خطط الشام - ج ٤

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٤

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٧٦

ويعادل ثمن هذا الصنف ثمن العنب الزيني.

والفضي من أجود أعناب وادي التيم ثمرته مستديرة متوسطة الجرم قشرتها رقيقة صفراء ولبها يكاد يكون مائيا وبزورها متوسطة. أما القاصوفي فثمرته أسطوانية منتفخة قليلا في وسطها نصف لحمية بيضاء إلى خضرة وهي أصغر قليلا من ثمرة العنب الزيني.

البرتقال والليمون الحامض : ذكر علماء النبات أن موطن هاتين الشجرتين الأصلية في شرق آسيا ، وأن الفضل يعود إلى العرب في نقلهما إلى سواحل بحر الروم. وهما ينجبان في الغور وسواحل الشام ولا بد من إسقائهما. أما في مناطق السهول المرتفعة والجبال كالغوطة وحوران وحلب والزبداني مثلا فإن هبوط الحرارة في الشتاء إلى بضع درجات تحت الصفر يودي بحياتهما ، ولهذا لا يزرعان في تلك الأرجاء إلا في حدائق البيوت حيث يكونان بين جدران تقيهما تأثير الرياح الباردة فيهما.

وأوسع بساتين البرتقال والليمون اليوم في يافا (نحو ٢٠٠٠ هكتار) ثم في طرابلس (نحو ١٢٠٠ هكتار) ويليهما منطقة الإسكندرونة (درت يول وبياس) وبيروت وصيدا وصور وعكا الخ.

وأجود أصناف البرتقال اليافاوي أو اليافوني (شموطي) ثمرته ضخمة بيضية ذات قشرة غليظة ولب قاس لذيذ ، لكنه قليل العصارة لا سيما بعد تمام نضجه. وهو ينقل بسهولة إلى القاصية مثل إنكلترا حيث يرجح على كثير من الأصناف. ومما يستملح فيه سهولة تقشيره دون تلويث اليدين.

ومن أكثر الأصناف انتشارا البرتقال البلدي وهو ذو ثمرة كروية أصغر من ثمرة اليافاوي قشرتها رقيقة ولبها كثير العصارة. وهذا الصنف لا يصلح للأسفار مثل اليافاوي. ومن أصناف البرتقال الماوردي وهو يعرف بقشرة رقيقة حمراء ملتصقة باللب ولب أحمر كثير العصارة. وهذا الصنف لا يألف الأسفار الطويلة وتقشيره صعب.

كان يقدر محصول البرتقال في يافا في سنة (١٩١٤) أي في بدء الحرب الكبرى بنحو ٠٠٠ ، ٨٥٠ ، ١ صندوق ، أما بعد الحرب فقد هبط المحصول إلى ٠٠٠ ، ٤٠٠ ، ١ صندوق تقريبا. وقد زاد في العهد محصول البرتقال اليافاوي وبعبارة أصح

١٨١

الفلسطيني أربعة أو خمسة أضعاف ما كان عليه قبل ربع قرن. وكان محصول طرابلس قبل الحرب ٠٠٠ ، ٨٠٠ صندوق من البرتقال و ٠٠٠ ، ٢٤٠ صندوق من الليمون الحامض على وجه التقريب (يحتوي الصندوق على ١٥٠ برتقالة أو ٣٠٠ ليمونة). أما بعد الحرب فهبطت هذه المقادير إلى نصفها. ويشحن معظم محصول يافا إلى إنكلترا ومصر ، أما محصول طرابلس فإلى أوديسا وبلغاريا والقسطنطينية ومصر. وكذا محاصيل صيدا والإسكندرونة.

المشمش : يمكن غرس المشمش في جميع أقاليم الشام الزراعية وليس فيها ما لا يصلح له سوى الجبال العالية حيث يخشى على أزهاره وفراخه من تأثير الصقيع فيها في الربيع. وهو لا ينجب في غير الأرض التي يمكن إسقاؤها. وأعظم مغروساته في الغوطة والمرج ووادي العجم ووادي بردى وحول صيدا وبيروت وبعلبك وأنطاكية وأرسوس. ومنه قليل في كثير من البلدان التي يمكن فيها إسقاؤه. وأشهر أصنافه اليوم الحموي والبلدي والسندياني والوزري والعجمي والكلابي في دمشق ثم اللوزي في الساحل.

وللحموي ثمرة متوسطة الحجم صفراء ذهبية لامعة تذوب في الفم وتهضم بسهولة وداخلها بزرة حلوة. وهي أجمل ثمار المشمش منظرا وألذها طعما وأعطرها رائحة وأغلاها ثمنا تؤكل رخصة ولا يصنع منها قمر الدين. أما ثمار المشمش البلدي فكبيرة ضاربة إلى حمرة ضمنها بزور حلوة وتجيء في اللذة بعد الحموي ، تؤكل رخصة ويصنع منها ألذّ المفلقات (النقوع). وتبلغ أشجار هذا الصنف عشرين في المئة من مجموع شجر المشمش في الغوطة والمرج. أما الحموي فلا يزيد على خمسة في المئة. ويشبه المشمش السندياني الحموي بشكل ثماره وشتان بين الثمرتين في اللذة لأن السندياني هو تقليد الحموي كما يقول الدمشقيون. ونسبة البلدي إلى الوزري من هذه الوجهة كنسبة السندياني إلى الحموي أما المشمش العجمي فثماره كبيرة جميلة المنظر صفراء إلى خضرة لبها قاس وطعمها سكري لكنه مجرد عن طعم المشمش الخصوصي بل هو يشبه طعم الدراق ، ولهذا لا نستملح هذا الصنف وهو غير شائع. وثمار المشمش الكلابي أصغر الثمار حجما وأردؤها طعما وهي صفراء إلى حمرة بزورها مرة ، وهذا الصنف أشهر الأصناف في الغوطتين إذ تبلغ نسبته نحو ٧٠ في المئة من مجموع

١٨٢

شجر المشمش ، ومنه يصنع قمر الدين المشهور. وهو يولد من بزوره ولا يطعم فهو إذن أقرب الأصناف إلى المشمش البري. وثمرة المشمس اللوزي في الساحل شبيهة بثمرة الحموي بدمشق ولعلهما صنف واحد.

دمشق مركز تجارة المشمش وما يصنع منه ، ومنها يصدر قمر الدين والنقوع وبزر المشمش إلى مصر والأناضول وإلى أميركا الشمالية ويقدر اليوم متوسط حاصلات المشمش في الغوطة والمرج بنحو اثني عشر مليونا من الكيلو غرامات سنويا منها نحو ٨٠ في المئة من المشمش الكلابي الذي يصنع منه قمر الدين ، ويظهر أن مستغلاته قبل الحرب الكبرى كانت أعظم منها اليوم.

الفستق : إن غابات البطم في البلعاس وبقية أشجار الفستق الهرمة في قرية عين التينة تحمل على دعوى أن الشام من البلاد التي تعد بلاد الفستق الأصلية. وتكاد زراعة الفستق لا تتجاوز اليوم حلب حيث تأتي أجود ثماره وألذّها وأغلاها ومن أصنافه في تلك المدينة الأبيض المراوحي والعاشوري والعليمي والباتوري وناب الجمل والعينتابي ، ويقدر ما ينتج من ثماره حوالى حلب بنيف ومائة ألف كيلو في السنة.

الحيوانات الدواجن في الشام :

الخيل ـ الخيل في الشام ثلاثة أصناف العراب أو الأصيلة ، والبراذين أو ما تعرف اليوم بالكدش ، والمولدة وهي التي تولد من أم عربية وأب أعجمي أو على العكس. ففي الحالة الأولى يسمى المولّد هجينا ، وفي الثانية مقرفا.

تجلب الكدش من الأناضول خاصة وهي بشعة المنظر إذا قيست بالخيل العراب ، لا تركب بل تصلح لحمل الأثقال أو جرها أو درس الحصائد وعددها عظيم يبلغ نحو سبعين في المئة من مجموع خيل الشام. أما الخيل المولّدة فأجمل من البراذين وأقوى وهي تركب أكثر ما تستعمل في جر المركبات في المدن ونسبتها للمجموع نحو ٢٠ في المئة.

وأجمل الخيل في العالم هي العراب وتحليتها علميا كما يلي : مستقيمة الرأس متوسطة الجثة طول أعضائها متوسط لها رأس مربع وجبهة مسطحة ومقدم مستقيم ووجه متوسط الطول ، وفكان متباعدتان ومنخران جامدان ومرنان معا ، وأذنان

١٨٣

حساستان وعينان كبيرتان تنمان عن ذكاء ، وعنق رشيق شديد العضل ، وظهر مستقيم وردف أفقي مكتنز ، وعجزان مستديران وصدر واسع وبطن صغير ، وقوائم رشيقة قوية العضل عمودية لا عيب فيها ، وأوتار جلية ومفاصل عريضة وجلد رقيق مرن وشعر لا مع قصير وعرف وسيب طويلان ناعمان متموجان. ومجموع الجواد العربي آية في انتظام تكوينه فهو جميل قوي شهم ، ولا ريب أنه أكمل جواد على وجه الأرض.

ويختلف لون الخيل العراب وقد استفاضت شهرة الشهب والشقر والكمت. وأجملها الشهب المدنرة أي التي يخالط الشهبة فيها نكت سود (أبيض مبقج أو أزرق مبقج).

وزن الجياد العراب بين ٤٠٠ و ٤٥٠ كيلو غراما ارتفاعها ٤٢ ، ١ إلى ٥٥ ، ١ متر ، ودورة صدرها ٧٢ ، ١ إلى ٧٨ ، ١ متر ، وتصلح الخيل العربية للركوب والسباق خاصة وإن من إسفاد ذكورها على إناث إنكليزية غير كريمة منذ بضعة قرون تولدت الجياد الإنكليزية الصافية السبّاقة الشهيرة التي يقصر اليوم عن إدراكها كل جواد في حلبة السباق.

وأجمل الخيل العراب ما كان في دمشق وحمص وحماة ولدى بعض الأسر والعشائر القديمة كالدنادشة في تل كلح والموالي في شمال الشام. ولا تزيد نسبتها على عشرة في المائة من مجموع عدد الخيل لدى أهل الحضر من الشاميين.

الحمير ـ في الشام ثلاثة عروق من الحمير : الآسيوي والمصري والقبرصي أو الأوربي. فالصنف الأسيوي هو الأشهر (تبلغ نسبته ٩٥ في المئة من مجموع حمر الشام) لونه إلى سواد وارتفاعه متر إلى متر وربع ، وهو حيوان الفقراء ، يصلح للركوب والحمل ولا يوازيه حيوان بصبره وقناعته وفوائده الجمة إذا قيست بالعلف القليل الذي يعلفه. أما الحمر المصرية فبيضاء اللون ارتفاعها أكبر من ارتفاع الحمر الأسيوية ولا تستخدم إلا للركوب وهي جميلة المنظر سباقة في نوعها وثمن الجيد منها غال لا سيما في المدن. أما الحمر القبرصية فتعرف من كبر قدها إذ يبلغ ارتفاعها ٣٠ ، ١ إلى ٤٠ ، ١ متر وهي تستعمل في سفاد إناث الخيل للحصول على بغال عظيمة القد قوية البنية.

البغال ـ تحصل من إسفاد الحمر القبرصية على البراذين (كدش) وهي

١٨٤

ذات قدّ يقرب من قد البراذين فهي إذن صغيرة القد وفائدتها بقناعتها وقوتها وتحملها الأتعاب وقيامها بأعمال تشق على كل حيوان غيرها. فهي تستخدم مثلا في الحرث بمحاريث حديثة لأن بقر الشام صغير الجثة لا يقوى على إثارة الأرض بها. وتحمّل أثقالا في المناطق الجبلية الوعرة المسالك كوادي التيم والقرى الجبلية من إقليم البلان وتجر المركبات الضخمة المحملة بضاعات ومؤنا على الطرقات المعبدة في لبنان وبين دمشق وبيروت. ومن منا لم ير في لبنان وبيروت المركبات الشهيرة التي تسمى (كارات) يجرها أربعة بغال مصفوفة بعضها أمام بعض على سطر واحد. ولقد ترك الجيش الإنكليزي في الشام عقب الحرب الكبرى عددا عظيما من البغال الكبيرة القد لا تبرح بقاياها في دمشق إلى يومنا هذا. وهي تتطلب عنايات كثيرة وعلفا زائدا ولا تتحمل المشاق بقدر البغال الشامية.

البقر ـ بقر الشام من العرق الآسيوي القصير الرأس ذي الجبهة المستقيمة العريضة وهو على ثلاثة أصناف : البلدي والعكش والجولاني (أو الخميسي) فالبقر البلدي شائع في الغوطة وفي أرجاء العاصي ويسميه الحمصيون البقر الحلبي والحمويون البقر الشامي وهو كبير طويل القامة (متر وربع إلى متر ونصف) صلب العود قصير الرأس والقرون ناعم الجلد تغلب الشقرة على لونه وقد يكون كميتا أو إلى سواد أحيانا. ووزنه ٣٠٠ ـ ٥٠٠ كيلو غرام وهو بالنظر إلى كبر قده أقرب الأصناف إلى البقر الأوربية ولذا يصلح للحرث حرثا عميقا إذا علفت أنثاه علفا غزيرا تحلب في الغوطة طول السنة تقريبا. ويحسب أنها تدر عندئذ ١٢ ـ ١٥ كيلو في اليوم خلال ستة أشهر عقب الوضع و ٨ ـ ١٠ كيلو في اليوم في الثلاثة الأشهر التي تليها ثم ٤ ـ ٥ كيلو في اليوم خلال شهرين آخرين. فيكون الوزن المتوسط لما تدرّه من اللبن في السنة ٢٥٠٠ ـ ٢٧٠٠ كيلو.

ولا يألف البقر البلدي أقاليم الشام بأسرها بل يتطلب إقليما معتدلا ورطبا ، ولهذا يندر أن تراه في غير البساتين وهو لا يقاوم الحر في السهول التي لا ماء للري فيها كحوران والبلقاء وسهول حمص وحماة وغيرها. وعدده ليس عظيما ولا يزيد على ١٠ أو ١٢ في المائة من مجموع بقر الشام. ويسمى البقر الجولاني بأسماء مختلفة فيقال له الخميسي في النبك والزبداني والبزري في حماة. ويغلب

١٨٥

على الظن أنه حصل من إسفاد الثور البلدي على البقرة العكش ولذا جاء قده ووزنه وتكوينه وطباعه بين بين. فإن له رأسا قصيرا وجبهة عريضة وقرنين متجهين إلى الأمام وثوبا أسود في الغالب وقد يكون أشقر أحيانا. وطوله نحو ١٥ ، ١ إلى ٣٠ ، ١ متر ووزنه نحو ٢٥٠ كيلو. وهو يعد في العوامل وتعطي أنثاه قليلا من اللبن. وليس له رقة البقر البلدي وهو أكثر منه تحملا للحر والقر والجوع والتعب. ونسبته للمجموع ١٥ في المئة تقريبا.

وأشهر البقر اليوم هو الذي يدعى البقر العكش في أكثر أنحاء الشام. ويسميه الحمويون القليطي والحمصيون الأناضولي. ولا تختلف تحليته من حيث تكوينه عما ذكر. وله جرم صغير ولا يزيد ارتفاعه على متر وعشرة سنتيمترات إلى متر وربع ووزنه نحو ٢٠٠ كيلو وقد يكون أقل من ذلك فهو إذن لا يصلح للحرث بمحاريث حديثة تغور في التراب كثيرا. ويغلب عليه اللون الأسود وقليلا ما يكون أبرش أو أشقر. ويحتمل هذا الصنف من البقر الجوع والتعب والحر واليبوسه ولهذا تبلغ نسبته نحو ٧٥ في المئة من مجموع بقر الشام. ودرّ أنثاه قليل ويسهل علفه وتسمينه بالغذاء.

الضأن ـ ينتسب للضأن في الشام إلى العرق الشامي أو الآسيوي وهاك تحليته فنيا : رأسه طويل قليلا وجبهته تكاد تكون مستقيمة ، وقرناه معقوفان متجهان إلى الوراء ، وقد يتفرعان ، ووجهه مستطيل ، وعظام منخره طويلة ، ومنظر رأسه ووجهه ينم عن احديداب قليل ، وذنبه عظيم فيه مقدار كبير من الدهن. ووزنه المتوسط نحو ٤٠ كيلو غراما وطوله ٦٥ ـ ٧٥ سنتيمترا. وهو يسمن بسهولة أما مقدار الدرّ في النعاج فمتوسط.

وفي الشام أصناف للضأن أشهرها المسمى (عواس) أو ضأن الموصل وهو شائع في حمص وحماة والبقاع ودمشق ولبنان وغيرها. صوفه أبيض يبلغ كيلو غراما ونصفا إلى كيلو غرامين وقد يزيد على ذلك. وينقص نحو نصفه إذا غسل ويبلغ وزن إليته ٥ إلى ٦ كيلو غرامات وطول الشعرة من صوفه ١٥ ـ ١٨ سنتيمترا.

وما ذكر من الأرقام هو الحد الأوسط ، وربّ كبش سمن في لبنان بورق التوت والكرمة فبلغ وزنه ضعفي ما ذكر ، وبلغ طول الشعرة من صوفه ٣٠

١٨٦

سنتيمترا وزاد وزن إليته على ثمانية كيلو غرامات ، ورقّ صوفه ومرن.

ويرد إلى الشام أصناف أخرى للضأن كالحمراء والبرازية والشقراء والنجدية ثم ضأن أرزنجان أو المور في حلب وهو ذو صوف أحمر أو إلى سواد. وتدر النعجة لبنها ٤ ـ ٥ أشهر فتعطي في اليوم نحو ٥٠٠ غرام. وإذا علفت كما تعلف في حمص والبقاع تعطي ٧٥٠ غراما إلى كيلو غرام من الحليب في كل يوم. ويبدأ جز الصوف في آذار وينتهي في أيار في المناطق الباردة ، وأكثر ما يكون في نيسان.

ويزيد عدد الضأن في الشام على مليوني رأس وتربيته شائعة لدى العشائر البدوية الضاربة في الشرق ومنها الجزيرة. وقد اشتهرت عشيرة الحديديين بحسن تربية الكباش والنعاج الصالحة للسفاد. واشتهر السمن الحديدي نسبة إلى تلك العشيرة التي تقطن منطقة الحمراء ومعرة النعمان في الصيف. وينقل في كل سنة قطعان عظيمة من الغنم من الروم والعراق إلى الشام حيث يستهلك بعضها ويرسل الآخر إلى مصر وجزر يونان وغيرها.

المعز ـ معز الشام من العرق الإفريقي وتحت العرق النوبي (نسبة إلى النوبة) وهي تعرف برأس طويل ووجه قصير على شكل مثلث قاعدته ضيقة ، وجبهته محدبة كثيرا. وهي على صنفين البلدية والجبلية ، فالمعز البلدية يبلغ ارتفاعها ٧٠ ـ ٧٥ سنتيمترا ووزنها ٣٠ ـ ٣٥ كيلو غراما ، ولها ثوب أحمر أو أحمر ملمع ببياض. وقد تكون شهباء أو سوداء أحيانا وقد تجمع ثلاثة ألوان متفرقة : بياض وحمرة وسواد. وإذا كان لونها أحمر وجبهتها بيضاء سميت صبحاء بدمشق ، أما إذا جمعت البياض والحمرة فتسمى عجمية ، وهي جمّاء في الغالب. وإذا نجمت لها قرون تظل صغيرة وكثيرا ما تقطع ، وينمو لكل منها زنمتان طويلتان فتسمى الشاة قرطاء وهي شية حسنة تزيد ثمنها واذناها طويلتان متدليتان وكثيرا ما ينيف طول واحدتهما على شبر ويقطعهما الأكارون إذا أفرطتا في الطول. والبلدية من أجود المعزى الحلوبة فهي إذا صادفت عناية تدر في اليوم ليترين إلى ثلاثة من الحليب مدة ستة أشهر وتدر نصف هذا المقدار تقريبا خلال شهرين آخرين. وهي ترعى في الغوطة العشب النامي حول القني ومجاري الماء وترعى أيضا الفصفصة والبيقية الخضراء ، وكثيرا ما تعلف نحو كيلو غرام من حب الجلبان

١٨٧

صباح كل يوم قبل تسريحها وهذا خاص بالحلوبة منها.

والماعز الجبلية تشبه البلدية بصفاتها الفنية لكنها أقصر منها ، ولها ثوب أكثر ما يكون أسود ، وهي ليست درورا بقدر البلدية. والمعزى الجبلية منتشرة في أنحاء الشام لا تخلو منها قرية وعلى العكس في البلدية التي تكاد لا تخرج عن المدن والمناطق التي يكثر فيها الكلأ في فصول السنة.

الإبل ـ إبل الشام من ذوات السنام الواحد. أما ذوات السنامين فتوجد في جبال فارس والأناضول وبلاد الكرد وتنقل إليها من آسيا الوسطى. ولما كانت تحتمل البرد والسير في المسالك الوعرة فقد فكر الشاميون في إسفاد فحولها على النوق الشامية فحصلوا على هجن لها سنام واحد كأمهاتها وذات جلد على السير في الجبال والأوعار كآبائها. وهذه الهجن شائعة في الجزيرة ولبنان وعجلون وغيرها وهي تعرف بقصر القامة وصغر الرأس.

والركائب من إبل الشام أصناف وأشهرها اليوم إبل الحرة لدى عشيرتي بني صخر والشرارات وغيرهما في البلقاء. وينتقي الجيش ركائبه من هذه الإبل غالبا. ومنها الإبل العمانيات أصلها من عمان وهي ذات رأس نحيف وقدّ أهيف ومزاج عصبي. وجيش الهند يبتاع منها ما يلزمه من الإبل ، ومنها الإبل التيهية أصلها من السودان وترد إلى فلسطين والبلقاء مع القوافل الآتية من مصر. وقد كانت إبل الجيش الإنكليزي من هذا الصنف خلال الحرب الكبرى.

ويطلق الأوربيون كلمة مهري على الإبل السباقة عموما أو على عرق معلوم منها. ويظن أن هذا الاسم مشتق من الإبل المهريّة المنسوبة إلى مهرة بن حيدان وهي مشهورة بالسبق.

والبعير صديق البدوي الحميم ولولاه لزالت البداوة ، فهو يحمل الخيام والماء في المراحل الخالية من الماء ومؤنا تكفي لستة أشهر يقضيها البدوي مع عشيرته في صحراء الشام ، ويحمل البدوي نفسه وعياله وسلاحه وتحلب الناقة بعد الوضع في كل يوم خمسة ليترات إلى عشرة في مدة سنة أو أكثر ، وحليب النوق لذيذ ملين ، وليس لحم الجمل أردأ من لحم البقر الذي يأكله الأوربيون ووبر الجمل ألين من صوف الضأن ومنه تصنع عباءات الوبر العراقية الشهيرة ، وتصنع من جلده قرب عظام منها ما يسع ٢٠٠ ليتر من الماء وتعمل أيضا نعال

١٨٨

قوية لا تفنى من جلد ركبتيه وغيرهما من أعضائه التي تحتك بالأرض بينما يكون الجمل جالسا.

الصناعات الزراعية في الشام :

ليس في الشام اليوم معامل عظيمة للمصنوعات الزراعية كما في أوربا ، لكن لبعض هذه المصنوعات (وإن كانت تصنع على الطرائق القديمة) شأنا كبيرا في الحياة الاقتصادية. وأهم هذه المصنوعات قمر الدين والنقوع والزبيب والدبس والصابون والزيت والسمن والعرق والخمر والجبن والطحين والنشاء.

قمر الدين ـ يصنع أشهر قمر الدين في الغوطة والمرج وقليلا في وادي العجم والزبداني وبعلبك وفي كل مكان فيه مقدار من شجر المشمش ويلزم أربعة أرطال إلى أربعة ونصف من المشمش للحصول على رطل من قمر الدين ، وهو يصنع من المشمش الكلابي ويندر صنعه من المشمش البلدي ، واشتهر منه بدمشق ما يرد من قريتي زملكا وعربيل من قرى الغوطة ، وليس صنعه أمرا عسرا فالمشمش يسحق بالأيدي في غربال موضوع فوق بناء يسمى تيغارا مفروشة أرضه بالاسمنت ثم يغترف العصير بكيلة من خشب ويفرش بمهارة على لوح من خشب بعد أن يطلى اللوح بقليل من الزيت ، وبعدها يوضع اللوح في الشمس يوما ونصف يوم فيجف العصير ويصير شرائح وزن كل منها رطل تقريبا وهي «لفات» قمر الدين المعلومة.

ومعظم القمر الدين الذي يصنع حوالى دمشق يشحن اليوم إلى مصر وشمال الشام ، ويقدر ما يصنع منه سنويا بنحو ٠٠٠ ، ٤٠ قنطار دمشقي وهو المقدار المتوسط ، (يساوي القنطار الدمشقي ٢٥٦ كيلو غراما).

النقوع ـ هي ثمار المشمش المجففة وتسمى بالعربية المفلّق ، تصنع من المشمش البلدي وذلك بأن يوضع المشمش في الشمس على مسطاح من القش مدة أربعة أيام ، ثم تكبس الثمار بين الكفين وتترك يومين آخرين ، ثم ترقق أطرافها بالأصابع ثم تترك يومين أو أكثر فتجف ، ويلزم خمسة أرطال من المشمش للحصول على رطل من النقوع ، ويدل إحصاء المكس في بيروت على أنه صدر منها وحدها سنة ، (١٩١١) ٠٠٠ ، ٦٨٠ كيلو غرام من النقوع ومليون ونيف كيلو

١٨٩

غرام من بزور المشمش وهي تصلح لاستخراج زيت منها.

الزبيب والدبس ـ أجود زبيب في الشام ما يحصل من تزبيب العنب الدربلي في جيرود والرحيبة والريحان ودومة ، ويليه زبيب الصلت. ويصنع الزبيب في كل القرى التي فيها أعناب، وليس في صنعه صعوبة ، فالعنب يغطس بماء فيه شيء من القلي والزيت ثم يفرش على مسطاح مدة ثمانية أيام فيجف. ويحسب أن كل أربعة أرطال من العنب ينتج منها رطل من الزبيب. وللثمار المجففة شأن كبير إذا صحت العزيمة على الاعتناء بصفها وبقطفها وشحنها إلى الديار الأجنبية كما يفعل الزراع حول مدينة أزمير بزبيبهم وتينهم المجفف.

ويصنع الدبس من الزبيب أو العنب ، ففي الحالة الأولى يدرس الزبيب في المعصرة بمدرس من حجر حتى يصير كتلة لزجة ، ثم يوضع في قدور كبيرة ويغمر بالماء مدة ٢٤ ساعة، ثم يؤخذ ماء الزبيب (جلاب أو صليبة) ويوضع في مرجل وتضرم النار تحته حتى يتحصل الدبس. ويلزم مائة رطل من الزبيب للحصول على ٦٠ إلى ٨٠ رطلا من الدبس. واشتهر دباسو قرى معربا ودومة وعربيل بصنع دبس لذيذ يعطرونه بعطر الورد أحيانا.

الصابون ـ أشهر مصابن الشام في طرابلس ونابلس ودمشق وحلب وكلز ، ويبلغ المقدار المتوسط للصابون الذي يصنع سنويا في الشام نحو ٠٠٠ ، ١٣ طن. وصناعته على الأصول القديمة.

الزيت ـ أشهر الزيوت ما يصنع في معاصر لبنان وفلسطين وأشهرها جميعا زيت الرامة، واعتاد أرباب الزيتون في دمشق أن يتركوه مدة طويلة في المعصرة ، فيختمر ويتعفن ويحصل له طعم كريه ، حتى إنه ليشق تصريفه خارج الشام. والداعي إلى ذلك قلة المعاصر بدمشق وخصوصا اعتقاد الزراع بأنه بقدر ما تطول المدة بين قطف الزيتون وعصره تزداد نسبة الزيت المتحصل بالعصر. واعتقادهم هذا صحيح إلا أن زيادة نسبة الزيت لا توازي هبوط سعره المنبعث عن رداءة طعمه.

ويتوقف استخراج الزيت على الأعمال الآتية : (أولا) سحق الزيتون بأسطوانة من حجر يديرها بغل داخل وعاء مستدير من حجر. (ثانيا) كبس الزيتون المسحوق لتفريق الزيت عن الثفل وذلك بمكبس عادي أو مكبس مائي.

١٩٠

(ثالثا) تفريق الزيت عن الماء والعناصر الأجنبية المختلطة به وذلك بترك العصير يروق فيفترق الزيت الصافي لأنه يطفو على وجه العصير. أما الثفل فهو يسحق ويكبس فيخرج منه زيت أسود يسميه الدمشقيرن زيت الجفت يستعمل في صنع الصابون.

وفي الشام اليوم أكثر من ٤٠٠ مكبس منها نحو ٢٠٠ مكبس مائي ، ويستدل من عدد المكابس على عدد المعاصر ، وإذا استثنينا فلسطين وشرقي الأردن فإن متوسط ما يستخرج من الزيت في باقي أنحاء الشام يقدر بنحو ٥٠٠ ، ١٠ طن نصفها اليوم في لبنان.

السمن ـ هو المادة التي يطبخ بها الشاميون أكثر أغذيتهم على العكس من الفرنج فهم يطبخونها بالزبدة ولا يعرفون السمن ، ويصنع السمن بمخض اللبن في مماخض من جلد الغنم ، تعلق بحبلين يشدان إلى دعائم ويدوم المخض نحو ساعتين ونصف فيلتصق السمن بداخل الممخضة ويقشط بعد تفريغ اللبن. ويقدر أنه يحصل أربعة أرطال من السمن من مائة رطل من اللبن. والسمن من صناعات البدو ، وأجود السمون ما يصنعه عشيرة الحديديين بلبن الضأن.

العرق والخمر ـ العرق ألذ المسكرات وأرجحها لدى الشاميين ، ويصنع منه ما لا يقل عن ٠٠٠ ، ١٥ هيكتوليتر في كل سنة في دمشق والنبك وحمص وزحلة وكثير من قرى فلسطين ولبنان ووادي التيم. يوضع عصير العنب في دنان عظيمة حتى إذا اختمر يضاف إليه الأنيسون بحيث يكون حظ كل مائة كيلو غرام من العصير ثلاثمائة غرام من الأنيسون ، وبعدها يقطر العرق بالانبيق فيكون مقداره ربع العصير تقريبا ، وإذا أريد الحصول على عرق نسبة الكحول فيه أكبر (عرق مثلث) يعمد إلى العرق الأول فيضاف إليه مقدار من الأنيسون ويقطر منه عرق ثقيل.

وليس شرب الخمر شائعا في الشام شيوعه في أوربا حيث يقوم مقام الماء أثناء الطعام. وأكبر المعامل لصنع الخمرة هو معمل ريشون في عيون قارة في فلسطين وهو معدود من أكبر معامل العالم ويشحن نبيذه إلى مصر والعراق وإلى أوربا ولا يستهلك من نبيذه في الشام إلا مقدار قليل ، ويليه معمل كسارة ومعمل شتورة في البقاع.

١٩١

النشاء ـ يصنع في الشام لا سيما في دمشق وحلب مقدار من النشاء لاستهلاكه وقاعات النشاء في دمشق معروفة ، وهو يستخرج فيها من الحنطة على طريقة قديمة بسيطة لا شأن للآلات الحديثة فيها. تنقع الحنطة في الماء نحو عشرة أيام ثم تسحق بحجر الرحى وتمرس بضع مرات بالماء حتى يخالط النشاء الماء وبعدها يترك المائع فيرسب النشاء في قعر الوعاء ، ويحسب أن القنطار من الحنطة يعطي ٦٥ ـ ٧٠ رطلا من النشاء بهذه الطريقة ، أما الثفل فتعلفه الجمال.

المطاحن ـ كانت مطاحن الشام إلى عهد قريب عبارة عن أحجار رحى يديرها الماء بقوة انحداره ، أما اليوم فيشاهد المرء عشرات من المطاحن البخارية في الأماكن التي لا ماء فيها عدا بضع مطاحن على آخر طراز من الفن أي إن أرحيتها أسطوانات تدار بالكهرباء وهي في دمشق وحيفا ويافا.

الجبن والقشطة ـ تعزل القشطة عن الحليب فتؤكل وحدها وتضاف إلى بعض الحلواء، وتصنع جبنة لا لذة لها بالحليب الذي فرزت قشطته ، وأشهر أنواع الجبن المصنوع في الشام الأبيض والحالوم الحلبي ، وقد أخذ الشاميون يصنعون جبن البلقان المسمى قشقوان ولم يتوصلوا إلى تخميره كما في مواطنه الأصلية وجميع أنواع الجبن المذكورة بعيدة عن أن تساوي أنواع الجبن الأوربية بلذتها وتعدد أنواعها.

زراعة الشام من الوجهتين المالية والاقتصادية :

نذكر في هذا البحث أقسام الأرض والضرائب الزراعية وطرائق استثمار الأرض وإقراض الزراع.

أقسام الأرض ـ تقسم الأرض في الشام من الوجهة القانونية إلى خمسة أقسام وهي الأرض المملوكة والأميرية والموقوفة والمتروكة والموات ، ولكل قسم من هذه الأقسام نظام خاص في دفع الضرائب الزراعية. فالأرض المملوكة هي التي يملكها صاحبها ملكا صحيحا تاما بحيث يستطيع وقفها وعدم زرعها مدة طويلة ، ومثالها الحدائق المتصلة بالبيوت وما يسمى الأرض العشرية والخراجية (بعض بساتين محيطة بمدينة دمشق الخ). والأرض الأميرية هي التي يعود تملكها (رقبتها) لبيت المال ، وهو يخول الأهلين استثمارها أي حق التصرف بها بصك يسمى

١٩٢

«سند التصرف». ومعظم الأرض في الشام من هذا القسم. وليس من فرق كبير في الأمور الجوهرية بين المتصرف بالأرض الأميرية وبين مالك الأرض المملوكة ، لأن الأول وإن لم يملك الأرض قانونيا فإن له سلطة كافية في استثمارها والنزول عنها حسب إرادته ، وهي تنتقل لورثته بعد وفاته ، إلا أنه لا يستطيع وقفها إلا بإذن وهو إن لم يستثمرها ثلاث سنين بلا عذر مقبول يضطر إلى دفع قيمتها على شكل معلوم ، حتى إذا استنكف من الدفع عدت الأرض محلولة ووجب بيعها بالمزاد العلني. وثمة فرق بين الأرض المملوكة والأرض الأميرية ، وهو أن للورثاء من الدرجة الواحدة حصصا يتساوى فيها الذكر والأنثى في الأرض الأميرية ، أما في الأرض المملوكة فللذكر مثل حظ الأنثيين. ولا يسمح للمتصرف بالأرض الأميرية أن يوصي بها بعد مماته وعلى العكس في رب الأرض المملوكة. والأرض الموقوفة هي التي حبست في سبيل البر وليس من شأننا البحث فيها ، والأرض المتروكة هي التي تركت للنفع العام كالطرق والساحات والبيادر والمحتطبات ومراعي القرى. وهي لا يملكها أحد ورقبتها لبيت المال والتصرف بها للجماعة. والأرض الموات هي الأرض البعيدة عن العمران التي لا يتصرف بها أحد. والحكومة تعطي رخصا بإحياء الأرض الموات فبالتصرف بها على شروط موضحة في قانون الأرض.

الضرائب الزراعية :

على الأرض الأميرية في يومنا هذا نوعان من الضرائب ، ضريبة تابعة لقانون ٧ رمضان سنة (١٢٧٤ ه‍) وقدرها ٤ في الألف من ثمن الأرض ، وضريبة أعظم شأنا وأكبر تأثيرا في الزراعة وهي العشر أي استيفاء عشرة في المائة من محاصيل الأرض غير الصافية يضاف إليها اثنان ونصف باسم المعارف والمصرف الزراعي أما الأرض المملوكة (وهي كما قلنا قليلة في الشام إلا في لبنان الصغير حيث كل الأرض تعد مملوكة) فصاحبها لا يدفع العشر من غلاتها بل يدفع عشرة في الألف من ثمنها في كل سنة.

والعشر من المصائب المزمنة في هذا القطر لأن ٥٠ ، ١٢ في المئة من المنتوجات

١٩٣

غير الصافية هي نسبة كبيرة في ذاتها ، ولأنه يصعب جدا تخمين الغلات على وجه الضبط لأخذ هذا المقدار منها. فقد حارت حكومات الشام في طريقة استيفاء العشر أو ثمنه ولا تزال حائرة ، لأنها إذا خمنت الغلات تخمينا فقد يضل المخمنون أو يتعمدون الخطأ أحيانا فيظلم الفلاح إذا جاء التخمين زائدا عن الحقيقة ، وإلا فيخسر بيت المال. وإذا باعت العشر بالمزاودة العلنية من ملتزمين فهم لا يقدمون على سوى قرى الفلاحين فيظلمونهم بطرق شتى دون أن يجسروا على المزاودة في عشر قرى الوجهاء ، فيكون الضرر مزدوجا على الفلاح وعلى بيت المال معا. وقد رأت الحكومة أخيرا أن تعمد إلى معدل عشر أربع سنين ماضية فتقره وتستوفي ضريبة محدودة مساوية له سواء زرع الفلاحون الأرض أو لم يزرعوها. وهذه الطريقة في استيفاء العشر وإن كانت أصلح من الطريقتين السالفتين إلا أنها ليست عادلة إذا قلّ المطر في إحدى المناطق بعض السنين هذا عدا أن أساسها فاسد ، لأن متوسط عشر سنين أربع في قرى الفلاحين يكون قريبا من العشر الحقيقي غالبا. أما في قرى الوجهاء فيكون أنقص لأن الأعيان لا يدعون الحكومة تصل إلى حقها.

والخلاصة أن مسألة العشر في الشام من أعقد المسائل وكثيرا ما اقترح أرباب الفلاحة على الحكومة أن تمسح الأرض كما في بلاد الفرنج وتضع على الأرض وما تنتجه ضريبة واحدة لا تتبدل تخلصا من العشر كما يجري العمل به في أرض مصر. وإن هذا الاقتراح في غير محله أو هو مما يتعذر اتباعه في كل أنحاء الشام على السواء ، لأن الأمطار في الشام متفاوتة التهطال. فقد يهطل في سنة ثلاثة أضعاف ما يهطل في السنة التالية ، لا سيما في سهول الشام الشرقية ، ولهذا يختلف محصول الأرض اختلافا عظيما كل سنة. وقد تمحل منطقة واسعة في إحدى السنين ولذلك لا يجوز أن يستوفى منها في تلك السنة ضريبة كالتي تستوفى في سني الخصب. أما إذا كانت الأرض تسقى بماء نهر أو قناة فعندها يمكن وضع ضريبة ثابتة عليها كما في الغوطة مثلا.

طرائق استثمار الأرض :

إذا قلنا إن أكثر من ستين في المائة من سكان الشام يعملون في الفلاحة رأسا

١٩٤

أو بالواسطة فلا نكون مغالين في قولنا لأن سكان المدن الكبيرة والمتوسطة وإن كان عددهم يقرب من نصف مجموع السكان في الشام فكثير منهم لا عمل له غير الفلاحة. ويتصرف الشاميون اليوم بالأرض على نسبة غير عادلة ، ومعنى هذا أن أرباب الوجاهة والثروة على قلتهم يتصرفون بمساحات واسعة جدا في كثير من المناطق ، بينا الفلاح يعمل في الأرض دون أن يكون له في تملكها نصيب ففي أطراف حماة مثلا ١٢٤ قرية منها ثمانون في المائة لأرباب الوجاهة من عيال لا تتجاوز عدد الأصابع ، والباقي وهو عشرون في المائة يتصرف به الفلاحون ورجال الطبقة المتوسطة من الشعب. وفي أرجاء حمص ١٧٦ قرية منها ثمانون في المائة للوجهاء دون غيرهم وعشرون في المائة مشاع بين هؤلاء الوجهاء والفلاحين إلا بضع قرى لم تمتد إليها أيدي المتغلبين فلبثت للفلاحين وحدهم. وهكذا قل عن كثير من مناطق الشام كقرى معرة النعمان وغيرها في حلب. وليست الحالة كذلك في حوران حيث ترى ٩٥ في المائة من الأرض موزعة بين سكانه على نسبة عادلة ، وكلهم أرباب فلاحة وكذا في جبل حوران وعجلون والبلقاء والكرك ووادي التيم وإقليم البلان ، وما من بيت من بيوت دمشق الكبيرة إلا ويملك مساحات واسعة في الغوطة بل نصف الأرض فيها بيد متوسطي الزراع والربع بيد صغارهم والربع الأخير يخص أرباب الوجاهة بدمشق.

وبعد ، فقد كان السلطان عبد الحميد العثماني من أقدر السلاطين على تملك الأرضين وجمع الثروة ، فقد تملك لشخصه شرقيّ حمص وسلمية نحو مليون هكتار من الأرض تشتمل على جبل البلعاس والشومرية وتمتد إلى مقربة من تدمر ، وعمّر فيها نحو مائة وعشرين قرية ومزرعة تستثمر نحو مائة ألف هكتار. وتملّك في أنحاء حلب نحو ٠٠٠ ، ٥٠٠ هكتار فيها اليوم ٥٦٧ قرية ومزرعة عامرة حوالى منبج والباب وعلى الشاطىء الغربي من الفرات من مصب الساجور إلى مسكنة ويشمل معظم جبل الحاص ومساحات واسعة جنوبي حلب عند مصب نهر قويق واقتنى أيضا سبع قرى في حوران منها قرية المسمية كما اقتنى بيسان وبضع قرى بالقرب منها. وكان يوطد الأمن في هذه المملكة الخاصة الواسعة ويعفي الزراع المستأجرين من الجندية ويحميهم من تعدي أرباب الوجاهة ويسلفهم المال بلا ربا

١٩٥

حتى عمرت تلك الأنحاء بعد أن كانت منازل للعربان يعيثون فيها فسادا. ولما حصل الانقلاب العثماني سنة (١٩٠٨) اضطر السلطان المشار إليه إلى التنازل عن هذه المعمورات إلى بيت المال ، فأصبحت ملكا له وأصبح فلاحوها مستأجرين لدى المالك الجديد ، وهو بيت المال أو الحكومة. ويدفع الفلاحون إلى الحكومة عشرين في المائة من المستغلات في بعض الأماكن و ٥٠ ، ٢٢ في المائة في أماكن أخرى (عشر وأجرة أرض معا). وهم وإن كانوا مستأجرين لا يملكون الأرض رسميا فهم يتوارثونها كأنهم مالكون لها والحكومة لا تخرج فلاحا من قريته إلا إذا أتى عملا منكرا من إحداث فتنة أو التمادي على الإضرار بالناس. ولما كانت الحكومة تسلف هؤلاء الفلاحين أموالا بلا ربا وكانت تستوفي من غلات الأرض نسبة أقل منها في قرى الوجهاء ، رجحت حالة الفلاح في أملاك الدولة من كل وجه على حالة الفلاح المسكين الذي يستعبده المتغلبون في قراهم. ومع هذا اقترح على الحكومة منذ نحو سنتين أن تبيع هذه الأملاك من الفلاحين أنفسهم دون سواهم على أن يدفعوا الثمن أقساطا خلال خمس عشرة سنة ، وعلى أن يضمن عدم مد المتغلبة أيديهم لهذه الأرضين ، فأقرت الحكومة البيع مبدئيا. وقد أثبتت لنا الأيام أنه لا يستطيع أن يزيد في غلات الأرض سوى الذين يملكون فيها مساحات متوسطة أو صغيرة.

ولنرجع إلى طريق استثمار الأرض المتبعة اليوم في الشام فنقول : إذا استثنينا الغوطة والمرج وبعض ما يسقى وما حوالي المدن من المزارع ، حيث يستغل بعض أرباب الزراعة أرضهم مباشرة ويدفعون إلى الفلاحين المشتغلين بها أجورا مقطوعة سنوية أو شهرية ، فإن الأرض في سائر الأنحاء تستغل على طريق المزارعة بشرائط مختلفة (بالقسم). ففي حمص وحماة يأخذ صاحب الأرض ربع المحصول فيدفع منه العشر وتبقى الثلاثة الأرباع للفلاح. وفي هذه الحال يلزم الفلاح بجميع النفقات والأعمال ، ولكن صاحب الأرض قد يقرضه البذار بربا في الغالب على أن يستوفيها من البيدر. ويأخذ أصحاب الأرض ربع المحاصيل في بعض قرى حوران ويدفعون منه العشر وضريبة الأرض ويكون الباقي للفلاح مقابل النفقات والأتعاب. لكن الطريقة الشائعة في حوران هي إيجار الأرض بمقدار معلوم من الحب كأن تؤجر (الربعة) بنحو ٥٠ ـ ٦٠ مدا

١٩٦

من الحنطة ، ولما كان يزرع في الربعة أرض تستوعب ٥٠ ـ ٦٠ مدا من البذار ، فإذا أغل المد أربعة أمثاله أو خمسة أمثاله تكون الأجرة التي استوفاها صاحب الأرض معادلة لربع المحصول أو خمسه.

وكلما كانت القرية في منطقة سكانها كثار وأرضها ضيقة ، يزداد المقدار الذي يستوفيه صاحب الأرض من المحصول والعكس بالعكس. ففي البقاع مثلا يأخذ صاحب الأرض نصف المحصول ويؤدي العشر منه إلى الحكومة. وفي الحولة حيث الأرض تروى تكون حصة صاحب الأرض ثلث المحصول ويكون عشر المحصول عليه. أما في الغوطة والمرج فحصة صاحب الأرض الثلث لكنه لا يدفع إلى الحكومة سوى عشر هذا الثلث ، وعلى الفلاح أن يدفع العشر عن ثلثيه.

هذه بعض طرائق استثمار الأرض وتعود فيها جميع النفقات والأتعاب على الفلاح. أما إذا أحب صاحب الأرض أن يكون رأس مال الاستثمار منه فالفلاح الذي يشتغل في أرضه يسمى (مرابعا) وهو مطالب بأعمال فدان من البقر (زرع نحو ثمانية هكتارات حبوبا وتجهيز مثلها للسنة القادمة). ويأخذ ربع المحصول أو خمسه بعد رفع العشر من المجموع في الغالب

إقراض الزراع :

يعوز الفلاحين في الشام النقود الكافية لاستثمار أرضهم على مقتضى قواعد الفن. وهم كثيرا ما يستدينون المال من المرابين بفوائد فاحشة لا يبعد أن تبلغ ١٠٠ في المئة أحيانا. ولهذا ترى غلة أرضهم تكاد لا تكفيهم للإنفاق على حاجياتهم الضرورية وقلما ترى فلاحا في سعة ، يكدحون كلهم طول السنة لتحصيل بلغة من القوت ، وسبب ذلك ضيق ذات يد الفلاح ، فهو لا يستطيع أن يحرث الأرض حرثا عميقا بأبقاره الصغيرة المهزولة التي لا تعلف غير التبن ، ولا يستطيع أن يبتاع آلات زراعية حديثة أو أسمدة معدنية ، ويستحيل عليه أن يخزن محصوله بقصد بيعه عندما يغلو ثمنه ، لأنه في حاجة دائمة إلى المال. والسعيد من الفلاحين من لم يثقل الدين كاهله ومن كان مفلتا من براثن المتغلبين والمرابين.

اتضح للحكومة العثمانية أن الأكارين وأصحاب الأرض في حاجة كبيرة

١٩٧

إلى مصرف زراعي يقرضهم المال بفائدة محدودة إلى مدة طويلة فأسست المصرف الزراعي وجمعت له رأس مال صغير بأن أضافت إلى العشر الذي تستوفيه من حاصلات الأرض ٥٠ ، ٠ في المئة من الريع باسم هذا المصرف ، وأنشأت له فروعا في الأطراف وسنت له قانونا محكما بعد درس واختبار فأقبل الفلاحون عليه أيما إقبال. ولما كان رأس ماله قليلا فقد لبثت فائدته محدودة ، فعسى أن تهتم الحكومة الحاضرة بتزييد رأس ماله وهو من أنفع أعمالها ولعلها لا تسمح لبراثن الأجنبي أن يناله أذاها.

الخلاصة :

الشام فقير جدا بمعادنه المفيدة من الوجهة الاقتصادية. ومعناه أن عدد هذه المعادن وإن كان عظيما وكذا أنواعها فهي لا كبير فائدة منها اللهم إلا معدن الحمر في حاصبيا. والأرجاء التي ليس فيها معادن ذات شأن (لا سيما الفحم الحجري الخالص لا اللينيت) لا يمكن أن يكون فيها صناعات كبيرة. ولهذا لا نرى في الشام إلا صناعات يدوية كنسج الملبوسات الأهلية في دمشق وحمص وحماة وكالمصنوعات الخشبية والنحاسية وغيرها. فالشام إذن لا يمكن أن يكون له عظيم شأن في المعادن والصناعة ، وليس له اليوم شأن يذكر في التجارة لكن له مستقبل حسن في قضية الاتجار بالسيارات مع العراق وبلاد العجم عن طريق بادية الشام. ونستنتج من بحثنا عن الفلاحة أن لها في الشام شأنا غير شأن الصناعة والتجارة. فإذا أحصينا بالمكس مثلا أنواع الأشياء الأهلية التي تصدر من الشام إلى البلدان الأجنبية نجد أن أكثر من ٩٠ في المئة من هذه الصادرات هي غلات أو مصنوعات زراعية نباتية أو حيوانية. ثم إذا أمعنا النظر في أنواع واردات الحكومة في الشام نرى أن نحو ٥٠ في المئة منها هي واردات زراعية مثل عشر المستغلات والضريبة على الأرض والماشية وواردات أملاك الدولة وواردات الحراج وغيرها. فزراعة القطر الشامي إذن وإن كانت لا تساوي زراعة الأقطار الغزيرة الأمطار أو التي منحتها الطبيعة أنهارا كبيرة هي الركن الأعظم في حياة هذا القطر الاقتصادية ا ه.

١٩٨

الصناعات الشامية

مواد الصناعات :

تتوقف الصناعات في بلد على وجود الموارد الأولية فيه ، وكان ذلك في القديم أقوى عامل في قيام الصناعات ، والمواد الأولية في الشام على حصة موفورة لا ينقصها اليوم إلا الفحم الحجري وبعض الأصباغ. وكانت الشام منذ عرف تاريخها مشهورة بصناعاتها لتوفر موادها المستخرجة من سطح أرضها وبطنها. وتسلسلت الثقافة بها تسلسلا عجيبا في البيوت الصناعية ، وكانت الأمة الخالفة تأخذ عن الأمة السالفة هذه الثقافة والدربة على نحو ما يعلم الصناع أبناءهم. والصنائع كما قال ابن خلدون لا بدّ فيها من العلم ، وإنك لتجدها في الأمصار الصغيرة ناقصة ولا يوجد منها إلا البسيط ، فإذا تزايدت حضارتها ودعت أمور الترف فيها إلى استعمال الصنائع خرجت من القوة إلى الفعل ، وعلى نسبة رسوخ الحضارة وطول أمدها تكون جودة الصنائع في الأمصار.

إن قطرا هو معدن الحرير والصوف والوبر والمرعزّى والقطن والكتان والقنب يفيض عن حاجياتها وكمالياتها. وفيها الحديد والنحاس والقصدير وغيرها من المعادن ، وتجود في سهولها وجبالها الأخشاب على أنواعها ، وتكثر في أرجائها الحيوانات الداجنة والمفترسة ، وفيها المياه الدافقة والشلالات البديعة. إن قطزا يحوي هذه الخيرات لا يحتاج إلا إلى أيد صناع لصنعها ، وعيون عوّدت النظر إلى الجميل واقتباس النافع منه ، ونفوس طبعت على حب التقليد والاحتذاء ، حتى تخرج ما به تفاخر ، وتعيش من عملها عيشا غضا نضرا.

١٩٩

الغزل والحياكة والنساجة :

كانت النساجة والحياكة والغزل راقية في معظم ما عرف من أدوار الارتقاء وقلما أخرجت الشام رذالة المتاع ورديثه ، بل كانت تخرج جيده ونفيسه ، وكان أهلها ولا يزالون يحسنون غسلها ونفشها ومشطها وحلجها وفتلها ومشقها وحياكتها ونسجها. واشتهر القطر منذ القديم ببزه وقماشه وديباجه وخزه وبروده وكان للدباجين صناع الديباج والأكسية والمسوح صناعة رابحة ، وإلى اليوم لم يبرح حلاجو القطن ، ومنهم من يستعمل لها الآلات الإفرنجية الحديثة ، ومنهم من اقتصر على القوس والنداف على الطريقة القديمة في الحلج والغزل في مغازل أولية تدار بالأيدي يخرجون بها كل ما يقوم بالحاجة.

أخذت معظم المدن والبلدان حظها من هذه الصناعات ، فاشتهرت في غابر الدهر مدينة أعناك في حوران بأكسيتها الجيدة اشتهارها ببسطها ، وعرفت بعلبك بثيابها المنسوبة إليها من الأحزام والمشدّات وثوبها المعروف بالبعلبكي. وتأفقت شهرة الثياب البلعسية نسبة إلى كورة البلعاس من عمل حمص على الأرجح. وعرفت منبج بالأكسية التي كانت تعمل فيها وتنسب إليها فيقال «الأنبجاني» والأنبجاني كساء صوف له خمل ولا علم له وهي من أدون الثياب. ومن ثيابهم الخميصة الشامية وهي برنكان أسود معلم من المرعزّى والصوف ونحوه أو كساء أسود مربع له علمان ، وقد تكرر في الحديث الشريف ذكر الأنبجاني والخميصة. والخميصة قد تكون من الحرير والبرنكان والبرّكان والبرّكاني والبرنكاني الكساء الأسود وجمعه برانك.

وكان يعمل في صفد من الثياب ما يقال له الصفدية. وتعمل الثياب الحفية نسبة لكورة الحفة غربي حلب. وكان لأهل رصافة هشام بن عبد الملك في غربي الرقة حذق في عمل الأكسية وكل رجل فيها غنيهم وفقيرهم يغزل الصوف والنساء ينسجن. وكانت تعمل في الشام الأكسية المرنبانية قال ابن سيده : يقال كساء مرنباني ومؤرنب فالمرنباني لأنه لون الأرنب والمؤرنب ما قد خلط في غزله وبر الأرانب ، ويقال بل هو كالمرنباني. وكانت تصنع فيها القطيفة المخملة أي ذات الخمل وهي المخمل.

واشتهرت حمص بمصنوعاتها من ثياب وفوط وغيرها وقيل : إن حمص تتلو

٢٠٠