خطط الشام - ج ٤

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٤

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٧٦

الناس عنه. ومن العازفين على الكمنجة أوائل هذا القرن شعيا الكمنجاتي وإسحاق عدس ونيقولاكي الحجار. ومن الأحياء سامي الشوا ووالده أنطون موسيقار أيضا. والعازفون بالناي المعروف عند العرب باليراعة كان نابغة فيه أوائل القرن عبده زرزور وكل من في حلب اليوم خريجوه وتلاميذه ا ه. ومن الموسيقيين الحلبيين أيضا عبد الكريم بلّة وحبيب العبديني وأحمد مكانس وعمر البطش ومصطفى طمرق توفوا في أوائل هذا القرن.

ولقد بدأت الموسيقى التركية تنازع الموسيقى العربية في أواخر القرن الماضي لأنها خدمت أكثر من موسيقانا ، ثم جاءت الموسيقى الإفرنجية ، فأصبحت الموسيقى الشامية مزيجا لا يقام له وزن ، لم يحتفظ بالقديم وهو من روحه وعاداته ولم يحسن اقتباس الجديد لأنه ليس من مصطلحه. ولا يفوتنا القول إن الموسيقى في العصور المتأخرة كان لها في أذكار بعض أرباب الطرق الصوفية مقام رفيع. ومنهم من أتبعها بالصنوج والأوتار ، ومنهم من شفعها برقص ، وقد قام منهم مبرزون في صنعتهم ، وماتت شهرتهم ، يوم سكنت نأمتهم ، والموسيقى في الكنائس على اختلاف الطوائف المسيحية وتباين العصور ، ما زالت شائعة معتبرة وكم من موسيقار عندهم تقلبت به الحال حتى رقي بفضله إلى أرقى درجات الكهنوت.

التصوير :

أخذ الحثيون التصوير على الأغلب كما أخذوا النقش والبناء عن جيرانهم من البابليين والأشوريين ، وربما أخذوا عن المصريين أيضا ، لكنهم لم يجودوه كل الإجادة على ما رأينا من تصاويرهم المكتشفة ، وخالفنا رأي بعض المشتغلين بآثارهم المعجبين بمدنيتهم ، فإن الآثار التي اكتشفت للحثيين في جرابلس تدل على مبلغ تلك الأمة من الإتقان في النقش والتصوير. وقد قال لنا الاستاذ هروزني التشكي وهو إخصائي بآثار الحثيين : إن عادياتهم مما يعجب منه ، ولا تقلّ بجمالها عن بقية آثار الأمم الأخرى ، وكذلك فعل الكنعانيون والفينيقيون والإسرائيليون ، أخذوا عن أشور وبابل ومصر هذا الفن ، ولم يعرف أنه كان لهم طرز خاص في التصوير ، وكانوا على ما ظهر دون من اقتبسوا عنهم. أما

١٠١

التدمريون فأجادوا في تصويرهم وكانوا ينقشون على القبور صور من دفن فيها من الرجال والنساء ، مثل أهل جنوة في إيطاليا في العصور الأخيرة ، ومنها صورة جاريتين رآهما أوس بن ثعلبة التيمي في القرن الأول وقال فيهما أبياته المشهورة :

فتاتي أهل تدمر خبراني

ألّما تسأما طول المقام

قيامكما على غير الحشايا

على جبل أصم من الرخام

وفي دار الآثار بدمشق مجموعة تماثيل من قبور تدمر كأنها تنطق ، ومنها صورة فتاة مزينة الرأس يستدل منها على صورة تصفيف الشعور في ذاك العصر ، وكيف كانت أزياء نساء تدمر وبهرجة رؤوسهن وأقراطهن وعصباتهن ، وفيما ظهر مؤخرا في مدينة تدمر من تماثيل صاحبتها زينب ووصيفاتها وفي غير ذلك من الشخوص دليل على تبريز التدمريين في هذا الشأن.

أما التصوير عند الروم واليونان في الشام فإن منه نموذجات تأخذ بمجامع القلوب قال الثعالبي : لم يبدع التصوير إبداع الروم والرومان أحد من الأمم ، فقد كان لهم إغراب في خرط التماثيل وإبداع في عمل النقوش والتصوير ، حتى إن مصورهم يصور الإنسان ولا يغادر شيئا إلا الروح ، ثم لا يرضى بذلك حتى يصوره ضاحكا ، ثم لا يرضى بذلك حتى يفصل بين ضحك الشامت ، وضحك الخجل ، وبين المتبسم والمستغرب ، وبين ضحك المسرور وضحك الهازئ ، فيركب صورة في صورة ، وصورة في صورة.

والمصانع الشامية من العهد الروماني هي ذات أشكال معتادة في تلك الأعصر لها نقش ظاهر خاص بها من النقوش النباتية الكبيرة المنقولة عن نباتات القطر ولا سيما في فلسطين على عهد الملوك والقضاة ومنها ما يستعمل فيه صور الطيور. قال دوسو : إن في الكتابات التي وجدت في الصفا صورة فرسان مسلحين برماح طويلة على مثال بدو هذه الأيام ، وأحيانا تمثلهم وهم يطاردون غزالا أو وعلا أو يصطادون أسدا ، ومنهم الفرسان يحملون الرماح والمشاة مسلحون بالقوس والنشاب. ولقد غصت فلسطين على عهد الامبراطور قسطنطين بالمصانع التي تذكر بالحوادث الخطيرة التي وردت في الإنجيل وقد زينت هذه المصانع بالفصوص التي تمثل هذه المشاهد.

١٠٢

جاء الإسلام للقضاء على الوثنية وعبادة الأصنام ، فحاذر المسلمون إذا أجازوا الرسم المجسم أن يكون في عملهم مدرجة للعرب إلى الرجوع إلى عبادة الأصنام ، فجعلوا في التجويز بعض القيود الخفيفة ، ولما ذهبت تلك الخشية أخذت مسألة التصوير تنحل شيئا فشيئا ويعمد إلى ما فيه مصلحة منه. ذكر المقريزي أن الرسول عليه‌السلام أقر نقود العرب في الجاهلية التي كانت ترد إليهم من الممالك الأخرى والدنانير قيصرية من قبل الروم مصورة وأن عمر ضرب الدراهم على نقش الكسروية وشكلها وبأعيانها وضرب معاوية دنانير عليها تمثال متقلدا سيفا.

ورأينا زيد بن خالد الصحابي استعمل الستر الذي فيه صور ولم ينكر الناس عمله. قال صديقنا السيد محمد رشيد رضا في المنار : ومن الآثار في حكم التصوير وصنع الصور والتماثيل اتخاذ أحد أعاظم أئمة التابعين القاسم بن محمد ابن أبي بكر (رض) الحجلة التي فيها تصاوير القندس والعنقاء ، وهو ربيب عمته عائشة الصديقة وأعلم الناس بحديثها وفقهها ، ومنها استعمال يسار بن نمير مولى عمر بن الخطاب (رض) وخازنه الصور في داره ، ومنها صنع الصور في دار مروان بن الحكم وسعيد بن العاص وكل منهما ولي إمارة المدينة وكانا من التابعين قال : وعمل مروان يدل على أن التصوير كان مستعملا في عصر الصحابة ، فمن عرض مسألة التصوير واتخاذ الصور على هذه القواعد الشرعية علم منها أن دين الفطرة الذي قرن كتابه ووصف بالحكمة ، ورفع منه الحرج والعسر عن الأمة ، لم يكن ليحرم صناعة نافعة في كثير من العلوم والأعمال ويحتاج إليها في حفظ الأمن وفنون القتال ، وإنما يحرم ما فيه مفسدة أو ما كان ذريعة إلى مفسدة ا ه.

ويعجبني ما كتبه أستاذنا الإمام الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية في وصف رحلته إلى صقلية عام ١٣٢٢ ه‍ (١٨٩٤ م) في مجلة المنار وقد ذكر تنافس الغربيين في حفظ الصور المرسومة على الورق والنسيج فقال : «إذا كنت تدري السبب في حفظ سلفك للشعر وضبطه في دواوين والمبالغة في تحريره خصوصا شعر الجاهلية ، وما عني الأوائلرحمهم‌الله بجمعه وترتيبه ، أمكنك أن تعرف السبب في محافظة القوم على هذه المطبوعات من الرسوم والتماثيل ، فإن الرسم

١٠٣

ضرب من الشعر يرى ولا يسمع ، والشعر ضرب من الرسم الذي يسمع ولا يرى. إن هذه الرسوم والتماثيل قد حفظت من أحوال الأشخاص في الشؤون المختلفة ، ومن أحوال الجماعات في المواقع المتنوعة ، ما تستحق به أن تسمى ديوان الهيئات والأحوال البشرية. يصورون الإنسان أو الحيوان في حال الفرح والرضى ، والطمأنينة والتسليم ، وهذه المعاني المدرجة في هذه الألفاظ ، متقاربة لا يسهل عليك تمييز بعضها من بعض ، ولكنك تنظر في رسوم مختلفة فتجد الفرق ظاهرا باهرا ، يصورونه مثلا في حالة الجزع والفزع والخوف والخشية. والجزع والفزع مختلفان في المعنى ، ولم أجمعهما هنا طمعا في جمع عينين في سطر واحد ، بل لأنهما مختلفان حقيقة ، ولكنك ربما تعصر ذهنك لتحديد الفرق بينهما وبين الخوف والخشية، ولا يسهل عليك أن تعرف متى يكون الفزع ومتى يكون الجزع ، وما الهيأة التي يكون عليها الشخص في هذه الحال أو تلك. أما إذا نظرت إلى الرسم وهو ذلك الشعر الساكت فإنك تجد الحقيقة بارزة لك تمتع بها نفسك ، كما يتلذذ بالنظر فيها حسك.

قال : «ربما تعرض لك مسألة عند قراءة هذا الكلام ، وهي ما حكم هذه الصور في الشريعة الإسلامية ، إذا كان القصد منها ما ذكر من تصوير هيئات البشر في انفعالاتهم النفسية وأوضاعهم الجثمانية ، هل هذا حرام أو جائز أو مكروه أو مندوب أو واجب؟ فأقول لك : إن الراسم قد رسم ، والفائدة محققة لا نزاع فيها ، ومعنى العبادة وتعظيم التمثال أو الصورة قد محي من الأذهان ، فإما أن تفهم الحكم من نفسك بعد ظهور الواقعة ، وإما أن ترفع سؤالا إلى المفتي فهو يجيبك مشافهة ، فإذا أوردت عليه حديث إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون أو ما في معناه مما ورد في الصحيح ، فالذي يغلب على ظني أنه سيقول لك إن الحديث جاء في أيام الوثنية ، وكانت الصور تتخذ في ذلك العهد لسببين : الأول اللهو والثاني التبرك بمثال من ترسم صورته من الصالحين ، والأول مما يبغضه الدين والثاني مما جاء الإسلام لمحوه ، والمصور في الحالين شاغل عن الله أو ممهد للإشراك به ، فإذا زال هذان العارضان وقصدت الفائدة ، كان تصوير الأشخاص بمنزلة تصوير النبات والشجر في المصنوعات ، وقد صنع ذلك في حواشي المصاحف وأوائل السور ، ولم يمنعه أحد من العلماء مع أن الفائدة

١٠٤

في نقش المصحف موضع النزاع ، أما فائدة الصور فمما لا نزاع فيه على الوجه الذي ذكر .. .. وبالجملة فانه يغلب على ظني أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم ، بعد تحقيق أنه لا خطر فيها على الدين لا من جهة العقيدة ولا من جهة العمل ا ه.

لما جاء الفاتحون إلى الشام كانت في تصويرها عالة على الروم والفرس وبقيت على ذلك مدة قليلة لأن التصوير لم يكن يعرف أنه كان في متفرق أقطار جزيرة العرب اللهم إلا في اليمن ، برع فيه أهلها براعة أثبتتها الآثار والمصانع ، وكانت الأثواب اليمانية المزركشة المبرقشة المصورة مما يحمل إلى الحجاز وسائر أرجاء الجزيرة وما إليها منذ عهد الجاهلية ، وأول ما عرف التصوير في الشام على عهد المسلمين كان في زمن الوليد باني الجامع الأموي بدمشق والمسجد الأقصى في القدس وغيرهما ، وما نظن أن جميع من صوروا له ما أراد من الحيوان والنبات والشجر والمدن والأصقاع كانوا من أصول عربية بل كان فيهم الفرس والروم الذين دخلوا في خدمة الدولة العربية ، ومنهم من بعثت به مملكة بيزنطية ليساعدوا الخليفة على عمله النافع ، وقد وجد الأثري موسيل التشكي في قصير عمرة على سبعين كيلومترا من قصر المشتى في البلقاء كتابات ونقوشا تشير إلى فتح الأندلس في أيام الوليد وفيه من النقوش الزاهية والتصاوير العجيبة ما يأخذ بالأبصار. قال صاحبنا شيخو : وفي هذه القصور من الآثار الهندسية ومن التصاوير ومن تمثيل أحوال البادية كالصيد والغزوات والمآدب والمصانع ما أذهل العلماء لوجوده في البراري. ويقول ريسون : إن العرب قد نهجوا في الفنون الجميلة نهج البيزنطيين ، ولم يخالفوهم إلا بعدم تجسيم الحيوان ، ولكنهم استعاضوا عنه بالنقش النباتي من تشبك أوراق وأقواس باهرة وفصفصة زاهرة وآكام ومعاهد ساحرة.

وفي التاريخ العام أن الإسلام حظر تمثيل الصور الآدمية ولكن هذا الحظر لم يمنع الخلفاء من أن يكون في قصورهم صور وتماثيل. ومع هذا لم يخلف العرب في النقش ولا في الرسم آثارا خارقة للعادة ، وما بقي من آثارهم وعادياتهم الحجرية وأنواطهم المنقوشة ، وعاجهم ومجوهراتهم ، يشهد باستعدادهم الفني ، فإنهم نقلوا عن غيرهم في هذا الشأن أولا ثم أخذوا يمرنون أنفسهم على حسن

١٠٥

الهندسة بالنقل عما عثروا عليه بادئ بدء ولا سيما عن الآثار البيزنطية ، فكانوا يخشون أول أمرهم ثم أخذوا يجرأون فيعدلون ما يريدون احتذاءه بل يخترعون ويبدعون ، فظهر لهم علم جديد مستقل على غير مثال ، قال : ولا نعلم هل كان للعرب قبل الإسلام طرز من البناء الخاص بهم ، لأنه لم يبق من الزمن السابق للإسلام سوى خرائب مبعثرة ، ومن الهجرة إلى القرن العاشر كان عهد الطرز اليوناني العربي ، وعلى مثاله جاء بناء المسجد الأقصى في القدس ، والجامع الأموي في دمشق ، والجامع الأعظم في قرطبة ، والتأثيرات اليونانية ظاهرة فيها ا ه.

وبعد أن ترجم العرب كتب الفنون والصناعات عن الروم والفرس والقبط والسريان والهند ، منذ أول النصف الثاني من القرن الأول ، أخذوا يزينون كتبهم ببعض الصور ، يصورونها لتمثيل المسائل العلمية للأبصار ، ولا سيما كتب النبات والبيطرة والحيوان والجراحة والهندسة والفلك والجغرافيا وبعض كتب الأدب والمحاضرات والمقامات ، فاستعملوها بحسب الحاجة وأجادوا بالنسبة لعصورهم ، على ما ثبت ذلك بشهادة المحفوظ من مخطوطات العرب في متاحف الشرق والغرب ، وأكثر من أثر عنهم التصوير والإجادة فيه وصنع التماثيل ووضعها في قصورهم خلفاء بني أمية في الأندلس ، ومن جاء بعدهم من الملوك ، والصور ـ كما قال ابن أيي أصيبعة ـ إنما جعلت لارتياح القلوب إليها واشتياق النظر إلى رؤيتها ، والصبيان يلازمون بيوت الصور للتأديب بسبب الصور التي فيها ، وكذلك نقشت اليهود هياكلها ، وصورت النصارى كنائسها وبيعها ، وزوق المسلمون مساجدهم.

نعم زوّق المسلمون مساجدهم ، وكانوا أوائل الإسلام يكتفون بالصلاة في مساجد أشبه بالأرض القفراء ، ويفضلون السجود على الحصا ويعدون فرشها بالبواري بدعة ، وذلك لئلا تشتغل العين بشيء يبعد النفس من الخشوع لبارئها ، ثم أخذوا يتأنقون في مساجدهم ، ويفرشونها بالطنافس والزرابيّ ، ويصورون حيطانها ، وينقشون فيها آيات ثم مشجرات وأماكن جميلة ، ومعظم ما انتهى إلينا أو بلغنا خبره في العصور العشرة الأخيرة في الشام تصوير المسائل العلمية ، والأمصار والأشجار ، والسفن تمخر في البحار ، ثم تصوير الحيوان والإنسان ولكن على قلة.

١٠٦

لا جرم أن التصوير في هذه الديار كان ضعيفا بعض الشيء لأن مسألته كان فيها نظر عند بعض الفقهاء الذين جمدوا على ما فهموه من الشريعة ، والتصوير عارض على الملة غير مغروس في فطرتها ، ولكن المسلمين تطوروا بطور الأمصار التي نزلوها. ولم يتوقف ملوكهم وأمراؤهم على فتاوى الفقهاء لإقامة المعالم واقتباس الحضارة ، فقد ذكر ابن بطريق أن بطريق الروم في قنسرين طلب إلى أبي عبيدة ابن الجراح الموادعة على نفسه سنة حتى يلحق الناس بهرقل الملك ، ومن أقام فيها فهو في ذمة وصلح ، فأجابه أبو عبيدة إلى ذلك ، فسأله البطريق وضع عمود بين الروم والمسلمين ، وصوّر الروم في ذلك العمود صورة هرقل جالسا في ملكه فرضي أبو عبيدة ، ومرّ بالصورة أحد العرب ، ووضع زج رمحه في عين تلك الصورة ففقأ عين التمثال عن غير قصد ، فأقبل البطريق وقال لأبي عبيدة : غدرتمونا يا معشر المسلمين ، ونقضتم الصلح ، وقطعتم الهدنة فقال أبو عبيدة : فمن نقضه؟ فقال البطريق : الذي فقأ عين ملكنا. فقال أبو عبيدة : فما تريدون؟ فقال : لا نرضى حتى نفقأ عين ملككم. فقال أبو عبيدة : صوروا بدل صورتكم هذه صورتي ثم اصنعوا بي ما أحببتم وما بدا لكم ، فقال : لا نرضى إلا بصورة ملككم الأكبر فأجابهم أبو عبيدة إلى ذلك فصورت الروم تمثال عمر بن الخطاب في عمود ، وأقبل رجل منهم ففقأ عين الصورة برمحه فقال البطريق : قد أنصفتمونا.

وذكر المقريزي أن خمارويه بن أحمد بن طولون أمير مصر والشام المتوفى سنة (٢٨٢ ه) عمل في داره في القاهرة مجلسا برواقه سماه بيت الذهب ، طلى حيطانه كلها بالذهب المجال باللازورد ، المعمول في أحسن نقش وأظرف تفصيل ، وجعل فيه على مقدار قامة ونصف صورا في حيطانه بارزة من خشب معمولة على صورته وصورة حظاياه ، والمغنيات اللاتي يغنينه بأحسن تصوير وأبهج تزويق ، وجعل على رؤوسهن الأكاليل من الذهب الخالص الإبريز الرزين والكراذن (١) المرصعة بأصناف الجواهر ، وفي آذانها الأخراص (٢) الثقال الوزن ، المحكمة الصنعة ، وهي مسمّرة في الحيطان ولونت أجسامها بأصناف أشباه الثياب من الأصباغ العجيبة. فكان هذا البيت من أعجب مباني الدنيا.

__________________

(١) قلنسوة من الديباج مرصعة.

(٢) جمع خرص : الحلقة من الذهب والفضة أو حلقة القرط.

١٠٧

كانت هذه القاعة المصورة في القرن الثالث. وظهر في عصر الأيوبيين والمماليك مصورون شاميون أبدعوا في التصوير على الجدران وعلى الكتب ، ومنها ما كان إلى القرن السابع في دير باعنتل قرب حمص ، كان فيه على رواية ياقوت عجائب منها آزج (بيت مستطيل) أبواب فيها صور الأنبياء محفورة منقوشة فيها ، وصورة مريم في حائط منتصبة ، كلما ملت إلى ناحية كانت عينها إليك. ومنها ما كان في هيكل دير مران في سفح قاسيون بدمشق من صورة عجيبة دقيقة المعاني. وذكر ابن جبير أنه كان في كنيسة مريم بدمشق في القرن السادس من التصاوير أمر عجيب ، وكان مثل ذلك في كنيسة القيامة وغيرها من كنائس فلسطين.

كان اليازوري من وزراء الفاطميين يفضل كثيرا على المصورين الشرقيين وكانوا من المسلمين. وقد جعل الظاهر بيبرس رنكه أي شعاره الأسد ، وجعل دراهمه على صورته ، وجعل أقوش الأفرم رنكه في غاية الظرف وهو دائرة بيضاء يشقها شطب أخضر كأنه مسن عليه سيف أحمر يمر من البياض الفوقاني إلى البياض التحتاني وقال فيه نجم الدين هاشم البعلبكي :

سيوف سقاها من دماء عداته

وأقسم عن ورد الرّدى لا يردها

وأبرزها في أبيض مثل كفه

على أخضر مثل المسنّ يحدها

قالوا : وقد كان الخواطئ ينقشن رنكه على معاصمهن وفي أماكن مستورة من أجسامهن.

ومن أجمل ما أبقت الأيام وإن لم يتم لها إلى الآن قرنان ، الصورة الباقية في دار أسعد باشا العظم في حماة من أبدع ما حوت من النقوش العجيبة وغيرها ، وهي صورة رسمت على قطعتين من الخشب جعلتا في حائط القاعة الكبرى ونقشت عليهما صورة حماة في ذلك العهد بجوامعها ومدارسها ، ونواعيرها وقصورها ، ظهر منها أن حماة كانت أعمر مما هي عليه الآن عرفنا ذلك بفضل التصوير.

أخذت العرب نقوش الفسيفساء عن الروم وبالغت فيها ولا يزال إلى اليوم قطع في الدور وغيرها ، وأهمها ما لا يزال في كنيسة مادبا في البلقاء من مصوّر فلسطين ونهر الأردن يشقها من وسطها والأسماك تعوم فيه ، والمدن التي كانت

١٠٨

عامرة لعهد واضعها ، ولا يزال القسم الأعظم منها بحاله لم يصب بأذى الأيام. وآثار الفسيفساء كثيرة مبعثرة في دور مادبا لم تزل على بريقها ، وفي دار سليم الصناع في مادبا بركة ماء معمولة بالفسيفساء الملونة أيضا تخال ما فيها ماء حقيقيا وعلى جوانبها الثلاثة الباقية رسوم بالفسيفساء تمثل الحيوانات والطيور البرية والداجنة ، تسرح في جنينة زاهرة والطيور المائية واقفة في وسط الماء على آنية تشبه الزهرية ، وفي كل زاوية من زواياها صورة إنسان تخالف الأخرى. وفي هذه البليدة عدة قاعات فرشت أرضها بالفسيفساء يطلق الماء عليها لتغسل كما يغسل بلاط القاعات وأفنية الدور.

قال في مسالك الأمصار : والفسيفساء مصنوع من زجاج يذهب ثم يطبق عليه زجاج رقيق ومن هذا النوع المسحور (المسجور) وأما الملون فمعجون وقد عمل منه في هذا الزمان (٧٤٠ ـ ٧٥٠) شيء كثير برسم الجامع الأموي وحصل منه عدة صناديق وفسدت في الحريق الواقع سنة أربعين وسبعمائة وعمل منه قبل للجامع التنكزي ما على جهة المحراب ، غير أنه لا يجيء تماما مثل المعمول القديم في صفاء اللون وبهجة المنظر ، والفرق بين الجديد والقديم أن القديم قطعه متناسقة على مقدار واحد والجديد قطعه مختلفة وبهذا يعرف الجديد والقديم ا ه.

ووصف ابن فضل الله هذا يمكن أن يستنتج منه أن الفسيفساء كانت تعمل في الشام، وأن هذه الصناعة اللطيفة وإن اختصت بها القسطنطينية قد نقلت إلى الشام وجوّد عملها. وكان الوليد بن عبد الملك يحمل الفسيفساء على البريد من القسطنطينية إلى دمشق حتى صفح بها حيطان المسجد الجامع ومكة والمدينة.

وكانت الفسيفساء في الجامع الأموي قبل حريقه الأول في القرن الرابع ملونة مذهبة تحوي صور أشجار وأمصار وكتابات ، على غاية الحسن والدقة ولطافة الصنعة ، وقلّ شجرة أو بلد مذكور إلا وقد مثل على تلك الحيطان قاله المقدسي وقال غيره : إنه مثلث في صور الجامع صفات البلاد والقرى وما فيهما من العجائب وأن الكعبة المشرفة صوّرت فوق المحراب كما قال فيه بعض المحدثين :

إذا تفكرت في الفصوص وما

فيها تيقنت حذق واضعها

أشجارها لا تزال مثمرة

لا ترهب الريح في مدافعها

كأنها من زمرد غرست

في أرض تبر يغشى بفاقعها

١٠٩

فيها ثمار تخالها ينعت

وليس يخشى فساد يانعها

تقطف باللحظ لا بجارحة ال

أيدي ولا تجتنى لبائعها

وتحتها من رخامه قطع

لا قطع الله كف قاطعها

أحكم ترخيمها المرخم قد

بان عليها إحكام صانعها

قال صديقنا أحمد تيمور في رسالته التصوير عند العرب بعد كلامه على محاسن الجامع الأموي وما فيه من التصاوير : «ولا نعلم إن كانت هذه الصور من عمل العرب فتدخل فيما قصدناه ، أو من عمل صناع الروم الذين استعان بهم الوليد بن عبد الملك عند بناء المسجد» وقد علل المقدسي زخرف الجامع الأموي فقال : قلت يوما لعمي : يا عم لم يحسن الوليد حيث أنفق أموال المسلمين على جامع دمشق ، ولو صرف ذلك في عمارة الطرق والمصانع ورمّ الحصون ، لكان أصوب وأفضل ، قال : لا تغفل بنيّ ، إن الوليد وفق وكشف له عن أمر جليل ، وذلك أنه رأى الشام بلاد نصارى ، ورأى لهم فيها بيعا حسنة قد افتن زخارفها وانتشر ذكرها كالقمامة وبيعة لدّ والرّها فاتخذ للمسلمين مسجدا شغلهم به عنهن ، وجعله أحد عجائب الدنيا ، ألا ترى أن عبد الملك لما رأى عظم قبة القمامة وهيأتها خشي أن تعظم في قلوب المسلمين فنصب على الصخرة قبة على ما ترى ا ه. ولذلك حرص المسلمون في كل دور على السير على قدم الوليد في الاحتفاظ بنقوش الجامع وتحاسينه وتزايينه وتزاويقه ، ومما أبقته الأيام من نقوش الفسيفساء أو الفصوص حيطان قبة الظاهر بيبرس في دمشق ، فإنها الأثر الباقي من هذه الصناعة في هذا الصقع ، بعد أن دثرت فسيفساء الجامع بما تعاقب عليه من الحريق في أدوار كثيرة ولم يبق منها إلا ما كشف مؤخرا في الحائط الغربي من صور الأشجار وغيرها. ومن القصور المصورة الجدران دار الملك رضوان بحلب وفيها يقول الرشيد النابلسي من قصيدة يمدحه بها سنة ٥٨٩ ويذكر ما على جدران الدار من الصور :

دار حكت دارين في طيب ولا

عطر بساحتها ولا عطار

رفعت سماء عمادها فكأنها

قطب على فلك السعود يدار

وزهت رياض نقوشها فبنفسج

غض وورد يانع وبهار

١١٠

نور من الأصباغ مبتهج ولا

نور وأزهار ولا أزهار

ومنها :

صور ترى ليث العرين تجاهه

فيها ولا يخشى سطاه صوار

وفوارسا شبت لظى حرب وما

دعيت نزال ولم يشنّ مغار

وموسدين على أسرّة ملكهم

سكرا ولا خمر ولا خمار

هذا يعانق عوده طربا وذا

أبدا يقبّل ثغره المزمار

ثم لما تزوّج بضيفة خاتون ابنة عمه العادل وأسكنها في هذه الدار وقعت نار عقب العرس فاحترقت واحترق جميع ما فيها ، فجددها وسماها دار الشخوص لكثرة ما كان من زخارفها.

ومن القصور المصورة القصر الأبلق الذي بناه الظاهر بيبرس في مرجة دمشق أوائل النصف الثاني من القرن السابع ، وعلى أنقاضه بنيت التكية السليمانية ، وكان على واجهته مائة أسد منزّلة صورها بأسود في أبيض ، وعلى الشمالية اثنا عشر أسدا منزلة صورها بأبيض في أسود ، وهذه الصور أجمل من صور الأسود والنمورة وغيرها من الحيوانات التي كانت في قلعة حلب ، ومن الحمامات المصورة حمام سيف الدين بدمشق عثر أحمد تيمور على قصيدة في ديوان عمر ابن مسعود الحلبي الشهير بالمحّار في وصف هذا الحمام جاء فيها :

وخطّ فيها كل شخص إذا

لا حظته تحسبه ينطق

ومثّل الأشجار في لونها

ولينها لو أنها تورق

أطيارها من فوق أغصانها

بودها تنطق أو تزعق

وهيئة الملك وسلطانه

وجيشه من حوله يحدق

هذا بسيف وله عبسة

وذا بقوس وبه يعلق

ومن التصوير على النسيج على ما ذكره البدري من تصوير «الأبيض القطني المصوّر لأحياء القصور وأموات القبور» وكان يصنع في دمشق. ومن التصوير في الكتب ما ذكره أبو الفداء في حوادث سنة (٦٤٢) في ترجمة المظفر صاحب حماة قال : استخدم الشيخ علم الدين قيصر المعروف بتعاسيف وكان مهندسا

١١١

فاضلا في العلوم الرياضية فعمل له كرة من الخشب مدهونة ، رسم فيها جميع الكواكب المرصودة. وذكر ابن قاضي شهبة أن علي بن محمد بن صالح الرسام عالم صفد المتوفى سنة (٧٤٩ ه‍) كان في أول أمره يرسم القماش وقال : إن عنده كتابا في علم الفلك صورت فيه جميع الأبراج والنجوم بليقتي الكتاب أي بالأحمر والأسود تحت كل صورة أرجوزة بتعريفها. قال القاضي جمال الدين ابن واصل : وساعدت الشيخ علم الدين على عملها وكان المظفر يحضر ونحن نرسمها ويسألنا عن مواضع دقيقة منها. وقد اطلع مؤلف كتاب نهر الذهب على مخطوط فيه وصف شجرة الإفادة التي كانت في الجامع الأموي بحلب وتعد من الذخائر النفيسة العلمية قال : إنها كانت عظيمة الرواء مصنوعة من حجر ونحاس وحديد ذات خطوط وجداول في أصول العلوم الرياضية شبيهة بشجرة ذات جذع وأغصان وأوراق عظيمة في كل ورقة منها أصل من أصول تلك العلوم. وكان الطلبة يقدمون حلب من القاصية للاشتغال بالعلوم الرياضية المرسومة في هذه الشجرة. واسم غارس شجرة الإفادة خليل بن أحمد غرس الدين على ما في در الحبب.

ويدخل في باب النقش والصنائع الغريبة ما رواه المقدسي في حوادث سنة (٩٩٠) يوم عمل ختان ابن درويش باشا والي دمشق ، فانهم صنعوا شيئا يسمى النقل بجامع المصلى وبجامع ايلخان خارج محلة القراونة وبجامع التوبة ، وهو يشتمل على أربع عشرة قلعة من الورق المحشو بالبارود وأربع عشرة فرسا وأربعة عشر عفريتا كذلك ، وعلى صور طيور ووحوش وكلاب وغير ذلك ، وعلى قصر عظيم من الشمع الملون المشتمل على صورة أنواع الفواكه والبقول والأزهار والأطيار وغيرها كل ذلك من الشموع المصبغة والتذهيب والتفضيض ، وكان ارتفاعه على علو الجملون الذي بجامع المصلى بحيث لم يتأت نقله منه وإخراجه إلا بعد فك الجملون المذكور ، وهدم قوس أحد أبواب الجامع المذكور وهدم مواضع متعددة في طريقه إلى دار السعادة ، وهدم الحائط الشرقي من باب دار السعادة أيضا حتى أدخل ، وكان لهذا النقل يوم مشهود خرج للفرجة عليه جميع أهل دمشق رجالا ونساء لم يتخلف أحد. ثم في اليوم الثاني منه نقل النقل الذي صنع بجامع محلة القراونة وبجامع التوبة وهو يشتمل على قصرين عظيمين من

١١٢

الشمع أيضا أحدهما أطول من القصر المقدم بنحو أربع أذرع والآخر دونه مشتملين على ما تقدم وعلى صور أنواع الحيوانات من السكر من الخيل والجمال والفيلة والسباع والطيور وغيرها ، كل ذلك من السكر المعقود وعلى النقول والملبسات بالسكر أيضا.

وكان رشيد الدين بن الصوري يستصحب مصورا ومعه الأصباغ والليق على اختلافها وتنوعها ، فكان يتوجه إلى المواضع التي بها النبات مثل جبل لبنان وغيره من المواضع التي قد اختص كل منها بشيء من النبات ، فيشاهد النبات ويحققه ويريه للمصور فيعتبر لونه ومقدار ورقه وأغصانه وأصوله ، ويصور بحسبها ويجتهد في محاكاتها. ثم إنه سلك في تصوير النبات مسلكا مفيدا ، وذلك أنه كان يري النبات للمصور في إبان نباته وطراوته فيصوره ، ثم يريه إياه أيضا وقت كماله وظهور بزره فيصوره تلو ذلك ، ثم يريه إياه أيضا في وقت ذواه ويبسه فيصوره ، ومن ذلك نستدل أنه كان في القطر أكثر من مصور في ذاك العصر ، وأن ذلك التصوير بالأصباغ كان مألوفا ، وقد بلغ من خذق المصورين أن يصوروا النبات على أنحاء شتى ، أما عنايتهم بالنبات نفسه فمسألة ينظر فيها علماء النبات يستخرجون منها ما يريدون ، وهذا كان في الثلث الأول من القرن السابع للهجرة أي في القرن الثالث عشر للميلاد.

ولا شك أن كل هذه البدائع كانت من صنع صنع الأيدي من الشاميين ، فمن المصورين على الخزف ومن المصورين على الخشب ومن المصورين على النسيج ومن المصورين على النحاس والحديد ، فمن المصورين على الخزف «الغيبي» قال تيمور : إن له قطعا بدار الآثار العربية بمصر ، عثروا عليها بأطلال الفسطاط وقد كتب عليها اسمه فكتب على بعضها «الغيبي» فقط وعلى بعضها «الغيبي الشامي» وإن في دار الآثار العربية أيضا لوحا من القاشاني «لمحمد الدمشقي» عليه صورة مكة المكرمة والكعبة المعظمة صورها سنة (١١٣٩ ه‍) وكتب عليها اسمه.

وبعد فهذا القليل الذي قرأناه واستأنسنا به يدل على ذوق وإبداع ، وإن مشاركة الأمة في هذا الفن كانت على حصة موفورة ، وفي هذا العصر نبغ في الشام مصورون لا بأس بهم أخذوا عن إيطاليا وفرنسا وغيرهما وكادوا يجارون (٤ ـ ٨)

١١٣

مصوري الغرب بإبداعهم ، ومنهم من يصور بالأصباغ ، ومنها بدونها أي بالسواد ، ومنهم من يصور التماثيل من المرمر والرخام والصفر ، ومنهم من ينقش فيبدع على الخشب والنحاس ، ومن المصورين باليد توفيق طارق ، علي رضا معين ، نديم بخاش ، مصطفى الحمصاني ، مصطفى فروخ ، عبد الحميد عبد ربه ، عبد الوهاب أبو السعود ، بشارة السمرة، داود القريم ، حبيب سرور خليل صليبي ، سليم عورا ، جبران خليل جبران ، خليل الغريب ، نقولا الصائغ.

النقش :

ويصح أن يعد في باب التصوير نقش البيوت والتماثيل فإن المعروف أنه كان للشام حظ منه ، ولم نر للنقش على الحجر براعة وإبداعا عند الأمم القديمة بقدر ما رأينا عند اليونان والرومان ، فإن النقوش التي عثر عليها في شمالي الشام من أصل حثي مثل الأسود التي كانوا يرسمونها على أبواب مصانعهم وجدرانها وأبي الهول المجنح برأس إنسان أو ثور وهو من نقوش الأشوريين ، والنقوش التي عثر عليها في الجنوب من أصل سامي كالكنعانيين والإسرائيليين وما عثر عليه في الساحل من نقوش الفينيقيين وأربابهم ومعظمها منقولة عن المصريين الفراعنة ـ كل هذه النقوش ليست من جمال الوضع وحسن الذوق بحيث يرتاح إليها النظر مثل نقوش الرومان واليونان ، ومثال منها الناووس الذي عثر عليه في صيدا من القرن الرابع للميلاد وجعل في دار الآثار في الإستانة وهو يمثل نساء باكيات تمثيلا كأنك تراهن.

أين جمال نقوش بعلبك من نقوش جبيل ، أين نقش الناووس البديع المنسوب للإسكندر المقدوني أو لأحد قواده ، وهو مما كان عثر عليه في صيدا أيضا وحفظ في دار الآثار بالإستانة ، من نقوش قبر أحيرام الذي عثر عليه في جبيل وجعل في دار الآثار في بيروت ، أو قبر حيرام الذي عثر عليه قرب صور ونقل إلى متحف اللوفر في باريز سنة ١٨٦٠ م.

آثار تدمر وتماثيلها تنم عن ذوق وفضل صناعة أكثر من أرباب الفينيقيين والحثيين ، والغالب أن تماثيل الشبه كانت تعمل في قبرس والروم وتحمل إلى تدمر لتزين بها رحباتها وساحاتها ، وصناعات جرش ومادبا أجمل من نقوش

١١٤

السهول في حوران والصفا. كأن للإقليم وللعنصر الذي ينزله دخلا كبيرا في إجادة النقش والتصوير. ومعظم العناصر التي نزلت الشام منذ عهد التاريخ من العناصر السامية ، والساميون كما قال بعض علماء الإفرنج ما زالوا ينفرون من الرسم والنقش والتصوير. ولا غضاضة إذا قلنا إن الآريين أفرطوا في الاشتغال بالرسم والنقش إفراطا شوهدت آثاره في أمم أوربا التي خلفتهم ، فكل شيء إذا لم يرسم الآن عندهم لا يفهم ولا يدرك ، فأضعفوا بذلك قوة التخيل وقووا الباصرة.

ومما يستدل به على أن التماثيل قبل الإسلام كانت تعمل وتنقش في الشام وأن العرب نقلوا عنها في جزيرتهم ما رواه ابن الكلبي من أنه كان لقضاعة ولخم وجذام وعاملة وغطفان صنم في مشارف الشام يقال له الأقيصر كانوا يحجونه ويحلقون رؤوسهم عنده. وقال ربيعة بن صبغ الفزاري :

وإنني والذي نغم الأنام له

حول الأقيصر تسبيح وتهليل

قال : ووجد عمرو بن لحي أهل البلقاء يعبدون الأصنام فقال : ما هذه؟ فقالوا نستسقي بها المطر ، ونستنصر بها على العدو ، فسألهم أن يعطوه منها ففعلوا ، فقدم بها مكة ونصبها حول الكعبة. ولا شك أن هذه الأصنام تعد من الصناعات الشامية.

ولم يخل عصر في الشام من نقاشين أبدعوا النقش على الحجر والنقش بالأصباغ على الجدران وعلى الخشب يتناقلون ذلك خلفا عن سلف ، والنقش بالجبس على الجدران ، ومنها مقرنصات جميلة ذات تعاريش وكتابات حفظت في مدفن أحد الوزراء من القرون الوسطى في صالحية دمشق أمام دار الحديث الأشرفية البرانية وبينهما الطريق وتسمى هذه المدرسة التكريتية. وفي بعض الدور القديمة الباقية من القرن العاشر وبعده في حلب ودمشق كثير من القاعات تدل على ذوق. وفي در الحبب أن أبا بكر بن أحمد النقاش الجلومي الحلبي خدم أساتذة النقاشين من الأعاجم واستفاد منهم ومهر في نقوش البيوت وكتابات الطرازات على طريقة القاطع والمقطوع ، وفي نقوشه ما كان لكفّال حلب وغيرهم من الرماح والسروج بالمذهب واللازورد مع معرفة طريقة حله وصنعة التركاش وضعا ونقشا وصنعة اللوح الذي يكتب فيه وصنائع أخرى تتم عشرين صنعة. ولا يعقل أن يعمل

١١٥

ذلك مثل هذا المفنن ولا يكون حواليه عشرات من المتعلمين والعاملين.

ومن النقوش الكثيرة التي بقيت محفوظة على بعض مصانع الشهباء نقوش باب أنطاكية وباب النصر وعلى هذا قطعة من إفريز تمثل كرمة معرشة يركض إلى جانبها أرنب. ومن أجمل آثار قلعتها المحراب المنقوش على الخشب من عمل نور الدين زنكي والجزء الثاني الذي أنشأه الظاهر غازي يدل على صورة الهندسة المألوفة في عصر الأمويين : مثلث قائم الزوايا تعلوه قبة بين حنايا واسعة.

ومن المنابر العجيبة الصنع ما عمله نور الدين محمود بن زنكي في حلب برسم المسجد الأقصى عمله حميد بن ظافر الحلبي وسليمان بن معالي من خشب مرصع بالعاج والآبنوس وعليه تاريخ سنة (٥٦٤ ه‍) وقد وضعه صلاح الدين في محله عند فتح القدس وقد عمل في حلب أيضا محراب الجامع الكبير بحماة صنعه ذاك الفنان الحلبي. ومن أجمل المنابر منبر الحرم في الخليل من صناعة الفاطميين ومنبر جامع الحنابلة بدمشق من الخشب. ومن المحاريب محراب جامع الحلاوية بحلب من الخشب ومحراب الأقصى من الرخام. ومن المحاريب الجميلة محراب جامع الفردوس بحلب الذي أنشأته ضيفة خاتون وهو من عمل حسان بن عنان. وجامع الظاهر غازي في قلعة حلب الذي بناه سنة (٦١٠) فيه أجمل ضروب الهندسة من النقوش المعروفة في المصانع الجميلة. ومن أهم الآثار العربية تابوت من الخشب وضع على قبر السيدة سكينة بنت الحسين في مقبرة باب الصغير بدمشق عمله أحمد بن محمد بن عبد الله سنة (٥٦٠ ه‍) وقد نقش بخطوط كوفية وجعل داخل الحروف نقوش وحروف صغيرة أخرى بالكوفية أيضا. وتابوت ومحراب ومنبر جامع خالد بن الوليد بحمص من أجمل الآثار العربية. وكذلك تابوت مدفن أبي الفداء صاحب حماة. ومن الآثار العربية ما نقش بالحروف الكوفية على تابوت من الحجر دفنت تحته السيدة فاطمة الصغرى بنت الحسين من القرن الرابع. ومن التوابيت المهمة تابوت سيدي صهيب في حي الميدان بدمشق (من القرن السادس) ومنها تابوت بخت خاتون المعروفة عند العوام بالسيدة حفيظة في طريق عين الكرش المؤدي إلى حي الأكراد بدمشق.

وذكر القزويني سوق المزوقين في حلب وقال : إن فيه آلات عجيبة مزوقة ، وذكر ابن جبير أن أكثر حوانيت حلب خزائن من الخشب البديع الصنعة قد

١١٦

اتصل السماط خزانة واحدة وتخللتها شرف خشبية بديعة النقش. وقد عرف الحلبيون من القديم بحسن الذوق في هذه الصناعة كما عرفوا بحسن الذوق في الخطوط العربية المنوعة الأشكال ، وكلها نقوش معرشة تأخذ بمجامع الأبصار ، وتعد في باب النقش ، وقد كان عدد الخطاطين الذين أنبغتهم حلب على اختلاف العصور أكثر من غيرها من مدن الشام.

ذكر الغزي أن النقاشين في حلب أصناف منهم من ينقش على الحجر وهم نوابغ البنائين وفي المباني القديمة كثير من النقوش الحجرية تشهد ببراعة البنائين الحلبيين في القرون الماضية وتدل دلالة واضحة على نبوغهم بصنعة النقش ، من ذلك صورتا وجهي أسدين في حجرين مرصوفين في جانبي أحد أبواب قلعة حلب لا يفرق الناظر إليهما في أول وهلة بين ملامحهما ، فإذا أمعن النظر فيهما تبين له أن وجه أحدهما يضحك ووجه الآخر يبكي مما دل على براعة النقاش.

وقال : إن من النقاشين من يعاني النقش على المعادن كالذهب والفضة والنحاس ، ومنهم من ينقشون المنازل ويعرفون بالمدهنين ينقشون صور أشخاص وأزهار وطيور وأشجار ، وإن هذه الصنعة انحطت في حلب أواخر القرن الماضي حتى سافر جماعة من أهلها إلى أميركا وتلقوا هذه الحرفة من أربابها وعادوا فنشروها بين الناس. ومن أشهر النقاشين يوسف سعد الله الحويّك ، ومن الحفارين والنقاشين يوسف الزغبي وبشارة عيسى الزغبي وهذا حفر صورة آل رومانوف في قطعة صدف من أنفس التحف.

واشتهر في دمشق وحلب وبيروت خطاطون كثيرون في العهد الأخير ومنهم أمين زهدي. مصطفى السباعي. مراد الشطي. مصطفى القباني. محمد علي الحكيم نجيب هواويني. حسين البغجاتي. ممدوح الشريف. سليم الحنفي. محمد علي الخطيب. زكي المولوي. حنا علّام. يوسف علّام. نسيب مكارم. مشكين قلم. محمد يحيى. صادق الطرزي. موسى الشلبي.

وكان فن الخط إلى عهد بعيد صناعة يتنافس بها ، وكثير من البارعين فيها كانت مدار معاشهم ينسخون الكتب وغيرها فلما جاءت الطباعة ثم الآلات الطابعة بطل التنافس بالخط العربي الجميل وقلّ الراغبون فيه.

١١٧

البناء :

قالوا : إن علم المباني فن من الفنون الجميلة بل هو أحسنها ، إذا قارنا بينه وبين الموسيقى نجد أن كليهما مطرب للإنسان ، فالأول مكوّن من نغمات غير متنافرة منتظمة الأوقات ، والثاني مكوّن من تراكيب وأوضاع غير متنافرة الأجزاء ، يظهر الأول مذببات العدد والأوتار يحملها الهواء إلى الآذان فيطرب بها الإنسان ، ويظهر الثاني الظلّ والضوء والألوان فتراها العين في أتم ما يكون موضوعة بنسب محفوظة ما بين مزخرف وبسيط تظهر عليها المتانة والراحة فتشتاق إليها النفس ، فكلا الفنين جميل غير أن الأول تذهب محاسنه في الهواء وبعد ذهابها لا يشعر بها ، وتبقى محاسن الثاني ما دام لها ظل.

مواد البناء الحجر والتراب والخشب والحديد قد توجد كلها في قطر ولا يوجد إلا بعضها في آخر ، فمصانع بابل تداعت لأن معوّل البانين كان على الآجر لا الحجر ، ومصانع الشام بقيت لأن الحجر فيه كثير مبذول ، وإن كان أقدم ما عرف من آثارنا يرد إلى زهاء ألفي سنة ، وأقدم ما عرف في بابل وأشور ونينوى من الآجر المكتوب يرجع إلى أربعة آلاف سنة. وما عمل عندنا من الخشب والتراب دثر بعد مدة ليست بطويلة من عهد بانيه.

ولقد ظهر أن الشام في القديم لم يكن له طراز خاص في البناء. وكان بناؤه بحسب روح الدولة التي تحكم فيه والأمة التي تتغلب عليه : مصريا أيام الفراعنة ، أشوريا على عهد الأشوريين ، بابليا في أيام بابل ، فارسيا في دور الفرس ، روميا في دولة الروم ، رومانيا في عهد الرومان. ولم يكن للحثيين والإسرائيليين هندسة خاصة ، بل كان الحثيون يقتبسون عن جيرانهم الأشوريين أصول بنائهم ، وليس مما اكتشف منه حتى الآن ما هو خارق للعادة في أشكاله ووضعه بل هو محرف عن الطراز الأشوري تحريفا كثيرا ، وما اكتشف من الصور النصفية وغيرها من عهد الحثيين لا ينم عن ذوق وإبداع على الأكثر. ومصانع الحثيين في الجملة مقتبسة من مصانع الأشوريين والبابليين اقتباسا رديئا لا يخلو من جفاء وسذاجة على ما قال الباحثون. وسار الإسرائيليون في صنع مصانعهم على تقليد الأشوريين والمصريين وقلدوا المصريين في الأكثر لقرب فلسطين من مصر ، ولاستيلاء المصريين زمنا على فلسطين. وكذلك فعل الفينيقيون والكنعانيون.

١١٨

وعلى عهد الإسكندر دخل الشام طرز جديد في البناء أي أصول الهندسة اليونانية.

غصت جبال الشام بالمغاور الطبيعية والصناعية ، ومنها ما كان لسكنى أهلها قبل أن عرف التاريخ ، ومنها ما جعلوه قبورا لموتاهم في الأمم التي عرف بعضها التاريخ ، وقد ثبت بهذه المغاور أن الشاميين استعملوا منذ الزمن الأطول آلات من المعادن لقطع الحجر ونحته. ولا يمكن تحديد العصر الحجري في الشام ، ويمكن أن يردّ العصر المعدني إلى ثلاثة آلاف سنة قبل المسيح. وفي غربي الأردن آثار كثيرة من ذلك ، وكلها ذات صلة بعبادات الأقدمين. واحترام الأحجار المقدسة كان قديما منتشرا في جميع أرجاء الشام. ومن المغاور مغاور عدلون بين صيدا وصور ومغاور نهر إبراهيم في لبنان ، ومغاور بيروت وجبيل وأنطلياس ، ومن مصانع فلسطين الصهاريج ومعاصر الزيت والخمر. وبناء الفينيقيين من هذا النوع أجمل من بناء العبرانيين.

وقد اقتبس العبرانيون في أصول مبانيهم مباني الفينيقيين ، وهؤلاء أخذوا على ما يظهر من المصريين ، وقد قيل : إن بنائين فينيقيين هندسوا معبدي داود وسليمان. ويقول سنيوبوس : إن القدس كانت بالنسبة لبابل وثيبة عاصمة أقاليم فقيرة ، وما كان العبرانيون يتعاطون البناء ويميلون إلى العمران ، بل كانت ديانتهم تحظر عليهم إقامة المعابد ، ولم يكن في القدس إلا قصر سليمان وهو أول معبد عبراني.

وأخذت الشام أصول الهندسة اليونانية وتناغت بها قبل أن يفتحها الإسكندر. ولم يبق من الآثار اليونانية على كثرتها في الشام بقدر ما بقي من الآثار الرومانية. فإن الرومان أنشأوا مدنا برمتها خططوها على أصولهم. وكان من هذه المدن ما بني على نفقة أباطرة رومية. ومعلوم أن الرومان تفننوا في البناء وخلفوا في كل مكان امتد سلطانهم عليه آثار الهندسة من طرق وقنوات وأسوار ومسارح وملاعب وحمامات ، مما شهد لهم باتساع الفكر ومعرفة الهندسة والمتانة في العمل وجمال الأسلوب. لا جرم أن علاقة الشام بإيطاليا أقدم من الإسلام، علاقتها بأرضنا مذ كنا ولاية رومانية تحكمنا رومية عاصمة تلك الأمة العظيمة.

وأخذ النصارى في بناء كنائسهم عن فارس والشرق ، ثم اقتبس منهم الرومان أصولهم في البيع ، وما لبثت الصناعات الفارسية والبيزنطية أن اختلطت

١١٩

ونشأ منها صناعة جديدة هي الصناعة العربية. وأجمل هذه الصناعات على ما قال هوار الجوامع والقصور ، والتقليد محسوس ولكنه تقليد غير أعمى ، لأن تأثيرات الأساتذة الأقدمين لا تمنع من البحث العلمي والاختراع الحديث ، كما أن مشهد البدائع القديمة ودرسها لا يحولان دون التفنن ولطافة الإبداع والاختراع. قال : وفي الشرق نشأت هذه المدنية وكانت دمشق إحدى مراكزها.

وقال جلابرت : ومن المصانع المنوعة في الهندسة الشامية شيئان يلفتان النظر خاصة وهما البيع والأبنية ذات السطوح. وكان المهندسون الشاميون فيها عالة على الشرق يسترشدون بآراء مهندسي فارس. وقد أثرت الهندسة الشامية إذ ذاك في هندسة كثير من الأمم ولا سيما في بيزنطية ، وأخذت بيزنطية عن الشام أو من طريق مصر عن الشام ، أصول كثير من الأبنية ، وقال لامنس : إن الهندسة والتصوير والنقش وفنون الزينة أخذت تسير في طريق مستقلة عن النموذجات اليونانية والرومانية التي كانت منذ عهد السلوقيين مؤثرة في جميع الصنائع النفيسة ، وأنشأ المهندس الشامي يرفض استعمال الملاط بين الأحجار ويكتفي بحسن وضعها على صورة متوازية تقوى بها بدون لحمة بين أجزائها ، واستعاض عن الآجر المألوف على عهد الرومان واليونان بالحجر النحيت ، وبنى الكنائس ذات القباب فكثرت البيع البديعة التي يعجب الأثريون بخرائبها العظيمة اليوم وعنها أخذ بناة الكنائس الرومانية ا ه.

كان أساتذة العرب في البناء لأول أمرهم أناسا من الروم ، فكان بين أبنيتهم الأولى وأبنية النصارى وجه شبه ، فقد بني المسجد الأقصى على مثال كنيسة القبر المقدس ، ونقل استعمال القياب من الشرق إلى الغرب ، ولم تكن معروفة إلا في هذا الشرق ، وقد أفرط العرب كالروم في استخدام الفسيفساء في الجدران والقباب ، وزادوا في هذه الفصوص ما ابتدعوه من عندهم ، وكان محببا إلى نفوسهم ، جميلا في عيونهم. ويقول بعض العارفين : إن الشام لا يحوي كثيرا من المصانع الخارقة للعادة من صنع العرب ، لأنهم اكتفوا بما وجدوه في القطر من المباني القديمة ، فاستعملوها على ما يشاءون ، ولطالما بنوا بمواد أخذوها من أبنية قديمة.

أما هندسة الصليبيين فأكثرها حصون وقلاع ، ولا يعرف إذا كانت في

١٢٠