خطط الشام - ج ٤

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٤

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٧٦

الأصل من بناء العرب أو الإفرنج ، المرجح أن هؤلاء طبعوها بطابعهم ، وقالوا لم يخترع العرب أبنية خاصة بهم ، بل تجلى في هندستهم حبهم للزخرف واللطف واخترعوا القوس المقنطر ورسم البيكارين ، وكان تفننهم في هندسة القباب والسقوف والمعرشات من الأشجار والأزهار ، مما جعل لجوامعهم وقصورهم بهجة لا يبلى على الدهر جديدها ، ودلت كل الدلالة على إيغالهم في حب النقوش والزينة ، كأن أبنيتهم ومصانعهم ثوب من ثياب الشرق تفنن حائكه في رقشه ونقشه.

نعم إن العرب لم يخترعوا ولكنهم اقتبسوا بادئ بدء ، فإن ابن الزبير لما عمر الكعبة دعا إليها بنائين من الفرس والروم ، والوليد لما بنى أمويّ دمشق وأقصى القدس دعا إليهما بنائين من الفرس والروم والهند. ولا جرم فقد برع مهندسو العرب في هذه الديار في علم عقود الأبنية وهي ما يتعرف منه أحوال أوضاع الأبنية وكيفية شق الأنهار وتقنية القنيّ وسد البثوق وتنضيد المساكن. ولو لم يبرعوا في كيفية إيجاد الآلات الثقيلة الرافعة لنقل الثقل العظيم بالقوة اليسيرة لما تمكنوا من عمارة المدن والقلاع والأسوار والمنازل والجوامع والمدارس هذا التمكن الذي يبهرنا اليوم أثره.

ومالت الهندسة الشامية إلى السذاجة لأول انتشار النصرانية ، فكانوا يجتنبون كل زينة زائدة لتؤثر بمتانة البناء المعمول بالحجارة الضخمة ، وجمال الحجم وترتيب الأجسام. ونشأت بين القرن الرابع والسادس للميلاد هندسة متينة تختلف عن الهندسات الأخرى ، منها بعض أمثلة في الشام العليا وحوران. ويقول جلابرت : إنه كان لأهالي الشام الوسطى هندسة قائمة بذاتها مباينة لفن البناء الذي أشاعه الرومان في الشام ، وهو بناء قديم يدعى بالطراز الشامي لا أثر فيه للطرق الرومانية والشرقية المحضة في البناء ، وعلاقته ظاهرة بالهندسة اليونانية الشائعة في أنطاكية ، وقد نشأ عنه طرز مركب شاع في القرون الأخيرة ، وطرق البناء في حوران تختلف عن الهندسة الشمالية فتألف طرز وطني مباين للطرز اليوناني الذي أدخله السلوقيون.

ومن أهم أبنية القرون الوسطى وتدل على ذوق جميل في البناء ، المدارس الكبرى في حلب ودمشق والقدس وغيرها من البلدان ، والقليل الباقي منها إلى الآن شاهد على وجه الأيام بما صار للمهندس الشامي من حسن الذوق ، ومنها

١٢١

في دمشق مدخل المدرستين العادلية الكبرى والظاهرية والمستشفى القيمري ، وفي حلب مستشفى أرغون شاه ومدرسة الفردوس إلى غيرها من الأبنية الكثيرة في القرون المتأخرة.

ومن أهم أبنية القرون الإسلامية بدمشق المأذنة الغربية في الجامع الأموي المعروفة بمأذنة قايتباي وهي من أهم المآذن العربية من حيث الهندسة والنقش والأصول المعمارية قامت على قصبتين من الأرض (٤٨ مترا مربعا) بارتفاع ٦٦ مترا هندسها معمار عربي اسمه سلوان بن علي وقد تمت عمارتها سنة (٨٨٥ ه‍) وبانيها السلطان الملك الأشرف قايتباي كتب اسمه في جهاتها الأربع. وقد أجرى ترميمها وإرجاعها إلى أصلها وإكمال نواقصها المهندس الرسام توفيق طارق سنة (١٣٤٢ ه‍) وكان على رفرف شرفتها الأولى آية (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً) الآية وكتبها موسى شلبي وبقي قسم من الحروف القديمة.

وقد دخلت إلى الساحل منذ عهد الحروب الصليبية أصول الهندسة الطليانية في الدور والقصور ، وما برحت ترسخ مع الزمن ، ولا سيما في طرابلس وبيروت بحيث أن جميع ما نراه في مدن الساحل من الدور هو مما أنشئ في القرن الأخير وفي هذا القرن هو طلياني الصبغة ، وهندسته عارضة على هذه الديار. هذا في الساحل أما هندسة البيوت في الداخل فإنها قديمة لا يعرف زمن الاصطلاح عليها ، فقد نقل الرومان هندسة بيوت دمشق القديمة إلى شمالي إفريقية ، ثم نقلها العرب بعد قرون إلى الأندلس ، ولا تزال هناك إلى اليوم يفاخر بطرازها ويطرّس على آثارها ، كأن تكون الدار ذات مدخل أو دهليز يؤدي إلى فناء واسع فيه حوض ماء وإيوان ، وعلى جوانبه أماكن لتربية بعض الأشجار والزهور ، والدار ذات طبقتين فقط : السفلى للصيف والعليا للشتاء. وقد رأى ناصر خسرو قبيل منتصف القرن الخامس أن البيوت في طرابلس كانت ذات أربع وخمس وأحيانا ست طبقات. وكثرة الطبقات في الدور لم تعهد إلا في الغرب ، وما نظن الشام زادت طبقات بيوتها على ثلاث في معظم أدوار التاريخ.

الشعر والفصاحة :

ظهر كثير من الشعراء والبلغاء في هذه الديار ولا سيما من السريان واللاتين

١٢٢

والروم ، اشتهروا في العالم وخلدوا آثار نبوغهم ، ولطالما أخرجت مدرسة نصيبين والرّها ومدرسة الفقه في بيروت ومدرسة أنطاكية خطباء هزوا النفوس وعلموها بخطبهم وأشعارهم ومجادلاتهم ، وقد كثر سواد هذه الفئة في عهد الدول العربية الإسلامية أيضا. والشعر والخطابة مما امتازت به العرب في الجاهلية والإسلام وغالت في الولوع بهما ، ولقد أثر القرآن في هداية العرب ببلاغته وفصاحته ، تأثيره بحكمه وهدايته. ولطالما كان شعراء العرب يصفون الشام ويتغزلون بها منذ أول يوم عرفوها ، حتى إذا كان الإسلام وتبسطوا في أرجائها ، أوحت إلى قرائحهم من أساليب الشعر ما يتألف من مجموعه أعظم ديوان بل خزانة عظيمة في الأدب تدل على فضل قرائح ، ونبوغ في فنون القول ، وتوسع في مجال الخيال ، وما هم إلا مبدعون وضعوا ما وضعوه من بنات أفكارهم على غير مثال.

لا جرم أن الشام كانت أول الأقطار التي أخذت الفصاحة عن العرب في جزيرتهم ، وبقيت فيها على اختلاف العصور وتعاقب الدول محفوظة في الجملة ، فما انقطع منها من ينظمون ويجدون حواليهم من يطرب لنغماتهم ويصفق لنبراتهم وإن لم يعرفوا صحاحها من زيوفها. كان الشعر مبدأ دخول العرب في الحضارة ، والأدب مقدمة النهوض في العلوم ، ولذلك رأيناهم لم يحرصوا على شيء حرصهم على روايته ودرايته. وأكثر ما يجيد الشعراء في أرض صح إقليمها ، واعتدل نسيمها ، وطابت تربتها وأديمها ، وصفت أمواهها ، وساغ نميرها ، وكثرت ظلالها بأشجارها ، وغردت أطيارها في أسحارها ، وفغم أريج نوارها وأزهارها ، وهذا على حصة موفورة في القطر الذي يتاخم جزيرة العرب من شمالها. وقد أنعم عليه الخالق بضروب البدائع والروائع ، فكان شعراء عرب الشام وما يقاربها أشعر من شعراء عرب العراق وما يجاورها في الجاهلية والإسلام كما قال الثعالبي. وما زالت بعض قصائد شعراء ذاك الدور مضرب الأمثال في البلاغة ، وما برح عرب المدن يتغنون بشعرهم ويعجبون به ويترنمون ، ويتوفرون على حل ما استعجم عليهم من ألفاظه ومعانيه. قال : والسبب في تبريز القوم قديما وحديثا على من سواهم في الشعر قربهم من خطط العرب ولا سيما أهل الحجاز وبعدهم عن بلاد العجم ، وسلامة ألسنتهم من الفساد العارض لألسنة أهل العراق

١٢٣

بمجاورة الفرس والنبط ومداخلتهم إياهم ... انبعثت قرائحهم في الإجادة ، فقادوا محاسن الكلام ، بألين زمام ، وأحسنوا وأبدعوا ما شاءوا ، وكان أبو بكر الخوارزمي قد دوّخ الشام في صباه ولطالما قال وهو أحد أمراء النظم والنثر : ما فتق قلبي ، وشحذ فهمي ، وصقل ذهني ، وأرهف حدّ لساني ، وبلغ هذا المبلغ بي إلا تلك الطرائف الشامية ، واللطائف الحلبية، التي علقت بحفظي ، وامتزجت بأجزاء نفسي.

حكى المازني المتوفى سنة ٢٤٩ قال : دخلت دير بصرى فرأيت في رهبانه فصاحة وهم متنصرة من بني الصارد وهم أفصح من رأيت فقلت : ما لي لا أرى فيكم شاعرا مع فصاحتكم؟ فقالوا : والله ما فينا أحد ينطق بالشعر إلا أمة لنا كبيرة السن فقلت : جيئوني بها فجاءت فاستنشدتها فأنشدتني لنفسها :

أيا رفقة من دير بصرى تحملت

تؤم الحمى لقيت من رفقة رشدا

إذا ما بلغتم سالمين فبلغوا

تحية من قد ظن أن لا يرى نجدا

وقولوا تركنا الصارديّ مكبلا

بكل هوى من حبكم مضمرا وجدا

فيا ليت شعري هل أرى جانب الحمى

وقد أنبتت أجراعه بقلا جعدا

وهل أردن الدهر يوما وقيعة

كأن الصبا يسدي على متنه بردا

وما برحت الديارات في الشام تقدر الفصاحة كما تقام فيها للموسيقى أسواق. وظهر الضعف في الشعر خلال القرون الأخيرة ، ونسلت عليه القرون إلى أن خلع في أوائل هذا القرن الثوب البالي القديم ولبس ثوبا جديدا فيه من جلال الحديث وعز القديم ما جمع فيه الجسم والروح. بدأ هذا من لبنان وبيروت ثم تناول عامة مدن الشام. أما القرى والبوادي فقد اكتفت بالأزجال ، والزجل نوع من الشعر محدث يصفون فيه أيامهم ومفاخرهم وهو أشبه بالرجز الذي كانت العرب تترنم به في عملها وسوقها وتحدو به في بواديها. وكان للزجالين في القرن الماضي وفي هذا القرن منزلة عند أهل الزرع والضرع ، يدعون الزجال إلى الأفراح ليحمل البهجة إليها ، وإلى الأتراح ليسري عن النفوس ما نزل بها ، ولهم ضروب من المواليا يسمونها العتابى والإبراهيمي يطربون بها ولا تخلو من معان شعرية قال صديقنا الشيخ إبراهيم الحوراني وكان شاعرا مجيدا بالفصحى والعامية : والنصارى واليهود يعتقدون أن بعض الشعر إلهام إلهي ووحي حق كشعر أيوب

١٢٤

وداود وسليمان وأشعيا وعدة من كتبة الأسفار الإلهية والشعر بقسميه الفصيح والعامي المعروف عند العامة بالمعنّى يعمل على ثلاثة أبحر الرجز والوافر والسريع ، أما أغانيهم التي يسمونها بالقراديات وهو اسم خشن سميت مؤخرا بالعديّات وبالقويلات كما يقولون لمن يعانيها (القوّال) فبعضها لا ينطبق على وزن من أوزان الشعر المعروف ، ووزن بعضها المتدارك مع تغييرات أيضا. وجاءت أغانيهم المعروفة بالموالات البغدادية والمصرية والزلاغيط على بحر البسيط ا ه.

ولا يزال إلى اليوم لكل قبيلة في الشام شاعرها ينشدهم من حفظه أو نظمه من شعر شعراء البادية على نغمات الرباب قصائد يسليهم بها ، ولشعر البادية عندهم أوزان خاصة ، وإذا قيس على علات لفظه على أبحر الشعريرى بعضه موزونا وفي بعضه عيوب بسيطة ، ومن أشعر شعراء البادية نمر بن عدوان في عبر الأردن كانت له امرأة اسمها وضحاء تتيم بها كما تتيم قيس بليلاه فرثاها بعد موتها بعشرات من القصائد ومنها ما فيه معان جميلة ـ قاله أديب وهبة.

وإذا انتشرت المدارس في المدن والقرى على حد سوى ، وجعل التعليم في كل درجاته باللغة الفصحى يتأصل الغرام في الناس أكثر مما نراه بالفصاحة والشعر فلا تلبث الشام أن تحسدها جاراتها كما كانت في القديم على اختصاصها بذلك ، وكما تحسد هي مصر اليوم على تفنن شعرائها وخطبائها وسريان الفصاحة إلى ألسن من ليسوا من الأدب العربي في العير ولا في النفير.

الرقص :

ربما ينفر بعضهم من سماع هذا اللفظ ونحن لم نتعرض له هنا إلا مجاراة للفرنج في إدماجهم له في الفنون الجميلة. عدّ «طاشكبري» الرقص من أنواع العلوم فقال : إنه علم باحث عن كيفية صدور الحركات الموزونة عن الشخص بحيث يوجب الطرب والسرور لمن يشاهده ، وهذا من العلوم التي يرغب فيها أصحاب الترفه والأغنياء والأمراء ومن يجري مجرى هؤلاء من أصحاب الملاهي ا ه. وذكروا أن الرقص قديم كقدم العالم وأن أقدم شعوب الأرض كان لها رقص على أوزان معلومة. فالرقص مرتبط بالموسيقى والإيقاع ، وكثيرا ما كانوا يتبعون الرقص بالتصدية والضرب بالأيدي ، ثم عرفوا الشبابة حتى جاءت المزاهر

١٢٥

والمعازف ، وكان الرقص على نوعين : رقص مقدس من توابع الحفلات الدينية ، ورقص عالمي لتسلية العامة ، أي أن الرقص رقصان رقص ديني أو رقص المآتم ورقص الحبور والابتهاج. وفي التوراة أن الرقص كان شائعا عند العبرانيين ، وقد رقص داود أمام تابوت العهد ، ولما خرج بنو إسرائيل من مصر كان لهم نوعان من الرقص ، الرقص المقدس المنظم ورقص سريّ له اتصال بالتعبد على نحو ما كانوا يرقصون في التيه حول عجل الذهب. وكان للعبرانيين نوع من الرقص الشريف يرقصه العذارى في الحفلات العامة احتفاء بذكرى حوادث سعيدة من مثل انتصار على عدو أو تكريم مجد أبطال الوطن. وهكذا كان الرقص شائعا عند المصريين ، ثم شاع عند اليونان وهم المشهورون بتفننهم فبلغ عندهم أقصى درجات رقيه وانتقل إلى الرومان ، وإذ كانوا شعبا قاسيا غليظا فقد عندهم بهاءه ورواءه وما يقصد منه. ولكل شعب رقصه الخاص به ، عليه صبغة أخلاقه القومية الثابتة. ولجميع شعوب الغرب والشرق رقصهم الخاص أو رقصات عرفت بهم وأثرت عنهم. والإنكليز أكثر الأمم انحطاطا في الرقص لم يبرزوا فيه تبريزهم في معظم مظاهر الحياة القويمة.

وكان الرقص عند العرب كالغناء من الفنون الطبيعية استعملوه في كل دور عرف من أدوارهم. والرقص أو الزفن كان عند العرب على ما يظهر على الطراز الذي هو عليه اليوم عند العرب سكان القرى والعرب الرحالة ومنه ما يعرف بالدبكة ، فإن وفد الحبشة لما قدم إلى الحجاز جعلوا يزفنون أي يرقصون. وفي حديث فاطمة أنها كانت تزفن للحسن أي ترقص له وفي رواية ترقصه. ومن غريب تفنن العرب في مسائل الظرف والذوق أنهم عرفوا علما سموه «علم الغنج» عده صاحب الموضوعات من فروع علم الموسيقى وقال : هو علم باحث عن كيفية صدور الأفعال التي تصدر عن العذارى والنسوان الفائقات الجمال والمتصفات بالظرف والكمال إلى آخر ما نقله صاحب كشف الظنون.

والغالب أن رقص الشام اقتبس مع الزمن من أوضاع كثيرة ، والأمم تقتبس عن غيرها ما يتلاءم مع مزاجها. وكذلك تقبس غيرها بعض ما ألفته في هذا الشأن. من ذلك أن الرقص الاسباني إلى اليوم لم يبر بعد خمسة قرون من مغادرة العرب أرض الأندلس على الطراز العربي وكذلك موسيقاهم إلا قليلا. وقد

١٢٦

أصبح الرقص في الغرب علما بذاته ولكن العرب لم يقصروا فيه ، ولا سيما في عصور البذخ والرفاهية. وبعض المحققين من علماء المشرقيات من الأسبان والبرتغال (مجلة الزهراء) يبرهنون الآن على أن موسيقى الأوربيين وشعرهم انتقلا من فارس إلى أوربا بواسطة العرب ، ومنهم من ينشر منذ سنين قطعا قديمة ويبين ما فيها من آثار الروح الشرقي ، وكان لنا في الشام نوع من الرقص يسمونه بالسماح (ولعله السماع) يرقصه عدة أشخاص على نغمات متساوقة من الأوتار وترديد جميل من الموشحات فقط ، وهو أشبه بالأوبرا أو الأوبريت opera, operette عند الإفرنج أي القصائد الملحنة التي تمثل على نغمات الموسيقى فقط ، ويزيد رقص السماح على الأوبرا كونه ترفع فيه الأصوات بأنغام مألوفة.

وفي كتاب مفرح النفس : واعلم أن من الرياضيات البدنية التي تختص بالنفس اختصاصا كثيرا إلى الغاية الرقص ، وهو عبارة عن حركة متناسبة من اليدين والرجلين بضرب من الضروب المعروفة في الموسيقى بإرادة النفس وشوقا إلى محل طلبها الأصلي ، قال : إن الرقص مندوب إليه في ترويح الأرواح ونفي كدورة النفس وحصول الإشراق لها ، ويجب أن يكون مع سكون وتجمع من الذهن والعقل فتحصل اللذة والبهجة ، فالرقص له في إحداث راحة النفس وسرورها قوة عظيمة يعجز اللسان عن وصفها والذهن والعقل عن تصورها ا ه.

التمثيل :

ويدخل في باب الرقص أو في باب الموسيقى (فن التمثيل) وهو وإن كان مشهورا في الشام على عهد الرومان واليونان ، بدليل ما نراه من الملاعب الخاصة به وبعرض الحيوانات والصراع في البتراء وعمان وبعلبك وأفامية ولدّ وقيسارية وغيرها من المدن القديمة. إلا أنه لم يعهد على الصورة المعروفة حديثا ، اللهم إلا على الندرة عند عرب الأندلس ، وهذا في بعض الروايات. ولقد قالوا : إن أنطاكية أيام عزها ارتقى فن التمثيل فيها حتى كانت تجلب الممثلين من صور وبيروت والمغنين من بعلبك. وقال بعضهم : إن السبب في عدم العناية بالتمثيل في الإسلام حجاب النساء. والتمثيل لا يتم بدون مشاركة الجنس اللطيف. ولما لم يعهد التمثيل عند الجنس السامي لم تخرج العرب عن هدي جنسها. والتمثيل

١٢٧

ما عرف إلا عند الجنس الآري فقط. ومن ذلك الفرس وهم آريون خلفوا للعرب كتاب ألف ليلة وليلة وهو اختراع آري فيه شيء من التمثيل.

وكان العرب في الجاهلية والإسلام يرون من سقوط المروءة أن يمثل مجلس الأمير أو الوزير ، وإن كان لا يخلو تمثيله من حكمة ، فكيف بمجلس صبابة ، ومعظم التمثيل يدور عليها ، لا جرم أنهم قصروا في التمثيل ، وتقاعسوا عن اقتباسه عن الأمم الآرية ، وإن عرف من حالهم أنهم لم يأخذوا عن الأمم الأخرى إلا ما اشتدت حاجتهم إليه من أنواع العلوم ، أدمجوه في حضارتهم ومزجوه بأجزاء نفوسهم. وإذ كان التمثيل لا ينطبق مع عادات العرب ولا عرف به مجتمعهم أعرضوا عنه ، وجاء الإسلام موافقا لمصطلحهم وعاداتهم وأخلاقهم في بعض الأحوال.

بيد أن العصر الأخير لم يضنّ على الشام بتجلي الآداب الرفيعة فيه ، فقام فيها سنة (١٢٨٢ ه‍) في دمشق أيضا رجل من أبنائها هو السيد أحمد «أبو خليل» القباني من المبرزين في الموسيقى المشهود لهم بالإجادة فأنشأ دارا للتمثيل ، وبدأ يضع روايات تمثيلية وطنية ، من تأليفه ونظمه وتلحينه ، ويمثلها فتجيء دهشة الأسماع والأبصار ، لا تقل في الإجادة من حيث موضوعها وأزياؤها ونغماتها ومناظرها عن التمثيل الجميل في الغرب. واعتاض لأول مرة عن النساء بالمرد ، ولما انتقل إلى مصر لنشر فن التمثيل العربي هناك ، عاد إلى الطبيعة واستخدم في كل دور من يصلح له من الجنسين ، ووجه الفخر في أبي خليل أنه لم ينقل فن التمثيل عن لغة أجنبية ، ولم يذهب إلى الغرب لغرض اقتباسه ، بل قيل له : إن في الغرب فنا هذه صورته فقلده ، وقيل : إنه شهد رواية واحدة مثلت أمامه في إحدى المدارس الأجنبية ، ولما كانت عنده أهم أدوات التمثيل وهو الشعر والموسيقى والغناء ورأى أنه لا ينقصه إلا المظاهر والقوالب ، أوجدها وأجاد في إيجادها ، ولذلك كان أبو خليل مؤسس التمثيل العربي ، ونابغة العرب في الموسيقى والتمثيل ، ورواياته التي ألفها ما زالت منذ زهاء ستين سنة وإلى يوم الناس هذا ، موضع إعجاب الأمة ، تمثل في دور التمثيل وتلذ الجمهور مثل رواية أنيس الجليس وغيرها.

هذا وإن سبق لمارون النقاش في بيروت فعرب في سنة (١٨٤٨ م) من إحدى

١٢٨

اللغات الأوربية بعض الروايات التمثيلية ومثّلها بالفعل. والإبداع في التأليف والوضع ، لا في النقل والاحتذاء ، وإن عدّ الناقل صاحب فضل أيضا.

ولما كان التمثيل كما قلنا عارضا على مدنيتنا رجع القهقرى بعد أبي خليل. وظل إلى يومنا هذا يمشي مشيا ضعيفا ، فلم تقم إلى الآن جوقة تمثيل وطنية تبث في الأمة روح الفضائل والآداب ، وتأخذ من الناس بعض أوقاتهم تصرفه فيما يفيدهم فيلهون بما يجلب السرور إلى قلوبهم ، والنور إلى عقولهم ، وتتهذب في مدرسة التمثيل اليومية عقول الكبار ، كما تتهذب في الكتاتيب عقول الصغار. فقد قال فولتير : إن المرء يتعلم بالتمثيل أحسن مما يعلمه إياه كتاب ضخم.

ولعل أبناء الشام إذا قويت فيهم أساليب الثقافة الحديثة ، ترتقي فيهم سائر الفنون التي انحطت ولا تزال منحطة ، فتكون من العوامل في نهوضها إلى المستوى اللائق بها في سلم الحضارة والهناء. والتمثيل الراقي أنفع لمجتمعنا من ذاك التمثيل الساذج الذي ما زال في أكثر مدن الشام مألوفا للعامة ، ونعني به خيال الظل أو الخيال الراقص المعروف أهله بالمخايلية وعرف هذا الضرب من التمثيل عند الترك ، وإن لم يكن من اختراعهم باسم (قره كوز). والتمثيل أجدى على أبنائنا وبناتنا من القصاصين أي الحكوية (الحكواتية) الذين يلهون العامة بغرائب الوقائع في المقاهي ويبثون فيهم سخائف وخرافات.

ومن غريب شأن هذه الأمة أننا رأينا كثيرا من نجباء أبنائها برعوا في التمثيل ، ومنهم من يعرف الأدب وما ينبغي له ، قد زهدوا في فنهم ، وكتموا نبوغهم فيه ، شأن كثير من أرباب الصوت الرخيم والغرام بالموسيقى ، والضرب على آلات الطرب المتعارفة ، يخافون أن يعرفوا بها ويعمدون إلى التقية كأن من العار التلبس بهذه الفنون الجميلة.

وممن عرفنا منهم نور الدين حقي. حكمة المرادي. صالح الحيلاني. أحمد عبيد. سليم عطاء الله. أمين عطاء الله المعروف بكش كش بك. واشتهر أيضا حمزة الأصيل. صالح شهبندر. حسن الساعاتي. إبراهيم المنجد. إبراهيم نفش. راغب السمسمية. جرجي نفش. درويش البغجاتي. أبو الخير الغلاييني. يوسف مردم بك. خالد السمسمية.

(٤ ـ ٩)

١٢٩

متى ترتقي الفنون الجميلة :

لا جرم أن ارتقاء الشام في هذه الفنون على اختلاف فروعها ، موقوف على ظهور نوابغ من أبنائنا يرحلون إلى الغرب لنقلها والتشبع بآدابها ، ثم يعودون فيلوبون على إحياء ما اندثر أو كاد من هذه الصناعات النفيسة في القطر ، وينشرونها على النظام الغربي الحديث على صورة مقبولة ، وإذا نشأت بعد ذلك مدرسة واحدة راقية في كل فن من هذه الفنون لا يأتي جيل ثان بعد جيلنا هذا حتى يكون عند أهل القطر العدد الذي يحتاجون إليه من الأعيان الذين لا غنية للمجتمع الشامي عنهم في إنهاضه. ويشترط في من يريدون الإخصاء في هذه الفنون أن يكونوا ممن يحبون أن يعرفوا بما اختصوا به ، أو يسعوا طاقتهم لنشره ، ومن لا يحب صنعته ولا يفاخر بها لا يبرز فيها ، وعندئذ نعدّ شيئا مذكورا بين أمم الحضارة في باب هذه الفنون كما كان أجدادنا.

يقول الجاحظ : إن الضحك في موضعه كالبكاء في موضعه ، والتبسم في موضعه كالقطوب في موضعه ، وإنما تشاغل الناس ليفرغوا ، وجدّوا ليهزلوا ، كما تذللوا ليعزوا ، وكدوا ليستريحوا ، وقد قسم الله الخير على المعدلة ، وأجرى جميع الأمور إلى غاية المصلحة ، وقسط أجزاء المثوبة على العزيمة والرخصة ، وعلى الإعلان والتقية ، فأمر بالمداراة كما أمر بالمباداة ، وجوّز المعاريض ، كما أمر بالإفصاح ، وسوغ المباح ، كما شدد في المفروض ، وجعل المباح جماما للقلوب ، وراحة للأبدان ، وعونا على معاودة الأعمال ا ه.

١٣٠

الزراعة الشامية

العامر والغامر :

حياة الشام بزراعته ثم بصناعته وتجارته ، والقرى والبوادي أوسع بقعة وأوفر سكانا من المدن والحواضر ، ولا نعلم مقدار سكان الشام في القرون التي سبقت الإسلام ولا في القرون التالية ، وقال بعضهم : إن سكان الشام عند دخول العرب كانوا ستة ملايين على وجه التخمين ، ولكن الظاهر من مصانع أهلها وطرقهم القديمة التي كانت تربط أجزاء القطر كالشبكة وآثار عمرانهم مثل حنايا بعض الجسور الكبرى ، وخرائب القصور الفخمة ، والدّ من التي تشاهد الآن في أواسط الفلوات الخالية ، والعاديّات والآثار الجمة ، يدل على ارتقاء زراعتهم وكثرة ثروتهم ونفوسهم. فقد كانت حوران أنبار الشام على عهد الرومان لوفرة حبوبها ولا تزال هي والبلقاء على كثرة ما تعاقب عليهما من الأيدي الظالمة في الأكثر ، معروفة بهذه الصفة وجودة حنطتهما التي لا مثيل لها ، وما يقال عنهما يقال عن جميع الأصقاع الشامية. ولا سيما ما كان بقرب المياه والأودية فإنه عامر بطبيعته لا يحتاج إلا لأمن ونظام حتى يفيض لبنا وعسلا.

ومغل حوران كسيل دافق

يأتم من أرجاء جلق موجلا

ومما أقامه الرومان لحفظ زراعة البلقاء وحوران وما كان على سيف البادية من مرج الغوطة وأداني جبل قلمون وتدمر فحلب فما وراءها ، مخافر مجهزة أحسن جهاز لمنع البادية من التسلل إلى المعمور ، لأن داء الغارات على الزروع والعيث في العامر من الأدواء القديمة. واعتداء الرحالة من أهل الظعن ، على المقيمين من أهل الدساكر والمزارع ، النازلين في الدور والمساكن ، داء قديم

١٣١

عقام على ما يظهر. وما اتخذ الروم من الغسانيين في الجنوب ، والتنوخيين في الشمال عمالا لهم إلا ليقوموا بإنفاذ هذا الغرض ، ويأمنوا بسلطانهم عيث البادية على أرض الشام الجميلة.

وليست البادية التي تحد أكثر هذا القطر من الشرق كما قال الدكتور پوست بادية حقيقية لأنه يقع فيها بعض المطر في فصل الشتاء ، وينبت فيها عشب ترعاه المواشي ، وتسكنها قبائل شتى من العرب ، وتتدرج هذه البادية إلى جهة شمالي الشام ، في السهل المتسع الممتد من نواحي حلب إلى ما بين النهرين ، وكان هذا السهل مسكونا في قديم الزمان ، ولم تزل فيه آثار عظيمة تدل على كثرة الذين سكنوه ووفرة ثروتهم ، إلا أنه أمسى الآن قليل السكان تجول فيه العرب والأكراد. وقد أكد موسيل أن البلاد الواقعة في شرقي الأردن كانت قبل مئة وعشرين سنة عامرة بالسكان وهي اليوم تكاد تكون خالية لعيث البادية.

وأهل الوبر الذين يشتون منذ القديم بمواشيهم فيما وراء بادية الشام من الفلوات تشتد حاجتهم في الربيع إلى أن يدخلوا المعمور ، فإذا حصدت الزروع يضطرون إلى رعي أنعامهم وأغنامهم في أرض الحصيد ، ومراعي دير الزور والجولان طلبا للماء ، والتماسا لبيع حاصلاتهم واستبضاع ما يلزمهم. وإذ كانت أرض السقي أقلّ من أرض العذي بالشام ، ومعظم الأنهار لا يستفاد من سقياها اليوم كما كانت الحال عند الأقدمين ، زاد اعتداء البادية على مهاجمة البلدان الخصبة.

قلة العناية بالأنهار :

نقول هذا وأهم أنهارنا الفرات وهو نهر يتاخمنا من الشرق ، ولا نستفيد منه الاستفادة المطلوبة لأنه منحط عن مستوى أرضنا ، ولم يكن كذلك في الدهر السالف بما كان يعهد به من السدود والسكور التي كانت سبب غنى العراق ، وبالطبع غنى الأقاليم المتاخمة له من أرض الشام. ولا يستفاد من الأنهار التي تشق قلب القطر الفائدة المطلوبة في الريّ. فالأردن مثلا يشق بعض أرجاء فلسطين والعاصي الذي يجري من سفوح لبنان مارا بحمص فحماة فأنطاكية حتى السويدية لا ينتفع بهما على ما كان الحال قديما. فقد انتهى إلينا من عمل القدماء سد قدس بالقرب من قرية قطينة بجوار أرض حمص ، وكان أعلى مما هو الآن بحيث يتأتى

١٣٢

أن يسقي العاصي بواسطته وما اخترع له من النواعير ، جميع الأرض العالية في وادي نهر المقلوب كما كانت العرب تسمي العاصي. ولا تزال إلى الآن آثار السدود والقني في غور الفارعة بادية للعيان ، تدل على أن القدماء كانوا ينتفعون من مياه نهر الأردن أكثر منا اليوم. ويقول صديقنا الأمير شكيب أرسلان : إن الأراضي التي لها حظ من الشرب في هذه الغيران (جمع غور) إنما تسقى من أودية جارية من الجبال مثل سيل الزرقاء ، والسائل من جهة عجلون إلى الغرب ، ومثل مياه بيسان المنحدرة من صوب مرج بني عامر إلى الشرق ، ومثل ماء الفارعة النازل من الغرب إلى الشرق ، ومثل عين السلطان التي تسقي جنان أريحا ، ومثل غور نمرين المنحدر من وادي شعيب أسفل الصلت إلى الغرب وماء حسبان وغيرها من المياه ، وهذه الجداول كلها لو اجتمعت ما ساوت معشار الأردن الذي أصبح عاطلا من كل عمل ا ه.

وحالة الإرواء في أكثر الأنحاء البعيدة ما زالت على الفطرة القديمة ، فالقريب من الماء يروي أرضه أو بستانه بالقربة أو المدار كأهل الزور وجزيرة ابن عمر في أقصى الشام ، فإن هذه الأنحاء في وسط المياه كالفرات والخابور وغيرهما من كبار الأنهار وقلما تستفيد منه ، وقد خربت السدود القديمة ولم يعمل غيرها ، ذلك لأن الأنهار الكبيرة ولا سيما الفرات قد تتحول عن مجراها في معظم السنين لأنها خالية من الجوانب المتينة المحددة ، وهي في أرض رخوة خبار ، فإذا فاضت طغت على الأرض اللينة.

وكان نهر بردى ونهر الأعوج يستفاد منهما أكثر من جميع الأنهار التي تعطش الأرض التي حفافيها ، وهي من مجراه على قيد أشبار ، أو يترك للبحر يصب فيه على هينته وهواه ، كنهر عفرين والأسود وقاديشا والأولي والأزرق والعوجا وإبراهيم والمقطع والقاسمية وغيرها. وكم في هذه الديار من آثار قنوات عجيبة مثل قناة بسيمة في سنير ، وربما كان ماء عين الفيجة يسيل منها إلى بلد بعيد كما هو المأثور ، ومثل قناة منين التي جرها المأمون إلى معسكره في أعلى قاسيون بدمشق. وكم من قناة طمت بتهاون الفلاح فهلك مع أرضه عطشا ، لأن الحكومات قلما التفتت في الأدوار الأخيرة إلى العناية بأمرها ، والأعمال

١٣٣

المشتركة قلما تجد لها نصيرا في هذه الأرض ، ولو كانت مياه الشفة فكيف بمياه الري ري الأرض.

خراب الزراعة والمزارع :

ويمكن أن يقال إن القطر خرب بنزول الفاتحين المخربين والعاهات الطبيعية ثم من فساد النظام في الدولتين الجركسية والتركية في القرون الوسطى إلى هذا العهد ، وقد كان مسرح ظلم ، وميدان حروب وغارات ، يهلك الفلاح فيه كما يهلك النمل تحت الأقدام ، وقبل أن يهلك ابن المدن الذي له من اجتماعه بأخيه ، واعتصامه وراء حصنه وسوره بعض الوقاية ، وكانت القرى التي على جوانب الطرق تخرب قبل غيرها ، وعلى نسبة قرب القرية من المدينة أو من الطرق الموصلة أو طرق الغزاة والفاتحين ، كان الخراب إليها أسرع من الماء إلى الحدور. وكان من دلائل القوة في تلك الأعصر أن تخرب القرى وتلقى النار فيها إذا غضب الملك أو الأمير أو المقدم أو صاحب الإقطاع على ذاك الإقليم أو تلك القرية. وكان قطع الأشجار من أبلغ أنواع النكاية في الخصم ولذلك أمثلة كثيرة في القديم والحديث إلى زمن كتابة هذا الفصل. وما أصيبت به الأشجار في غوطة دمشق خلال الثورة الشامية الأخيرة مثال مما تعمله الحكومات حتى باسم الحضارة. فكأن طبائع الحكومات واحد يوم تغضب من شعب أو تريد أن تكره التناء على النزول على إرادتها.

وأهم ما أثر في حالة الفلاح نظام الحكومات ، لأن أصول الإدارة لم تؤسس في هذه المملكة على ما يجب ، وكانت المظالم الأرضية والمفاسد البشرية أشد تأثيرا في أهل الفلح والكرث والقائمين على تربية الماشية والضرع ، من الآفات السماوية ، كالزلازل والأوبئة والقحط من قلة أمطار أو فيضان أو انتشار جراد أو ديدان وجرذ وفيران.

هذه العوامل هي جماع الخراب الذي أصاب العامر فدمر القرى والأقاليم ، ومنها ما لا تزال دمنه ومياهه شاهدة على ماضيه الزاهر ، فقد ذكر الظاهري من أهل المئة التاسعة للهجرة أنه كان على عهده نيف وألف قرية ومدن صغار في حوران ، وأنه كان في إقليم غوطة دمشق نيف وثلاثمائة قرية وبه مدن صغار وبلدان تشابه المدن ، وأنه كان في وادي التيم وما إليه ثلاثمائة وستون قرية ، وإذا

١٣٤

أحصيت قرى هذه الأقاليم الثلاثة اليوم لا تجدها في حوران تزيد على أربعمائة قرية ومنها الخرب ، وفي الغوطة على ثنتين وأربعين ، وفي وادي التيم على ثلاثين إلى أربعين. وهكذا سائر الشام. فإن حلب كان فيها قبل العثمانيين ٣٢٠٠ قرية فأصبحت ٤٠٠ في القرن الحادي عشر ، ومنها ما ظل خرابا إلى النصف الأخير من القرن الماضي لأن معظم عهد العثمانيين انقضى في مظالم ومغارم ، وكان من جندها ولا سيما الإنكشارية في آخر عهدهم أدوات تخريب لم يشهد الناس أفظع منها ، لذلك خربت حتى الضواحي والأرباض من المدن الحافلة أمثال حلب ودمشق وحماة وحمص وما شاكلها. وكانت رجل الإنكشاري بل الجندي التركي على الإطلاق حيث دبت يدب الدمار والبوار. ولذلك لا نكاد نرى عمرانا إلا على طول الطرق العامة الكبرى وما إليها من اليمين والشمال ، ونشاهد المدينتين العظيمتين حلب ودمشق مثلا ينقطع في الحال أو على ساعات قليلة عمرانهما الذي كان وارف الظلال إلى القاصية. وكان هذا بفعل البادية وفعل الجيوش المدمرة.

عوامل الخراب :

ولو لا ذلك الظلم المتسلسل قرونا في أعقاب الفلاحين المساكين ، وأسواط النقمة التي انهالت على رقابهم الجيل بعد الجيل ، لما تيسر اليوم لأحد أن يملك المزرعة والمزرعتين بل ربما العشر والعشرين قرية ، وبعض الأسر الحديثة تملك الخمسين والثمانين ، والإنسان قد تكفيه المئة دونم أو جريب إذا أحسن تعهدها ، فكيف له أن يعمر ألوفا من الأفدنة ، ويتسع وقته وماله لحمايتها وترقيتها؟ نقول حمايتها لأن كثيرا من القرى تنازل عنها ملاكها لأرباب النفوذ ليحموهم من ظلم الحكام والمرابين ، وأخذوا ثمنها بضع عباءات وغلايين ، أو قفة من البن أو رطلا من الدخان أو أقة من الحلوى المعروفة بالبقلاوة ، ومن الأراضي ما توسل أهلها إلى أرباب المكانة أن يسجلوها في دائرة التمليك بأسمائهم لما شرعت الدولة العثمانية ١٨٨٢ م بتسجيل الأملاك على أصحابها ، وذلك فرارا من ظلم عمال تلك الحكومة ومن وضع الرسم المعتاد ، ومنهم من تخلوا للأعيان عن أراض عانوا مع آبائهم زراعتها زمنا طويلا ، تخلصا من تسجيل نفوسهم

١٣٥

لما حررت النفوس ، ومن أهل القرى من خرجوا عن ملك أراضيهم لأنه وجد فيها قتيل ، وكانت العادة ولا تزال إلى اليوم أن يلزم أهل الأرض بدية من يقتل فيها أو تفرض غرامة ثقيلة عليهم ، فمنهم من تركوا أرضهم مخافة أن يلزموا بمال لا قبل لهم بأدائه. ومن القرى ما خرج عن ملك أهله كما وقع لأهل مرج ابن عامر في القرن الماضي لما عجزوا عن دفع الأموال الأميرية فباعته الحكومة التركية بالثمن البخس صفقة واحدة لرجل واحد مقابل رشوة قبضها الوالي.

ومن المرابين من اقتنوا قرى كثيرة في الديار الشامية لأنهم كانوا لا يشفقون على الفلاح باشتطاطهم عليه بأخذ الربا الفاحش. وما زلنا في كل دور نرى الفلاح في أكثر الأقاليم يقترض المئة بمئة وخمسين من الخريف إلى البيدر وأحيانا ترتفع الفائدة إلى أكثر من هذا القدر، فإذا أضيف إلى ذلك ظلم الأعشار (١) وتعدد الضرائب على الفلاح حتى كاد يهلك بسببها ، لا نستعظم إذا رأينا خرابا ، بل نقول : لماذا نرى هذه الرشاشة من العمران قرب المدن والثغور ، وعلى شواطىء الأنهار والبحيرات.

ولقد كانت الأوقاف من جملة ما أخر الزراعة ، ذلك لأن الأراضي الموقوفة تجمد على حالة واحدة في أشجارها وغلاتها ومجاريها وسكورها وزرائبها ، وكل جسم لا ينمو يصيبه الفناء. وعلى كثرة ما وقف المسلمون على أعمال البر وغيرها لا يمضي القرن والقرنان حتى يعود الوقف ملكا صرفا ، ولو لا ذلك لكثر الخراب أكثر مما هو الآن في القرى والحدائق. ولو دام حكم إبراهيم باشا المصري إلى اليوم لأصبحت أرضنا عامرة كمصر لأنه نشط الزراعة وأمر بنشر دود الحرير ودود القز وعلم الأهالي كيفية قطف الزيتون بالأيدي حتى صار شجره يعطي ثمرا في كل سنة فاستعادت بعمله أكثر القرى عمرانها القديم.

كتب قنصل بريطانيا في دمشق سنة ١٨٥٩ م بمناسبة زيادة الضرائب على الأهلين وتوكيل الجنود بجبايتها بالعنف : إن الحكومة تأخذ مال الشعب ظلما وعنفا ، ولا تحميهم من البدو الذين يزدادون جرأة واعتداء ، وعملها قائم

__________________

(١) جربت الحكومة في الشام في سنة ١٩٢٥ م طريقة التربيع فجمعت مقدار أعشار سنتين قبل الحرب وسنتين بعدها وأخذت ربعها وأنشأت تتقاضى مالا مقطوعا. وألغت بذلك الأعشار فألغت بإلغائه نظاما سيئا من نظم القرون الوسطى.

١٣٦

بابتزاز أموال الفلاحين التعساء لما فيه مصلحتها ، على حين لا تأتي بدليل على إدراكها وجوب حماية الذين يجب عليهم أن يدفعوا الأموال اللازمة لتحسين حال الولاية ، وسد حاجات الحكومة المركزية ، وإنما تهمل الاحتياط للأمر. وقال أيضا : «إن جو الشام صاف وهواءها جيد وأرضها خصبة حسنة الري ، ففي مكنتها أن تصبر على هذه الحالة أكثر من غيرها من الولايات الأقل خصبا ، ولكن لا بد في آخر الأمر من أن تفرغ هذه الموارد».

آفة الهجرة على الزراعة :

ومما أصيبت به الزراعة من الآفات آفة دونها الآفات كلها ، بدأت تدب في جسمها أواخر القرن الماضي بركوب الفلاحين غوارب الاغتراب عن الوطن في التماس الرزق وطرق الغنى. وذلك منذ دهش الناس لأرباح المهاجرة الأول من الشاميين إلى أميركا. أرباح لم يكن لابن هذه الأرض عهد بها وكان ثلاثة وعشرون قيراطا من أربعة وعشرين قيراطا منهم يعيش ، ولا سيما في الأرض القاحلة ، عيش القلة الشديدة. فلم يلبث الناس في الجبال أن حذوا حذو أولئك المهاجرين ، فأخذ الناس ينزحون إلى أميركا الجنوبية والشمالية وإلى اوستراليا وجنوبي إفريقية وغيرها من البلاد المفتتحة حديثا ، حيث يسهل جني المال ، وتزيد أجرة العامل على نفقته كثيرا.

وهاجر ألوف أيضا إلى مصر والسودان عقبى الاحتلال الإنكليزي سنة (١٨٨٢ م) فحرمت الشام في أربعين سنة نحو سبعمائة ألف يد عاملة ، كان ثلثهم يستوطن في الأصقاع التي نزلها ، تمسك بتلابيبه لكثرة علائقه وطيب العيش فيها ، والثلث الثاني يهلك ، والثلث الثالث يرجع. ولم تلبث الهجرة أن عمت جميع السكان ، اقتصرت على أبناء الجبال أولا ، ثم تناولت ابن السهول ، وانتقل الغرام بها من ابن القرية إلى ابن المدينة. ومن جملة ما زاد في عدد المهاجرين سهولة السفر وتأليف شركات للتسفير تسلف المهاجر أجرة طريقه ونفقاته الأولى ريثما يجد عملا حيث ينزل.

وهذه الهجرة من أعظم ما أخر حال الزراعة في هذا القطر ، فأصيبت بضربة مهمة أهمها ارتفاع أجور العملة فيها لأن من عاد منهم يحمل مالا ولو

١٣٧

قليلا استنكف عن العمل في الزراعة كما كان هو وأبوه ، ومنهم من بنوا القصور الغناء والدور القوراء في مزارعهم ، وأخذوا ينعمون بطيب العيش ، ويبحثون أوقات فراغهم في أمور ما كانت لهم ولا كانوا لها ، ويلهون ويلعبون على الطرق التي اقتبسوها في مهاجرهم. وقد كانت جبال لبنان وعامل والعلويين وقلمون والخليل والسامرة من أشد الأصقاع التي تأذت بالهجرة فتأخرت زراعتها فوق تأخرها. ولقلة اليد العاملة رأينا بعضهم في البقاع يقرن امرأته إلى ثوره تعمل مع فدانه ، ورأينا الحوارنة يستكثرون من الأزواج يتخذونهن أجيرات في أعمال الحقل وعلف الدواب واستخراج الدرّ وعمل السمن واللبن. ولئن دخلت القطر أموال طائلة بسبب الهجرة فثروة أمة لا تعد بكثرة نقدها بل بكثرة ما يعمل أبناؤها في أساليب الرزق المختلفة ، وقلّ أن أنفق مال يذكر على تحسين الزراعة وإقامة الشركات النافعة ، ونحن لم نبرح ننشد مع حافظ إبراهيم :

أيشتكي الفقر غادينا ورائحنا

ونحن نمشي على أرض من الذهب

خصب الأراضي ومعالجتها وما يزرع فيها :

يضرب المثل بزكاء منابت الشام واعتدال أهويتها ، وجودة مناخها ، وكثرة مياهها ، على كثرة حزونها وجبالها ، وإن أرضا تعطي حبتها في بعض الجهات مئة حبة ، كأرض الرحبة بالقرب من جبال الصفا ، لتعد من أخصب بقاع الأرض ، وذلك لأن أرضها مستريحة منذ العصور المتطاولة. فإذا كان بنو إسرائيل قد جعلوا عادة لهم أن يريحوا أرضهم مرة كل سبع سنين ، فإننا قد أرحناها منذ قرون ، ولذلك لا تضن علينا بخيرات سطحها كلما حرثناها وزرعناها.

وما زالت زراعتنا كما عرفها الأجداد بل كما عرفها الإنسان منذ آلاف من السنين ، ليس فيها شيء من العلم إلا التجارب ، ولا من التغيير إلا ما تضطر إليه الأحوال وتهدي إليه الفطرة ، ولذلك يعوزها كثير مما يجود في غيرها من النباتات والأشجار. قال الرحالة فولني في كلامه على مناخ الشام : إن الأرز يجود زرعه على شواطىء بحيرة الحولة ، والنيلة تنبت بلا عمل على ضفاف نهر الأردن في بيسان وهي لا تحتاج إلا إلى قليل من العناية حتى تستوفي الشروط المطلوبة. وبعد أن أفاض القول على مدن الشام قال : إن دمشق تفاخر وحق

١٣٨

لها الفخر بأن فيها كل الثمار التي تحصل في ولايات فرنسا. ثم ذكر أن البن الذي يزرع في تهامة اليمن تلائم زراعته أرض الشام ، ومناخها يلائم طبائع الثمار كلها فينبت النخل كما ينبت الصنوبر والسرو.

وقال «هوار» : لئن كان القطن زرع في أوربا فإن ضواحي هاتين المدينتين (دمشق وحلب) كانت خاصة بزراعة شجيرة القطن ، وهذه الحقول البديعة توجب حيرة السياح ، والقطن الصغير الطول ينبت في ضواحي دمشق ، وكانت عكا واللاذقية وقبرس تعطي صنفا ثالثا من القطن ، وكانت أرجاء نابلس إلى عهد قريب تصدر من القطن ما قيمته مئات الألوف من الدنانير.

وقال «پوست» : تقسم فلسطين باعتبار الفلاحة إلى أربعة أقسام : السواحل كساحل غزة ويافا وشارون وهي صالحة لنمو مزروعات المنطقة تحت الحارة ، ووادي الأردن (العربة) وهي تناسب مزروعات المنطقة الحارة والجبال وفيها أودية كثيرة مخصبة كمرج ابن عامر «يزرعيل» ، والأودية المجاورة كالناصرة ونابلس والخليل «حبرون» وهي تناسب مزروعات المنطقة المعتدلة ، والسهول الداخلية وهي تناسب في الأكثر الحنطة والشعير والسمسم. قال : ولا شك بأن هذه البلاد كانت ذات أشجار برية وبستانية أكثر مما هي الآن. وكان التراب على جوانب الجبال أكثر مما هو اليوم ، وكذلك العيون فإنها كانت أكثر عددا وماء فضلا عن أن مياه الشتاء كانت تجمع في مساقي وصهاريج. وقال «ورن» : إن فلسطين «شرقي الأردن وغربيه» كافية لسكنى خمسة عشر مليونا من الجنس البشري إذا اعتني بها الاعتناء الواجب. قلنا : إذا كانت الشام على هذه الصفة من الخصب والسعة فكيف لا تسع العشرين مليونا من الناس وكل إقليم من أقاليمها كالبلقاء أو الجولان مثلا يعد الصالح من تربته أكثر من مملكة من الممالك الصغرى في أوربا ، ولكن السر بالسكان لا بالمكان.

تقسيم السهول والجبال :

قسم صاحب كتاب الزراعة العملية الحديثة أقاليم الشام الزراعية إلى خمسة أقاليم يتركب كل منها من عدة مناطق تكاد تكون واحدة في درجة الارتفاع عن سطح البحر وهي:

١٣٩

(١) أقليم الغور أي شواطىء الأردن وهو يمتد من بحيرة الحولة شمالا إلى بحيرة لوط جنوبا ، أي أراضي جنوب بحيرة الحولة وأراضي البطيحة والغوير وسمخ والقسم الشرقي من بحيرة طبرية وأرض جسر المجامع وبيسان وجنوب بيسان وغور الصلت ومنطقة أريحا وشواطىء بحيرة لوط. ومن جملة نباتات هذا الأقليم البردي والأسل والقصب الفارسي والأكاسيا الشوكي والسوسن وزنبق الماء على شواطىء بحيرة الحولة والسدر الكثير في الأراضي المجاورة لبحيرة طبرية كأرض الغوير والمجدل والبطيحة وغيرها والغار والطرفاء والقصب وأنواع النخيل وسفط السيال والرتم والبان والصلة والغرقد والعوسج والعشر وغيرها على شواطىء الأردن في منطقة بيسان وشرق الشريعة والصلت وأريحا.

(٢) إقليم السواحل التي تمتد من شبه جزيرة العقبة إلى خليج الإسكندرونه ويشتمل على السهول الساحلية من غزة ويافا وحيفا وعكا وصور وبيروت وطرابلس واللاذقية والإسكندرونة ويدخل فيه مرج ابن عامر وأراضي جنين وشمال بحيرة الحولة ويجود فيه الليمون والبرتقال والموز والرمان. ومن جملة نباتات هذا الإقليم الطبيعية البلان والصنوبر البحري والقندول والوزال والطرفاء وأنواع البرسيم والشقائق والدّفلى والأقحوان والقصب الفارسي وأنواع مختلفة من البلوط

(٣) أقليم السهول وتدخل فيه سهول الكرك والبلقاء وحوران وسفوح حرمون والبقاع والجولان والغوطة والمرج والسهول المرتفعة في فلسطين وحمص وحماة وحلب وما شاكلها من السهول المتقاربة في إقليمها ، وتجود في هذا الأقليم الأشجار المثمرة والخضر والتوت واللوز في الأرض البعلية والحور والصفصاف والدلب في شواطىء الأنهار.

(٤) إقليم الجبال ويدخل فيه جبال الكرك والصلت وعجلون وقلمون وجبل الشيخ ولبنان ولبنان الشرقي والنصيرية والأقرع ، ويجود فيه الزيتون والكرم والتين واللوز والصنوبر والسرو والفستق البري والميس والحبوب وكثير من الأشجار المثمرة ، وفيه من النباتات الطبيعية البطم والقيقب والجنستا والخرنوب والزعرور والعليق والشذاب والدر دار والزيتون والسنديان والدلب والصنوبر والديشار والآس والسرخس ، وفي أقسام الجبال المرتفعة بعض أنواع البلوط ثم الأرز والدفران.

١٤٠