خطط الشام - ج ٤

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٤

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٧٦

١
٢

التاريخ المدني

العلم والأدب

ما يراد بالعلم والأدب :

نريد بالعلم علم الدين والدنيا ، فالعالم بالحديث عالم ، والعالم بالطب عالم ، والعالم بالكلام عالم ، والعالم بالهندسة عالم. والكيمياء علم ، والبيطرة علم ، والتاريخ علم والجدل علم ، وشرف هذه العلوم بشرف مقاصدها ، وأشرفها في نظر الإلهيين ما هذب النفس وأعدها للحياة الخالدة. وعلوم الدنيا هي الوسيلة إلى تلك السعادة كما قال حجة الإسلام الغزالي : إن الفقيه معلم السلطان ومرشده إلى طريق سياسة الخلق وضبطهم ، لينتظم باستقامتهم أمورهم في الدنيا ، ولعمري إنه متعلق أيضا بالدين ولكن لا بنفسه بل بواسطة الدنيا. فإن الدنيا مزرعة الآخرة ولا يتم الدين إلا بالدنيا.

كان البشر قبل ظهور الأديان المشهورة يستخدمون علوم الدنيا للدنيا ، وكانت بسائط على حالة ابتدائية بالطبع ، ويعكفون من جهة أخرى على تماثيلهم وأربابهم ومعابدهم يجوّدون صنعها ، ويمجدونها ويتغنون بمدحها ، فلما جاءت الأديان المعروفة تغير الشكل بصورة أخرى ، وبقيت العناية بالعلوم تختلف باختلاف الأصقاع والدول. أما الأدب فالذي كانت العرب تعرفه هو ما يحسن الأخلاق ويدعو إلى المكارم. واصطلح الناس بعد الإسلام بمدة طويلة على تسمية العالم بالشعر أديبا وعلوم العربية أدبا. والمراد بالإسلام كما قال

٣

النووي من حين انتشر وشاع في الناس وذلك قبل الهجرة النبوية بنحو ست سنين.

للأهوية والأهواء تأثير في العلم ، والعلوم ربيبة الأرض المعتدلة أو الباردة أكثر من الحارة والوبيئة ، لأن أهل هذه قصيرة آمالهم في الحياة ، محدودة مطالبهم ، فاترة هممهم ، مثلوم حدهم ، متداعية صحتهم. ومن صرف وكده أيضا إلى الأهواء المذهبية ضعف سلطان العلم فيه ، لتوزع قواه ، وانصراف رغبته عن الفانية إلى الباقية ، واشتغال ذهنه بأمور لا يتسع لغيرها في الأغلب. وكلما توغلت أمة في مضمار المدنية نظرت إلى علوم الدين وعلوم الدنيا نظرة واحدة ، وشرّفت ما تشتد حاجتها إليه منها ، وأقبلت بكليتها على المشتغلين بها. فقد رأينا جامعات اوربا في القرون الوسطى تنشأ لغرض الدين على الأكثر ، فلما عظمت مطالب البشر ، وأخذت المدنية تسير سيرها ، أصبحت العلوم الدينية في جامعاتهم تقرأ كما يقرأ التاريخ والأدب والطبيعة ، لا فضل لديني لاهوتي على طبيعي رياضي ، إلا بالأثر الناتج عن درسه وبحثه ، هذا إن لم يرجحوا في عرفهم العالم الثاني. وبينا نجد تماثيل العلماء بالمئات في شوارع الغربيين وساحاتهم ومتاحفهم ودور العلم والصناعات عندهم ، لا نشهد من علماء الدين إلا نفرا قليلا أقيمت لهم التماثيل داخل البيع والكنائس فقط.

كان الاقتصار على العلم الديني في الصدر الأول للإسلام ، ثم تسربت العلوم الدنيوية بسرعة ، ورأى علماء الأمة أنها نافعة لقوام الدين والدنيا ، وبذلك أقنعوا العامة ومن فوق درجتهم ، فأقبل الناس عليها ، وكانت العناية أولا بعلوم القرآن والسنة ، ثم أقبل الناس على الفقه لأن حالة الزمن اقتضت الإقبال عليه لتعدد الخصومات بين الناس واتساع المملكة الإسلامية وما حدث فيها من المشاكل والعضل ، ثم أقبلوا على علم الكلام ، لما رأوا الحاجة الماسة إليه خصوصا وقد دخلت فلسفة القدماء وصادفت لها أنصارا وعشاقا ، ثم مالوا إلى المناظرة في الفقه وبيان الأولى من مذاهب الشافعي وأبي حنيفة ، ثم كثرت العلوم بين العرب في المدن وضعفت وضعف سندها في القرن العاشر للهجرة ، إلى أن أخذت تتطور تطورا جديدا أواخر القرن الثالث عشر وأوائل هذا القرن على ما سيجيء.

٤

وأهم العوامل في اضمحلال العلم في ديار الإسلام زهد الملوك والأمراء فيها واشتغال الناس بالفتن والغوائل. ومذ أخذ العلماء يتعلمون علوم الدين للجاه والمال ، ضعفت علوم الدين والدنيا معا. وأصبح السلطان للممخرقين والمعطلين والمتهوسين بمسائل الكشف والولاية من علماء الرسم ، وليس الغرض من العلوم كما قال ابن ساعد الاكتساب بل الاطلاع على الحقائق ، وتهذيب الأخلاق ، على أن من تعلم علما للاحتراف لم يأت عالما وإنما يجيء شبيها بالعلماء. ولقد كوشف علماء ما وراء النهر بهذا الأمر ، ونطقوا به لما بلغهم بناء المدارس ببغداد ، فأقاموا للعلم مأتما ، وقالوا كان يشتغل به أرباب الهمم العلية والأنفس الزكية الذين يقصدون العلم لشرفه والكمال به ، فيأتون علماء ينتفع بهم وبعلمهم ، وإذا صار عليه أجرة تدانى إليه الأخساء وأرباب الكسل ، فيكون ذلك سببا لارتفاعه ، ومن هنا هجرت علوم الحكمة وإن كانت شريفة لذاتها.

إن الذين يولعون بالعلم للعلم في هذا العالم قلائل جدا ، ولكنهم يكونون على الأكثر ممن نسميهم أو أكثرهم بأهل النبوغ والعبقرية ، يتفانون في مقصدهم ويأتون بالجديد يبدعون ويبرّزون على من اتخذوا العلم آلة للمظاهر وعنوانا للتصدر ، وهم هم الذين يذهبون بفضل الشهرة في الأرض ، وتبقى أعمالهم شاهدة لهم بعد موتهم أحقابا ودهورا ، ومن هذا الفريق أنجبت الشام قديما وحديثا جماعة افتخرت بهم ، وعدّوا بأعمالهم بالقياس إلى حال هذا القطر وإلى مجموع علماء الأمة كتلة صالحة أثرت تأثيرا محمودا في العلم والمدنية ، وقد عرفنا تراجم أكثر رجال العهد العربي لقربه منا ، ولا طراد التدوين في العرب في أغلب العصور على طريقة حسنة في الجملة ، فوقفنا بها على منازعهم وأعمالهم. وغابت عنا تراجم كثير من المهندسين والنقاشين والمصورين والموسيقيين لأن القوم على ما يظهر يحسبون هذا الصنف النافع من الناس من أهل الصناعات فقط لا من أهل العلم. كأن العلم كله على اختلاف ضروبه ليس صناعة من الصناعات. وقد اصطلح المتأخرون على أن المراد بالعلم إذا أطلق يقصد منه العلم الديني. ومن الغريب أن بعض المتأخرين ممن دوّنوا تراجم أهل عصورهم حرصوا على تراجم المجاذيب والممخرقين ولم يذكروا مثلا تراجم أهل تلك

٥

الأيام من المقدرّين والبنائين وغيرهم ممن خلدوا بأعمالهم مدنية أعصارهم.

لم يتسلسل العلم قرونا طويلة في الشام تبعا لتغير الدول وانصراف الهمم «والعلم مذ كان محتاج إلى العلم» ذلك لأن الشام كان في جميع أدواره ممرا للفاتحين يطمع فيه جيرانه ، بل البعيدون عنه لتوسطه بين برّ آسيا وإفريقية وأوربا. والقدر الذي عرفناه من رسوخ العلم في ديارنا كاف ولا شك في إنشاء مدنية صالحة خصوصا إذا دعمها ما كان ينهال عليها من علوم أهل العراق والجزيرة ومصر والأندلس وفارس وغيرها. وكأن الشرق مني بالتساهل والإهمال ، وعدم التسلسل في الفكر والاطراد في العمل ، فكان مظهر الحياة الفردية في الأعم الأغلب من حالاته ، وعلى العكس في الغرب فإنه كان ولا يزال مثال الحياة الاجتماعية والتعصب للفكر والاستماتة فيه ، والتسلسل في الأفكار.

ولقد رأينا الغرب في قرونه الوسطى قبيل عهد النهضة يشتد في إرهاق الأفكار الحرة ، وديوان التفتيش الديني يحرق الأنفس البشرية بالعشرات للقضاء على الفلسفة والتجدد ، بيد أن الغرب كان إذا هلك فيه رجل بطريق الإلحاد والخروج عن مألوف القوم ، يقوم غيره من أخلافه في الحال يتناول ما بدأ به سلفه ، ناسيا أن الهلاك يحل به إذا اشتهر أمره. ورأينا في هذا الشرق القريب أناسا ينزعون إلى التجديد والإبداع كان نصيبهم من الحياة ضرب أعناقهم، أو إدخال الرعب على قلوبهم حتى قضوا أعمارهم في خمول وتقية ، وكان نصيب الأمة العربية أن يقل فيها جدا ظهور من يخلفهم في دعوتهم ، وقد يأتي العصر والعصران ولا يظهر فيهما نابغة يذكر وعالم مبدع ، وجاء زمن وهو ليس ببعيد ، وقد أصبح الناس ينكرون البديهيات في العلم ، ويحرمون ما حلل الله من ضروبه النافعة ، فغارت ينابيعه من أرضنا وفاضت في الغرب وزادت مع الأيام فيضانا ، وقويت تقية العلماء ودخل في غمارهم الجاهلون فسقطت هيبة العلم. وكان من نتائج عمل الغربيين تلك الحضارة الحديثة المدهشة ومن تفاشلنا وتجاهلنا هذا الانحطاط المحسوس وإضاعة مدنية الأجداد.

العلم ابن الحرية ، والأدب ربيب التسامح ، وقد شاهدنا أجدادنا في هذه الديار المثال الصالح في هذا الباب على اختلاف العصور والمذاهب ، وكان

٦

العرب في أدوارهم المختلفة يمثلون أجمل صورة من هذا القبيل. فإن كانت أنطاكية وبيروت قبل الإسلام عاصمتي الحكمة والأدب والشرائع ، فقد امتازت بعدهما حلب والمعرة وطرابلس ودمشق وحمص بهذه الخصائص. والعلم بضاعة ثمينة لا تروج الرواج المطلوب إلا في ظل السلام وصلاح السلطان.

هذا شأن العلم ، أما الأدب وهو منظوم الكلام ومنثوره والخطب والرسائل فيتصرف أيضا على هذا المثال ، وبه أدركنا بعض الحالة الاجتماعية والروحية التي كانت عليها تلك الأعصر ، ورأينا فيه تبدلا محسوسا في القرون التالية ، فكانت الآداب في الشام في القرن الأول غيرها في القرن الثاني والثالث ، وقد استحكمت أسباب الحضارة وعم الترف ، ونقلت علوم الأوائل وراجت سوق الشعر في الرابع والخامس في الشمال ، وما لبثت في أواخر هذا القرن أن عراها الكساد قليلا ، ثم هبت إلى الحياة بعض الشيء في السادس والسابع تبعا للحالة السياسية التي كان عليها القطر زمن الحروب الصليبية ، ولم ينشأ في الشام خلال القرنين الثامن والتاسع شاعر يجوز عدّه في مصاف المفلقين على مثال شعراء القرن الثالث والرابع ، أما في القرون الأربعة التالية فضعفت حالة الشعر أكثر من ذلك بما لا يقدر ، وأصبح نظما لا شعرا فقد من أكثر ما نقل من الشعر الروح وبقي جسما له من الشعر قوافيه وأوزانه ، يطرس فيه المتأخر على مثال المتقدم وتتأثر أنفاس الابن بأنفاس أبيه وجده.

إن حكمنا على المنظوم يسوغ أن نورده في المنثور ، كان الإنشاء في القرنين الأولين للإسلام يسير مع الطبع غالبا ونبغ في الشام أفراد كعبد الحميد بن يحيى الذي وضع أساس الكتابة المرسلة ، ورأينا عمر بن عبد العزيز يكتب الكتاب في الإدارة أو السياسة أو القضاء أو في أمر مهم من أمور الدولة في سطرين أو ثلاثة ليس فيه شيء من الكلفة بتة بل هو آية الفصاحة والبلاغة ، وهكذا معظم آل بيته من بني أمية وبني مروان ، ومن نشأ في دولتهم أمثال الحجاج بن يوسف الثقفي وزياد بن أبيه وعتبة بن أبي سفيان وشهدنا التكلف باديا في كتابة القرون التالية التي انتقلت فيها صناعة الكتابة إلى بغداد أو القاهرة وضعف أمرها في الشام. وكان الشام يتبع العراق تارة ومصر تارة أخرى ، حتى إذا كان القرن السادس ، ونبغ في الدولة الصلاحية القاضي الفاضل

٧

بطريقته المستملحة في الكتابة المسجعة على الأغلب ، وحذا حذوه العماد الكاتب ثم ضياء الدين ابن الأثير صاحب المثل السائر وغيرهما من كتاب الدولة أخذت تضيق حلقة الكتابة وهي احتذاء مثال المجودين من القدماء لحصرها في قيود الجناس والبديع والأسجاع فجمدت القرائح وقل المبرزون فيها المجيدون لصناعتها ، فما بالك بالإنشاء الذي هو ابتكار المعاني والإبداع في القوالب. وإذا استطعنا أن نعد عشرة كتاب في القرن الواحد لا نقوى على عدّ منشئ واحد فيه. وحكمنا هذا مبنيّ على ما قرأناه فيما خلفه السلف في هذه الديار من الكتب والآثار المبعثرة في بطون الدفاتر ، وربما كان في المفقود الذي لم يصلنا من هذا النوع ما يؤهلنا لو ظفرنا به ، أن نصدر حكما أصح من هذا على فنون الإنشاء والكتابة والشعر والنظم ، والإنشاء من الكتابة كالشعر من النظم.

ولو لم ينبغ في الكتابة من المؤلفين أمثال القفطي وياقوت وابن أبي أصيبعة وابن العديم ثم الصفدي وابن فضل الله والمقريزي والشهاب الحلبي وأمثالهم في القرنين السابع والثامن لقلنا إن الانحطاط في الكتابة بدأ في الشام منذ القرن السادس ، بيد أنها أصبحت في الحقيقة سجعا كسجع الكهان بظهور ابن عربشاه الدمشقي وابن حجة الحموي وأمثالهما في القرن التاسع ، أما في القرن العاشر وما بعده فإن الكتابة كالشعر كانت إلى التكلف والسجع غالبا، ومن أفلت من المؤلفين من قيود التكلف ، ونجا من الترصيع والتسجيع ، جاء كلامه مقبولا في الجملة وقليل ما هم.

بقيت الكتابة والشعر ترسفان في قيودهما القديمة إلى أوائل القرن الرابع عشر أيام نشأ للأمة في مصر بضعة شعراء ومنشئين أدخلوا الآداب في طور جديد ونزعوا عنها ثيابها البالية، وألبسوها حلة قشيبة ، فقام من المنشئين أمثال محمد عبده وإبرإهيم المويلحي ثم المنفلوطي وطه حسين والعقاد وأضرابهم. ومن الشعراء محمود سامي وإسماعيل صبري ثم حافظ إبراهيم وأحمد شوقي وتلك الحلبة ، وانتشرت كتاباتهم وقصائدهم في العالم العربي ومنها اقتبس شعراء الشام وكتابه وبطريقتهم اقتدوا وغيروا أسلوبهم من حيث يشعرون أو لا يشعرون. وما أسلوبهم إلا الجمع بين متانة القدماء ورقة المحدثين ،

٨

وأصبح لهذا العصر طراز خاص عرف به لم يكن له منذ عرف تاريخ الأدب العربي أي منذ زهاء خمسة عشر قرنا. وكان للصحف والمجلات ولانتشار الآداب الانكليزية والفرنسية والتركية وغيرها تأثير كبير في هذا الانقلاب الأدبي في ديارنا ، والمبرزون فيه ما زالوا قلائل جدا ، ويرجى أن لا يمضي عقدان أو ثلاثة من السنين حتى تكون الشام أخت مصر في هذا الشأن مع مراعاة النسبة بين حالة القطرين السياسية ، والنظر إلى وفرة السكان والغنى ، وتوفر أسباب التعليم العربي في القطر المصري.

العلم والأدب عند أقدم شعوب الشام :

صمت تاريخ العلم في هذه الديار عن ذكر الرجال الذين اشتهروا مثلا على عهد الحثيين ومن كان قبلهم من القبائل التي نزلت الشام ، وخلفت فيها آثارا في العمران لا تقوم بغير العلم ، ولم ينقل إلا أسماء قليلة اشتغل أربابها بالعلم الديني والدنيوي على عهد بعض الدول الخالفة ، ولا سيما الكلدان والعبران والرومان واليونان ، ولو لا بعض عاديات أثرت عن الأمم التي تأصل حكمها في بعض أرجاء القطر ، وأخبار نقلتها التواريخ الصحيحة لقلنا إن أكثرهم كانوا أمما بدوية على الفطرة. وأهم ما أثر عن الفينيقيين مما ساعد العلم بالنسبة لعصورهم اختراعهم حروف الكتابة ، بل تحسين أصولها وجعلها مطابقة للأصوات ، ونقلهم لها إلى الأمم التي أبحروا واتجروا معها ، وعنهم أخذتها أمم الحضارة الحديثة النازلة على شواطىء البحر المتوسط وما إليها. وهذا الاختراع أهم ما عرف في القديم كما كانت الطباعة في القرون الحديثة أهم اختراعاتها في نظر العلم. قال بورتر : لا يستحق الذكر من علوم الفينيقيين سوى علم الكتابة بحروف هجائية ، وليس هم أول من استعملوا الكتابة لأنا علمنا من الآثار أنها كانت عند المصريين والكلدانيين قبل عهدهم ، غير أن كتابتهم لم تكن بحروف وفق الأصوات البشرية الأصلية كالحروف الهجائية التي استنبطها الفينيقيون واعتبروا بها كل الاعتبار لأنهم أتقنوا الكتابة ونشروها بين أكثر الأمم المتمدنة لاتساع تجارتهم ، فإن الحروف الهجائية في لغات أوربا وغربي آسيا وشمالي إفريقية مشتقة من حروفهم.

٩

وأخبار العلم قبل الإسلام في الشام ضئيلة ومنها يستدل بعض الاستدلال على مكانة العقل فيه وسلامة أذواق بنيه. وكان النور يسطع بين أهل هذا القطر على حالة متقطعة لا مطردة ، ويخرج العلماء والفلاسفة فرادى ، انتقلت إلينا أسماء بعضهم ممن كانوا يعملون برأسهم أو يعملون مجتمعين مع أقرانهم في ظل الحكومات مثل يوسيفوس المؤرخ اليهودي في سنة ١٠٠ م وله عدة تواريخ وقد صار واليا على الجليل ، وكتب بالسريانية ثم ترجمت كتاباته باليونانية ، ومنهم يوستوس الطبراني اليهودي المؤرخ وفيلون اليهودي الجبلي وفيلودومر الابيكوري من جدر وتيودور الخطيب من عسقلان وأقليدس المهندس النجار الفيلسوف الرياضي الذي نبغ في صور ، كما نبغ فيها فرفوريوس الفيلسوف ، وكان بعد زمن جالينوس ، ونبغ في العلم بولودر المهندس الدمشقي الذي أقام عمود تراجان في رومية وبنى جسرا على نهر الطونة (الدانوب) وجاء في رفنية ارسطيفس الرفني وفلسفته هي الفلسفة الأولى قبل أن تتحقق الفلسفة ، وثاوذوسيوس الفلكي كان في القرن الأول قبل المسيح في مدينة طرابلس ، وممن نشأ في اللاذقية نيقولاوس صاحب جوامع الفلسفة وتوفلس صاحب الحجج في قدم العالم.

واشتهر في هذه القرون الأولى هرمپوس البيروتي تلميذ فيلون المؤرخ الفينيقي في فنون الأدب ، وطوروس البيروتي في الحكمة ، ولوپركوس البيروتي في اللغويات والفلسفيات ، ومناسياس البيروتي في الخطابة ، واشتهر في الآداب مرقس كالريوس پروبس البيروتي ، وفي الجغرافيا مارينوس الصوري ، وكان معاصرا لبطليموس القلوذي في القرن الثاني للمسيح. وكانت أنطاكية على عهد خلفاء الإسكندر اوسلوقس نيقاتور ومن جاء بعده مباءة أدب وحكمة ، ونبغ فيها من الشعراء ورجال الدين والأدب والخطابة على عهد انتشار النصرانية رجال عظام مثل القديس يوحنا فم الذهب اليوناني ، والقديس لوقا ، والشاعر ارستياس. وكما كانت أنطاكية دار حكمة وعلم ، كانت بيروت تدعى مرضعة الحكمة على عهد الرومان ، وكانت فيها مدرسة الفقه التي أسسها على الغالب بعض أباطرة الرومان من الشاميين ـ وقد نشأ من حمص وبصرى أباطرة لبسوا تاج المملكة الرومانية وحكموها ـ وكانت اللغة اللاتينية لسان

١٠

العلم في تلك المدرسة ، ويدرس فيها الفقه والآداب واللغة يقصدها الطلاب من جميع أنحاء المملكة حتى من روم القسطنطينية ومن أبناء العرب ، وقد تخرج بأساتذتها أناس تأفقت شهرتهم في الأدب والشريعة ، وكان قضاة الرومان من خريجيها مدة أربعة قرون ، وكان اثنان من تلامذتها من جملة أعضاء المجمع الذي ألفه الامبراطور يوستنيانوس لتدوين الفقه وقيل ثلاثة وهم اودكسيوس واناطوليوس ودوروتاوس ، ومن أساتذتها اميل بابنيان من بيروت وكان من أشهر فقهاء الرومان ، عد من جملة الفقهاء الخمسة الذين تنزل أقوالهم منزلة شريعة ، وإذا تعارضت أقوالهم فالعمل بقوله ، ومنهم اولبيان وهو من المشهورين من فقهاء الرومانيين ذهب بعضهم إلى أن مولده في بيروت وغيرهم إلى أنه في صور ، ومنهم يوليوس بولس الحمصي وهو مشهور في الفقهاء الرومان ، ومنهم مكسيموس الصوري وهو فيلسوف أفلاطوني ، ومنهم لوسيان السميساطي كان نقاشا فقيها فيلسوفا بليغا ، ومنهم اسباسيوس الجبيلي الخطيب المؤرخ ، ولنجينوس صاحب زينب ملكة تدمر الذي جلبته كما جلبت بولس دي ساموزات أسقف أنطاكية لينشر العلم في أرجاء مملكتها. وممن كان في تدمر وفي أرجاء الشام على ذاك العهد كيّكلراتيس الصوري وعالم المؤرخين پوسانياس الدمشقي ونيكوماخوس المؤرخ. وممن أفضلت عليه زينب صاحبة تدمر وكانت تعرف التدمرية والمصرية واليونانية واللاتينية والعربية على الأرجح وأسماء أولادها عربية ـ كاسيوس ويونيسيوس وأوريجانس فيلسوف قيسارية. ومن علماء بيروت الأقدمين هرمبوس له تآليف عديدة وسيلير الفيلسوف ومناسيا ألف كتابا في البيان والفيلسوف الأفلاطوني طورس والطبيب اسطرابون وساويرس بطريرك اليعاقبة وهذا كان في القرن الخامس للميلاد. وكثر في القرن الثالث للميلاد الكتاب وأرباب القرائح وأهل العلم والحصافة والحكمة ، وممن نشأ من الأدباء والفلاسفة لوسين وجامبلتوس وبلوتين. قال سنيوبوس : حفظت في مدارس الروم في دمشق والإسكندرية علوم الروم من فلك وجغرافيا ورياضيات وطب فجمع علماء الامبراطورية البيزنطية رومهم وعربهم وفرسهم هذه العلوم وأكملوها ونشروها.

١١

مواطن العلم في القطر قديما :

كان العلم يدرس في تلك الأحقاب في أربع مدارس وهي القسطنطينية والإسكندرية ورومية وبيروت ، وقد أنشأ الرومان مدرسة في قيسارية ، وأخرى في آثينة ، وكان لصيدا على ذلك العهد مدرسة حكمة ذات شأن ، ولكن دون مكانة مدرسة جارتها بيروت. وقد ألغى يوستنيانوس مدارس قيسارية وآثينة والإسكندرية ، وأبقى مدارس رومية والقسطنطينية وبيروت ولقب بيروت بأم العلوم وظئر الشرائع. وأعفى ديوقليسيانوس قيصر الفقراء المتخرجين في مدرسة بيروت من الرسوم تنشيطا لهم. وقد خربت مدرسة بيروت قبل الإسلام بالزلازل التي تواترت على الثغر في القرن السادس للميلاد ثم حريق سنة ٥٦٠ م الذي التهم بيروت ومساكنها ومعاهدها.

وكان في غزة مدرسة قديمة تفاخر بمشاهير علماء البيان فيها وكان فصحاؤها على العهد اليوناني المرجع الأول في الفصاحة والبلاغة ، وكان في قيسارية في القرن الثالث للمسيح مدرسة علمية يعلم فيها أوريجين أحد رجال الكنيسة وتخرج منها الأسقف أوزيب أبو التاريخ الكنسي وقيل : إنه كان في أريحا مدرسة أسسها ايليا.

قال استرابون الجغرافي اليوناني من أهل القرن الأول قبل الميلاد : لم يبق في صور وصيدا فينيقيون يضربون في الآفاق للتجارة ، بل كان فيهما كثير من أصحاب علم الهيئة والعلوم الرياضية والخطباء والفلاسفة ، ومدارس تقتبس فيها كل العلوم البشرية ، وقد أنشأت صيدا في أيامنا كثيرا من الفلاسفة منهم بواتيوس تلميذنا وديودوت أبوه ، ونشأ في صور انتيباتر وقبله أبولون ، وكان في أيامنا فيلسوف اسمه بوسيدونيوس كان شيشرون يسمع خطبه.

وكانت اللغة اللاتينية ثم اللغة اليونانية لغة العلم في هذه الأحقاب ، ولم يكن السريان السكان الأصليون دون الرومانيين واليونانيين في تخريج الرجال ، ولا سيما في عهد النصرانية. فقد هبت في المئة الرابعة للميلاد اللغة الآرامية السريانية بحلب وجوارها من رقدتها ، فسار في طليعة أهلها كيرتونا الشاعر الكبير ، نشأ في حلب أو في صقعها ودرس الآداب السريانية في مدرسة الرّها ،

١٢

وهي إحدى المدارس العالية في العالم السرياني ، ونشأ منهم سمعان العمودي وبالاي والقديس إسحاق الأنطاكي ، ومن فحول شعراء السريان ، اخسنايا المنبجي أحد غلاة المنوفسية (الطبيعة الواحدة) ويوحنا بن افتون القنسريني شيد ديرا على ساحل الفرات عرف بدير قنسرين ، وكان جامعة للآداب والمعارف الآرامية عصرا طويلا مات سنة ٥٣٨ وتوما الحرقلي نشأ في دير ترعيل قرب حلب وتلقى العلم في قنسرين وقد ترجم الأناجيل وغيرها من الأسفار المقدسة من اليونانية إلى السريانية.

ومن المدارس التي أنشأها السريان في غير أرض الشام ، ولكنها خرّجت للشاميين رجالا أيضا ، وسرى من علومها على هذا القطر نسمات مباركات ، مدرسة حران ، وقد أخذت الشام ولا سيما شماليها منذ القرن الخامس تغص بالمدارس والأديار حيث تدرس الآداب السريانية ، ويتنافسون مع المدارس العالية الأخرى في ديار السريان ، وكانت حران بمثابة آثينة العالم الآرامي ، كما انبعثت من مدرسة نصيبين في ديار مضر في القرن الرابع شعلة الآداب الكلدانية الآرامية. وفي تاريخ كلدو وأثور أن مدرسة نصيبين كانت أول مدرسة في الشرق ، أزهرت في القرن الخامس والسادس والسابع وبلغت عزها ومجدها ، واشتهرت مدرسة نصيبين أكثر من مدرسة اورهاي اشتهار مدرسة المدائن وغيرها ، وكان صيتها في فارس والروم وإيطاليا وافريقية ، وهي أول كلية لاهوتية بل أول جامعة درّس فيها علم الإلهيات ، وظهر منها علماء كفاة كتبوا في الفنون ولا سيما في الإلهيات. واشتهر اليعاقبة كالنساطرة في العلم والتأليف. والنسطوريون أكثر عددا ، واليعاقبة أكثر مادة. وكان يرشح من علوم هؤلاء الأشوريين على الشام شيء كثير للاشتراك في اللغة والدين إذ ذاك.

هذا بعض ما انتهى إلينا من أخبار العلم ونوابغه في الشام من الفينيقيين والسريانيين والرومانيين والبيزنطيين وما زالت بعض آثارهم وأخبارهم شاهدة بفضلهم ، وأنهم ليسوا دون من خلفهم في أمور كثيرة ، مما اهتدى إليه العقل البشري ، فإن حرمنا كتبهم لأن الكتابة كانت على حالة ابتدائية فلم نحرم كتابات لهم مزبورة على بعض الأحجار ، دونوا فيها أعمالهم

١٣

الحربية ومآثرهم العلمية ، لا جرم أن من ينشىء هذه المصانع وينزل فيها لا بد أن يكون على جانب من الغنى ، وهذا لا يزكو إلا بالعلم المختلف الضروب وفي ظل حضارة بديعة.

ما حمل العرب من العلم إلى الشام :

تاريخ العلم في العرب من أغرب ما سمع في تاريخ البشر ، كانوا أول ظهورهم نصف متمدنين يكثر فيهم الأميون ويقل من يكتب فيهم حتى في أهل الطبقة الأولى ، ويعد فيهم من الممتازين من يحسن الكتابة ، خرجوا فجأة من ظلمات الجهل إلى أنوار العلم ، ومن ضيق البداوة إلى متسع المدنية. ولما جاء الإسلام لم يكونوا مولعين بغير الشعر والخطب ، لا يعرفون غير الفصاحة والبلاغة ، وهما في نظرهم جماع كل العلوم ، ينقلون أنسابهم وأخبارهم في الصدور ، وعلومهم في الطب والنجوم عبارة عن تجارب شخصية أو تقليدية ، ولم يكن التدوين يعهد عندهم ، وكانت حدثت هذه الكتابة بالخط العربي قبل الإسلام بقليل نقلها إلى الحجاز حرب بن أمية ، وكان قدم الحيرة فعاد إلى مكة بهذه الكتابة. أخذت الكتابة من واضعها مرامر بن مرة. وأول من علم بمكة الكتابة عبد الله بن سعيد بن العاص بن أمية أمره الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعلم الكتاب بالمدينة ، وكان ممن أسر ببدر ولا مال له ، فقبل منه أن يعلم عشرة من غلمان الأنصار الكتابة ويخلي سبيله ، فيومئذ تعلم الكتابة زيد بن ثابت.

ولما فتحت الشام وكانت أشبه بنصف عربية بمن حكمها من الغسانيين في الجنوب والوسط والتنوخيين في الشمال من عمال الروم ومن كان ينزلها من القبائل والبطون العربية في أرجاء تدمر والفرات وغزة وسينا ، كان الشعر مما يفاخرون به ، وإذا نشأ فيهم شاعر رفعوا من شأنه واعتمدوا على قريحته في الشدائد. وكان جبلة بن الأيهم من ملوك الغسانيين شاعرا مجيدا يعجب بالشعر ويجيز عليه وهو ممدوح حسان بن ثابت ومن أهل بيته فصحاء لا يستهان بهم. جاء الشام في الجاهلية كثير من شعراء جزيرة العرب وكأنهم كانوا ينزلون على أهل جيلهم وقبيلهم ، ومنهم امرؤ القيس وقد ذكر في شعره بعض أرجاء

١٤

الشام. وكذلك حسان بن ثابت ذكر أرض الغساسنة ومنازلهم. وأقام المتلمس المتوفى سنة ٥٨٠ م في حوران عند الغساسنة إلى وفاته.

جمع القرآن ونشره في الشام :

جمع القرآن على عهد رسول الله (عليه الصلاة والسلام) على ما روى ابن سعد أبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء وزيد بن ثابت وسعد بن عبيد وأبو زيد ثابت. وكان مجمّع بن جارية قد جمع القرآن إلّا سورتين أو ثلاثا. وكان ابن مسعود قد أخذ بضعا وتسعين سورة وتعلم بقية القرآن من مجمّع. قال وكان بقي على مجمع بن جارية سورة أو سورتان حين قبض النبي وفي رواية أن من جمّاع القرآن عدا من ذكروا ، علي بن أبي طالب وعبيد بن معاوية. وقال محمد بن كعب القرظي : جمع القرآن في زمن النبي صلى الله وسلم خمسة من الأنصار : معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبيّ بن كعب وابو أيوب وأبو الدرداء فلما كان زمن عمر بن الخطاب كتب إليه يزيد بن أبي سفيان : إن أهل الشام قد كثروا وربلوا وملأوا المدائن ، واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم ، فأعنّي يا أمير المؤمنين برجال يعلمونهم. فدعا عمر أولئك الخمسة فقال لهم : إن إخوانكم من أهل الشام قد استعانوني بمن يعلمهم القرآن ويفقههم في الدين ، فأعينوني رحمكم الله بثلاثة منكم ، إن أجبتم فاستهموا ، وإن انتدب ثلاثة منكم فليخرجوا ، فقالوا : ما كنا لنتساهم. هذا شيخ كبير لأبي أيوب ، وأما هذا فسقيم لأبيّ بن كعب. فخرج معاذ وعبادة وأبو الدرداء. فقال عمر : ابدأوا بحمص فإنكم ستجدون الناس على وجوه مختلفة منهم من يلقن ، فإذا رأيتم ذلك فوجّهوا إليه طائفة من الناس ، فإذا رضيتم منهم فليقم بها واحد ، وليخرج واحد إلى دمشق والآخر إلى فلسطين. وقدموا حمص فكانوا بها حتى إذا رضوا من الناس أقام بها عبادة ، وخرج أبو الدرداء إلى دمشق ، ومعاذ إلى فلسطين. وأما معاذ فمات عام طاعون عمواس ، وأما عبادة فصار بعد إلى فلسطين فمات بها ، وأما أبو الدرداء فلم يزل بدمشق حتى مات.

وهذه أول بعثة علمية حجازية أتت الشام لتعلم أهلها وتثقفهم. ويرجع الفضل الأول في اقتراح إنفاذها لأحد أبناء أبي سفيان النجباء كما كان أبو سفيان

١٥

وأبو حرب نقلا الخط العربي إلى الحجاز ، والشام مدينة لأمية في أمور كثيرة لاشتراكها في خدمة الحضارة اشتراكا عمليا.

قال زيد بن ثابت : أرسلت إلى أبي بكر فأتيته فإذا عمر بن الخطاب عنده فقال أبو بكر : إن عمر أتاني فقال لي إن القتل قد استحرّ بالقراء يوم اليمامة وإني أخشى أن يستحر القتل في القراء في المواطن كلها فيذهب كثير من القرآن ، فأرى أن يجمع القرآن بحال فقلت لعمر : كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله؟ فقال عمر : هو والله خير فلم يزل عمر يراجعني في ذلك حتى شرح الله له صدري ورأيت ذلك الذي رآه عمر. قال زيد بن ثابت : قال أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك. قد كنت تكتب الوحي لرسول الله فتتبّع القرآن واجمعه ، قال زيد : فو الله لنقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ من الذي أمرني به من جمع القرآن ، أجمع من الرقاع واللخاف (١) والعسب (٢) وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره. فكانت الصحف عند أبي بكر حياته حتى توفاه الله ثم عند عمر حتى توفاه الله ، ثم عند حفصة ابنة عمر ـ رواه صاحب الفهرست.

وأمر عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه سنة ثلاثين بنسخ المصحف الذي كتب في زمن سلفه أبي بكر وتفريقه في الأمصار ، وكان بلغ عثمان ما وقع في أمر القرآن من أهل العراق فإنهم قالوا : قرآننا أصح من قرآن أهل الشام ، لأنا قرأنا على أبي موسى الأشعري ، وأهل الشام يقولون : قرآننا أصح لأنا قرأنا على المقداد بن الأسود ، وكذلك غيرهم من الأمصار ، فأجمع رأيه ورأي الصحابة على أن يحمل الناس على المصحف الذي كتب في خلافة أبي بكر رضي‌الله‌عنه ، وكان مودعا عند حفصة زوج النبي ، ويحرق ما سواه من المصاحف التي بأيدي الناس ، ففعل ذلك ونسخ من ذلك المصحف مصاحف وحمل كلا منها إلى مصر من الأمصار. وكان الذي تولى نسخ المصاحف العثمانية بأمر عثمان زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد

__________________

(١) اللخاف ككتاب حجارة بيض رقاق.

(٢) العسب بضمتين جمع العسيب وهي جريدة من النخل مستقيمة دقيقة يكشط خوصها.

١٦

الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي. وقال عثمان : إن اختلفتم في كلمة فاكتبوها بلسان قريش فإنما نزل القرآن بلسانهم.

فتح العرب الشام ولم يحملوا إليه غير دين يبعد عن الشرك وعبادة الأصنام ، وغير بلاغة الشعر والخطب المغروسة في طباعهم ، وفطر سليمة جبلت عليها نفوسهم ، فاقتبسوا في الحال مدنية من نزلوا عليهم وتمثلوها وهضموها في أقصر مدة ، وأتوا بعدها بأمور جديدة ، على ما قاموا بمثل ذلك في بغداد ومصر وفارس والأندلس وغيرها. ولقد أظهروا وهم في أوج عزهم من التسامح مع السكان ما دهش له المخالفون واستغربه الموافقون ، ولا غرو إذا فتحوا صدورهم لتعلم العلوم بعد أن ثبت أن الرسول عليه‌السلام أمر زيد ابن ثابت أن يتعلم كتاب اليهود أي يتعلم لغة غير لغة العرب.

العلم والأدب في القرن الأول :

من شعراء الأمويين جرير والفرزدق وكانت للأخطل الشاعر صحبة بيزيد ابن معاوية مدحه وهجا الأنصار ، وما فيهم بيت إلا ويقول الشعر ولم يمسه أحد بسوء ، وكان خلفاء الشام يقربونه على حين كان أهل نحلته يتبرمون بسلاطة لسانه ، حتى إن الأسقف حبسه مرة في الكنيسة بدمشق لشتمه أعراض الناس ، واسترساله في هجوهم ، هذا والملوك تهابه ، والخلفاء تكرمه ، وذكره في الناس عظيم. ومنهم مسكين الدارمي والراعي والراجز العجلي والأحوص وعدّي بن الرقاع القضاعي وعلقمة بن عبدة وجناح بن روح والربيع بن مطر التميمي وحكيم بن عباس بن الأعور الكلبي والحسين بن عبيد الكلابي وأنيف العذري وأسباط بن واصل الشيباني صديق الخليفة يزيد بن الوليد وجواس ابن القعطل الكلبي وعثمان بن الوليد القرشي. وكان معاوية ومن خلفه من خلفاء بني أمية وبني مروان يفضلون عليهم ، ومن شعرائهم نابغة بني شيبان كان يفد على المروانيين فيجزلون عطاءه ، وكان الأمويون يرسلون لأبي العباس الأعمى أحد شعرائهم بعطائه إلى مكة ، وغالوا في الحرص على إكرام الشعراء ما خلا عمر بن عبد العزيز فإنه كان يقصي الشعراء عن حضرته لارتكابهم المطاعن والتشبيب في أشعارهم ، ولكنه كان رضي‌الله‌عنه يفضل (٤ ـ ٢)

١٧

على العلماء فقد كتب إلى والي حمص : «انظر إلى القوم الذين نصبوا أنفسهم للفقه وحبسوها في المسجد عن طلب الدنيا فأعط كل رجل منهم مائة دينار يستعينون بها على ما هم عليه من بيت مال المسلمين حين يأتيك كتابي هذا وإن خير الخير أعجله والسلام». وظلت القبائل في الإسلام إذا نشأ منها شاعر تغتبط وتفاخر ، وإذا عدمته ذلت ، لأنها تعده لسانها الناطق ومدون مفاخرها.

وقد أعطى النعمان بن بشير عامل حمص أعشى همدان شاعر اليمن عشرين ألف دينار من مال اليمانية ، اقتطعها برضاهم من عطائهم دينارا دينارا ، وكان من خلفاء الأمويين مثل يزيد الأول والوليد الثاني من يقول الشعر الجيد وكان عبد الملك من أكثر الناس علما وأبرعهم أدبا.

وقد نشأ في القرن الأول من الفقهاء والمحدثين جملة صالحة في الشام منهم عبد الرحمن بن غنم بن سعد الأشعري الصحابي ، بعثه عمر بن الخطاب إلى الشام يفقه الناس فتفقه عليه عامة التابعين بالشام (٧٨) ومنهم فضالة بن عبيد الصحابي ولي قضاء دمشق لمعاوية وأمّره غزو الروم في البحر (٥٣) ، وأبو الدرداء الخزرجي الزاهد الحكيم المقري ولي قضاء دمشق في خلافة عثمان مات (سنة ٣٢) وأول من أحدث رواية القرآن بدمشق هشام بن إسماعيل وبفلسطين الوليد بن عبد الرحمن. ومن علماء الشام أبو ذر جندب بن جنادة الغفاري وأوس بن أوس الصحابي الشاعر سكن بيت المقدس والرملة (سنة ٣٢) ، ومن أخبارييهم عبيد بن شرية الجرهمي وفد على معاوية بن أبي سفيان وأملى أشياء في أخبار الملوك أخذ عنه علاقة بن كرسم الكلابي أيام يزيد بن معاوية ، وكان عارفا بأيام العرب وأحاديثها وهو أحد من أخذت عنه المآثر وربما جاز أن يعدّ أول من دوّن التاريخ في الشام.

ومن علماء الشاميين أبو إدريس الخولاني فقيه الشام وقاضيه ، وعمرو البكالي المحدث الفقيه ، وبشير بن الوليد الأموي كان يقال له عالم بني مروان ، وإبراهيم بن كثير بن المرتجل الرملي ، وكان عبادة بن الصامت والي بيت المقدس لعمر بن الخطاب قرأ عليه أبو سلام الحبشي واسمه محظور ويقال الباهلي الدمشقي وشهر بن حوشب الأشعري المحدث (١٠٠) ، وبلال بن أبي الدرداء الأنصاري

١٨

قاضي دمشق (٩٣) ، وأبو مسلم الخولاني شيخ الفيحاء وزاهدها من سادات التابعين ، وروح بن زنباع يكنى بأبي زرعة ، ويقال بأبي رنباع الجذامي الفلسطيني كان له اختصاص بعبد الملك بن مروان ، ورجاء بن أبي سلمة الفلسطيني المحدث. ومالك بن دينار أحد الأعلام أقام في القدس (٢٣) وجبير بن نفير الحضرمي عالم أهل الشام (٧٩) وغيلان بن مروان الدمشقي من كبار المعتزلة وكان الحسن يقول إذا رأى غيلان في الموسم «أترون هذا هو حجة الله على أهل الشام ولكن الفتى مقتول» وكان أوحد دهره في العلم والزهد قتله هشام بن عبد الملك وقتل معه صاحبه صالحا لأنه كان ينال من بني أمية. وإسماعيل بن عبد الله بن أبي مهاجر مولى بني مخزوم من أهل دمشق كان يؤدب أولاد عبد الملك بن مروان.

ونشأ من الكتاب في هذا القرن عبد الله بن أوس الغساني سيد أهل الشام وأسود بن قبيس الحميري من كتاب بني أمية بدمشق ، وفي الفلسفة ساويرا سابوخت أسقف قنسرين اليعقوبي كان على عهد السفيانيين في الشام ممثل الحركة الأدبية وقد جادل الموارنة بحضرة الخليفة معاوية سنة (٦٥٩ م) وألف رسائل ومقالات عديدة في الحساب والفلك والاصطرلاب والفلسفة واللاهوت ، ويعقوب الرّهاوي وغيرهم ، ونشأ في القرن السابع للميلاد أي في القرن الأول للهجرة كالينيكيوس البعلبكي وهو مهندس كيماوي قيل إنه مخترع النار اليونانية المركبة من النفط والكبريت والقطران وغيرها ، وكان أبو قرة أول كاتب نصراني ديني كتب بالعربية. ومن مشاهير النصارى في القرون الأولى القديس يوحنا الدمشقي (٧٨٠ م) كان علما في عصره وألف كتبا كثيرة في اللاهوت ومنهم قزما المنشى وقزما البار وندراوس الاقريطشي والبطريرك صفرونيوس.

عناية خالد بن يزيد بالنقل وأوائل التدوين :

كانت الكتب التي ترجمت لأبي هاشم خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي حكيم آل مروان وعالم قريش ، أول نقل أو تعريب كان في الإسلام في عاصمة الشام. وخالد بن يزيد هذا زهد في الخلافة وعشق العلم ، وإذا أنشأ جده معاوية ملكا في الشام دام ألف شهر ، فإنه أنشأ بعلمه مملكة

١٩

باقية بقاء الدهر ، فقد «أمر باحضار جماعة من فلاسفة اليونانيين ممن كان ينزل مصر وقد تفصح بالعربية ، وأمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي» والصنعة صنعة الكيمياء. فترجمت له كتب فيها كما ترجمت له كتب في الطب والنجوم. وممن نقل له اصطفن القديم ، نقل كتب الكيمياء ، وكان خالد بصيرا بالطب أخذه عن يحيى النحوي وأخذ الكيمياء عن مريانس الرومي وأتقن هذين العلمين وألف فيهما وله رسائل وكتب في غير هذه الأغراض ، دالة على معرفته وبراعته ، وله شعر كثير ومقاطيع دالة على حسن تصرفه وسبقه. وكان من الطبقة الثانية من تابعي أهل الشام وقيل عنه قد علم علم العرب والعجم ، وكان خطيبا شاعرا ، فهو أول من أعطى التراجمة والفلاسفة ، وقرب أهل الحكمة ورؤساء أهل كل صناعة ، وترجم كتب النجوم والطب والكيمياء والحروب والآلات والصناعات. وفي الفهرست : ويقال والله أعلم إنه صح له عمل الصناعة وله في ذلك عدة كتب ورسائل وله شعر كثير رأيت منه نحو خمسمائة ورقة ورأيت من كتبه كتاب الحرارات ، كتاب الصحيفة الكبير ، كتاب الصحيفة الصغير. كتاب وصيته إلى ابنه في الصنعة.

جاء في التاريخ العام : لما جاءت العرب وجدت المدنية اليونانية راسخة في جميع الأقطار التي داهمتها أولا مثل الشام ومصر والعراق فاقتربت من المملكة البيزنطية وبدا لها من وراء مدنيتها النبوغ اليوناني كما تجلى لها من الفرس المدنيات القديمة من الهند والصين على نحو ما وجدت في بلاد كنعان ومصر تذكارات من الأمم القديمة التي لا تزال عليها مسحة الأجيال العريقة في القدم ومصانعها وأعمالها.

ولما بلغت الدولة العربية غاية عزها ، ثم تمزقت وتقسمت أصبح دينها واحدا ولسانها واحدا وقوانينها المعمول بها واحدة ، وذلك من نهر السند إلى أعمدة هركول وتمت الوحدة بين أولئك الشعوب المختلفة ديارهم ، وأخذوا يقتبس بعضهم عن بعض من تبادل التجارة وسياحة الأفراد وتنقل الجيوش والأمم وانتشار المعتقدات والأخلاق والأفكار يتصادمون ويتمازجون ويتحدون ويتداخلون وكل شعب ينقل إلى الآخر عاداته وتاريخه وملكاته الطبيعية.

٢٠