خطط الشام - ج ٤

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٤

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٧٦

الأبيض والجبس يجبلان معا ويفرغان في قوالب على الشكل المطلوب ، وتكتب على سطوحها آيات وأحاديث أو أشعار ، أو ترسم عليها نقوش مختلفة بمواد ثابتة ، ويذر عليها مسحوق الزجاج ، أو تطلى به ممدودا بسائل غروي ، وتشوى في تنور معدّ لذلك ، فيسيل الزجاج ويكسوها قشرة رقيقة تقيها من الغوائل والمؤثرات زمنا طويلا ، وتظهر النقوش والكتابات زاهية بألوانها الطبيعية. وفي سلسبيل جامع الدرويشية بدمشق نموذج منه أرخ بسنة (٩٨٢) ، وقطعة أخرى كانت على قبر لطفي باشا أرخت بسنة (٩٩٨) وهي محفوظة بدار الآثار بدمشق وقد كتبت عليها الآية الكريمة (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بخط تعليق مشرق وفي أعلاها رحمة المولى عليه كل حين. ولا تزال في بعض الجوامع والمدارس من هذا القيشاني العجيب نموذجات تأخذ بالأبصار.

وكان في المسجد الأقصى مصنع للقاشاني له كامل الأدوات وذلك في عهد سليمان القانوني العثماني وهو أول من استعمل القاشاني في زخرفة خارج قبة الصخرة ، ولا تزال بعض قطعه محفوظة في المسجد. ويوجد الآن مصنعان فيها لرجلين أرمنيين أتيا القدس من كوتاهيه ، وكانت هذه من أشهر معامل القاشاني في الدولة العثمانية ، ويشتغل المصنعان بالصنف من القاشاني الذي يرغب الفرنج في اقتنائه وهي جيدة بعض الشيء لكنها لا تحاكي الأنواع القديمة. ويؤخذ تراب هذا النوع من مطحون حجر الصوان يسحق بآلة بخارية قوية.

ومن أجمل النماذج من القيشاني بدمشق عمودان منه على طول متر في محراب جامع التبان في المناخلية جوار باب الفرج ، ومنه نموذج كثير ويظن أنه حديث في تربة جامع المرادية، وفي مدخل السويقة في مدرسة أقوش النجيبي كتبت عليه آية الكرسي بالقيشاني البديع. وفي تكيتي السلطان سليمان وسليم وفي قبر في زقاق القرشي بالميدان كتب عليه هذا قبر الجنينين الطفلين يونس وفرج ، محفوظ في إدارة الأوقاف ، والقيشاني في جامع تنكز مكتوب عليه آية التوحيد وفي مدفن بلال الحبشي الصحابي ١٤٦ قطعة من القيشاني المعمول في كوتاهية.

٢٢١

ولا يعلم تاريخ اندراس هذه الصناعة ، والمشهور أنها كانت خاصة بأهل بيت يتوارثون صنعها خلفا عن سلف ، فدثروا ودثرت معهم منذ أكثر من قرنين. أخبرني أحد أساطين العلم أنه رأى القيشاني في جامع الدرويشية بدمشق مصبوبا على الأحجار طبقة لطيفة وهو في غاية الحسن. ويظهر أن المادة القيشانية كانت تمدّ على الحجر كما تصنع صفائح وألواحا. وقد قام في العهد الأخير في كثير من المدن أناس لعمل الخزف الملوّن لتبليط البيوت دعوه بالقيشاني وهو لا يشبه القيشاني إلا بالاسم فقط. وانتشر وعم استعماله في الشام كلها ونقل إلى الأصقاع المجاورة.

الوراقة :

فقدت الشام عدة صناعات كادت تكون خاصة بها ، وتعد في جملة موارد عيشها ، ومنها الوراقة صناعة عمل الورق. فقد كانت من الصناعات التي تعدها من حاجياتها. وكانت العرب تكتب أولا في أكتاف الإبل والحجارة الرقيقة البيض وعسيب النخل ، بعد ما كانت الكتابة في الأديم والرقوق على ما قاله المقريزي. وفي أيام بني أمية عمل الورق من الكتان وسمي بالخراساني. والغالب أن الشام أخذت في صنع الورق في دمشق وطبرية وطرابلس وحماة ومنبج قبل هذا التاريخ. وعامة المؤرخين من الفرنج على أن الورق من اختراع أهل (الصين سنة ١٢٣ ق. م) ونقل صنعه أسرى من الصين إلى سمرقند في سنة (٧٥١) وفي سنة (٧٩٤ م) أسس معمل للورق في بغداد ثم في دمشق ويظهر من بيت طرفة في معلقته أن القرطاس ينسب للشام والبيت :

وخد كقرطاس الشآمي ومشفر

كسبت اليماني قده لم يجرد (١)

وأن القرطاس كان يعمل في الشام على عهده أو قبله خلافا لما قاله مؤرخو الفرنج ، وأن الورق من صناعات الجاهلية. وكان يرتفع منه كميات من دمشق ومن طبرية على ما ذكر ذلك المقدسي. وقد تعلم صنع الورق في دمشق أسيران فرنسيان على عهد الحروب الصليبية فلما عادا إلى ديارهما نشرا صناعته في

__________________

(١) في جمهرة أشعار العرب أنه شبه خدها بالقرطاس وهو الورق من جهة الشام وشبه مشفرها بالجلد المدبوغ بدباغ القرظ للينه.

٢٢٢

فرنسا ، ومنها انتقل إلى جميع أوربا ، فلدمشق على فرنسا بل على المدنية بأسرها ، الفضل الأول في تعليم هذه الصناعة للغربيين ، وناهيك بأنها أهم صناعة نشرت العلم والأفكار في العالم. وقد حمل الشاميون الوراقة إلى الأندلس وصقلية في جملة ما حملوه من صناعاتهم ، على نحو ما حملوها إلى شمالي إفريقية. وكانت شلطبة من مدن الأندلس تصدر منذ سنة (١٠٠٩ م) الورق بكثرة ويحمل منها إلى سائر أرض الأندلس.

وكان الورق يصنع أشكالا في مكابس صغيرة ، ويعمل من الخروق البالية أو الحرير واستبدل ورق القطن الذي منه الورق الدمشقي بالحرير في سنة (٧٠٦ م) رجل اسمه يوسف بن عمرو ، ولا يزال في خزانة دار الكتب العربية بدمشق كتاب كتب سنة (٢٦٦ ه‍) على ورق يظن أنه من الورق الشامي وهو أقدم مخطوط عرف بالشام ولا يزال على متانته. وقال الرحالة ناصر خسرو : إن الكاغد الجيد الذي كان يصنع في طرابلس يشبه ورق سمرقند إلا أنه أحسن صنعا. وذكر القلقشندي أن الورق المعروف بورق الطير ، أي الورق الذي تكتب به البطائق وتعلق في أجنحة حمام الزاجل ، هو صنف من الورق الشامي رقيق للغاية وفيه تكتب ملطفات الكتب وبطائق الحمام. وهذا هو الورق الرقيق ، والورق القديم أشبه بالبردي أو الرقوق بمتانته. ولا نعلم في أي زمن انقرضت هذه الصناعة. وحدثني أحد علماء حلب أن الورق كان يصنع في الشهباء وأن حيا من أحيائها لا يزال اسمه الورّاقة حيث كانت معامل الورق. والورق الحلبي الصقيل المتين مشهور إلى عهدنا.

وقد قام في أوائل هذا القرن رجل بيروتي من بيت الباحوط ، فأسس معملا مهما في أنطلياس على ساحل البحر ، وأصدر ورقا جيدا كورق النمسا وفرنسا ، لكن معامل الورق في الغرب أرخصت صادراتها من الورق إلى الشام فاضطر هو أن ينزل أيضا ثم خفضت السعر ولم تزل تخفضه ، حتى قضت على هذا المعمل النافع في زمن أصبح المجلوب من الورق كل سنة يساوي عشرات الألوف من الدنانير إلى الشام وأصبح الورق حاجة من حاجات المدنية.

٢٢٣

المرايا :

المرآة (بكسر الميم) ما تراءيت فيه أو رأيت فيه صور الأشياء وجمعه المرائي والكثير المرايا وصنعها من صناعات هذا القطر كانت تصنع في صيدا على ما قال بلينوس وتصدر إلى الخارج ، وقد وجدت في خرائب بومبي ألواح كبيرة من الزجاج وكانت مرايا الأقدمين من صفائح المعدن وهي المعروفة عند العرب بالوذائل واحدتها وذيلة ، اتخذوها بادئ بدء من مزيج القصدير والنحاس ثم من الفضة خالصة أو ممزوجة بمعدن أدنى ، ومنها مرايا من الذهب ، وقد اطلعنا على مرايا من الشبه والفضة استخرجت من أرض حمص. وهذه الصناعة مما تعلمه البنادقة على ما يظهر من الشاميين وانتقل إلى الغرب ثم تنوسي عمله عندنا. وكان يرتفع من فلسطين خلال القرون الوسطى المرايا وقدور القناديل في جملة ما يحمل منها من أنواع الصناعات.

الصياغة :

ومن أهم الصناعات القديمة التي لم تبرح على شيء من العناية الصياغة صياغة الذهب والفضة والتفنن في تصويرها ووضع الأحجار الكريمة عليها ، وكانت تعمل هنا أكلة الجوهر وأقرطة الذهب المزينة بالدر والياقوت والشنوف والخواتيم والدمالج والقلائد والأطواق والخلاخيل على أشكال ورسوم جميلة. والغالب أن المصنوعات المزيفة من الصياغات الأجنبية نازعت هذه الصناعة وزاد كسادها اختلاف شروط الحياة في هذا العصر عما كانت عليه في الأعصر السالفة ، وصارت رفاهية القرون الخالية مما يتعذر على ابن هذا الجيل إلا قليلا.

فصياغة الحلي كما لا يخفى من الصناعات اليدوية الدقيقة جدا ، وهي تحتاج إلى ذكاء ومهارة لتغير أوضاعها وأشكالها بحسب ذوق كل عصر ورغبة أهله ، وهي تقسم كما أكد العارفون إلى سبعة أقسام رئيسة. الأول ما يحلى به الرأس وأعظمها شأنا ورواء ما يسمى بالتاج ، وهو عبارة عن دائرة من الذهب الرقيق ، يختلف شكلها بحسب الزمان مرصعة بأحجار الماس المختلفة حجومها ، وهي إجمالا من أحسن ما صنع لتزيين رؤوس السيدات ، ويوجد اليوم أسماء كثيرة وأنواع عديدة لما يزين به الرأس ، منها ما يسمى بالمشط ،

٢٢٤

والبرش ، والقمر ، وكثير من أشكال الطيور والحشرات كل ذلك من أبدع الأشكال والصور مرصع بالجواهر الكريمة.

ومما تزدان به الصدور من الحلي أنواع متعددة أيضا منها ما يدعى بحسب صوره وأشكاله مثل «قلب ، حبة ، فراشة ، زنبقة ، غزال ، دبوس ، كردان ضفدع» كل ذلك جميل في صنع ذهبه وترصيعه ، وتناسب تركيب أحجاره بدل على رسوخ قدم في تلك الصناعة ، وغالب ما تزين به النحور عقود اللآلئ ومما تحلى به الزنود أساور الذهب الدقيق الصنع ويرصع غالبا بفصّ واحد كبير الحجم ورسمه على الأكثر حية أو أفعى ، ومما تحلى به المعاصم ويسمى أساور ترسم على أشكال متعددة من الذهب ، وترصع بأحجار ماس ، ولها بحسب أشكالها أسماء متعددة منها «حبة ، برغي ، ماس ، سحب ، عصافير» وغير ذلك. وكلها بما فيها من دقة صنع تدل على سلامة ذوق صناعها.

وحلي الأنامل وهو ما يسمى بالخواتم ، وعامتها من الذهب ويركب عليها غالبا فص كبير الحجم من الماس أو الياقوت أو الزمرد أو الفيروزج أو فصوص صغيرة متناسبة الوضع ، ولها أسماء متعددة منها «مركيز ، زيتونة ، فريشة ، ذو الثلاثة أحجار» ومن أكثر أنواع الحلي الأقراط حلي الآذان وهو أشكال متعددة أيضا منه ما يسمى قرط كف ماس قفل ، طارة ، خروسة ، عصافير ، تركي ، بغدادي ، حرية ، وقرط الطويل ، وهو عبارة عن قطعة واحدة من ماس كبير الحجم ، معلقة بسلسلة من الذهب ، بطول ثلاثة سانتيمات تقريبا لها خفقان على الجيد جميل.

وبجيد فوقه القرط يلوح

شبه نجم خافق خلف القمر

وفي الشام ألوف من صناع الحلي وتجار الأحجار الكريمة ، وليس من بلد في القطر إلا وفيه عدد من أرباب هذه الصناعة النفيسة. ومن غريب الأمر فيها أنك لا تجد شكلا راج في بلد إلا تجده قد راج في الشام من أقصاها إلى أقصاها خلافا للباسهم وبقية أزيائهم.

ولا بد من الإشارة إلى سبب ترفي هذه الصناعة ، ذلك أن الشام مدينة للفتح العربي بها ، فإن هذا القطر كما يعلم الباحثون ليس فيه مناجم ماس ولا ذهب (٤ ـ ١٥)

٢٢٥

ولكن الفاتحين من العرب بعد فتحهم أغلب آسيا وإفريقية وعاصمتهم دمشق هادتهم الملوك ، وأغلب هداياهم هي الجواهر الكريمة والذهب حتى امتلأت منها خزائنهم ، وكان الخلفاء منهم يهدون منها القواد والأمراء والأطباء والشعراء والعلماء والفقهاء فكثرت في أيديهم وزادت بطبيعة الحال في أيدي الصاغة ، وتنافسوا في إتقان تلك الصناعة حتى صارت كما ترى اليوم في أعلى درجات الارتقاء.

ويمكن أن يعد في جملة الصياغة طبع الدراهم وضرب الدنانير من النقرة المذابة من الذهب والفضة ، فإن الشام كانت من أول الأقطار التي طبعت فيها السكة الإسلامية ، وكانت الدنانير تضرب في الجاهلية بأيلة على البحر الأحمر ، وفي متاحف دمشق وأوربا نقود ضربت في دمشق وحمص وإيليا وأنطاكية وبعلبك وطبرية أيام عمر سنة (١٧) وعليها كلها رسم ملوك الروم ثم اسم المدينة بالعربية واليونانية.

وكان لهم مهارة في معرفة البهرج والزيوف من النقود الصحيحة ويذهب بعضهم إلى أن الإكسير إذا أضيف مثقال منه على ألف قنطار من الحديد يستحيل ذهبا خالصا ، ولم يثبت ذلك من طريق الكيمياء وما برح الأحمران الذهب والفضة معدنين خاصين ، ويمكن أن يعد في جملة هذه الصناعة صناعة لصق المينا بالمعدن ومنها نموذج في دار الآثار بدمشق. وفي التاريخ العام أن معامل الشام كانت تصنع الخرز والآنية الذهبية ذات الميناء ، أما صناعة الجواهر والصياغة فإن ما بقي منها يدل دلالة كافية على رقي العرب في صنعها. وكانت العرب تحسن قطع الأحجار الدقيقة ونقشها بالرسوم وزبرها بالصور.

صناعة الصدف والرخام :

واشتهرت بيت لحم والقدس بصناعة الصدف يعملون منه الصناديق الصغيرة لوضع أدوات الزينة ، والمسابح والصلبان والدبابيس والدويّ والمقاطع ورسوما وطيورا وحيوانات الفيل والأرنب ، وما يصنع من خشب الزيتون أشكالا دليل على رسوخ الصناعة ، وتباع في الغرب كميات كثيرة منها ، لما فيها من دقة الصنعة وجمال الأسلوب والتفنن في الوضع والشكل ، ويتنافس الغربيون في

٢٢٦

اقتناء هذه المصنوعات ويحببها إليهم كونها من الأرض المقدسة.

وتفرد أهل بيت لحم منذ قرون بصنع أدوات التقوى كالسبح والصلبان وبعض مشاهد التوراة ، يصنعونها من عرق اللؤلؤ كما يعملون المرجان وحجر الخنزير أو الحجر المنتن ، وهو مؤلف من الطباشير والحمر المستخرج من بحيرة لوط.

وكانت عكا في الدهر السالف تعمل صنوفا من حاجيات الكنائس. ولبعض صناع الرخام صنائع دقيقة في دمشق فمنهم من يعمل أحواض الماء من قطع صغيرة ، فيها أنواع الرخام الملون ، وقد عمل أحدهم خزانة للكتب من أنواع الرخام الملون لا تتجاوز القطعة الواحدة السنتمتر الواحد فكانت طرفة من الطرائف التي آثروا بها القصر السلطاني في فروق. وهذه الصناعات من الكماليات قلما يرغب فيها حتى الأغنياء أرباب القصور ، ولذلك رغب عن صنعها أربابها فكادت تدثر. ولبعض الصناع مهارة في تقليد العاديات القديمة وغيرها من الأعلاق ، لا تكاد تختلف عما صنع من نوعها منذ قرون ، يقتنيها بعض السياح على أنها من القديم. وتقليد العاديات مما عمت به البلوى في الغرب اليوم وهي مورد من موارد ربح الفقراء من الأغنياء وهي تحتاج إلى معرفة زائدة ومهارة غريبة.

السجاد والحصير :

ومن أهم الصناعات صناعة نسج البسط ، يقلدون فيه السجاد العجمي والتركي. وهو أحط من العجمي لأن هذا السجاد الشيرازي والأصفهاني يصعب أن يدانيه سجاد في العالم لا يكاد يفنى حتى بعد استعماله قرونا ، كالأعبئة الشامية تلبس عشرين سنة وهي برونقها ومتانتها. وبحق ما يقولون إن السجادات والأعبئة أجراء دائمون بلا أجرة. واشتهرت البسط الشوبكية وبسط أعناك في البلقاء وحوران وسجاد دمشق ، ومنها المصور بأشخاص ورسوم.

وفي دمشق وحوران وجبل قلمون ولا سيما في جيرود وفي حمص وحلب ألوف من الأنوال ، تحيك البسط من الصوف الخالص وكانت تصبغ بالأصباغ النباتية الثابتة من استحضار القطر ، فتحتفظ بألوانها بعد عشرات من السنين

٢٢٧

وتصبغ الآن بأصباغ أوربية قليلة الثبات وهي على غاية من دقة الصنعة وتناسب النقوش ومتانة الحياكة بحيث تضاهي أحسن ما يعمل من نوعها في الأقطار الأخرى. ويأتي بعدها صناعة السجاد والطنافس ، وتعمل في قرى حمص وحماة وهي المسماة بالحزوري والعدموني ، نسبة لقريتي حزور وعدمون ، وهي على غاية الجودة والمتانة تعمل من الصوف الخالص ، ومما يعاب عليها أنها لم تزل تعمل من لون واحد وهو الأحمر القاني ، ونقوشه متشابهة لا تفنن فيها. ودخلت صناعة الطنافس على طريقة أحدث من الطريقة القديمة في حلب وبيروت ودمشق وذلك بدخول جاليات من آسيا الصغرى في السنين العشر الأخيرة ، يحسنون صنعه جدّ الإحسان ، لكن النفوس لا تزال ترغب في سجاد فارس ، فإنه لا يعادله شيء بمتانته وثبات ألوانه وتصويره ورقشه. وفي بعض قرى قلمون يصنعون من الوبر بسطا غليظة متينة تستعمل في الضياع والبوادي ، وتوضع على الأدراج في المدن. ويعملون الجوالق (الشوالات) والعدول على شيء من الجودة والمتانة وكذلك البلاس والمسوح.

وكان نسج الحصير والباري من أفضل الصناعات تقوم بالحاجة. واشتهر أنه كان «إلى جانب طبرية غابة حلفاء ورفقهم منها ، أكثرهم ينسجون الحصر ويفتلون الحبال» وقد رأى ناصر خسرو في القرن الخامس حصرا من هذه الحصر الطبرانية تستعمل للصلاة وتساوي الواحدة منها خمسة دنانير مغربية. وقد ضعفت هذه الصناعة بانهيال البسط الإفرنجية والحصر اليابانية الرخيصة ، ولكن القرى وكثيرا من المدن ما زالت تعتمد على المصنوع منها في أرض الوطن والحصر البيروتية مشهورة بحسن نسجها ولطافة ألوانها ومتانتها التي تفوق البسط الإفرنجية كثيرا.

الصناعات المحدثة :

ومن أهم الصناعات المحدثة صناعة القرميد وهو صنو الآجر القديم تقرمد به السطوح، وفي لبنان واللاذقية ويافا معامل منه وفي سنة (١٩١٨) أسس رجل فرنسي في اللاذقية معملا لعمل القرميد ، والقرميد الآجرة العظيمة. ويعمل في هذا المعمل الفخار الصيني وبلاط الملاط لجودة التراب الخزفي في تلك الأرجاء

٢٢٨

وفي القدس معمل للقيشاني أو البلاط الملون. ومن الصناعات الجديدة صنعة لفائف التبغ تصنع منها كميات مهمة في حمانا وبكفيا وزحلة وبعض قرى بيروت الساحلية وتعمل منها كميات عظيمة في فلسطين ودمشق وحلب. وقد استفادت فلسطين في الأيام الأخيرة من الإكثار من زرع الدخان استفادة عظيمة وأخذت تصنع من اللفائف ما يقوم بحاجتها وتبيع منه إلى الخارج. ومنها صناعة الطباعة وصنع الصور والحفر على النحاس والزنك وفي بيروت أحسن مصانعها ودمشق تقلدها. ومن الصناعات المحدثة صنع الجليد وأهم معامله في بيروت وحلب وطرابلس وصيدا واللاذقية ودمشق وحيفا ويافا والقدس وهو يقوم مقام الثلج الطبيعي في التبريد. وكان الثلج السماوي يدخر إلى آخر أشهر الصيف بحاله وكان هذا ينقل في القرون الوسطى على البغال من صيدا وطرابلس إلى قلعة الجبل بالقاهرة في ثلاثة أيام لتبريد المياه في قصر الملك وعظماء الدولة هناك. وفي حيفا معمل للاسمنت المسلح يستخرج من حجر الجبل المتاخم لها ومعمل للبنزين والسبيرتو. وقد أنشئ معملان للاسمنت أحدهما في شقة قرب طرابلس والآخر في دمر قرب دمشق ونجحا نجاحا باهرا. وفي كل من عكا ويافا معمل للثقاب (الكبريت) ومثله في دمشق. وأهم ما دخل مجددا من الصناعات صناعة الجوخ في دمشق أنشئ لصنعه معملان أحدهما شرقي المدينة والآخر غربيها ، وأنشئ فيها معمل لحفظ الفواكه والثمار والبقول نجح نجاحا كبيرا ، وأسس في حلب معمل عظيم للنسيج أتى بأعظم الأرباح وسد حاجة البلاد في الحرب الأخيرة.

هذه أهم الصنائع الشامية وغالب الصناعات «تتبدل عليها أيدي الصناع من الواحد بعد الواحد إلى أن ينيف على عشرة صناع حتى يتم» وقد أفاض صاحب قاموس الصناعات الشامية بتعداد هذه الصنائع والحرف في دمشق خاصة على اختلاف اسمائها وضروبها فبلغت نحو ٣٤٠ حرفة وصناعة. ولابن الصائغ الدمشقي منظومة في ثلاثة آلاف بيت في الصنائع قال ابن جماعة : واعلم أن هذه الصنائع استخرجها الحكماء بحكمتهم ثم تعلم الناس منهم بعضها وصارت وراثة من الحكماء للعلماء ، ومن العلماء للمتعلمين ، ومن الأستاذين للتلامذة ، ومن التلامذة للصناع. وكان ولا يزال لكل حرفة زعيم أو نقيب أو شيخ أو

٢٢٩

عريف ، ويسمى شيخ الحرف كلها بسلطان الحرافيش ثم كني عنه احتشاما بشيخ مشايخ الحرف والصنائع. وكان لأرباب الصنائع ترتيبات أشبه بالنقابات الصناعية في الغرب ولذلك دام رواجها طويلا. في العهد الأخير نقبت الصناعات النقابات على مثال النقابات الصناعية في الغرب وأصبحت أصوات العمال تسمع ويزيد صداها رنة كلما كثر الصناع.

تأثير الصناعات في الماديات والأخلاق :

قلت من خطاب في الصناعات يوم الاحتفال بافتتاح الدباغة الوطنية الفنية (٥ كانون الأول ١٩٢٤ م ـ ١٣٤٣ ه‍) لقد فقدت معظم الصناعات ويا للأسف وآخر ما سيفقد منها صناعة النسيج الضرورية النافعة ، فقد كانت صادراته من حلب وحماة وحمص وطرابلس ودمشق تسد جانبا عظيما من الموازنة بما تأتي به من الأموال كل سنة ، فأصبحت الآن إلى انحطاط ونازعتها الأقمشة الإفرنجية البراقة الدقيقة. قيل : إنه كان في دمشق وحدها ثلاثون ألف نول للنسج قبل الحرب فأصبح عددها اليوم نحو ثلاثة آلاف ، ولا تلبث إذا دامت الحال على هذا المنوال أن تضمحل كما اضمحل غيرها من الصناعات ، ويفتقر أربابها ويهاجرون أو يهلكون. وفي كل ذلك خسارة وفجيعة ، وأي فجيعة أعظم من الفجيعة بالمال أو الرجال أو بهما معا.

ومما يجنيه القطر من اجتماع الناس على مثل هذه الأعمال الصناعية تربية الروح القومي فيهم وإصلاح ما أمكن من شؤونهم الاجتماعية. وإليكم مثالا جرى في هذا المعمل يتخذ منه العاقل عبرة. ذكر لي مدير مدبغتنا هذه منذ مدة أن مستشار الأمور الاقتصادية في المفوضية العليا زار المعمل وسر بنجاحه كل السرور ونشطه بالقول والفعل ، إلا أنه بدت منه حركة استغربها ، وذلك أنه سأل كثيرا من العملة عن مذهبهم ، وبالطبع فيهم من أهل الأديان السماوية الثلاثة ومن غير الشاميين أيضا. فاستغربت مع صاحبي هذا السؤال منه ولم أهتد لتعليله. ولم يلبث المستشار أن زارني من الغد وذكر لي في جملة حديثه سروره بالمدبغة الجديدة ، وقال : إنكم معاشر الدمشقيين قد حللتم مسألة من أعضل المسائل في بلدكم لم نتمكن نحن في بيروت من حلها. وذلك أننا أردنا

٢٣٠

مرة أن نقوم بمشروع صناعي فيها فجاءنا أهل كل مذهب يريدون أن يستأثروا بأكثر المنافع لأبناء طائفتهم. ونحن كنا بالطبع نريد أن ينتفع به من يعمل ويعرف. وهكذا ضاع الوقت في المجادلة على غير طائل ولم نتقدم شبرا واحدا في الموضوع الأصلي ، وسقط المشروع وهو جنين لأن الناس هناك يريدون أن يقوم بذاك الروح. ولقد سررت أن رأيت في معملكم المسلم والمسيحي والإسرائيلي على اختلاف مذاهبهم. وكل فرد يعيش مع أخيه متساندا متعاطفا قلت له : ولذلك استغرب بعض عملة المدبغة سؤالكم أول أمس عن دين من رأيتموه فيه. فقال : ليس في العالم عمل اقتصادي قام على أساس الدين ، ولبنان الكبير غريب في حالته هذه فقلت له : هذه قاعدة قديمة سارت عليها دمشق منذ الفتح الإسلامي فكل من يحسن عملا يوسد إليه مهما كانت نحلته. فسرّ لقولي وسررت لتوفيقنا.

بقيت هناك مسألة لا بد من الإشارة إليها وأعني بها تأثير الصناعات في الأخلاق. فقد ثبت أن الأقطار التي تكثر فيها الأعمال الصناعية والزراعية أحسن أخلاقا من غيرها ، ويقل فيها المتشردون والثرثارون ، لأن من طبع العاملين الأخذ بالنافع وترك الفضول على الجملة. ولذلك يضعف الشغب في أرباب الصنائع ، وتقل الموبقات المهلكات ، لأنها لا تبقي للعامل إلا الوقت الكافي لراحته ونومه ، وهو على ثقة من أنه إذا لم يحصر ذهنه في عمله يخرجه صاحب المعمل أو الحقل من خدمته. فالحكومة التي تحب أن يقل الشغب بين من وسد إليها أمرهم يجب عليها أن تفكر ليلها ونهارها في إيجاد أعمال رابحة لهم ، وبذلك يقل المتشائمون والمشاغبون والمرجفون والناقمون. وليس أحسن ولا أنجع من هذه السياسة.

لا جرم أن اشتراك أهل البلد الواحد بل القطر الواحد والمملكة الواحدة في عمل اقتصادي مما يرفع مستوى القومية أيضا ويلقن الناس معاني التكافل الوطني. فقد رأينا في الدهر السالف سكان الجنوب وسكان الشمال من فرنسا يقتتلون ويتحاربون ولم تنقطع شأفة الفتن من بينهم إلا عندما اشترك الجنوبي مع الشمالي في الأعمال الاقتصادية ، فأصبحت مصلحتهما واحدة وارتفع النزاع من بينهما وأحسا أنهما أبناء أمة واحدة. لذلك نرى إلى اليوم من بقايا تلك الأخلاق

٢٣١

أن ابن الشمال يهزأ بابن الجنوب على حين كلهم سواء في مناحيهم ومنازعهم ، بل إن أهل شمالي فرنسا لا يعنون بغير صناعاتهم وتجاراتهم على الأكثر ويقلّ فيهم السياسيون والشعراء الأدباء وهم كثار جدا في أهل الجنوب كثرة فاضت عن الحاجة.

فيا حبذا اليوم الذي يشترك فيه قاصينا ودانينا ، فقيرنا وغنينا ، في إقامة الشركات على أنواعها ، إحياء لصناعاتنا واستبقاء للبقية التي صبرت على الأيام من ثروتنا. فالزراعة عشر الثروة العامة في العادة ، والباقي من أسباب السعادة والنماء ثمرة الأعمال الصناعية. وما السكك الحديدية والبواخر والسيارات والقصور والمصانع الفخمة وكل ما في المدنية من ضروب الراحة والرفاهية مما يلذ وينفع ، إلا نتيجة عمل العملة في المعامل ، وكل ما نشاهده وندهش به من أنواع الصناعات في أميركا وأوربا وفي اليابان والصين والهند هو ثمرة التعاون والعلم العملي. ولذلك ساغ لنا أن نقول : إن كل ما يدفعنا ولو خطوة واحدة إلى الأمام لنقترب بسفينتنا الفقيرة من ساحل السلامة يستحق ثناء الأمة جمعاء ولا رجاء لنا في الحصول على الحاجيات ثم التطلع إلى الكماليات ، إلا بتأليف شركات صغيرة بادئ بدء تقوم برؤوس أموال وطنية ، وتستعمل من الأدوات الجديدة ما لا غنية عنه ، تنمو بنمونا في مظاهر الحياة والانبعاث. فنحن لا نقل عن الغربي ذكاء ونشاطا وإنما ينقصنا التنظيم والتدريب. وفي أرجائنا أكثر المواد الأولية اللازمة في الصناعات لا تحتاج إلا إلى معرفة قليلة للانتفاع بها والله الموفق والملهم.

٢٣٢

التجارة الشامية

موقع الشام من التجارة وتجارة القدماء :

كان من وقوع الشام في طرف آسيا وإفريقية ، وقربها من الساحل المقابل لبحرها من أوربا ، أعظم مركز تجاري في القديم ، ومن أهم ما حمل أبناءها على الرحيل بتجاراتهم ، منذ عرف التاريخ امتداد سواحلهم. وكثرة الأخشاب التي تجود في غاباتهم ، تساعدهم على صنع السفن المتينة الكثيرة ، ثم إن مرونة أخلاقهم تدعوهم إلى الاختلاط بغيرهم ، وتقليده وتعلم لغته ومماثلته في عاداته وبهذا كانت شهرة الفينيقيين الذين استولوا على جزء مهم من تجارة شمالي إفريقية وجنوبي أوربا ، وبلغوا جزائر بريطانيا ، وأقاموا لهم مكاتب تجارية في كثير من سواحل هذا البحر المتوسط وبحر الظلمات ، وما زال الفينيقيون أعظم أمة تجارية بحرية في الدهر السالف ، ينقلون إلى الغرب حاصلات الشرق وإلى الشرق بعض ما كان يعمل في الغرب ، إلى أن قامت دولتا الرومان واليونان.

عاش الفينيقيون بالتجارة لازدحام أقدامهم في بقعة ضيقة من الأرض. ولم يكن لسائر شعوب الشرق من مصريين وكلدانيين وأشوريين ، ولا قبائل الغرب البربرية (الإسبان والغاليون والطليان) ، عهد بركوب البحار وشق العباب. والفينيقيون وحدهم جرأوا في تلك الأيام على تجشم البحر ومعاركة العباب. فصح أن يدعوا من أجل هذا عملاء تجارة العالم القديم وقادة البيع والشراء ، يبتاعون من كل شعب سلعه ويقايضونه على غلات البلاد الأخرى.

تجارة كانت مستحكمة الصلات مع الشرق برا والغرب بحرا.

واعتاد الفينيقيون أن يرسلوا في البر قوافل تتجه وجهات ثلاثا. إحداها

٢٣٣

إلى أرض العرب لتأتي منها بالذهب والعقيق اليماني والبخور والصبر والعطور العربية واللؤلؤ والأبازير والعاج والآبنوس وريش النعام وقرود الهند. والثانية ترحل إلى بلاد أشور لتعود منها بأنسجة القطن والكتان والحمر والأحجار الكريمة والماء العطر وحرير الصين. وتقصد القافلة الثالثة إلى أنحاء البحر الأسود لتستجلب منها الخيل والرقيق والأواني النحاسية من مصنوعات سكان جبال القوقاز.

وكانوا يبتاعون محاصيل صناعات الشعوب المتمدنة ، ويبحثون في الأصقاع المتوحشة عما يقل الظفر به في المشرق من المحاصيل. يصطادون الصدف من شاطئ اليونان ، ومنه يستخرجون صباغا أحمر وهو الأرجوان. وكانت الأنسجة الأرجوانية تستعمل عند الأقدمين كافة ملابس للملوك والأمراء ، ويجلبون الفضة التي يستخرجها أهل إسبانيا وسردانية من مناجمهم. وكان القصدير من ضرورياتهم يستعملونه في صنع النحاس الأصفر ، وهو مركب من نحاس وقصدير ولا أثر له في أرض الشرق ، يرحل الفينيقيون في طلبه ، وينشدونه حتى في شواطئ إنكلترا في جزائر القصدير وحيثما حلوا يتخذون الرقيق يبتاعونه تارة كما كان يبتاع النّخاس العبيد في ساحل إفريقية. وينزلون طورا في إحدى السواحل فجأة فيختطفون النساء والأطفال وينقلبون بهم إلى أهلهم ويبيعونهم في القاصية. وإذا واتتهم الحال ينقلبون قرصانا ، ولا يتحامون إطالة أيدي التعدي على غيرهم.

وقد أنشأ الفينيقيون مكاتب تجارية في الأرجاء التي اتجروا فيها ، وهي مراكز للبرد حصينة ، واقعة على مرفإ طبيعي يخرجون إليها بضائعهم من البحر وهي في العادة أنسجة وفخار وحلي وأصنام ، فيأتي أهل تلك الأقطار بغلاتهم يقايضونهم عليها كما يقايض اليوم تجار الأورببين زنوج إفريقية. وتقام أمثال هذه الأسواق في قبرس ومصر وجميع بلدان البحر الرومي مثل إقريطش ويونان وصقلية وإفريقية ومالطة وسردانية ومالقة وقادس وربما أقاموها في موناكو من بلاد الغول ـ قاله المؤرخ سنيوبوس.

وكانت الشام في الزمن القديم كثيرة السكان زاهرة على ما يظهر ، وهي مدينة بوفرة سكانها واستبحار عمرانها ، لمركزها الطبيعي وتجارتها العجيبة ورباعها الخصيبة. وكان في وسع مصر أن تنازع الشام مكانتها التجارية ، بيد

٢٣٤

أن الحسد المتأصل في الطبقات الدينية والسياسية كان يمزقها ويحول بين المصريين القدماء وبين كل صلة بالشام. فكانت الشام إذا المستودع الوحيد للعالم المعروف تأتي حاصلات آسيا وإفريقية مع القوافل إلى موانئ الشام حيث تحمل على سفن فينيقية ، وأتت أزمان على الشام كانت تخرب بأيدي الفاتحين ، وتخرب أيضا بالحروب المتواصلة بين الممالك الصغرى التي كانت تنازع هذا القطر. فأضاع بها مكانته ، خصوصا منذ تخلصت مصر من نفوذ كهنتها ، وغدت منافسة لها بأن جعلت من مركزها الواقع على بحرين مستودعا سهل التجارة بين أنحاء العالم.

وكان السبب في كثير من الحروب التي نشبت بين الشاميين والأشوريين والبابليين والمصريين ثم مع ممالك الروم في الغرب ، مسائل التجارة على الأغلب وإرادة الشاميين أن يفتحوا صدر أرضهم لتنفذ إليها تجارات جيرانهم أو غيرهم من الشعوب. ومن أهم المدن التي استأثرت بالتجارة في القديم البتراء ثم تدمر ثم حلب ودمشق. وكانت مدن فينيقية لولعها بالتجارة تترك الزراعة حتى بلغت الحال بأهل صور أن أغفلوا تعهد الأرض وكانوا يشترون مؤونتهم من الجليل والسامرة واليهودية ، ولما حاصر الإسكندر صور اضطر أن يستجلب أزودة جيشه من هذه المحال.

وذكر ديودروس أن ثروة الأنباط أصحاب البتراء كانت من الاتجار بالطيوب والمر وغيرهما من العطريات ، يحملونها من اليمن وغيرها إلى مصر وشواطئ البحر المتوسط ، ولم تكن تجارة تمر في أيامهم بين الشرق والغرب إلا على أيديهم ، وكانوا يحملون إلى مصر خاصة القار لأجل التحنيط. ولما استولى الرومان على القطر انتقلت التجارة إلى تدمر وفارس. ووفق الفرس إلى تحويل التجارة عن مصارفها القديمة إلى أصقاع الفرات والخليج الفارسي. وأخذ الرومان يعنون بإنشاء الطرق المعبدة في الشام ، والوصل بين الشام والأقطار الأخرى كالجزيرة والعراق والحجاز ومصر وآسيا الصغرى ، ولا تزال إلى اليوم بعض هذه الطرق ماثلة للعيان في صرخد والشراة والكرك وأيلة وجرش ، وهذه كانت طرق البتراء إلى داخل الشام ، وكانت أنطاكية ترسل إلى رومية الأصواف والأنسجة والحنطة ، والشرق يبعث إليها بأدوات الزينة والرفاهية

٢٣٥

كالعطور والأبازير (الفلفل وجوز الطيب والزنجبيل) والنيلة والعاج والأحجار الكريمة وثياب الصوف والحرير والعبيد السود والحيوانات النادرة ولا سيما القرود فكانت تجلب إلى الإسكندرية من طريق البحر الأحمر أو في النيل وتأتي إلى أنطاكية من طريق الخليج الفارسي وبادية الشام مع القوافل.

يقول بيرين المؤرخ البلجيكي في كتابه محمد وشارلمان : لقد عظم نفوذ الشاميين من وراء الغاية في رومية جاءوها بكثرة وكان عدة من الباباوات من الشاميين كما كان بعض أباطرة رومية من أصل شامي وإلى الشام تصل قوافل الهند والصين وبلاد العرب وكان الشاميون يومئذ رجال البحر على نحو ما صار الهولانديون في القرن السابع عشر وبواسطتهم تصدر الأبازير وأعمال الصناعة من المدن الكبرى في الشرق كأنطاكية ودمشق والإسكندرية الخ وكنت تراهم في كل الفرض البحرية كما كنت تجد منهم جاليات في داخل البلاد. وكان لهم على عهد ملوك الرومان منازل في الإسكندرية ورومية واسبانيا وغاليا وبريطانيا العظمى حتى مدينة كارنونتوم على نهر الدانوب. ثبت ذلك بنصوص العاديات التي عثر عليها. وفي القرن السادس كثر المشارقة في جنوبي غاليا وكان منهم من يستوطنها ولا سيما في الجنوب من أرجائها وكان سكان أربونة في سنة (٥٨٩) من القرط والرومان واليهود واليونان والشاميين. وكثر سواد الشاميين في نابل وفي جوار باريز. قال : وكانت الميناء التي نعرفها أكثر من غيرها مرسيلية ويظهر أنها كانت فرضة كبرى منوعة السكان ويبين عن مكانتها تنافس الملوك في الاستيلاء عليها عند تقسيم الامبراطورية الرومانية وقد كثر فيها اليهود والشاميون والروم والقوط.

فالتدمريون ومن قبلهم النبطيون عنوا بالتجارة جد العناية ، لأنها مورد معاشهم وعلة حياتهم ، لضعف الزراعة في كورهم ، فكانت القوافل على عهد ارتقاء تدمر تحمل إليها من جزائر العرب الذهب والجزع واليشب واللبان والصمغ والصبر وعود الند ، ومن العراق اللؤلؤ، ومن الهند أنواع المنسوجات والقرنفل والبهار والحرير الصيني والنيل والضجاج والفولاذ والعاج والآبنوس. كل هذا يأتيهم من طريق القوافل في البوادي والقفار فيحملونه إلى رومية عاصمة الرومان. أما الأرفاق التي تأتيهم من البحر فكانت دون ذلك ـ قاله رنزفال.

٢٣٦

وقد اكتشف أمير روسي في سنة (١٨٨٢) كتابة رسمية كتبت بالتدمرية واليونانية يرتقي عهدها إلى سنة (١٣٧) للمسيح فهمت منها أحوال التجارة القديمة ومضمونها تعريف جمركي مطول أصدره مجلس شيوخ تدمر حسما لفتن وقعت بين التجار وعمال الخزانة ، وفيها بيان ما يضرب من المكوس على البضائع والمعاملات التجارية إجمالا وإفرادا وهي باهظة فكان كل حمل جمل أو حمار يرد أو يصدر تضرب عليه أولا ثلاثة دنانير رومانية (وكان الدينار الروماني يساوي نحوا من ٧٢ سنتيما) ثم فريضة أخرى تختلف باختلاف جنس البضائع. والبضائع التي ورد ذكرها في هذه الجريدة كثيرة فمنها الرقيق والجزر والأرجوانية والزيوت العطرية المجعولة في قماقم من الرخام الأبيض أو في ظروف من جلد المعز ، ثم ريت الزيتون والشحم والملوحات المتنوعة والجلود والثياب والأنسجة والغلال المختلفة والأفاويه والأثمار اليابسة كحب الصنوبر والجوز واللوز والعقاقير والملح إلى غير ذلك. وينقسم كل حمل إلى ثلاثة أقسام حمل الحمار وحمل الجمل وحمل العجلة ، وكان ثقل الأول نحو مئة كيلو والثاني أثقل منه بثلاثة أضعاف والثالث يبلغ نحو ألف كيلو. قال دي فوكيه : وكانت القوافل التي تحمل إلى تدمر خيرات المشرق تستخدم من الدواب الإبل والحمير وإذا وصل التجار إلى حاضرة زينب (تدمر) أنزلوا عن ظهر الدواب الجوالق والأثقال المختلفة وحملوها على العجلات ليوصلوها إلى جميع أنحاء المملكة على السكك والشوارع الرومانية ، فإذا بحثت عن أسباب تقدم تدمر وبلوغها ذروة العمران وجدت لذلك سببين : الأول مرور البضائع بها وإقامتها فيها مدة ودفع المكوس إلى خزانة المدينة ، والثاني شهرة أهالي تدمر دون سواهم بقيادة القوافل في المفاوز والصحاري ، فلذلك صارت هذه الحاضرة في القرن الثاني للمسيح أشبه بمرفإ عظيم على بحر البراري ترسو عند ساحلها تجارة الأمم فتغني خزائنها كما جرى في القرون الوسطى لمدينة البندقية سلطانة بحر الروم. وقد اكتشف علماء العاديات عمودين نصبا للدلالة على مسافة الطريق ميلا ميلا عليها اسم زينب واسم ابنها وهبلات. وأول هذين العمودين قريب الجبيل والجسر الواقع على وادي العذار والثاني برج الريحان شمالي الجبيل.

وكانت الشام أهم محال الحرير ولا سيما صور وبيروت ، والشام من

٢٣٧

أهم ولايات الإمبراطورية الرومانية. وذكر پروكوب عند كلامه على أنطاكية أنها أول مدينة رومانية مهمة في الشرق لغناها واتساعها ووفرة نفوسها وجمالها وعادياتها. وتعجب أنطونين الشهيد من الترف الذي كان على أتمه في أنطاكية ومن عظمة أفامية وبيروت وغزة. وقد اضمحل ذلك على عهد يوستنيانوس لأنه أرد أن يضع سعرا وسطا للحرير فهلك تجاره وصانعوه وخربت معامله. ويرد تاريخ زراعة الحرير إلى القرن الأول للحكم اليوناني على الشام ولا سيما في ضواحي بيروت. قال هيد بعد أن ذكر ذلك : وقد حدا حب الربح تجارا مسيحيين على أن يبيعوا أبناء دينهم بيع الرقيق لغرب اسبانيا وإفريقية والشام ، فاتخذ شارلمان والبابا زكريا وأدريانوس الأول الأسباب لمنع ذلك.

وقد وجدت في غاليا وغيرها من المدن التجارية في الغرب كتابات فيها أسماء الشاميين الذين كانوا يسكنونها للتجارة منذ الزمن الأطول ، ومنها ما وجد في جناي على مقربة من مدينة تريفو ذكر فيها شامي اسمه تيم من قرية عتيل من أهل مدينة قنوات في جبل حوران كان يتجر مع غاليا بما يحمله إليه مواطنوه إلى أرل على سفنهم ومنها إلى ليون فما فوقها من مدن فرنسا.

ولم يكن تجار الغرب يهتمون بالسفر إلى الساحل الشامي لأخذ البضائع اللازمة لهم ، بل يحمل الشاميون أنفسهم بنشاطهم المعهود تلك البضائع ، مع أن حاصلات آسيا كانت مما يلفت نظر الغربيين. واشتهر خمر غزة في فرنسا على عهد الملك كونتران في القرن السادس للميلاد ، وحرير الشرق وأحجاره الكريمة تتألف منها زينة العظماء والسادات. قال هيد : إن الشاميين كانوا يرحلون إلى فرنسا على عهد حكومة الميروفنجيين ونزلوا في جنوبي فرنسا مثل ناربون وبوردو بل في أواسطها مثل أورليان وتور وكانت تحمل إلى فرنسا أكياس الأدم من فلسطين. والظاهر أن الشام كان يفوق غيره بأعماله الصناعية والتجارية ، وصلات الشاميين محكمة مع الشرق والغرب ، وكانت بلادهم على عهد الروم محط رحال قوافل الخليج العربي والخليج الفارسي وأواسط آسيا وهي أهم ولاية تجارية للروم. وفي الحق أن صلاتنا بالغرب زادت لما توطدت أقدام النصرانية في أوربا ، وأصبح زوار بيت المقدس يأتون إلى فلسطين أفواجا أفواجا ويحملون معهم شيئا من تجارتهم ويأخذون ما عندنا مما يروج في أسواقهم.

٢٣٨

تجارة العرب :

العرب أهل تجارة لضعف زراعتهم ، وكانوا يوغلون في الشرق والغرب لغرض الربح ، وقد كان لهم أسواق يقيمونها في شهور السنة وينتقلون من بعضها إلى بعض ويحضرها عامة قبائل العرب ممن قرب منهم أو بعد ، فكانوا ينزلون دومة الجندل على سيف بادية الشام أول يوم من ربيع الأول فيقيمون أسواقها بالبيع والشراء والأخذ والعطاء ، وكان يعشرهم فيها أكيدر دومة ـ وهو ملكها ـ وربما غلب على السوق كلها فيعشرهم بعض رؤساء كلب ، فيقوم سوقهم هناك إلى آخر الشهر ثم ينقلون إلى سوق هجر ـ قاله القلقشندي.

وما زال يقام في الشام إلى اليوم في أماكن مختلفة أسواق لبيع المصنوعات والحاصلات أشبه بمعارض هذه الأيام في الغرب. وكانت تقام في دمشق في كانون الأول سوق تعرف بسوق قضيب البان ، رواه البيروني. وروى القالي أن قريشا كانت تجارا ، وكانت تجارتهم لا تعدو مكة ، أي تقدم عليهم الأعاجم بالسلع فيشترونها منهم ، ثم يتبايعونها بينهم ويبيعونها على من حولهم من العرب ، فكانوا كذلك حتى ركب هاشم بن عبد مناف إلى الشام فنزل بقيصر وتمكن عنده وقال له : إن قومي تجار العرب فإن رأيت أن تكتب لي كتابا تؤمّن تجارتهم ، فيقدموا عليك بما يستطرف من أدم الحجاز وثيابه ، فتباع عندكم فهو أرخص عليكم ، فكتب له كتاب أمان لمن يقدم منهم ، فأقبل هاشم بذلك الكتاب. فجعل كلما مرّ بحيّ من العرب بطريق الشام أخذ من أشرافهم إيلافا. والإيلاف أن يأمنوا عندهم في أرضهم من غير حلف ، إنما هو أمان الطريق ، وعلى أن قريشا تحمل إليهم بضائع فيكفونهم حملانها ويؤدون إليهم رؤوس أموالهم وربحهم ، فأصلح هاشم ذلك الإيلاف بينهم وبين أهل الشام ، حتى قدم مكة فأتاهم بأعظم شيء أتوا به بركة ، فخرجوا بتجارة عظيمة ، وخرج هاشم معهم يجوّزهم ، يوفيهم إيلافهم الذي أخذه لهم من العرب حتى أوردهم الشام وأحلهم قراها ، فاتسعت قريش في التجارة في الجاهلية. وهاشم هذا هو جد الرسول مات بغزة فنسبت إليه فقيل لها غزة هاشم لأن الروم كانوا يقيمون لهم سوقا في غزة في موسم معلوم وكانت قريش في الجاهلية تحضره وتمتار منه.

٢٣٩

وكانت لهاشم بن عبد مناف رحلتان رحلة في الشتاء نحو العباهلة من ملوك اليمن ونحو اليكسوم من ملوك الحبشة ، ورحلة في الصيف نحو الشام وبلاد الروم. قال الثعالبي : وكان يأخذ الإيلاف من رؤساء القبائل وسادات العشائر لخصلتين ، إحداهما أن ذؤبان العرب ، وصعاليك الأعراب ، وأصحاب الغارات ، وطلاب الطوائل ، كانوا لا يؤمنون على أهل الحرم ولا غيرهم ، والخصلة الأخرى أن أناسا من العرب كانوا لا يرون للحرم حرمة ، ولا للشهر الحرام قدرا ، كبني طيء وخثعم وقضاعة. وسائر العرب يحجون البيت ويدينون بالحرمة له. ومعنى الإيلاف إنما هو شيء كان يجعله هاشم لرؤساء القبائل من الربح ، ويحمل لهم متاعا مع متاعه ، ويسوق إليهم إبلا مع إبله ، ليكفيهم مؤونة الأسفار ، ويكفي قريشا مؤونة الأعداء ، فكان ذلك صلاحا للفريقين ، إذ كان المقيم رابحا والمسافر محفوظا. وفي غزة استغنى عمر بن الخطاب في الجاهلية لأنها كانت متجرا لأهل الحجاز.

وخصبت قريش وأتاها خير الشام واليمن والحبشة ، وحسنت حالها وطاب عيشها ، ولما مات هاشم قام بذلك عبد المطلب ، فلما مات عبد المطلب قام بذلك عبد شمس ، فلما مات عبد شمس قام به نوفل وكان أصغرهم. وذكر اللغويون من جملة التخريجات في اسم قريش التي كانت سادة العرب جاهلية وإسلاما ، أنها سميت بذلك لتجرها وتكسبها وضربها في البلاد تبتغي الرزق ، وقيل : لأنهم كانوا أهل تجارة ولم يكونوا أصحاب زرع وضرع من قولهم فلان يتقرش المال أي يجمعه. وكان ساداتهم على حبهم للتجارة إذا تولوا أمرا من أمور الأمة تخلوا عنها. ففي التذكرة الحمدونية أنه كان لعمر بن عبد العزيز سفينة يحمل فيها الطعام من مصر إلى المدينة فيبيعه وهو واليها ، فحدثه محمد بن كعب القرظي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أيما عامل اتجر في رعيته هلكت رعيته» فأمر بما في السفينة فتصدق به ، وفكها وتصدق بخشبها على المساكين.

وكان الأنباط يحملون من الشام إلى الحجاز الزيت والدّرمك «دقيق الحوّارى» ويعودون إلى هذا القطر بحاصلات الحجاز. وفي السنة الثانية للهجرة أقبل أبو سفيان بن حرب والد يزيد ومعاوية من الشام في قريب من

٢٤٠