان التجارة بها، وإحداث دوائر مكس على الحدود وداخل البلاد لما تقتضيه هذه الجباية، وعلى أثر ذلك اجتمع عدد كبير من تجار دمشق وتفاوضوا قضية هذه الحواجز وأضرارها على التجارة والصناعة، وقر رأيهم على انتخاب لجنة من كبار تجار البلاد مؤلفة من عشرة أشخاص للعمل في هذه القضية، فبدأت اللجنة عملها بأن قدمت تقريراً مطولاً للمراجع الرسمية بينت فيه مقدار الأضرار التي تنتاب الشام من وضع هذه الحواجز الجمركية بين جنوبها وشرقها وشمالها خصوصاً الصناعات الوطنية المنوعة وضمنته إحصاءً دقيقاً في أنواع هذه الصناعات ومقدار النفوس والأموال والقيم المقدرة للأنواع المصدرة خلاصته أن في مدينتي دمشق وحمص نحو ١٠٢٦٠ نولاً يشتغل بها ٤٦٢٦٠ عاملاً، وهذه الأنواع تخرج مقدار ٤٥٦٨٥٠٠ قطعة قماش قيمتها ثلاثة ملايين ليرة عثمانية ذهباً، وذلك للأصناف الآتية فقط: الألاجه الحريرية والقطنية التركية، الديما، الحامدية الملاءات الحريرية والقطنية، العباءات، الستور على اختلاف أنواعها، السلوكات الأغباني، الشال الحريري والصوفي، والكمر والمضربات، وفي مدينتي حماة وحلب مثل هذا المقدار من الأنوال والعمال لمختلف الصناعات الوطنية التي هي برسم التصدير إلى الجهات المجاورة. وتابعت بياناتها في الأضرار التي تعود على البلاد وقدمت احتجاجاً مطولاً بينت فيه الضرار السياسية والإدارية والاقتصادية التي تنتج من موضع هذه الحواجز الجمركية وخلاصته.

أولاً: إنه ليس من مصلحة سورية وفلسطين إلغاء الاتحاد الاقتصادي وفصل إحداهما عن الأخرى هذا الفصل المضر لأنه يقلل العلائق التجارية ومبادلات الأعمال بين المنطقتين، وهذا يُفضي بالتدريج إلى انقسام هذه الأمة الواحدة إلى أُمتين ويؤدي إلى تباعد المشارب وتباين الأطوار وانحلال الروابط بينهما تدريجياً إلى أن يصبح البون عظيماً وتضعف عرى الألفة والاتحاد المستقرة الآن، والصلات التجارية والمعاملات المدنية هي العروة الوثقى التي تربط بين الشعوب وتقارب بين القلوب، والحواجز الجمركية هي الضربة القاضية على هذه المعاملات والصلات، ولما كان السوريون لا يختلفون في شيء

٢٥٨

عن الفلسطينيين كما أن الفلسطينيين يحسبون أنفسهم قسماً من الشعب السوري العربي فجميعهم لا يرضون بوجه من الوجوه أن تفتح بينهم هذه الهوة العميقة التي تقوض أركان وحدتهم القومية والعنصرية، وتقضي على آمالهم الوطنية ويرجون من الدولتين المحتلتين أن لا تعاونا الدهر على تفريقهم والإيقاع بينهم.

ثانياً: سلطت السياسية على إخواننا في الجنوب مناظراً شديداً وخصماً لدوداً، ونعني بهم الصهيونيين الذين لا يفتأُون يدسون الدسائس لإضعاف الوطنيين وإذلالهم ليتمكنوا من الاستعلاء عليهم واستلاب أموالهم والأخذ بمخنق أوطانهم. وأي وسيلة أنجح لهؤلاء الصهيونيين من تفريق أهالي فلسطين عن إخوانهم في سورية وقطع العلائق بينهم تدريجياً!.

ثالثاً: ما زالت جمارك البر الموضوعة في داخلية البلاد عرضةً لصعوبات عظمى في ضبطها وجبايتها حتى عند أرقى الدول وأقدرها، والقيام بهذا العمل بين سورية وفلسطين شاق جداً لا يستطاع إتقانه ولا تُرجى سلامته، ولذلك أسباب كثيرة لا تسهل إزالتها، منها أن الوسائط النقلية بالقطر الحديدية بين المنطقتين محدودة جداً، والطرق الأخرى مفتحة على طول الحدود تجتازها الجمال والبغال وسائر حيوانات النقل في الليل والنهار، ولا سبيل لمنع التهريب منها، وقد يكون المهرب من التجارات أكثر مما يمر بإدارة الجمرك فتكون النتيجة أن الذي يتمكن من تهريب بضائعه بدون جمرك يزاحم التجار الأمين الذي يؤدي جمركها المفروض عليها، ويتعذر بيع البضائع المدفوع رسومها فتضطر الحكومة إلى مراقبة جميع الطرق وإقامة الخفراء على الحدود، وإنفاق الأموال الطائلة في هذا السبيل، وينتج عن ذلك أشياء منها: القتال بين المحافظين والمهربين كما هي الحال في مسائل تهريب الدخان وإفساد ألاق الناس بفتح السبيل أمامهم لمخالفة القانون وارتكاب جريمة التهريب التي تحملهم أحياناً على ارتكاب جرائم أُخرى للفرار بأموالهم، إفساد أخلاق المأمورين الذين يتولون أمر المحافظة بفتح سبيل جديد أمامهم لأخذ الرشوة، والاشتراك مع المهربين كما هو المألوف المعروف في الأعمال التي هي من هذا القبيل.

٢٥٩

العامل الاقتصادي:

ويقال على وجه الإجمال: إن الحاجز الجمركي بين القسم الشمالي والقسم الجنوبي من سورية يكون سبباً لبقاء عشرات الألوف من الخلق بدون عمل وتتعطل تجارة البلاد وصناعاتها، لأن القسم الأعظم من الغزول والمنسوجات الأوربية التي ترد إلى دمشق وحمص وحماة وحلب ينسج ويفصل ويخاط ويصبغ ويحوّل إلى سلع تجارية من ألبسة وغيرها وأنسجة منوعة وتصدر إلى الجنوب، فإذا وضع عليها ضريبة جديدة بمعدل أحد عشر بالمائة رسماً جمركياً يتعذر تصريفها ويضطر المشتغلون بها إلى ترك هذه الصناعة والتجارة وعددهم عظيم جداً وهذه الصناعات القديمة في سورية هي المورد الوحيد لرزق الكثيرين من السكان، كما أن هذا الضرر يلحق أيضاً سكان فلسطين بحرمانهم من إصدار معمولاتهم ومصنوعاتهم إلينا وكساد العمل عندهم وعندنا في آن واحد.

ويناقض هذا الاتفاق الجمركي نصوص الحقوق الدولية ولا يأتلف مع العادات المعمول بها ويضر بمصلحة الشاميين الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ويهدم عمران البلاد، ويودي بالتجارة والصناعة الوطنية، ويضعف العلائق التجارية مع أوربا ويرجع بالصناعة السورية القهقرى.

فأُلغي هذا الاتفاق وحل محله اتفاق آخر عقد بين المفوضيتين في سورية وفلسطين وجعلت فيه الصادرات والواردات بين هاتين المنطقتين حرة غير تابعة لتقاضي الرسوم الجمركية إلا ما كان من استيفاء واحد في المائة على قيمة البضائع الصادرة والواردة رسوماً للبلديات، وعلى التجار أن يقدموا قوائم صحيحة بقيمة البضائع الصادرة والواردة، وعلى أساسها يجري الحساب بين إدارة الجمارك في المنطقتين بنسبة ما يوجد في البضائع من المواد الأولية المؤدى عنها رسوم جمركية، حين دخولها إلى ثغور الشام وهو ما يجعلونه على قاعدة الجمارك المشتركة، وعلى قاعدة الجمارك المشتركة عقد اتفاق مع الشرق العربي أي حكومة شرقي الأردن.

ولما كانت قد حصرت جباية الرسوم الجمركية بجميع الواردات الأجنبية إلى البلاد السورية في الثغور البحرية نشأ خلاف كبير بين حكومتي الاتحاد

٢٦٠