خطط الشام - ج ٤

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٤

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٧٦

إسكندرية مصر فيما يعمل فيها من الثياب الفائقة على اختلاف الأنواع ، وحسن الأوضاع، لو لا قلة مائه ، وقحولة جسمه ، مع أنه يبلغ الغاية في الثمن ، وإن لم تلحق بالإسكندرية فإنها تفوق صنعاء اليمن. وقال الأدريسي في صور : إنه يعمل فيها من الثياب البيض المحمولة إلى الآفاق ، كل شيء حسن عالي الصفة والصنعة ، ثمين القيمة ، وقليلا ما يصنع مثله في سائر البلاد المحيطة بها. وكذلك حماة وطرابلس وحلب. ولكل بلد ومدينة خاصية تحتفظ بها في نوع من الصناعة تبرع فيها ، وأهم ما كان منها في مدينة دمشق.

فقد ذكر الإدريسي أنها كانت في عصره جامعة لصنوف من المحاسن «وضروب من الصناعات وأنواع من الثياب الحرير كالخز والديباج النفيس الثمن العجيب الصنعة ، والعديم المثال ، الذي يحمل منها إلى كل بلد ، ويتجهز به منها إلى كل الآفاق والأمصار المصاقبة لها ، والمتباعدة عنها. ومصانعها في كل ذلك عجيبة ، تضاهي ديباجتها بديع ديباجة الروم ، وتقارب ثياب دستوا ، وتنافس أعمال أصبهان ، وتشف على أعمال طرز نيسابور ، من جليل ثياب الحرير المصمتة ، وبدائع ثياب تنيس ، وقد احتوت طرزها على أفانين من أعمال الثياب النفيسة ، ومحاسن جمة ، فلا يعادلها جنس ولا يقاومها مثال».

وقيل : إن اسم «الدمقس» مشتق من اسم مدينة دمشق. ونقل الشاميون إلى الأندلس صنعة الثياب المزركشة بالرسوم من الحرير والكتان من دمشق فنسبت إليها عندهم وقالوا في فعلهاDamasser أي عمل ثيابا على النمط الدمشقي. قال البدري : ومن محاسن دمشق ما يصنع فيها من القماش ، وهو النسج على تعداد نقوشه وضروبه ورسومه ، ومنها عمل القماش الأطلس بكل جنسه وأنواعه ومنها عمل القماش السابوري بجميع ألوانه وحسن لمعانه ، ومنها عمل القماش الهرمزي على اختلاف أشكاله ، وتباين أوصاله ، ومنها عمل القماش الأبيض القطني. وكان من أنواع الثياب في القديم ما أنسيناه وأنسينا أسماءه ومنها المنيّر والمعيّن والمسيّر والمفوف والمسهم والمعمد والمعرّج والمهلهل والمكعب والمطيّر والمخيّل. ولاشتهار دمشق بالحرائر والمنسوجات الغزلية الفائقة بوشيها وحسن طرازها ، عرفت هذه الصناعات باسم المدينة فيقال لها «الداماسكو» والداماسكو ثوب غليظ برسوم جعلت في جسم الثوب ويتفننون في ذلك تفننا غريبا ويعملون كل

٢٠١

ما يجمع إلى المتانة الإبداع في الصناعة. قال ابن عربشاه : إن الحريريين في دمشق نسجوا لتيمورلنك قباء بالحرير والذهب ليس له درز فإذا هو شيء عجيب.

ولما نجحت الصنائع الإفرنجية ـ وكانت صناعة الحرائر والطرائف تروج زمنا ثم تنحمق وتكسد ـ واخترع أحد صناع الإنكليز نسيج الشيت (اليمني) كاد يقضى على صناعاتنا هذه ، لو لا رجل دمشقي اسمه عبد المجيد الأصفر من أهل هذه الصناعة ، فاخترع القماش المعروف بالديما فحال دون النساجة والبوار دفعة واحدة. ثم إن رجلا اسمه الروماني من أهل دمشق أيضا ، تفنن في المنسوجات الحريرية تفننا عجيبا ، فلما مات كادت هذه الصناعة تموت معه ، وتغلبت المنسوجات الأوربية على منسوجات حلب وطرابلس وحماة وحمص ودمشق لرخص ثمنها ، وكثرة تفننهم في تلوينها ، وتغيير أشكالها وطرازها ، وإن كان البلى يسرع إليها ، وعلى الرغم مما تقدم لم تنفك هذه الصناعة متماسكة أحوالها ، على ما أصاب القطر من الأزمات الاقتصادية. ويزعمون أن ما يتعلق بها من الصنائع حتى تصلح وتصير أثوابا ، يقرب من سبعين صنعة. تصرف مصنوعاتها في الشام ومصر والجزيرة ، وكانت قبل الحرب العامة تصرف منها كميات وافرة في آسيا الصغرى والروم ايلي فلما وضعت في العهد الأخير الحواجز الجمركية في وجهها في تركيا عادت إلى الكساد.

ومع هذا لا يزال بعض أهل هذه الصناعة يصنعون الديما وأنواع الحرير والحبر والشال البديع والأعبئة الحريرية للنساء ، ما يتفاخر سياح الإفرنج باقتنائه في بيوتهم ، وإلباس أسرهم منه في السهريات وأوقات السمر ، على حين كان الناس هنا ولا سيما في المدن يزهدون فيها على متانتها وجمالها ، لأنهم بلوا بداء التقليد يقبلون على كل ما تأتيهم به أوربا ولو كان فيه بوارهم. وأهل معامل الحرير والقطن اليوم في المجدل من عمل غزة وبيروت وبكفيا وزوق مكايل ودير القمر وبيت شباب والكفير وحمص وحماة وحلب وأنطاكية ودمشق ، تعمل فيها الأعبئة والكوفيات والزنانير والملاءات والشراشف والديما والألاجة والنمارق والأرائك والسجوف والشفوف واللحف والبرانس والطيالسة والميازر والبراقع والأزر والجلابيب والقطائف (المخمل).

٢٠٢

ومن الصناعات (١) التي كانت الشام وما برحت تفتخر بها صناعة الشقق الحريرية والقطنية ، وهي عبارة عن قماش محوك طوله تسعة أذرع في عرض ذراع. ولصناعه تفنن في نقشه وصبغه ، يدل على رسوخ قدم في الصناعة ، وذوق جميل فيها ، واشتهرت مدن الشام بإتقان تلك الصناعة ، ومنها دمشق وحلب وحمص وحماة وطرابلس ، وأشهرها المسماة بالمصرية والحامدية والحموية والحمصية والحلبية. وتفصيل تلك الشقق على الطراز العربي وهي قطنيها وحريريها على غاية من المتانة والجمال. وكانت قديما لباسا عاما للأهلين فقيرهم وغنيهم رجالهم ونسائهم وقل المنفق منها الآن لاعتياد الناس اللباس الإفرنجي ، ولا تزال مع هذا لباس أكثرية الأهالي يعملون منها القفاطين (القنابيز) وتدر تلك الصناعة عليهم أرباحا وفيرة ، وتصدر إلى الأناضول ومصر والحجاز والعراق ، ويعد تجار تلك الصناعة من الأغنياء غالبا. ومن الصناعات الدقيقة الصنع أيضا الشال القطني والحريري والزنانير والشملات ، وأتقنها ما عمل في طرابلس وبيروت وحلب ودمشق ، ومن صناعات الشام الكوفيات الحريرية على اختلاف ألوانها ووشيها بالقصب الفضي بنقوش ورسوم غاية في الإبداع وسلامة الذوق والمتانة ، وما فتئت هذه الصناعات إلى الآن زاهرة رغم مزاحمة الأوربيين بكل ما عندهم من قوة تجارية وصناعية وتفنن وإبداع.

ومن الصناعات التي كانت من متممات اللباس لكنها ضعفت للغاية صناعة المشدات المعروفة بالكمار وهي تنسج بالصوف والغزل ذات طاقين طويلين تشد على الخصور ، ولا تزال لباس الوطنيين الذين لم يتأوربوا أي لم يتشبهوا بالأوربيين فضعفت صناعتها. وقد أحدث السادة كسم وقباني معملا لحياكة الحرير في دمشق ضاهيا به ما يصنع من نوعه في فرنسا ، وكذلك أحدث السادة توفيق وكامل وسعيد الكحالة معملا لصنع ثياب الكتان والشراشف ينافس مصنوعات أوربا ، وأحدث السيد أنطون مزنر في دمشق معملا لصنع الشال الحرير غاية الغايات إتقانا وجمالا. وفي دمشق ثلاثون آلة لغسل الحرير على الطرز الحديث. ومما تمتاز به حماة عن سائر المدن الصناعية نسج المآزر للنساء مما يستعملنه في الحمام وتسمى المناشف ، وما تغطى به الفرش ويسمى الشراشف

__________________

(١) استرشدت في بعض الصناعات الحديثة برأي السيدين حسني العمري ومحمد شخاشيرو.

٢٠٣

وينسج بالكتان ويوشى بالحرير من كل الألوان وهو غاية الغايات في دقة الصنعة والمتانة يصدر إلى كثير من جهات العالم. وتصنع حلب من هذه المآزر أنواعا كانت تضاهي بها المآزر التي ترد من العجم إلى أن بذتها وقامت مقامها.

ومن المنسوجات الرائجة أيضا صناعة الأعبئة فهي من أهم الصناعات على اختلاف أنواعها ومنها الخشنة التي يلبسها الفلاحون ، وحياكتها غاية في المتانة ولها ألوف من الأنوال في دمشق وحمص وحلب وقرى القلمون ، وذلك لتوفر مادتها الأولية ولأنها لباس عامة الفلاحين ، ويوجد أيضا ألوف الأنوال في دمشق وقرية جرمانا وحمص وهي تصنع أعبئة من الصوف النحيف والوبر برسم الأمراء والكبراء ويصدر منها إلى الخارج ولا سيما إلى فارس ويبتاع الحجاج أيام الموسم من دمشق خاصة من تلك الأعبئة ألوفا وهي مشهورة بحسن صناعتها وعلى غاية المتانة ، مع أنها من النسج النحيف الناعم ، ومما يدل على ذوق صناعها تفننهم في ألوانها على اختلاف ضروبها ، وفي دمشق وبيروت ولبنان وحمص وحلب من الأنوال لعمل الأعبئة من الحرير وهي على غاية الرواء والجمال والمتانة وفي النهاية من سلامة الذوق بوشيها وألوانها. وتصدر إلى أوربا وأميركا ومصر وإيران. ومما يؤسف له الآن دخول الحرير النباتي إلى الديار الشامية وصنع العباءة منه مؤثرين له لرخص ثمنه مما يكون منه بعد بضع سنوات القضاء على صناعة العباءة الحريرية في الشام إن لم تتدارك بما يحفظ رواءها.

واشتهرت حلب بالمناديل الحريرية والمقصبة المعروفة بالبوشية وفيها ٥٣ معملا كما فيها ١٢٤ للخام و ٢٤٧ لمنسوجات الغزل و ١٥٩ للحرير و ١١٧ للأغباني أو تقليد الزنار الهندي، وصناعة الأغباني في دمشق رائجة كل الرواج وهي عبارة عن قطعة ثوب مربعة طولها ذراعان في مثلهما ، تعمل من الحرير الدقيق ، لونها أبيض وأدكن ، وتطرز بألوان الحرير الجميلة ، وبأنواع الرسوم التي قد تعجز عنها ريشة المتفننين من المصورين ، وكانت تلك الصنعة مختصة أولا بالهند تصدر منها إلى أطراف العالم ، وكان قليل منها يطرز في حلب ويستعمل للعمائم فقط على قماش قطني وبعض الحرير. وأما الآن فقد تناولتها أيدي جميع الشاميين الأذكياء وأكثر من يصنعها النساء يطرزن منها أثوابا

٢٠٤

طول الثوب تسعة أذرع وعرضه ذراع واحد ، وتعمل منها القفاطين ، وهي الألبسة الوطنية في الشام ، وفيه اليوم ألوف من الآلات تصنع هذا النوع من القماش ، وتسمى القطعة منه أي ما طوله ذراعان وعرضه كذلك «سلك أغباني» وهو يستعمل في الشام غطاء للرأس أي كوفية ، وزنارا ، وملفا للأولاد الرضع ، وعمامة ، ويصدر منه إلى الخارج كميات وافرة ، وله تجار كثار إخصائيون في دمشق وحلب وبيروت وحماة وحمص وطرابلس وفلسطين وجميع المدن الصغيرة ويصدر إلى الهند وفارس وتركيا والحجاز والعراق ومصر والسودان والصين.

واشتهرت الشهباء بصناعة الأشغال الحريرية المعمولة بالقصب وأقمشة الجوخ المعمولة بالسيم والثياب المفصصة بالجوهر والزبرج أي الزينة من وشي وذهب ويقال لهذه الصناعة صنعة القصبجية والألتونية فهي ممتازة بعمل الفضي ومشهورة بالزركشة والتطريز ، وعرفت زوق مكايل بصناعة الوشي وزركشة القصب والنسيج أيضا ، واهتدى صناعها منذ تسعين سنة إلى رسم الأشكال التي يريدونها على المنوال بالمحواك ، واصطنعوا من الأثاث والأكسية والطنافس ما يأخذ بمجامع القلوب إتقانا ، وعملوا نسائج هذا القز فأبدعوا فيه وأظهروا الصور الشمسية على النسيج فجاءت كأنها لم تمس بيد ، صنعوا بها صور العظماء والملوك والأمراء مجسمة ، فكانت من أنفس أعلاق القصور. وصناعة زركشة القصب هذه كانت راقية جدا في دمشق ، وصفها أحد سياح القرن الحادي عشر بقوله : وبباب جيرون على يسار الخارج منه حارة الذهبيين ، وهي أماكن يمد فيها خيوط الذهب غلاظا أولا ، ثم لا يزالون يعالجونها بالإدخال خرقا بعد خرق ، وكل ثان أضيق من قبله ، حتى تنتهي إلى الرقة ، إلى أن تصير كالشعر ثم يطرقونها بمطارق لطيفة وصناعة محكمة ، ثم يلفون ذلك المطروق على خيوط الحرير فيتركب منه القصب المعلوم ونحو ذلك عملهم للفضة ا ه. وسمى هذه الصناعة البدري «صناعة الذهب المسبوك والمضروب والمجرور والمرفوع والممدود والمرصوع» وكان القوم يغالون في لبس الأردية والأكسية والمعاطف والسراويلات التي تعمل من هذا القصب على الجوخ ويلبسه المترفون

٢٠٥

والعرس وأرباب النعيم ، وبقاياها اليوم يلبسها الآذنون عند قناصل الدول والرؤساء الروحيين.

الدباغة وصناعات الجلود :

كان للدباغة شأن مهم في هذا القطر تعمل من الجلود الأحذية والسروج والمطارح والمقاعد والقرب والروايا والمحافظ والمطاهر والركوات والإداوات وما أشبهها ، وكانت أهم معامله في حلب وفيها اليوم ٤٠ مدبغة على الطريقة القديمة وفي حماة ودمشق وزحلة ومشغرة والخليل. وتدبغ جلود الثعلب وبنات آوى التي تصلح للفراء في جوار طرابلس وبيروت. ويقدرون عدد ما يدبغ من الجلود في الشام بمليون ومائتي ألف جلد منها مليون من المعزى والغنم. وقد أنشأ في دمشق السادة رومية وعمري معملا لدبغ الجلود وعمل الشراك والشسوع للأحذية ، فجاءت مصنوعاتها كمصنوعات أوربا من كل وجه وزادت عليها رخص أثمانها ، فأصبحت تباع حتى في الغرب ، ومعظم معدات هذا المعمل الكبير من صنع دمشق ولم يجلب له غير أدوات قليلة ، والصناع كلهم من أرباب هذه الصناعة القدماء ، وفي دمشق نحو ٣٠ دباغة على الطراز القديم ودباغات الخليل مشهورة وأشهر منها صناعة القرب في تلك المدينة ، تعمل من جلد الماعز وهي صناعة خاصة بها. وفي عكا معمل جيد للدباغة.

وصناعة الأحذية والسروج والكنابيش والبرادع والرباطات والرشمات من أهم صناعات دمشق وحلب. وصناعة السروج من الصنائع المشتركة في الشام ، ومما يعد في جملتها لوازم الحيوانات كالعذر والهمايين «الخراج» والبرادع «المراشح» ويعمل كل ذلك على غاية من الإتقان. ومن السروج ما يصنع وجهه من الجوخ ، ويطرز أحسن تطريز بالحرير والقصب. والجلد الذي تعمل منه السروج هو غالبا من دباغة الشام.

ومن صناعة السروجيين أيضا أحزمة الجلد ويسمونه «قشاطا» وجعاب رصاص البنادق ويسمونها «جنادا» وأرسان للخيل ، وصناديق للسفر من الجلد وغير ذلك من الحاجيات المحلية ، ويصدر ذلك إلى الداخلية فقط وهو يضاهي أعمال الأوربيين أنفسهم من ذلك النوع.

وتعمل الأحذية في جميع المدن ومنها ما تستخدم فيه الجلود الإفرنجية

٢٠٦

المعروفة بلمعانها ومتانتها وحذاء والشام مشهورون منذ القدم ، وأهل الرفاهية والبذخ اليوم يأتون بأحذيتهم من الغرب جاهزة وخصوصا النساء يرينها ألطف شكلا وأدق صنعة ويقبلن عليها وإن كانت أغلى قيمة وأقل متانة مما يعمل هنا. ويلحق بصناعة الدباغة أو القرظية صناعة عمل الأوتار من المصير والمري وهي نافقة يبعثون بها بعد تحضير قليل إلى معامل الغرب فتعمل منها أوتار الأعواد والقيثارات وغيرها.

تربية دود الحرير :

ومن أهم الصناعات تربية دود الحرير (الفيالج أو الشرانق) وهو عمل خاص باللبنانيين وبسكان أرجاء أنطاكية. وكانت مساحة الأراضي التي تغرس التوت الصالح لتربية دود الحرير واسعة أكثر من الآن في أرجائنا. فقد ثبت أن عمالتي وادي التيم والبقاع كانتا كلتاهما مغروستين بشجر التوت. واقتبس أصحاب تربية الدود في العهد الأخير طريقة باستور في تربية دود القز فزادوه إتقانا. وتصدر منه كميات وافرة إلى معامل ليون في فرنسا وهناك يصلح الإصلاح المطلوب حتى يكون منه الحرير المعهود في نسج الثياب والطرائف. ومن تربية دود الحرير يعيش عشرات الألوف من الناس في هذه الديار. والغالب أن مناخ لبنان وأنطاكية وما إليها وبعض الأرجاء المعتدلة القريبة من الساحل تصلح فقط لتربيته ومنذ القديم لم يحظّ الحظ سائر الأرجاء أن تشترك في صنعه. وقد أسس في الزبداني في العهد الأخير معمل لحل الحرير على الطرز الحديث وتصدر مصنوعاته إلى إيطاليا وفرنسا.

النجارة :

لم يكتف الصناع في منجوراتهم بأخشاب الشام على كثرتها ، بل أخذوا يجلبونها من قلقية ورومانيا وغيرهما ، ومنهم من يجلبونه من أميركا وهو الجوز الأميركاني. يعتمدون عليه وعلى خشب الحور والجوز والزيتون والشربين والتنوب والميس والعرعر والدردار ، وكان اعتمادهم يكثر في القديم على الصندل والصنوبر والسرو. وخشب السرو والصنوبر كما قال قسطا بن لوقا

٢٠٧

من أشرف الأشجار التي تستعمل أخشابها في البناء يتخذ منها مصاريع الأبواب والدعائم والسفن ويستعان بها في كثير من الأمور.

ينشرون الخشب اليوم بمناشير ميكانيكية تدار بالبخار أو بالكهرباء أو بالطرق القديمة فيعمدون إلى أيدي العملة في إحضارها ، يصنعون منها مناضد وأصونة للثياب وإطارات ومقاعد وكراسي ومغاسل وصناديق وتوابيت ورحالا وألواحا لدرس الغلة وأعواد الطرب. وهذه الصناعة صناعة الأعواد قديمة جدا في دمشق ودخلت حلب منذ نحو سبعين سنة. وقد اشتهرت دمشق بصناديقها التي كانت تعمل من خشب الجوز وتبقى القرون لا تتشقق ولا يسرع إليها البلى ولا تتأكل ، وعليها من النقوش ما يدل على ذوق جميل ، كما اشتهرت إلى اليوم بمصنوعاتها الخشبية. وفي حلب معملان للنجارة بأنواعها ، وكذلك مدينة بيروت فإن معامل هاته المدن الثلاث كادت تستأثر بتجهيز الدور والقصور والفنادق ومنها ما لا تقل جودته عن أدق ما يعمل من نوعه في الغرب مع الرخص والجودة والمتانة.

وإن ما يسمى بالحلقات في القصور والقاعات القديمة دليل كاف على رقي فن النجارة. فإن القصر أو القاعة يبلغ طوله على الاعتدال ستة أمتار في مثلها عرضا وارتفاعه أيضا يتسامى إلى الستة أمتار ، فجهاتها الأربع وسقفها مما يشهد للمتقدمين من النجارين بسلامة الذوق وإتقان الصنع ، ويباع منجور بعض هذه القصور إذا كانت سليمة من الأوربيين بأثمان باهظة ، وهو عبارة عن أخشاب فقط. وصناعة الدهان المدهون به ذلك الخشب هو من أبرع الصناعات يشهد بذلك من له أقل إلمام أو ذوق من الناظرين في المحلات الخصوصية عدا ما كان من نوعه في المساجد وغيرها من المحال العامة وكله يشهد للمتقدمين من النجارين الشاميين بالبراعة والحذق. والنجارون في الشام اليوم من أشهر نجاري العالم باعتنائهم بصنعتهم ، والنجار بطبيعته ينبغي له أن يكون ذكيا ، لما يقتضي لصنعته من الإلمام بالهندسة والمساحة وضبط المقاييس والحساب وأن يكون على جانب من سلامة الذوق في الوضع والصنع. فالنجار الذي يخلو من هذه الصفات لا يحق له أن يصير نجارا. إن هذا النجار الشامي الموصوف آنفا يعمل بيده وتدل عليه آثاره في البناء الخشبي في دور دمشق وحلب وغيرهما

٢٠٨

وما يسمونه الصلب وغيره من أبواب ونوافذ غاية في الإتقان. ومن صنع النجارين أيضا قديما الصناديق الخشبية ومنها ما هو مغشى بالصدف ومنه ما يسمونه بالحفر. ومنذ نحو أربعين سنة دخلت بيروت ودمشق آلات النجارة الحديثة التي تدار بالكهرباء فاستطاع مديرو المعامل أن يقاولوا على بنايات كبيرة لصنع أبوابها ونوافذها بغاية السرعة.

وظهرت صناعة جديدة على الطراز الغربي تسمى صناعة (الموبيليا) أي فرش الدور وتنضيدها ويتناول اسم الموبيليا جميع أنواع الخزائن والمغاسل والمقاعد الخشبية المغلفة بالنسيج الحريري ولوازم غرف النوم وغرف الطعام وغرف الاستقبال ، وكل ذلك يصنع في دمشق وحلب وطرابلس وبيروت ، وهي تضاهي المصنوعات الأوربية جمالا وإتقانا ومتانة ، وتعد هذه المعامل بالمئات ، ومما يدل على الذكاء في الصناعة أن تلميذات المدارس الصغيرات يشتغلن اليوم من جملة الأشغال اليدوية على اختلاف أنواعها وأوضاعها ما تقر به العيون ويبشر بمستقبل مجيد. وقلما تجد واحدة من النساء إلا وتجيد أكثر من صنعة يدوية.

ومن الصناعات التي تمتاز بها دمشق خاصة ، صناعة خشبية تسمى اليوم بالمصري ، وهي بواقي خشب الجوز اليابس تفصل بحسب المطلوب ، وتصقل صقلا تاما ، ويرسم عليها بالقلم عروق غاية في الإبداع ، ويحفر على حسب رسم القلم ، وينزل به الغراء وفوقه الصدف. وتقسم قسمين فما كان دقيق الرسم يسمى بالمصري ، وما كان رسم عرقه ظاهرا كل الظهور يسمى في عرف الصناع بالعرق. ويصنعون منه أنواعا ، فمنها ما يسمى «بالجاردينيه» وهي أثاثة يوضع فيها قحف زهور صناعية ، بعرض مترين أو ثلاثة أذرع ، ويجعل فوقها إطار من تلك الصناعة النفيسة طوله متران وعرضه متر. وفي داخل ذلك الإطار مرآة وبجانبه من الطرفين جناحان لطيفان لهما رفوف توضع عليها التحف المنوعة ، وفوقها تاج على علو متر أيضا. وكل ذلك محلى بتلك الصناعة الصدفية يتخلله صباغ أسود قليل يزيد في لمعان الصدف.

ويصنع من تلك الصناعة أشكال وأنواع متعددة منها الأصونة خزائن (٤ ـ ١٤)

٢٠٩

الثياب ومنها ما يسمى بالعرف بالبيرو (مكتب) وهو عبارة عن أربعة دروج كبيرة فوقها درجان صغيران ويصنع منه إطار للمرآة ، وإطارات للصور ومناضد ، وجميع ما يصنع من الخشب البسيط. ومنذ خمسين أو ستين سنة كثر طلب هذا الصنف إلى أوربا. ولكن الحكومة والبلدية لم تأخذا تلك الصناعة تحت رعايتهما فكثر الغش فيها ، وصارت إلى البوار وانقطع عنها الطلب إلى الخارج بتاتا ، وهي لا تروج الآن إلا في دمشق وضواحيها تقريبا ، ولو عنيت البلدية بمراقبة صناعها ، وجعلت لهم رئيسا مسؤولا لدرت تلك الصناعة على دمشق أرباحا هائلة ولأصبحت أجرة الصانع يوميا نصف دينار وراجت في أقطار العالم أجمع لجمالها ودقة صنعها.

ومن أهم معامل النجارة والفرش معامل الياس جرجي السيوفي في بيروت زرتها في سنة (١٣٣٠ ه‍ ١٩١٢ م) ومما قلته فيها : رأيت صورة مصغرة من صورة الغرب في الشرق ، وتمثل لي فضل الذكاء العربي ، وأنه وإن لم يفق الغربي فليس دونه ، وأن يد أبنائنا صناع في الأعمال لا يفوقها ابن فرنسا وإيطاليا وإنكلترا وألمانيا وسويسرا وبلجيكا إلا بأن الإفرنج يرجعون إلى أساليب في العمل تنقصنا ، أو تكاد في أكثر الأصقاع لا تجد لها أثرا بيننا ، وهي ترجع إلى أسباب رئيسة مهمة ، أولها الصبر على العمل ، وثانيها تجويد العمل ، وثالثها القدر اللازم للعمل من المال والمعرفة ، ورابعها الاقتصاد في الوقت والأيدي العاملة ، وخامسها تنشيط الأهلين والحكومات للمصنوعات الوطنية وحماية التجارة الداخلية بقوانين تنفذ على الصادر والوارد ، وسادسها وجود المواد الأولية التي يمكن بها الاستغناء عن المواد الخارجية في الجملة.

دلت معامل السيوفي على أن الشرقي بمفرده أمة ، وأن الأمة بمجموعها ضعيفة ، بمعنى أن الشرقي يعمل مفردا أحسن من عمله مجتمعا ، وذلك لفقد التربية المشتركة بين المشارقة يرجعون إليها وتضم عراهم. فلو كان معمل الغزل في دمشق لفرد واحد منذ إنشائه له خيره وعليه شره ، لما اضمحل هذا الاضمحلال الذي نراه عليه ، ولو كانت معامل السيوفي في بيروت لشركة لما رأينا فيها هذا النظام والنجاح ، وبذلك صح لنا إثبات ما قدمناه من أن الشرقي أمة بمفرده والأمة ضعيفة بمجموعها ، وأن لا سبيل إلى قيام الأعمال الكبرى

٢١٠

وأن نقدر لها النجاح المطلوب إلا إذا اتحدت مناحينا وتعلمنا تعليما وطنيا اقتصاديا واحدا.

على هضبة من هضاب بيروت الجميلة في حي الأشرفية ، في مكان بعيد عن مركز حركة هذا الثغر ، يطل على سفوح لبنان وبيروت وعلى البحر الرومي من أخرى ، قامت هذه المعامل البديعة في بقعة فسيحة من الأرض تدخلها فتخال نفسك في إحدى معامل الغرب الكبرى ، وأول ما يبدؤك بعد الدخول من الرتاج ساعتان عن اليمين والشمال بجانبهما صندوقان معلقان مقسومان إلى بيوت صغيرة ، وفي كل بيت مقواة كتب عليها اسم أحد العملة وطبعت عليها ساعات الغدو والغداء والرواح ، فمتى وصل العامل بعد الفجر وقبل الإشراق في الشتاء مثلا يضع مقواته في بيتها ، فلا تلبث أن تكتب عليها ساعة مجيئه والدقيقة التي جاء فيها بجروف عربية ، وفي آخر اليوم أو الأسبوع يرجع إليها مدير المعمل ، ويحسب المتأخر من المتقدم ، ويعدون ذلك بموجب نظام خاص لهم جروا فيه على مثال نظام العمال في سويسرا والبلجيك والنمسا وألمانيا. ومن قوانين العملة في هذه الممالك اختار مؤسس المعمل أحسن ما يلائم هذه الديار وينفع في نجاح عملته ويعود عليه وعليهم بالربح واقتصاد الوقت.

وهذه الساعة من أنفع ما يجب استخدامه في معاملنا ومطابعنا ودواوين أعمالنا وبيوتنا التجارية والمالية ودوائرنا العسكرية والملكية ليتعلم قومنا مراعاة الوقت والتدقيق في حسابه حتى يبارك لهم بساعات العمل وأيام الحياة ، ويتعلموا أن التدقيق في المواعيد أحد دعائم التنظيم في فروع الأعمال ، ومن أهم أساليب النجاح الذي غفل عنه معظم سكان هذه الديار وعدوا من ينظم أوقاته ويدقق في وعوده واستقبال خاصته ومن لهم علاقة به في ساعات محدودة متكبرا أو مهوسا.

يباكر العملة في معامل السيوفي في الصيف والشتاء والحريف والربيع على السواء وينقطعون ساعة وقت الظهر ثم يعاودون العمل إلى قبيل الغروب أو إلى بعده بقليل بحيث لا يتجاوز معدل ساعات العمل في اليوم تسعا بخلاف عملة أوربا فإنهم يعملون في بعض الممالك كبلجيكا مثلا زهاء اثنتي عشرة ساعة ، ولكثرة الأيدي العاملة وللعادة والإقليم دخل كبير في هذا الاصطلاح.

٢١١

وفي معامل السيوفي اليوم ٢٨٠ عاملا مع أن الأدوات التي اقتناها صاحبها تشغل ضعفي هذا العدد فيستفيدون ويفيدون.

أكثر ما يعمل في هذه المعامل منجورات الدور الخشبية وأنواع الفرش وأثاث البيوت تعمل كما تعمل في الغرب وتتأنق الأيدي والعيون في تجويدها وتساعدها الأدوات التي تدار بالفحم الحجري وتبلغ نحو الستين آلة ومنها لقطع الخشب وصقله وحفره وتقويره ونقشه وتشيفه ، فترى خشب الجوز والزان من واردات الروم (الأناضول) والاكاجو من كوبا وشوح النمسا وسنديان أميركا والخشب البياسي من قلقية تعمل في تلك الأدوات وتحركها تلك المحركات والآلات كأنها العجين في يد خبازه أو الملاط بيد البناء الحاذق.

قال لنا صاحب المعمل : إن الآلة الكبرى المحركة في معمله هي بقوة مئة حصان تنفق في النهار ١٣ فرنكا من الفحم وكانت الآلات التي هي أصغر منها تصرف من قبل أكثر من ذلك ، وبهذا يستدل أيضا أن نفقات المعامل الكبيرة أدنى إلى الاقتصاد وأعمالها أقرب إلى الجودة من مصنوعات المعامل الصغيرة لا سيما والمعامل الكبرى تتجلى فيها قاعدة تقسيم الأعمال فتجد العملة في معامل السيوفي مقسومين إلى عدة أقسام قسم الأدوات وقسم النجارة وقسم الحفر وقسم البرداخ ، وللمحل رسام خاص وكلهم من أبناء العرب ليس بينهم إفرنجي. وتختلف أجرة العامل في اليوم من ستين بارة إلى ستين قرشا ويحاسب عن أجرته كل يوم سبت من كل أسبوعين في الشتاء ويحاسب في الصيف كل سبت قبل الظهر ليتيسر له الخروج إن أحب إلى الجبل يصرف ليل الأحد وليل الإثنين فيه للنزهة ، ويقضى على كل عامل أن يعمل ستة أشهر تحت التجربة أولا ثم تحسم من مياومته أجرة أسبوعين تجعل في صندوق المحل حتى لا تحدثه نفسه بالخروج من العمل كل يوم أو كل أسبوع كما يفعل بعض العملة في المعامل ويتركون أصحابها معطلين. ومن جملة ما شهدته من النظام داخل المعمل قاعة كبرى وموائد يتناول عليها العملة طعام الظهر ، وآلة تضغط النشارة عندما توضع فيها، وهي من اختراع أحد العمال هنا ، وتلقي بها إلى مكان بعيد خارج بناية المعمل ومن هناك يبتاعها أرباب القمامين. ومما رأيته خارج المعمل من النظام رصف الطريق الموصلة إليه على نفقة صاحب المعمل وغرس

٢١٢

بعض الأشجار على جانبيها ويبلغ طولها نحو كيلومترين.

هذا ما رأيته في معامل السيوفي من النظام الذي لا أبالغ بأني قلما رأيته في معمل يرأسه شرقي ، ولذلك يصفق لصاحبه لأنه بدأ به صغيرا سنة ١٨٨٨ في مدينة بيروت وكبره في سنة ١٩٠٨ في حي الأشرفية على الصورة التي رأيناها اليوم ونفقة عمارته وأرضه وأدواته تساوي خمسة وعشرين ألف ليرة ، ولكن لا يتيسر لمن معه مئة ألف ليرة أن يقيم مثله بأدواته ونظامه إذا لم تسبق له معرفة كمعرفة السيوفي ولم يقض سنين مثله في النجارة ويحيط بما جل وقلّ من أساليب العمل وتجويده. فليت كل أعمالنا تجري على هذا المثال من النظام البليغ والنجاح الأكيد ا ه.

ومما يصح أن يلحق بالنجارة صناعة تنزيل الخشب وتنزيل الصدف أو خشب الليمون فيه ، وهذه الصناعة كانت رائجة جدا ثم عدمت وجدد شبابها صناع دمشق منذ نحو سبعين سنة حتى أصبح ما يعمل منها مما يتنافس في اقتنائه. ونسبت هذه الصناعة لدمشق فيقال لها بالإفرنجية (داماسكينه).

القيانة والحدادة والنحاسة :

كانت العرب تطرق المعادن في دمشق بإتقان أكثر من إتقان الغرب على ما قال ميشو ، واشتهرت كثير من مدن الشام بهذه الصناعة منذ عرف تاريخ القيانة أو القردحة أي صناعة عمل السلاح. وذلك لأن الحديد كان يكثر في الجبال ولا سيما في لبنان وحلب. وقد اشتهرت في الجاهلية سيوف مشارف الشام في أقصى تخوم الجنوب ، وكانت تطبع بها السيوف وتنسب إليها فيقال السيوف المشرفية ، وكانت حاضرة المشارف مدينة مؤتة قال كثير :

إذا الناس ساموكم من الأمر خطة

لها خطة فيها السهام الممثل

أبى الله للشم الأنوف كأنهم

صوارم يجلوها بمؤتة صيقل

والصيقل هو الذي يجلو السيوف. ونسبت السيوف إلى دياف وإلى بصرى وكلتاهما في أرض حوران فيقولون السيوف البصرية قال الحصين بن الحمام المرّي :

صفائح بصرى أخلصتها قيونها

ومطردا من نسج داود محكما

والقيون جمع قين صانع السلاح. وسيوف دمشق لا تزال يفاخر بها لتفنن

٢١٣

الصياقلة في صنعها ، وقد عرفت بصفاء مائها ، واخضرار لونها ، وإرهاف حدها ، ولطف فرندها ، وكانت تكتب عليها آيات وأشعار بماء الذهب ، وكذلك على الخناجر والرماح ، عرفها الصليبيون في القرون الوسطى ونسبوها إلى دمشق وغدوا يفاخرون بتقلدها ولا مفاخرة العرب بالسيوف اليمانية والرماح السمهرية. وصناعة تنزيل الذهب على السيوف والخناجر والمدى والبنادق كانت من أهم الصناعات الدمشقية ويحسب أربابها من أهل اليسار ويعدون اليوم على الأصابع ولا يسع المنصف إلا أن ينحني إعجابا أمام جمال هذه الصناعة.

وقد نقل الفاتحون من العرب إلى الأندلس صناعة صقل السيوف وهي الصناعة التي نسبت إلى دمشق حتى اليوم فقيل لها بالإفرنجية Damasquinage أو Damasquinerie أي تنزيل الذهب والفضة في الفولاذ وقد اشتق منه الفعل عندهم Damasquiner.

وكانت تعمل السيوف في زحلة والشوير ودومة من عمل لبنان وتعمل النبال الفائقة في عمتا من بلاد الغور. وكانت الدروع تسرّد بيد الدارعين والخوذ والسابرية تصنع في دمشق خاصة. ويعمل من الحديد كل ما يلزم من الطبر والخناجر والمرادن والمغازل والصنارات والأسياخ والعقافات والقيود والزرد والمباضع والمبازغ والمشارط والآنية ، يطرق كل ذلك في كيرة الحدادين وسنداناتهم ويضرب بمطارقهم ، وكانت وافية بالغرض.

ومن أهم أعمال صناعة النحاس في دمشق حلقة باب المدرسة الخضيرية في حي الخضيرية وكذلك الحلقتان اللتان على بابي المستشفى النوري. والأولى من القرن الثامن والحلقتان الأخريان من القرن السادس وهي آية الإبداع والمتانة وفي هذا البيمارستان أبواب من خشب من عصر صلاح الدين عليها مرايا المفاتيح على طرز الغرب إذ ذاك. وفي مستودع الجامع الأموي بقايا النحاس الذي كان على باب جيرون من أبواب الجامع تصور للمرء نموذجا من إتقان النحاسين والحدادين لصناعتهم في القديم. وفي بعض مدارس حلب حلقات قديمة من هذا القبيل تدل على مبلغ صناعها من الحذق وفيها أبواب من الحديد صنعت لبعض البيوت والمدارس القديمة آية الجمال الصناعي. ومن صناعة الحديد أمثلة كثيرة مثل أبواب بعض خانات دمشق كخان الحرير وخان أسعد باشا

٢١٤

وخان الزيت وأبواب التكية السليمانية وشبابيكها. وشبابيك المدارس والديارات والجوامع والكنائس القديمة وأبوابها ودرفاتها في دمشق وحلب والقدس والناصرة وبيت لحم ولبنان وغيرها وكلها تدل على ترقي الحدادة والنحاسة دلالة عظيمة مثل أبواب القلاع كقلعة عكا وحصن الأكراد وغيرهما. ولكثرة الحديد في أرباض حلب عمل كثير من أبواب حلب القديمة من الحديد.

وكذلك قل عن سائر صناعات الحديد والنحاس وكانت تعمل منها السرج والمصابيح والمواقد والشمعدانات والشبابيك والكؤوس والصحاف والزهريات والمباخر والقماقم وأوعية القهوة (الدلّات) والألبان والطسوت والموائد والصواني والصحون والمصافي والمغارف والملاعق والقدور ، والقدر الشامية كانت مشهورة بكونها لا تنش ، والسطول والمساخن والهواوين والمدقات والمناشير والجرار والحقاق والأجراس والنعال والمسامير والمعاول والمساحي والمناجل والمطارق والأقفال والمفاتيح والمغالق والمناصب والملاقط والسكاكين والمدى والمقال والمواسي والمبارد والقيود والجواشن والدروع والصنجات والجرز (العمد) والحسك والدرابزون والمناجيق والدبابات.

ومن الصناعات النفيسة صنعة الأجراس أجراس الكنائس فإنها تصنع في بيت شباب، واستأثر بهذه الصنعة لبنان من دون أقطار الشرق الأقرب ، وقد دخلت صنعتها أرضنا مع الصليبيين على الأكثر ، وكانت البيع قبل ذلك تستعمل أجراسا من الخشب ، وما زالت هذه الصناعة محصورة ككثير من الصناعات في أسرة واحدة. ولما جاء حديد الغرب الرخيص السهل على التطريق كثرت أدوات الحديد وتفنن صناعه في صنعه ومنهم من عمد إلى اتخاذ الأدوات الحديثة كمعامل بيروت ، ومنهم من اعتمد على الطرق القديمة في تطريقه ، وكثير من الأدوات الزراعية كالفؤوس والقدم (جمع قدوم) والسكك الزراعية والمقاريض وأدوات السيارات تعمل في حلب ودمشق وبيروت والقدس وسائر المدن الشامية. ولا يزال الحدادون على تفننهم حتى يساووا معمولات الغرب. والحاجة أمّ الاختراع.

وقد قامت دمشق في الحرب العامة بصنع أعمال نفيسة من حاجيات الجيش كالقدوم والمنشار والكلّاب واللولب والفأس والرفش والقدر والمركن والمرجل

٢١٥

والدلو والبرميل وعجلة النقل والركوب ومحفة الجرحى والمرضى ، كنت إذا رأيتها تظنها لجمالها ومتانتها من صنع الغرب. وقد جلب كثير مما يستعمل في هذه الصناعة من حلب ولبنان وبيروت ، ويستعمل فيها الحديد والنحاس والصفيح (التنك) وتوفر الجيش التركي في تلك الأيام على ملء الخراطيش وصنع القذائف والمدمرات واستجادة أحسنها طرازا وأفعلها في وقت الحاجة وإصلاح البنادق والمدافع ما دل على ذكاء ابن هذه الديار إذا علّم التعليم العملي المنظم بنظام المعامل الغربية. ولقد صنع أحد مهرة الصناعة مدة الحرب بندقية من الخشب أخف من الماوزر فنال استحسان أهل هذا الشأن في الدولة.

ويصح أن تلحق صناعة النحاسين والصفارين بالحدادة ، وكانت في القديم ذات شأن ، ولم يبرح في المتاحف والبيوت القديمة في المدن والقرى نموذجات منه صبرت على ممر الأيام بحالها ، وما عمل منذ ستة أو سبعة قرون كثير جدا ، والقديم أقل منه ، وكان ما يصنع منه في دمشق يقال له الظاهري نسبة للملك الظاهر فيما زعموا ولا ندري أي ظاهر هو ، لأنه كان من المنشطين لصناعته فنسب إليه تحببا ، وما فتئت هذه الصناعة رائجة تعمل من النحاس الثريات والمصابيح والفوانيس والتعاليق والجفان والكؤوس والمباخر والقماقم والصحاف والصواني والطسوت والأباريق والصنجات ، مصنوعة من النحاس الأصفر منقوشة في العهد الحديث حروفا لا تقرأ إذ تعاور صناعتها أناس أميون على الأكثر ، وكان يطرز ويرقش في القديم بكل معنى جميل. وفي حلب ودمشق وزحلة وبسكنتا وبتغرين ودومة لبنان مسابك حديد ، يقينون فيها الحديد قينا جيدا ، والنحاس يعمل في كل بلد للآنية وامتهانات البيوت ، وأجلّه ما صنعه صنعو الأيدي في دمشق وحلب. ومن أوسع معامل النحاس الأصفر معمل السادة النعسان في دمشق فقد تفنن بصنع الزهريات والكؤوس والثريات وغيرها والسياح يتنافسون في اقتناء مصنوعاته وكثير من أرباب الثراء في مصر وأميركا وأوربا يزينون ردهاتهم بقطع منه ولا يقل العاملون والعاملات فيه عن مائتي نفس.

وصناعة النحاس المنقوش من الصناعات القديمة في الشام ، وكل ما كانت تستعمله قديما في بيوتها وحوانيتها هو من صنعها ، من صحاف كبيرة وصغيرة

٢١٦

وبواط على غاية من دقة الصنعة والقديم منها يباع الآن بأثمان باهظة ، وبيع من مدة من أحد تجار الآثار القديمة صحنان من النحاس بسبعين ليرة عثمانية ذهبا ويشتري الأوربيون ذلك تقديرا للفن وخدمة للتاريخ ، وفي الشام معامل كثيرة لصنع النحاس المنقوش وله رواج عظيم وهو أنواع كثيرة منها ثريات للتعليق في قصور الملوك والعظماء تزين برسوم جميلة ، ومنها ما ينار بالكهرباء ومنها ما ينار بالشموع وصحاف كبيرة وصغيرة وما يلزم للاستعمال والزينة في البيوت وهو أنواع. والمعقول أن يدوم تصدير هذه الأنواع وتزداد ، لما في نقوشها من الإتقان ودقة الصنعة والاعتدال في الأثمان.

الزجاجة :

من أهم الصناعات التي اختصت بها الشام من القديم الزجاجة ؛ صناعة الزجاج. وعدها الثعالبي من خصائص الشام وقال : إنه يضرب به المثل في الرقة والصفاء فيقال «أرقّ من زجاج الشام» وقال بعض الحكماء : وارفق بالعدو كما يرفق بزجاج الشام ، إلى أن تجد الفرصة فإما أن يضربه الحجر فيفضه ، وإما أن تضربه بالحجر فترضه» وربما كانت تعمل من هذا الزجاج المناظير للعيون قال أحمد بن محمد الدنيسري القاهري المتوفى سنة (٧٩٤).

أتى بعد الصبا شيبي وظهري

رمي بعد اعتدال باعوجاج

كفى أن كان لي بصر حديد

وقد صارت عيوني من زجاج

وقد اشتهرت صور منذ القديم بزجاجها ، وكان الرمل الذي يعثر عليه في جوارها يزيد الزجاج بهجة ليست له في غيرها من البلدان. وكانت معامل الزجاج في حلب وأرمناز مشهورة تصدر منه إلى العراق ويتباهى به في قصور الخلفاء. واشتهرت معامل الزجاج في عكا إلى القرن الرابع عشر ، وعرفت دمشق بزجاجها كما اشتهرت الخليل فكانت الزجاجة من صناعاتها وهي مشهورة بعمل المصابيح التي تعمل فيها اشتهارها بأساور النساء. وكان الزجاج معروفا بالدمشقي يتخذ للزخرفة والزينة ومنه الأكواب والآنية على اختلاف ضروبها ويفهم مما وصفه به الشعراء مبلغ تفنن الزجاجين بزجاجهم. واشتهرت الرقة بصنع الزجاج. وفي دار المتحف بدمشق مجموعة من الزجاج الملون المنقوش

٢١٧

المرقوش ، وهي أثمن المجموعات التي عرفت حتى الآن من نوعها. ومن أجمل النموذجات في هذه الطرائف البديعة ، ومنها الأكواب والأباريق والجامات والسكرجات والمضخات والأقداح والقوارير والكيزان والبواطي وكانت معاملها في دمشق وحلب والرصافة والخليل وصور وعكا على ما يظهر. وقد انحطت هذه الصناعة حتى انحصرت في دمشق وأرمناز والخليل بأناس فقراء يعملون من الزجاج القناني والبواطي العادية فقط. لأن صنع الزجاج النفيس الذي تعلمه البنادقة من معاملنا في الحروب الصليبية وتلقنوه عن معامل صور وانتشر صنعه في أرجاء أوربا بعد أن كانوا يستبضعونه من ديارنا قد نافس هذه الصناعة فقضى عليها أو كاد. وكانت معامل الزجاج ممتدة على طول الجامع الأموي في دمشق رآها الرحالة بوجيبوجي سنة (١٣٤٦ م) وبعد أن كانت معامل عكا وصور مما يضرب بمصنوعاته المثل فقدت أسرار الجمال في هذه الصناعة. وقبيل الحرب العامة (١٩٠٨) أنشأ في دمشق السيد مسلم العمري معملا لصنع الزجاج ، أنفق عليه عشرين ألف ليرة عثمانية ذهبا ، وجرّب عمله بواسطة صناع غربيين فجاء كالزجاج الذي يجلب من الغرب ، ووافق الرمل الذي استعمل لكن المعمل لا يزال معطلا ، وكانت الشركة الوطنية بنته على آخر طرز في شرقي المدينة. وفي الحرب العامة الأخيرة قل الزجاج المجلوب من معامل الغرب فهب أرباب معامل الزجاج في دمشق وبيروت وأخذوا يصنعون الأكواب والصحون والأقداح من كسرات الزجاجات القديمة فسدت بعض حاجة الناس.

الدهان :

ومن الصنائع الدهان ، وكانت مما تمتاز به بعلبك. قال في مسالك الأبصار : ويعمل في بعلبك الدهان الفائق من الماعون وغيره ، ولكن دمشق وحلب وغيرهما من المدن حيث كان للرفاهية أسواق نافقة ، لم تكن دون بعلبك في هذه الصناعة ، فكان يدهن الخشب والحجر ويبقى بحاله القرون الطويلة. ومن يدخل قاعة من قاعات دمشق وحلب مثلا ير الألوان زاهية باهرة كأنها نقشت الآن ، وفي دمشق اليوم قاعات وأبهاء وأواوين مضى عليها زهاء مئتي سنة ولا تزال

٢١٨

برونقها تدهشك كما يدهش الداخل إلى متاحف الآثار المصرية من نقوش بيبان الملوك وبني حسن وسقارة وكتاباتها ورسومها ، وقد مضى عليها قرابة أربعة آلاف سنة ، على حين تنصل الألوان المستعملة لعهدنا وتكمد في سنين قليلة.

والسبب في نصول الدهان الجديد ، ومواده تأتي من الغرب ، أن الدهانات القديمة كانت من صنع القطر ترجع إلى أصل ثابت ويحافظ عليها من المطر والشمس لأن الأقدمين لم يكونوا يعنون بفتح الطيقان والنوافذ وتوسيع الأبواب مثل المحدثين ، ولذلك صبرت الأصباغ على الأيام ، زد إلى ذلك عنايتهم في تخير الأخشاب وأكثرها من الدف الرومي أو الجوز أو السرو وهذه مما يصعب تطرق التشقق والبلى إليه كالكريش والشوح وفيه مواد قطرانية أو غيرها ، وكانت لهم في دمشق صناعة من الدهان تعمل من الحفر والتنزيل ويقال لها الأبلق وهي أن يرسم الدهان الحجر مما يريد من الأشكال والنقوش ويحفرها النقاش والحفار ثم يدفعها إلى الدهان فيدهنها بصب الأصباغ في الشقوق التي يريدها ثم تجلى وتصقل فيجيء صبغها كأنه من أصل الحجر ثابتا براقا ، ولا يعمل منه شيء اليوم.

وفي دمشق أسرة عرفت بأسرة الدهان اختصت بصناعة الدهان الذي يقال له العجمي كما اختصت بصنع هذا الأبلق. وتصنع هذه الأسرة مناضد وخزائن واسكملات بهذا الدهان المعروف بالعجمي من النوع المقرنص تكون آية الإبداع وحسن الذوق ويتنافس في اقتنائها العظماء لتزيين قصورهم وتبقى السنين الطويلة زاهية زاهرة. وقد دهنت عدة قاعات فجاءت آية الإبداع. وذكر الغزي أن أحد شبان حلب تعلم في أميركا صناعة الدهان على الأصول الحديثة فجاء عمله غاية في الرونق والإتقان. والمنتظر تعميم هذه الصنعة على هذا المنوال مع مراعاة المعرفة القديمة فيها.

هذا في دهان الغرف والأبهاء والقاعات ، وأما صبغ الثياب والحرير والقطن والغزل ، فكان الاعتماد فيها على أصباغ لهم جميلة يعرفونها ، ربما كان أكثرها من تركيبهم أو من معادن القطر. وكان للصباغ الدمشقي صيت بعيد في الأقطار ، لثبوت ألوانه ولطافة لمعانه ، وكانت أصباغه معدنية ونباتية لا غشّ فيها فلما تغلبت الأصباغ الغربية بطل استعمال القديم منها بل نسي

٢١٩

أمره واعتيض عنه بالجديد. وجودة الأصباغ القديمة كانت السر في اشتهار الديباج الدمشقي قديما حتى أوشكت لطافته أن تجري مجرى المثل. وفي حلب اليوم نحو ٣٠ مصبغة بالنيل و ٥٦ مصبغة للغزل والحرير وفي دمشق مثلها ونحوها وكذلك في كل بلد بحسب حجمه وأرباضه.

وكان من أصباغهم الأصفران أي الزعفران والورس ، والبرفير أو الفرفير وهو الأرجوان (أحمر وأررق) وكان ولم يزل للنيل الذي يخرج من الحولة أو يؤتى به من الهند ، شأن في صبغ ثياب العملة والفلاحين. وانحطت هذه الصناعة تبعا لانحطاط أكثر الصناعات ، لما جاءت الأصباغ الألمانية الحديثة حتى إن بعض معامل ثياب الحرير ترسل حريرها إلى الغرب ليصبغ ويعاد إليها ، فتعمل منه الشقق والثياب وتوشى على ما يشاؤون ، والوشي في الثوب كالرقش في القرطاس والنقش في الحائط ، ويحاولون أن تكون ألوانها ثابتة لا تنصل.

الفخارة والقيشاني :

وصناعة الفخارين اشتهرت بها الشام أيضا وكان في صور الخزافون المبدعون في الأعصر القديمة ، وكذلك في كفرطاب ، وكانت تعمل فيها قدور الخزف وتجلب إلى غيرها ومنها نموذجات لطيفة حفظت في داري الآثار في دمشق وبيروت ، وكان ولا يزال يعمل من الخزف القلل والخوابي والأجانات والدوارق وأصاصي الزهور وغيرها ، يصنع ذلك في حلب ودمشق وطرابلس وبيت شباب وصيدا وبيروت وغزة وعيتا وراشيا (ويقال لهاتين البلدتين عيتا الفخار وراشيا الفخار) وصناعة الفخار على كثرة منافسة الخزف الغربي لها لا تزال متماسكة ، لأنه لا يتيسر جلب كل شيء من الخارج. وأجمل الخزف اليوم ما عمل في حلب من الصيني الجميل.

ومن الصناعات التي كانت تجود في دمشق وحلب من دون سائر البلدان على ما علمنا ، صناعة القيشاني التي دثرت وكانت مورد ربح ، وعنوان فخر ومباهاة. ترصف بها الجدران والمحاريب والفساقي والسلسبيلات والباذهنجات والقماقم والزهريات والقلل وغير ذلك. وكان يصنع على ما يظهر من الرمل

٢٢٠