خطط الشام - ج ٣

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٣

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٧٠

راشيا وزحلة ١٣٥ نصرانيا التجأوا من إقليم البلان إلى شيخ قرية كناكر.

قال اللورد دوفرين : «لم يبق أدنى ريب يحول دون نسبة المذابح الأخيرة وجميع الحروب والاضطرابات والمنازعات التي انتابت لبنان في مدى الخمس عشرة سنة الأخيرة إلى استياء الحكومة العثمانية من الاستقلال النوعي الممنوح للجبل ، فجعلت مرمى سياستها ، أن تبرهن على أنه يتعذر العمل بطريقة الحكم التي منحتها الدول لبنان في سنة ١٨٤٥ ، ولهذا كان الأتراك يغتنمون الفرصة لإثارة دفائن الأحقاد القديمة بين الدروز والموارنة ، ولما ازداد تعجرف المسيحيين وتعصبهم بقوة المساعدات الأجنبية التي فازوا بها ، ثقل على الأتراك احتمال وطأة استقلالهم ، فعقدوا العزم على اتخاذ الدروز آلة ليوقعوا بهم ويضربوهم ضربة أشد إيلاما مما تقدمها ، بيد أن ما حدث في حاصبيا وراشيا ودير القمر قد جاء مجاوزا الحد المنوي لعدم توفر شروط اللباقة في خورشيد باشا وأعوانه لإنفاذ سياسة دهاء كهذه ، فأفرطوا فيها بحيث افتضح سر سياستهم وكان له دوي هائل في الأندية الأوربية».

وقال أيضا : «لما زرت هذه الأصقاع (لبنان) قبل استيقاظ الفتنة ببضعة أشهر شاهدت أماراتها بادية في عواطف الفريقين ، فالدروز كانوا مستعدين للقتال ، والموارنة كانوا يعتقدون أن قد آذنت ساعة فوزهم ، كما أن دخل الجمارك يثبت أن قد أدخل إلى لبنان من كانون الثاني ١٨٥٧ إلى ربيع ١٨٦٠ أكثر من ١٢٠ ألف بندقية و ٢٠ ألف مسدس وكان من المشتهر انصراف المطران طوبيا وشركائه إلى إيقاظ الفتنة.» إلى أن يقول : «فمن العبث وصف النصارى بأنهم شهداء قديسون فهم يضاهون جيرانهم الدروز في حروبهم همجية وظمأ إلى الدماء ، وكثيرا ما كانوا يقتتلون بعضهم مع بعض ولا يعفون عن النساء. يؤيد ذلك ارتكابهم الفظائع مع المشايخ الخازنيين منذ سنتين ، ومثل هذه المعايب كثيرة في تاريخهم ، بيد أن الدروز هم من هذا القبيل أكثر شفقة من غيرهم فلا يقتتلون بعضهم مع بعض ويحترمون النساء ، وعليه فمن الخطأ وصف القتال الذي جرى بين الدروز والموارنة بمثابة اعتداء وثنيين برابرة على أتباع دين المسيح الودعاء ، بل هو نتيجة تباغض طائفتين متساويتين في (٣ ـ ٦)

٨١

الهمجية ، أنزل الفائزون في أعدائهم البلية التي كانوا مهددين بها فيما لو تغلب هؤلاء ، وإذا كان الدروز ارتكبوا في هذه الحروب فظائع أكثر بربرية من المعتاد فالسبب فيه تدخل الأتراك وشدة حنقهم على النصارى وقد أثاروه بتهديدهم وعجرفتهم.»

وقال قنصل انكلترا في دمشق على ذاك العهد : «لقد بقي من كل ما رتبه المصريون شيء واحد سالما وهو عتق النصارى من رقهم على أن هذا ربما يصير عاملا جديدا لاستئناف الاضطرابات لضعف الإدارة العثمانية وظلمها ، والظلم يدفع إلى المقاومة والضعف يزيد في التمرد ، والسكان يؤلفون من طوائف مختلفة المذاهب معادية للسنة ومن طوائف نصرانية متعصبة يعادي بعضها بعضا ، والحكومة عاجزة عن بسط سيطرتها على الجميع ولهذا أمست مضطرة إلى إثارة طائفة على أخرى بإيقاد جذوة التحاسد والبغضاء بينها ، وبمثل هذه المسائل تتمكن من حفظ بعض السيطرة لنفسها ، بيد أنها تخسر ثقة الرعايا بها وتعكر كأس الوئام بين العناصر المختلفة ، فتحول دون كل تقدم ونجاح».

مذابح دمشق ورأي الغريب والوطني في تعليلها :

وبعد هذه النصوص المعتبرة لم يبق شك في أن الدولة هي التي وضعت الخطة العوجاء لذبح النصارى ليتيسر لها أن تمتلكهم وتضعف من غلواء المسلمين أيضا شأنها في معظم أحوالها في كل بلد نزلته. والموارنة كالدروز لا يخلون من المؤاخذة الشديدة ، اغتر كل فريق بمن كان يزين له الشر ويحسن له العاقبة بعد ارتكابه فأتمر بما أمر به ، فكان ذلك وبالا عليه وعلى جاره ، ولم يخسر الدافع لهما شيئا. وما كان يخطر بالبال أن هذه الشرارة تسري إلى دمشق مدينة التسامح واللطف ويقوم رعايا المسلمين بمعاونة الدروز يؤذون من أمروا بالإحسان إليهم بعد أن عاشوا وإياهم ثلاثة عشر قرنا في صفاء وهناء.

ويؤخذ مما قاله مشاقة أن مذبحة دمشق لا علاقة لها بحوادث لبنان على ما قيل ولا تعزى لها الأسباب التي عزيت لتلك ، وأن من أسبابها الأولية عبث النصارى بالشريعة التي أحدثتها الدولة على أثر حرب القريم مكرهة من دولة

٨٢

الروس ، وهي مساواة الرعايا بالحقوق المدنية ، وإعفاء النصارى من الخدمة العسكرية ، وقيل: إن الدولة رغبت في وضع هذه الشريعة التي يقال عنها المساواة وهي ليست على شيء منه لتثير خواطر شعبها على النصارى وتجعل لهم سبيلا إلى بغضهم ومقتهم ، ولو كان النصارى وقتئذ على شيء من الحكمة لرفضوا إعفاءهم من الخدمة العسكرية التي جردتهم من الوطنية ، وأبكمت لسانهم عن المطالبة بحقوقهم. قال : وكان مسلمو دمشق عامة وسورية خاصة يسفهون عمل الدولة التركية الذي قامت به مضطرة عقب حرب القريم ، وكثر تذمر المسلمين من الدولة مع التقريع ، فأجابتهم أنها لم تفعل ذلك إلا مضطرة ، وبلغ من حقد المتعصبين أنهم تآمروا وألفوا الجمعيات السرية يطلبون بها خلع الدولة التركية وإبدالها بدولة تعيد مجد الإسلام ولا تخضع لأهل النصرانية وبلغ الأتراك أمرهم فأوغروا صدورهم على النصارى ليلهوهم ويتخلصوا من شرهم.

وبعد أن فصّل هجوم النصارى على مطران الروم بدمشق يريدونه على أن يرفع عنهم حيف الحكومة ، وطلبها بدل الخدمة العسكرية منهم ، وذكر كيف عرض المطران على الوالي بأن النصارى تجمهووا جمهرة العصاة وأرادوا الإيقاع به ، قال : إن الوالي لم يشأ أن يردع النصارى رأسا وأناط بتأديبهم رعاع المسلمين الذين كانت الحكومة تخشى بطشهم ، ولا تتجاسر على مطالبتهم بدفع الضرائب ، وكانت الحكومة غير راضية عنهم لفتكهم ببعض وزرائها وامتناعهم عن إجابة مطالبها ، ورغبة أحمد باشا (والي دمشق) بإثارتهم على النصارى كي يتخلص منهم أو من بعضهم فيقلّ عددهم وتضعف شوكتهم ويصبح إخضاعهم لأوامر الحكومة مكفولا فيرد عن دولته الخطر الذي كان يتهددها به مسلمو دمشق وقد جاهروا بخلع دولة الأتراك عنهم وراسلوا دولة مصر لتأتي لنجدتهم ولم يفلحوا.

«فرأى والي دمشق للوصول إلى هذا الغرض أن ينصب المدافع على أبواب الجامع الأموي وقاية للمسلمين الداخلين إليه في أوقات الصلاة من غدر النصارى! وأمر في عصر اليوم التاسع من تموز ١٨٦٠ بإخراج الرعاع المسجونين من المسلمين بقصد تطوافهم في الشوارع وهم مكبلون بالقيود إرهابا للثوار من المسلمين والدروز معا ، فلما وصلوا إلى باب البريد هجم بضعة من المسلمين على الخفر وبطشوا به وخلصوا رفاقهم ونادوا بالجهاد ، فهجم الأوباش على

٨٣

المسيحيين في بيوتهم ومحلاتهم ووضعوا السيف فيهم ، قتلوا الرجال ، وسبوا العيال ، وهتكوا الأعراض ، وراحوا بالعروض والأموال ، وقتلوا بعض الرهبان الفرنسيسكانيين».

وذكر برانت قنصل بريطانيا أن السبب الرئيسي في إيقاد جذوة الفتنة أن أولاد المسلمين أخذوا يرسمون صورة الصليب في الطرقات ويدوسونها ويهينون المسيحيين المارين ، فقبض عليهم «التفكجي باشي» وقيدهم بالسلاسل وأكرههم على تكنيس الطرق ، فهجمت الغوغاء وأنقذتهم فاشتعلت الفتنة. قال : وعندي أن أحمد باشا مخطىء في ضعفه مع مجلسه ، وعدم اتخاذه الاحتياطات التي أشير عليه بها غير مرة ، وإصراره على إبقاء رئيس التفكجية في مركزه ، مع اشتهاره بعدم الكفاية رغما عن تحذير عدة أشخاص من جميع الطبقات منه قبل إيقاظ الفتنة بعدة أسابيع ، وإهماله إنقاذ مسيحيي حاصبيا وراشيا نكثا بوعوده لما أخبر بالخطر المحدق بهم ، وتقاعده عن استدراك مهاجمة زحلة وقلة اكتراثه بذبح الدروز النصارى إن لم نقل بتواطئه ، وهو القائل ، على ما روي ، إنه يوجد في سورية آفتان كبيرتان هما المسيحيون والدروز فكلما ذبح أحدهما الآخر استفادت الحكومة العثمانية. وإن حظر حمل السلاح على النصارى والسماح به للمسلمين والدروز لا يمكن تأويله إلا بأن حكومة تلك الأيام كانت لا تهتم لفتنة تحدث أو أنها تود إحداثها أو لا تجسر أن تعامل الجميع بالسوية. وقال الماجور فرازر إن فؤاد باشا قال له : إن الدمشقيين يكرهون الأتراك ، وأن من الضروري إلقاء الرعب في قلوبهم توطيدا لأركان الحكم العثماني فيتجنبون ركوب متن الفتنة.

وقد علل مشاقة سبب فتنة دمشق تعليلا مقبولا فقال : «إنه لم يكن لها تعلق بحادثة لبنان بل لها أسباب خصوصية نشأت عن تصرفات جهلة النصارى عندما عجز عقلاؤهم عن ردعهم ، فلما وضعت الدولة قوانين المساواة بين رعاياها من أي مذهب كانوا توسع جهلة النصارى في تأويل هذه المساواة بأن معناها أنه لا يجب على الصغير الخضوع للكبير ولا للوضيع أن يحترم الرفيع ، وتوهموا أن أدنياء النصارى هم بمنزلة عظماء المسلمين ، ولم يريدوا أن يفهموا أن المساواة هي في الحقوق الشرعية والنظامية ، وأن من الواجب حفظ اعتبار

٨٤

أهل الاعتبار بالدرجة اللائقة بهم من أية طائفة كانوا خصوصا النصارى نحو المسلمين ، وعليهم أن يعرفوا بأن كبراء البلاد ومعتبريها هم منهم ، والسلطنة مع وزرائها وعسكرها وجميع عظمائها من المسلمين ، وأن النصارى في سورية هم الجزء الأصغر والأضعف في كل شيء ، بكل الوجوه يجب على المسيحيين تقديم الاحترام الوافر نحو المسلمين ، والطاعة التامة لأولياء الأمور فيما يرسمونه لهم ا ه».

ضحايا مذابح دمشق وتخريبها :

قدّر قنصل الإنكليز عدد من ذبحوا من نصارى دمشق بزهاء ٣٥٠٠ نسمة ، والغرباء الذي لجأوا إلى المدينة طلبا للنجاة نحو ٢٠٠٠ نسمة. وقال لورتيه : إن عدد من هلك من النصارى في فتن لبنان وحوادث دمشق بلغ اثني عشر ألفا ، وأن في دير القمر وحدها تربة بناها أبناء وطنه فيها ستة آلاف من الهالكين وهو عدد فيه نظر. وقد قتل بعض النصارى في محال منفردة مثل نصارى جباع من عمل صيدا ، فإن الدروز انقضوا عليها وحرقوا بيوتهم ونهبوا القرى ، وأن مائتين وخمسين نسمة من جزين كانوا في الغابات فطاردهم الدروز من محل إلى آخر وقتلوا بعضهم ، ولم يصل منهم إلى قرب صيدا إلا خمسة عشر رجلا فقط. وحرقت ميمس والكفير من عمل حاصبيا وهلك فيهما مائة وعشرون نصرانيا ، وخربت ثمان قرى للنصارى في البقاع وحرقت ، وقتل من بقي فيها من الشيوخ والأحداث بينهم النساء والأطفال واعتدي على العذارى ، وشوهدت من بيروت ثنتان وثلاثون قرية تحترق وذلك يوم ٢٨ و ٢٩ أيار وأمست بعض البلدان الزاهرة في لبنان مهجورة.

وقال كراهام : إن ستين قرية وبلدة في لبنان قد دمرت وأصبح هذا الجبل بلقعا ويتعذر معرفة عدد النصارى الذين قتلوا في مذابح جبل لبنان ، فالتخمينات متباينة ويقدر بعضهم القتلى بأربعة آلاف وآخرون بعشرة ، وهذا العدد الأخير مبالغ فيه كثيرا. قال وأرجح أنه لا يتجاوز الأربعة آلاف ، فقد جمعت عدة أنباء موثوق بها وعارضتها بعضها على بعض فتبين لي أن عدد القتلى في دير القمر

٨٥

يختلف بين ١١٠٠ إلى ١٢٠٠ وفي حاصبيا وراشيا ٧٠٠ وفي صيدا ٥٥٠ وإذا أضفنا إليها ٢٠٠ لاجىء قتلوا في ٣٠ و ٣١ أيار في جوار بيروت وألف نصراني ذبحوا في بيوتهم على ما أرجح فلا أعتقد أن عدد القتلى يتجاوز ٣٥٠٠ ذكر ، وفقدهم يحرم القطر أيدي عاملة كان يتوقف عليها نجاحها.

وزعم لنورمان أنه يريد أن يكتب تاريخا لا رواية خيالية ، ولكنه كان إلى المبالغة واستعمال أساليب الخطابة والخيال ، ومع هذا ننقل بعض ما ذكره مما عساه قد فاتنا تفصيله. أما المبالغات في الأرقام فمما نكله إلى فطنة القارىء يردها ببصيرته لأن قناصل الوقت في هذه الديار أصدق قيلا ، وروايتهم أقرب إلى الصحة والسداد خصوصا من لم يكن لدولهم رأي خاص إلا الحقيقة. فقد ذكر لنورمان أن ستين قرية في الغرب والمتن أصبحت في ثلاثة أيام خرابا يبابا ، وأنه قتل في مقبرة صيدا مائة واثنان وعشرون رجلا وقتل الضبطية ١٧ شخصا على أبواب صيدا ، وأن ألفا ومائتي نصراني اختبأوا في غابة على أربعة فراسخ من صيدا فأحرقها الدروز والمسلمون فلم ينج منهم إنسان وهلكوا ذبحا وحرقا ، وأنه قتل في دير المخلص على مقربة من صيدا مائة وخمسون راهبا وأخا ، عدا ما سلب منه من العروض والأموال التي جاء بها سكان الجوار وأودعوها الدير لأنه كان محترما من الناس كافة قبل هذه الحوادث ، وأنه قتل في حاصبيا تسعمئة وخمسة وسبعون مسيحيا لم ينج منهم إنسان ، وقتل من أمراء الشهابيين في وادي التيم أحد وثلاثون رجلا ولم ينج منهم سوى ثلاثة لأن ضلعهم كان مع فرنسا ، وأنه أحرقت في أرجاء حاصبيا قريتا الكفير وشويا وفي عمل راشيا قرى بيت لهيا وكفر مشكة وعيحا وحرقت حاصبيا كراشيا كلها ، ولما جاء جيش الاحتلال الفرنسي في شهر أيلول سنة ١٨٦٠ إلى زحلة رأى نحو ستمائة جثة من جثث الدروز ملقاة على الأرض إلى جانب جثث قتلى النصارى ، وأن المدينة خربت ولم يحدث فيها قتل إلا في دير اليسوعية والباقي من أهلها هلكوا في الدفاع عن بلدهم وأنه قتل في دير القمر ٢٢٠٠ إنسان وأن ثلثمائة إنسان كانوا مختبئين في دار فلما جاء خورشيد باشا قائد بيروت قتلهم عن آخرهم ، وأن مسلمي بيروت وفي مقدمتهم عمر بيهم أعظم تجار تلك المدينة فتحوا بيوتهم للاجئين إليهم من المسيحيين ، وأخذوا يوزعون عليهم الأطعمة

٨٦

وحالوا بحكمتهم دون تدخل الرعاع من أبناء طائفتهم في الأمر فخففوا من غلوائهم.

وذكر أن عدد الهالكين من ٣٠ أيار إلى ٢٠ حزيران في لبنان وسورية المجوفة كان أربعمائة إنسان في المتن والغرب وجوار بيروت ، وألفا وثمانمائة في صيدا وجزين والكور المجاورة ، وألفين وخمسمائة في قضاءي حاصبيا وراشيا ، ومائتين وخمسين في زحلة ، وألفين ومائتين في دير القمر ومئة وواحدا وعشرين في بيت الدين ، وخمسمائة في بعلبك أي ٧٧٧١ شخصا من الرجال والنساء والأطفال ، وأنه خربت ٣٦٠ قرية وهدمت ٥٦٠ كنيسة ، وحرق ٤٢ ديرا ، وهدمت ٢٨ مدرسة كان فيها ١٨٣٠ تلميذا ، وخسرت الأقاليم التي وقعت فيها الفتن جميع محاصيلها السنوية ، وقدر مجموع ما فقد من أموال النصارى وعروضهم بخمسة وتسعين مليون فرنك يدخل فيها أربعة ملايين قيمة تعطيل التجار عن أعمالهم مدة شهرين.

أما بشأن دمشق فقد أغرق في التقدير أيضا فقال : إن الحريق والنهب والقتل دام خمسة أيام من اليوم التاسع من تموز إلى اليوم الثالث عشر قتل في خلالها ٨٥٠٠ مسيحي ودمرت ٣٨٠٠ دار ، وقدرت الخسائر بمائة مليون فرنك ، ثم قدر عدد من هلكوا من النصارى بالأمراض والقلة بعد المذابح بثلاثين ألف نسمة! وقال : إذا أضفنا هذا العدد إلى من نكبوا في هذه المذابح بلغ من هلك في دمشق ولبنان ٤٦٣٠٠ إنسان خلال سنة واحدة بتعصب المسلمين والدروز. قلنا وجميع التقديرات تثبت أن القتلى ومن هلكوا بسبب مصائب تلك الفتنة والأمراض لا يتجاوزون ربع ما قدره صاحب كتاب مذابح الشام على أن هذا العدد لا يستهان به أيضا.

عمل الدولة والدول عقبى الحوادث :

ولما ترامت هذه الأخبار المشؤومة إلى الغرب أرسلت الدولة أحد كبار وزراء ذاك الوقت فؤاد باشا لإنزال العقوبة بالفاعلين من المسلمين والدروز ، وأرسلت فرنسا عشرة آلاف جندي للمحافظة ومنع التعدي وكذلك باقي الدول

٨٧

الأوربية ، منها من أرسل مراكب حربية ، ومنها من أرسل نوابا لإصلاح الحال. وخيم جند فرنسا في البقاع تسعة أشهر وظلت السفن الأجنبية راسية في موانىء الشام وعددها عشرون بارجة ، وعقد في بيروت مؤتمر دولي مؤلف من وكلاء الدول الخمس انكلترا وفرنسا وروسيا والنمسا وبروسيا ، وضع أساس نظام جديد للبنان أقره السلطان عبد المجيد ووافقت الدول عليه ١٨٦١ (١٢٧٧) ثم عدل هذا النظام سنة ١٢٨١ واشتركت به دولة إيطاليا مع الدول السابق ذكرها.

أعاد فؤاد باشا الأمن إلى نصابه ونفى بعض الأعيان من دمشق لأنهم لم يحولوا دون الأشقياء والسفلة وما أتوا من المنكرات ، وقتل ١١١ مسلما رشقا بالرصاص وشنق ٥٦ ونفى ١٤٥ وحكم بالأشغال الشاقة على ١٨٦ استخدموا في إنشاء الطرق وقضى غيابا بالقتل على ١٨٣ وفي عداد الذين قتلوا ١٨ شخصا من كبار الأسر وأناس ذوو وجاهة ، وسمح للنصارى الذين دانوا بالإسلام كرها أن يعودوا إلى دينهم وعددهم خمسمائة ، وأخليت ثلاث حارات في دمشق لسكنى النصارى ، وجنّد ثلاثة آلاف جندي من هذه المدينة وجعل البدل العسكري مائتي ليرة ، وأرسل زهاء ألف رجل للنفي والسجن إلى الإستانة وغيرها ، وقتل والي دمشق المشير أحمد باشا رميا بالرصاص لتساهله في إطفاء الفتنة وقال هذا يوم قتل : إني مظلوم وسماه الأتراك بالشهيد ، وكان من عظماء الدولة تربى تربية عالية في مدارس الغرب. وقيل : إن فؤاد باشا عجل بقتله مخافة أن تشيع الأوامر التي وردت إليه من الإستانة ونفذها ، وأنه لذلك بادر بأخذ حقيية أوراقه منه ساعة اجتماعه به ، وقتل قائد حي النصارى وقائدي حامية حاصبيا وراشيا ، وعزل خورشيد باشا قائد الجند في الساحل ، وعوض على المنكوبين من مال الدولة والأهلين. وقال قنصل بريطانيا : إن الخسائر المالية بدمشق من حريق ونهب وأعلاق وعروض وغيرها لا تقل عن مليون وربع ليرة ، وكان يرى أن خمسة ملايين ليرة لا تكاد تكفي للتعويض عن تخريب الأملاك ، وعن خسارة الأموال والحلي والجواهر والأمتعة الثمينة والسلع والملابس قال ذلك لفؤاد باشا لما قال له أن يفرض غرامة قدرها ٢٥ مليون قرش أي زهاء مائتي ألف جنيه. هذا عدا ما أصاب النساء من هتك

٨٨

الأعراض وفض الأبكار وركوب العار وبيعهن من الأكراد وأهل البادية كما يباع الإماء كل واحدة بمئة إلى مئة وخمسين قرشا.

أما الدروز في لبنان ووادي التيم ودمشق وحوران فقد نفي منهم نحو مئة إلى طرابلس الغرب ، ولم يقتل أحد منهم لأن النصارى طلبوا محاكمتهم بالشرع ، ولا بد في الشرع من شهود عدول ، والنصارى في هذا الحادث لا تصح شهادتهم ، والدروز لا يشهد بعضهم على بعض ، وإلا فإن فؤاد باشا أراد فيما قيل أن يقتل منهم خمسمائة رجل. ولاحظ الماجور فرازر بقوله إنه إذا لم يحكم على غير سبعة وخمسين قاتلا فيستنتج من ذلك أن معظم من اشتركوا في المذابح لم يزالوا مطلقا سراحهم ، لأنه من المستحيل أن يعتقد بأن أكثر من ثمانية آلاف شخص ذبحهم سبعة وخمسون رجلا دع النساء السبايا واللائي عبث بطهارتهن. وذكر آخر أن الدروز لم يرتكبوا الفاحشة مع النساء وتركوا ذلك لرعاع المسلمين.

عمل العقلاء في دمشق وبيروت ورأي مؤرخ منصف في المسلمين :

وهنا لا بد من التنويه بعمل أكثر عقلاء المسلمين في دمشق وبيروت خاصة ، وما بذلوه لحقن دماء أبناء ذمتهم من النصارى ، فقد أنقذوا ألوفا منهم على ما يقضي بذلك الدين والشرف ، ولو لا ذلك لم يبق منهم ديار ، وفي مقدمتهم الأمير عبد القادر الحسني ، فشكرته الدول النصرانية جمعاء ومما قالته الملكة فيكتوريا ملكة انكلترا وامبراطورة الهند في شكر صنيعه : إنها عرفت من سلوك سموه الفرق بين المسلم ذي العقل الراجح ، والجبناء المتظاهرين بالتدين الذين عملوا بإثارتهم التعصب على إبادة كثيرين من النصارى العزّل. وقد كان للشيخ عبد الغني الميداني الغنيمي ومحمود أفندي حمزة وأسعد أفندي حمزة والشيخ سليم العطار وسعيد آغا النوري وعمر آغا العابد وصالح آغا المهايني والسيد عمر بيهم إلى عشرات غيرهم من أهل العلم والسراوة في دمشق وبيروت ممن فتحوا بيوتهم لإيواء مواطنيهم المنكوبين يد طولى في هذا الشأن تذكر فتشكر ولقد قال السيد محمود حمزة قصيدة في تقبيح ما صدر من رعاع الدمشقيين من أفعال القتل والنهب منها :

٨٩

يا وحوشا صادقت في غابها

آمنا فاستقبلته بالسهام

إلى أن قال :

بئس مصر قد خلت من حاكم

جور سلطان ولا عدل العوام

قال مشاقة خلال كلامه على فلاح مسلم رأى نصرانيا بين القتلى الذين أهلكهم الجزار على باب عكا فأخذه إلى قريته وضمد جراحه ولما عوفي حمله إلى دمشق لئلا ينتقل خبره إلى ذاك الطاغية : فهذه القصة ذكرتني ما ورد في الإنجيل الشريف عن السامري الذي ضمد جراحات الواقع بين اللصوص ، ولكن ما عمله هذا المسلم مع النصراني هو أعظم لأنه خاطر بنفسه لكي ينقذ الغريب عنه الذي لم يكن يعرفه قبلا ، وهكذا يوجد من الصلاح والمروءة بين المسلمين من يسدون المعروف للغرباء عنهم ، وكفى دليلا على ذلك ما شوهد بالعيان من أعمال حضرة الأمير عبد القادر الجزائري والمرحوم صالح آغا المهايني والكثير غيرهم من أتقياء المسلمين من طبقات مختلفة في حادثة سنة ١٨٦٠ فقد صانوا ستة عشر ألف نسمة مسيحية عن الذبح بسيف الأشقياء والثائرين الذين لم تصنهم حكومة دمشق لغاية لم تعد مكتومة وهي لم تعترف بها ولكن القرائن أثبتتها والتفوه بها ممنوع ا ه.

من المسؤول عن هذه الفتنة الشعواء :

كانت هذه الفتنة سبب خراب قسم عظيم من مدينة دمشق ، كما خربت مئات من القرى في لبنان ، وخربت زحلة وحاصبيا وراشيا ودير القمر إلا قليلا ، وأهم ما خرب الكنائس والأديار القديمة والبيوتات التاريخية الجميلة ، وهام كثير من نصارى دمشق وغيرها على وجوههم في الأرض ، ومنهم من هاجر إلى مصر وقبرص واليونان والإستانة وأصيب المسلمون بأضرار كثيرة ، ولربما نجا المجرمون وقتل من كان جرمهم خفيفا. والذنب كل الذنب على الحكومة وعمالها أولا لما أبدوه من الضعف ثم على الأقرب فالأقرب من الأعيان والمشايخ والخاصة ثم على العامة.

٩٠

ولو قام كل واحد من الأعيان والمشايخ بواجبه لخفّ الشر كثيرا في دمشق ، وربما امتنع عامة الأشقياء عن أعمالهم على الرغم من تحريض الحكومة لهم سرا أو من إبدائها تساهلا ظنوا معه أنها تدعوهم إلى عمل ما عملوا. فقد ثبت أن والي دمشق قال للأمير عبد القادر الجزائري وهو يستأذنه للمحافظة على النصارى وإطفاء الفتنة : ليس لي من الأمر شيء ، وإذا كنت تستطيع أنت أن تحافظ بجماعتك المغاربة فلك ذلك فأجابه أن السلاح ينقصني ، فأعطاه سلاحا لأربعمائة مقاتل. وفي تحفة الزائر أن الأمير عبد القادر استأذن الوالي يوم فتنة لبنان ودمشق في طلب مشايخ الدروز إلى بعض القرى خارج البلد والاجتماع بهم ليعظهم ويحذرهم سوء عاقبة ما اعتزموا عليه فأذن له وخرج إليهم وتكلم معهم بما أثر فيهم فأذعنوا لنصائحه ووعدوه بأنهم لا يحركون في دمشق ساكنا ولا يثيرون فتنة ، ولما كان أمر الله لا يرد قويت بواعث الفتنة ولم ينجع فيهم نهي الحكومة ولا أثرت فيهم شدة انتقامها. قال واستمرت الفتنة قائمة ونارها موقدة أربعة عشر يوما في دمشق ، وما أوقع أحمد باشا الشهيد وجماعة من رؤساء الجند إلا اغتراره بأقوال من كان يستبعد أن يقع في دمشق ما وقع في الجبل ، لدعوى وجود البواعث المقتضية لذلك بين اللبنانيين وعدمها في دمشق.

ومن القرائن القوية على أن لحكومة الإستانة يدا في إثارة هذه الفتنة ، أنها أرسلت بعض رجالها قبل وقوع المذابح بأشهر إلى الشام وبعد ذلك تبدل وجه كل شيء وتغيرت معاملة الحكومة للنصارى. ومن يحسن الظن بالحكومة التركية ينسب ما جرى إلى إهمال العمال ، وإلى ما كان لديهم من الوسائط القليلة والرجال وأن الحكومة أرادت أن تنتقم ممن كانوا يتطلعون إلى دولة أخرى تحكمهم كالدولة المصرية ، ولسان حالها في الحقيقة بشأن هذه الفتنة المثل المشهور «لم آمر بها ولا ساءتني» وماذا يهمها قتل نحو أحد عشر ألف نسمة وخراب قدّر ببضعة ملايين من الدنانير وغير ذلك من المقابح والمساوىء ، إذا كان في ذلك تأييد سلطانها على قطر ما زالت سلطتها عليه اسمية منذ فتحته.

وقد ذكر العارفون من العرب والفرنج أنه لو لا انتداب الدولة لمثل الداهية فؤاد باشا لعقوبة الرعاع وغيرهم ، لكانت أوربا اشتطت في معاملة الدولة

٩١

وسلبتها بعض ولاياتها. ومن حسن الحظ أن هذه الفتنة لم تتعد دمشق وأواسط لبنان ونجا منها شماله بفضل رجل اسمه يوسف كرم حال دون انبعاث الدروز إلى جهاته ، ولو اتصلت نيران الفتنة بأقاليم الجنوب والشمال ولم تبق محصورة في الوسط لكان الهول أعظم والخطب أدهى وأمرّ. ونجت جنوب الشام وشمالها لضعف الحكومة فيهما ، ولأن القول الفصل في كل بلد كان لجماعة من عقلائها ووجوهها فإن الرعاع حدثتهم أنفسهم أن يبطشوا في حمص وحماة وحلب وطرابلس واللاذقية ويافا وغيرها فحال عقلاء تلك المدن دون الإيقاع بأحد من أهل وطنهم ، ولم تبتل أقاليمهم بما ابتليت به سورية المجوفة.

سوء أثر حوادث الشام في الدولة ومنازعة الدول لها في سلطانها :

سبع عشرة سنة مضت على الدولة وهي تحرك النّعرة الدينية لتضرب الدرزي بالنصراني وهذا بالمسلم ، حتى وصلت إلى هذه النتيجة المرمضة من إهلاك من أهلكت وإضعاف من أضعفت ، فانتقمت من الذين قتلوا بعض ولاتها قبل دخول المصريين ، ثم عاونوا محمد علي الكبير معاونة فعلية وأدبية ، وبالغت في عقوبتهم حتى أنستهم ما استمتعوا به على عهد حكومته الرشيدة ، وخلصت من حماية فرنسا وانكلترا للموارنة والدروز ، ولكن السياسة التي اتبعتها كادت تفشل ويخرج القطر كله من الحكم العثماني ، لو لا الشدة في عقاب من قضت السياسة بعقوبته والإسراع بتنفيذ الأحكام والتعويض على المنكوبين. ولم لم يقو فؤاد باشا إلا على المسلمين لأنهم لا سياج لهم إلا الدولة العثمانية ، يؤثرونها على غيرها مع اعتقادهم ظلمها وسوء إدارتها ، أما الدروز فإن لهم كالموارنة سندا قويا يحميهم. ولذلك لم يؤاخذ أشقياؤهم بما أجرموا ، وهذا من غرائب السياسة في هذا العصر أن يجعل القاتل في حلّ مما أتاه. ولكن المسلمين من جهة ثانية انتفعوا بهذه العبرة التي وقعت لهم وإن كلفتهم كثيرا ، فأصبحوا لا يثقون برجال الدولة على الجملة ، ويعتقدون أن الظاهر من أقوالهم غير الباطن ، وأن الدولة متى اقتضت مصلحتها تهلك أمة حتى تستفيد فائدة صغيرة ، وتخرب بلدا إذا كان من ذلك مغنم ترجوه. وبهذا العمل الأخرق الذي قصدت

٩٢

به الدولة التفريق بين أجزاء قلوب أبناء الوطن الواحد المشتركة منافعهم المتحدة مرافقهم ، قد سلبت شطرا من سلطتها ففتحت أبواب ديارها لدول أوربا بأن أعطتها الحق لحماية طوائف من رعاياها ، وكانوا لا يرون غيرها مرجعا لهم في الشام ، وأوجدت مسألة «حماية الأقلية» على مقياس واسع ، فنتج من ذلك إنشاء حكومات داخل حكومة ، وأصبح رؤساء الدين من النصارى يراجعون العمال في شؤون طوائفهم في التافهات والمهمات ، ويريدونهم على تأييد مطالبهم وإن كانت جائرة أحيانا ، وصار العامل إذا لم يخفض جناح الذل للرئيس الروحي على ما يجب يقيله من وظيفته بما لديه من الوسائط الفعالة. وأمست دور القناصل بعد الحادثة محاكم دائمة للنظر في قضايا من علقوا آمالهم على الدولة التي تمثلها تلك الدار. وغدا قنصل روسيا مسيطرا على مسائل الروم الأرثوذكس ، وقنصل فرنسا الحاكم المتحكم في قضايا الباباويين ، وقنصل بريطانيا العظمى مهيمنا فيما يعرض للبرتستانت والدروز ، وغدا أهل كل نحلة يجعلون من الدولة التي يمتّون إليها معقد آمالهم ، ويدعون في سرهم وجهرهم أن يقرب أيام حكمها مباشرة عليهم ، ونزل كثير من الطوائف عن مشخصاتهم فأصبحوا عربا بالدم متفرنجين بالتربية والعادات ، يحتقرون ما كان عليه أجدادهم ويغالون في اقتباس ما عند غيرهم ، خصوصا إذا كانوا ينتحلون نحلتهم ويرون في الآخرة رأيهم. على ان الحادثة فتحت لجميع السوريين أبواب الأخذ عن الغرب وما كان ذلك مما أضر على إطلاقه ، بل جاءت منه فوائد مهمة في باب الحضارة. والعبرة المهمة التي أخذها الناس من هذه الفتنة المشؤومة إيقان جمهور تلك الطوائف التي عبث بها العابثون ، أن التبعة على قدر الفهم وأن القتلة وأرباب الدعارة نال شرهم الأبرياء من طوائفهم ، وأنه لا يؤاخذ إذا جدّ الجد غير أهل المدارك وعيون الناس.

وكم ذنب مولّده دلال

وكم بعد مولده اقتراب

وجرم جره سفهاء قوم

فحلّ بغير جارمه العقاب

٩٣

العهد العثماني

«من سنة ١٢٧٧ إلى ١٣٠٠»

بعد فتنة سنة الستين :

خرج الأهلون في دمشق ولبنان بعد المذابح الفظيعة في تلك السنة المشؤومة ، وقد خسروا مادياتهم ومعنوياتهم. هلكت النفوس التي حرم الله قتلها ، وهلك ألوف من النصارى ومئات من المسلمين والدروز ، وخسر أهل المدن والقرى أموالهم ، وخربت الدور والقصور ، وحرقت البيع والأديار. وكانت الخسائر في المعنويات أشد لأن الغرب أساء الظن بأهل هذه الديار ، وأجمل حكمه عليهم كافة وعدّهم متوحشين ظالمين ، ولم يستطع أحب الناس من الأوربيين للمسلمين أن يدافعوا حق الدفاع عنهم ، مع علمهم بأن الفتنة أمر دبر بليل ، والدولة هي المسؤولة أولا وقد رجحت كفة الدروز في مدينة دمشق بما جاءهم من نجدات الحورانيين أبناء مذهبهم ، فكان من الدروز أن اشتركوا أكثر من المسلمين في هذه المذابح. وكان للجند النظامي وغير النظامي من الأجناس المختلفة يد في قتل النصارى في ضواحي صيدا وبيروت ودير القمر وحاصبيا وراشيا وزحلة ودمشق وغيرها ، وهم الذين هتكوا الأعراض على الأكثر فباءوا بالخزي والعار ، وأخذت أوربا بعد أن قويت علاقاتها التجارية بالشام تسعى إلى تقليلها ، لأن كابوس الفتنه استولى بعد تلك الوقائع على العقول في الغرب والشرق سنين كثيرة ، وربما دام حتى انقرض من شهدوها وسمعوا بفظائعها.

جمعت الدولة للمنكوبين غرامات حربية من الأهلين بما زاد عن طاقتهم ، ولم يصل إلى المصابين كما قال مشاقة أكثر من ربع الذي تكلفت له الدولة ،

٩٤

فضاع الربع الثاني في النفقات اللازمة ، والثالث اختلسه مأمور والحكومة ، والربع الرابع ربحه صيارفة اليهود ، وبالجملة فإن الخسارة وقعت على الدولة والمسلمين والنصارى ، ولكن الدولة استعاضت عما فقدت تذليل الرعايا وإخضاعهم لكل ما ترسمه عليهم ، حتى لقد جبى فؤاد باشا بقايا الأموال في دمشق التي أعيا الولاة تحصيلها على أيسر وجه ، ولم يبق للعشائر رؤساء تتعب الحكومة بمعارضة أوامرها.

وخرج لبنان من فتنته ممنوحا استقلالا إداريا ، وأخذ يستمتع منذ سنة ١٢٨١ بنظام خاص فينتخب له الباب العالي متصرفا نصرانيا بموافقة الدول الست العظمى ويعطي الدولة بالاسم ثلاثة آلاف وخمسمائة كيس خراجا سنويا ، وبقيت تسد العجز في موازنة الجبل مدة طويلة ، وأهم ما ربحه لبنان القضاء نهائيا على سلطة أرباب الإقطاعات. وأصبح كما قال بعضهم في عهده الجديد ملجأ للأحرار من كل نحلة كما كان بفضل الأمراء المتولين عليه من آل عساف وآل معن وآل شهاب ملجأ للطوائف الكاثوليكية.

أما مسلمو دمشق فبدأت أيام ذلهم بالقضاء على كبرائهم ، وكان في قتلهم وتشريدهم عبرة لمن خلفهم أو نجا من المعمعة ، وأصبحوا عبيد الدولة حقيقة في كل ما تأمر به ، حتى إن منهم من كانوا لا يراجعون الوالي وإن كان غلطه ظاهرا كل الظهور حتى لا يغضبوه بزعمهم ، ولطالما حاول بعض الولاة العقلاء أن يعلمهم حسن الدفاع المعقول عن حقوق الأهالي ، فكان جوابهم أن افعلوا يا مولانا ما تشاءون فإنا لا نحب المناقشة مع العظماء. إفراط في العهد الأول وتفريط في العهد الثاني.

السلطان عبد المجيد وخلفه عبد العزيز :

توفي السلطان عبد المجيد سنة ١٢٧٧ (١٨٦١) أي بعد مضي أشهر من انتهاء فتنة الشام ، وكان عهده سيئا يحكم في شؤون المملكة السراري والجواري والمقربون في القصر السلطاني ويسرف السلطان في الأموال ويبدد ثروة السلطنة ، وكان إسرافه مبدأ ارتباك الدولة في ماليتها ، فإن عبد المجيد لما زوج ابنته فاطمة

٩٥

من علي غالب بن رشيد باشا أنفق على الجهاز والعرس مليوني ليرة افرنسية. وكان كما قال دي لاجونكيير أكثر ملوك بني عثمان إنسانية ، اكتشف عدة مؤامرات رتبت للإيقاع به فكان كل مرة يعفو عن المتآمرين ، فحمل إلى قبره أسف أمته وحرمة أوربا له التي أثنت عليه على الرغم من فجائع الشام وجدّة ، وذلك لكونه لم يقض على عمل السلطان محمود في الإصلاحات ولأنه ساعد ما وسعته قوته على تأييدها والاحتفاظ بها.

خلف عبد المجيد أخوه السلطان عبد العزيز ، وأخذ لأول مرة يهتم لتنفيذ خطط الإصلاح التي وضعها أبوه وأخوه أولا ، وبدأ بنفسه في إصلاح المالية ، فآلى أن لا يتزوج بغير امرأة واحدة ، وأبطل الإسراف في نفقات قصره ، فتخلى عن جزء مهم من مرتباته ، ولم يلبث أن عاد إلى طبيعته في الترف ، وعاد الإسراف في أموال السلطنة إلى أبشع صورة بحيث لم تأت سنة ١٨٧٥ م حتى أعلنت الدولة إفلاسها ، وتمنت لو تقترض من مصارف أوربا بفائدة اثني عشر بالمئة. وفي التاريخ العام : ولسوء الحظ أن السلطان عبد العزيز نسي حالا نياته الحسنة الأولى ، وأصبح في الحرم تسعمائة امرأة وثلاثة آلاف خادم وخادمة ، وكانت تمدّ كل يوم خمسمائة مائدة ، ويجلس إلى كل واحدة منها اثنا عشر شخصا.

نشر أول قانون للولايات على أصول فرنسا سنة ١٢٨١ (١٨٦٤) وكان السلطان عبد المجيد في سنة ١٢٧٢ (١٨٥٦) نشر خطا سلطانيا يقضي بإدخال إصلاحات إدارية كثيرة في السلطنة العثمانية ، عاقت حوادث الشام عن تطبيقها في ربوعه ، فأخذ القطر بعد الحوادث المشؤومة يتدرج نحو المدنية ، وقد تخلص من أرباب الإقطاعات ، ولم يتخلص من أرباب النفوذ في المدن والقرى ممن كانوا يسرقون الأمة والحكومة معا ، ويقاسمون الولاة والعمال على الأرباح. أما الولاة في أول القرن والقرن الماضي فكانوا لا يهتمون إلا بالاحتفاظ بولايتهم ويبدلون بسرعة كما قال أحد العارفين من الأوربيين بمن يجهلون كثيرا أخلاق الشعب وإدارة الأحزاب السياسية ، فينبذون وراء ظهورهم الاهتمام بإنجاح الولايات لأنهم موقنون بقصر مدة ولايتهم عليها ، فيكبّون مدة حكمهم على جمع الأموال الوافرة بقدر ما تمكنهم الحال. وفي أواخر هذا القرن تبدلت

٩٦

الأحوال فأصبحت الدولة تبعث إلى الشام بأعاظم رجالها يتولونها ، وفيهم المستقيم العفيف عن أموال الناس العارف بأصول السياسة والإدارة.

وفي سنة ١٢٨٠ شب قتال شديد بين بني علي والكلبية وهاجم الكلبية والنواصرة بني علي حتى بلغوا قرية ست يللو ثم حرقوا بتغراموا وديروتان ومغسلة وخربوها وكان الرجال يحاربون والنساء يشتغلن بالتخريب والإحراق وهجم بنو علي على الفرقية وديرونة ورويسة البساتنة وحرقوها ـ قاله في تاريخ العلويين.

وفي سنة ١٢٨٦ كانت الواقعة المعروفة في جبال النصيرية بوقعة الوالي ، وسببها أن طائفة الكلبية النصيرية ظهر منها شقاوة ، وخالفت أوامر الدولة فأرسلت هذه واليا لتمهيد الأمور وإرجاع العصاة إلى الطاعة ، ومعه جيش قدر بعشرة آلاف فسار إلى قرية الجديدة ورابط فيها ، فأرسل الوالي يطلب مقدمي الكلبية ووجوه النصيرية ومقدميهم ومشايخهم المعتمد عليهم من قضاء صافيتا إلى ناحية البجاق ولما وافوه قبض عليهم جميعا وسار الجيش إلى قرية المرج وأمر بحرق القرداحة أكبر دساكر تلك الجهة ، كما أحرق بعض قرى الكلبية والنواصرة ثم مضى إلى بني علي وأحرق وأفسد وعذب جميع الطوائف النصيرية من عمل صافيتا إلى البجاق ، ولما شفيت صدور الجيش من العذاب والتخريب ، التأم مجلس إداري في جبلة فحكم بصلب ثلاثة من أعاظم الطائفة الكلبية وصلب آخر من بني علي ، وأخذت الحكومة الباقين إلى بيروت فسجنتهم خمس سنين ثم برأتهم وأطلقت سراحهم.

ويحدثنا الشيوخ أن أيام السلطان عبد المجيد وعبد العزيز كانت سعيدة على الشام في الجملة ، وإن كان ذانك الدوران مبدأ تصفية حسابات الدولة ، فقد أعلنت رومانيا في أيام عبد العزيز استقلالها ، وتخلت الدولة عن الصرب ، وطلب سكان كريت أن تدخل الإصلاحات على جزيرتهم ، فلما رأوا إهمالا من الدولة طلبوا ضمهم إلى اليونان ولكن الباب العالي قوي عليهم ونجحت سياسته. وفي سنة ١٨٦٨ نزعت مصر عن الدولة ، وأصبحت خديوية تدفع خراجا معينا للسلطنة ، ثم هاج سكان البوسنة والهرسك وساءت حالة السلطنة وأصبحت (٣ ـ ٧)

٩٧

الديون العمومية أربعة مليارات فرنك بعد أن كانت قبل عشر سنين ٣٧٥ مليونا أنفقها السلطان في خصوصياته. وبينا كان عسكر الدولة يحتاج إلى المال في بلغاريا ، والموظفون لم يتناولوا رواتبهم منذ أشهر ، كان عبد العزيز يفكر في نقل قسم من ثروته الخاصة على باخرة أجنبية إلى أودسا. هذا والثورة فاشية في بلغاريا ، والصرب والجبل الأسود تحاربان الدولة ، وأوربا تخاطب الحكومة في أمر النصارى الذين كانت تخشى على حياتهم مخاطبة الآمر للمأمور فتمسّ كل يوم عاطفتها ، وشهرت الدولة إفلاسها ولم يصرف السلطان من الأموال التي اقترضها سوى واحد من خمسة عشر على الجيش والأسطول. برهان واضح على قبح الحكم المطلق كيف كان نوعه وحالة القائم به ، وأنه إذا اتفق أن جاءت فيه بعض أيام راحة فهي نسبية لا تكون معيارا ، ولم تربح الدولة من عهد عبد العزيز سوى تأسيس نظارتين مهمتين : العدلية والمعارف.

خلع عبد العزيز وتولية مراد الخامس :

شقيت السلطنة بإدارة عبد العزيز وكادت تتداعى أركان الدولة وهو لاه في أفراحه لا يبالي بما تخبؤه الأيام ، ما دام كل من تحت سماء السلطنة عبيده الخاضعين ، وأصبح لا ينفذ أمرا للوزارة ، وكأنه عرف حالته فأخذ يفاوض امبراطور روسيا سرا ليحميه فاطلع الوزراء على الأمر ، فلما رأوا سوء المغبة عيانا تآمروا على خلعه ، فاجتمع الصدر الأعظم مدحت باشا وناظر الحربية حسين عوني باشا ورشدي باشا المترجم من أعاظم رجال السلطنة بالاتفاق مع الشريف عبد المطلب ، وكان ذلك برأي مدحت باشا أولا ، وأسرعوا في خلع عبد العزيز على حين فجأة ، قبل أن ينقل ثروته إلى الديار الأجنبية ، ويطلع على ما دبروا له فيبطش بالمتآمرين ، وذلك بفتوى شيخ الإسلام حسن خير الله أفندي أثبت فيها عليه العته والجهل بالأمور السياسية ، والإسراف في أموال الأمة بما لا تستطيع تحمله وإنفاقه في شهواته ، وإخلاله بعمله في أمور الدنيا والدين مما ساق الملك والملة إلى الخراب. ونصبوا بدله مراد الخامس.

ولما كان عبد العزيز على جانب من عزة النفس وشمم السلطنة صعب عليه

٩٨

الخلع فطلب مقراضا يقص به شعره فانتحر بقطع بعض عروق يديه وقيل بل قتل بيد أثيمة وهو غير صحيح. وقد ساعد سفير انكلترا رجال الدولة القائمين بهذا العمل ، بأن استدعى قسما من الأسطول الإنكليزي إلى ميناء الإستانة ليلجأوا إليه إذا انكشفت مؤامرتهم قبل إتمامها. ولما تربع مراد في دست السلطنة تنازل عن ستين ألف كيس من مخصصات القصر وترك للمالية ريع المناجم والمعامل على حين كان يرسف في قيود ديونه التي تراكمت عليه منذ ولايته العهد ، وقد أنافت على مليون ليرة وليس في الخزينة من المال ما يكفي إلا لسدها وبعض زيادة طفيفة ، والجند والموظفون لم يتناولوا رواتبهم منذ أحد عشر شهرا. وكان مراد ليلة خلع عبد العزيز ارتاع فأصابه مسّ من الجنون لما بشروه بالبيعة له بالسلطنة ، على صورة لم يكن يتوقعها واشتد خلله بعد أيام من توليته عندما بلغه مقتل حسين عوني باشا فلم يتلطف مبلغه بالأمر وقال له إن الوزراء قتلوا فقال الآن جاءت نوبتي في القتل وبدأ معه الجنون المطبق ، فلم يسع أهل الحل والعقد إلا خلعه بعد أن سكتوا على ذلك شهرين ، فخلعوه بإثبات جنونه المطبق ونصب مكانه السلطان عبد الحميد الثاني يوم ١٦ شعبان سنة ١٢٩٣ ، بعد أن تعهد لمدحت باشا بأن ينشر القانون الأساسي ، ويؤسس في السلطنة حكومة دستورية.

عهد عبد الحميد الثاني :

تولى عبد الحميد زمام السلطنة وروسيا تهيج ممالك البلقان ، والدولة مائلة إلى السقوط لإسراف عبد العزيز ، فألغى جانبا كبيرا من نفقات المطبخ السلطاني وكانت نفقاته على عهد عبد العزيز أربعين ألف ليرة في الشهر فأنزل مبلغا لا يستهان به ، وقضى أن لا تخرج من المابين موائد الطعام بل أن يأكل فيه من له حق الأكل ، وألغى الامتيازات التي كانت لوالدة السلطان ، لأن والدته ماتت وهو صغير فتوفر بذلك ١٥٠ ألف ليرة نفقات سنوية ، وأخذ يتولى بنفسه إدارة الشؤون ويتفنن في الجاسوسية ليطلع على الصغيرة والكبيرة. لكن روسيا أعلنت الحرب على الدولة فنزعت البوسنة والهرسك من أملاكها واستقلت الصرب والجبل الأسود ، وانهزم العثمانيون أمام الروس وخرجوا من حربهم

٩٩

وقد أضاعوا جزءا مهما من مملكتهم وما يربو على مائتي ألف كيلومتر مربع من الأراضي ، وسبعة ملايين من الرعايا ، وانسلخت جزيرة قبرص عن السلطنة وقضت معاهدة برلين (١٢٩٤) أن لا تسلب من الدولة الإمارات التي كانت تابعة لها فقط ، بل نصف أرضها في أوربا ، وأن يتعهد السلطان بإصلاح مكدونية وكريت وإرمينية وتحملت السلطنة غرامة باهظة. وأعلن السلطان القانون الأساسي في المملكة وسارع بتأليف مجلس نيابي ومجلس شيوخ واجتمع مجلس الأمة قبل أن يحضر نواب اليمن وبغداد والبصرة وطرابلس الغرب لبعد ولاياتهم واكتفوا بوجود ثلثي النواب ، وانتهت معاملة أعضاء مجلس النواب بعد ثلاثة أشهر من نشر القانون الأساسي ، ولم يكن انتخاب النواب بالرأي العام بل بتعليمات موقتة بمعرفة مجالس الإدارة.

ولما تناقش النواب في مسألة الصلح مع روسيا لم يرتضوا بالشروط الصعبة التي اقترحتها الدولة الظافرة وحدث في المجلس أخذ ورد ، شق ذلك على عبد الحميد وربما بدرت بوادر من بعض النواب بحق السلطان فأمر بإقفال المجلس ، وكان على حالة يرضى معها ان يتنازل عن ثلثي المملكة على أن يضمن له عرشه ، فصدر أمره بتوقيف أعمال مجلس النواب إلى مدة غير معينة وأمر بإخراج عشرة من نواب الولايات في ثمان وأربعين ساعة من الإستانة ، وكان منهم خمسة من ولايات الشام فأظهر بذلك أول صورة من صور استبداده خالف بها الأصول النيابية ، ولم تتمتع الأمة بحرية الدستور سوى أربعة أشهر لأنه صعب على مانحه أن يسير على غير خطة الاستبداد ، وندر أن يجيء من المستبد إلا مستبد ، فزاد حنق الأحرار والغيورين على بقاء السلطنة العثمانية ، وأخذ هو يشتد خوفه على نفسه ، ويقضي على من كان خلع عمه عبد العزيز على أيديهم من الوزراء ، ولا سيما مدحت باشا الذي نقله إلى ولايات بغداد والشام وإزمير ، ومنها إلى حبس الطائف فقتله هناك ، وأخذ يستكثر من الجواسيس وأصبح ولا همّ له بعد سنين إلا اتخاذ الاحتياطات لذلك ، وكثرت أوهامه وظنونه، وأنشأ يراقب المطبوعات مراقبة دقيقة مضحكة ، ولا يسمح بنشر جريدة ولا كتاب على الأكثر إلا إذا طرز باسمه واختلقت له فيه الأماديح. وفي أول عهده (١٨٨١ م) أخذ الصهيونيون ينزلون فلسطين مئات كل سنة ،

١٠٠