خطط الشام - ج ٣

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٣

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٧٠

الشيخ حمدان الدرزي عن آخرهم ولم يبق إلا على مقدمهم. وذكروا في سبب هذه الوقائع أن إبراهيم باشا طلب ١٨٠ نفرا للجندية من جبل الدروز الشرقي كما طلب ١٢٠٠ من دروز لبنان وأرسلهم إلى عكا ، فطلب المشايخ إبدال ذلك بالمال وأوهموه الطاعة فلما عادوا إلى إقليمهم ثاروا عليه ، فتوجه إليهم الجند بقيادة علي آغا البصيلي كبير طائفة الهوارة والصعايدة ومعه عبد القادر آغا أبو جيب فعقدوا هناك مع كبراء الدروز مجلسا للمشاورة في هذا الأمر، فامتنع الدروز من تسليم الأنفار وأرادوا الاستعاضة عنهم بالبدلات العسكرية. فقال البصيلي: إني أرسل مراسلة أستشير بها أفندينا. وعلى ذلك قرّ القرار. وفي تلك الليلة كبستالدروز العساكر وأذاقتهم كؤوس المنية ، وقتل أبو جيب وكان المتسلم في حوران وجبل الدروز ، ولم يسلم من القتل سوى البصيلي وخمسة عشر نفرا ، ثم جمع الدروز أمتعتهم ودخلوا اللجاة فجاءهم عسكر إبراهيم باشا فقتلوه. وهذه هي الوقعة التي قتل فيها الفريق محمد باشا. وقد بلغ عدد المقاتلة من الدروز والعرب عشرة آلاف. وفي مدونات مشايخ الدروز أنفسهم أن المقاتلة منهم لم يتجاوزوا الثمانمائة مقاتل ومعهم مائتان من عرب السلوط أحلافهم. وكانوا يربطون الطرق وينهبون القوافل بين بيروت ودمشق ويقتلون كل من وجدوه منفردا من العسكر النظامي.

وروى مشاقة أن العسكر المصري الذي أرسل لأول مرة على دروز حوران كانوا ٤٥٠ مقاتلا من الهوارة قتلوا إلا قليلا ، فأرسل إبراهيم باشا عليهم نحو ستة آلاف من العسكر النظامي مجهزين بالمدافع مع أن الدروز يومئذ لم يكونوا أكثر من ١٦٠٠ مقاتل. ولما عجز شريف باشا والي دمشق عن كبح جماح الدروز جاء إبراهيم باشا من شمالي الشام وكان هناك يرقب حركة الأتراك فساق قوة أخرى ، فرأى الرعب قد دبّ في قلوب عسكره من رهبة الدروز فعمد إلى ضربهم من جهة صرخد بفرسان الأكراد. ودارت رحى الحرب بينهم وتهارب الدروز من وجه إبراهيم باشا ورجاله إلى أن قادوهم إلى سهل دامة ، وهناك رجعوا عليهم وأعملوا السيف فيهم وفتكوا بجموعهم ، ولما عرف إبراهيم باشا أن عسكره ذعر من شجاعة الدروز عمد إلى تسميم الماء الذي كانوا يستقون منه فأرسل إلى الدكتور كلوت بك يستحضر منه

٦١

محلولا قاتلا فرفض هذا إجابة طلبه وحاول أن يمنعه من استعمال تلك الواسطة لما فيها من القسوة التي تشمل الحريم والأطفال معا ، أما إبراهيم باشا فكان يرى مصلحة الدولة أولا والرعية ثانيا ، ولما عجز عن إخضاع العصاة ألزم علماء الكيمياء بصنع محلول سليماني ألقاه في المياه وأعلم الدروز بذلك ، فاضطر الدروز إلى ترك المكان بعد أن مات منهم عدد كبير عطشا وأتوا إلى إقليم البلان.

وكان دروز وادي التيم وإقليم البلان ينجدون دروز حوران بقيادة شبلي العريان ولما ضاق بهم ذرع إبراهيم باشا استدعى من مصر عسكرا من الأرناؤد فأمده أبوه بأربعة آلاف جندي بقيادة مصطفى باشا ، وهم الذين حارب الدروز بهم في الوعرة أيضا فلم يظفروا بهم. وكانت دروز الأقاليم تنجد دروز حوران سرا أولا ثم أخذت تنجدهم علنا. أما نصارى لبنان فتجندوا أولا مع العساكر المصرية وحضروا الوقائع التي حدثت بين المصريين والدروز في حوران ووادي التيم. وتجمع العصاة في قرية حينة من إقليم البلّان ، فأطلق الأمير مجيد شهاب الغارة عليهم فانهزموا وقتل منهم ١٥٠ رجلا وبلغ شبلي العريان ذلك فحضر بعسكره من الوعرة وحاصر العسكر المصري في سراي حاصبيا فقتل من أمراء حاصبيا الأمير علي ثم أرسل العريان إلى الأمير محمود خليل أن يخرج من السراي ولا يشارك العسكر النظامي فخرج بجماعته اللبنانيين ، واضطرمت نار الحرب بين العسكر المصري والعريان ، ففر الجند المصري منهزما نحو البقاع فتبعه العريان بمن معه وأعمل في أقفيتهم السلاح فقتل منهم نحو ثلاثمائة رجل وتشتت الباقون في البقاع فظفر بهم العريان والبقاعيون ، ثم جمع إبراهيم باشا ما تشتت من عسكره في البقاع وعاد فخيم في قرية عيحا قرب راشيا ، فأتته الدروز وتحصنوا قبالته في غابة هناك ، وانتشب الحرب بينه وبينهم فلم يظفر بهم ، ثم اشتبك الدروز مع عسكر إبراهيم باشا في وادي بكا فهجم عليهم إبراهيم باشا بعسكره وأطلق عليهم النار وأطبقت العساكر من كل جانب ، فقتلوا من الجند المصري وقتل منهم مقتلة عظيمة اضطروا عقيبها إلى الفرار. قيل إنه قتل من الدروز في الوقعة الأولى ٦٢٠ عدا من تأثرهم إبراهيم باشا وقتلهم ، ثم حدثت وقعة في قلعة صخور وتفرق الدروز ، وطلب العريان الأمان من إبراهيم باشا فأجابه إليه وجعله قائدا على ألف فارس هوارة. وفي سنة ١٢٥٢ توجه الأمير مسعود

٦٢

الشهابي لحرب العرب العصاة في الصفا فاستسلموا له ومات من عسكره خمسون جنديا دنقا.

نعم بدأ الاشمئزاز من حكومة محمد علي سنة ١٢٥٠ لما صدر أمره إلى ابنه إبراهيم باشا باحتكار أصناف الحرير للحكومة ، وبضرب ضريبة جديدة على الأهالي ، وبتجهيز عدة ألايات ، وزاد الحنق لنزع السلاح ، فابتدأت الثورة بجوار بحيرة لوط وعلى شواطىء الأردن ، وفي هذه الوقعة التي انتهت بقتل قاسم الأحمد حاكم نابلس بدمشق ، قتل إبراهيم باشا كثيرا من زعماء الأتراك ممن كانوا ساعدوا العصاة عليه ، وأخذ الدروز والنصيرية والموارنة يستعدون للثورة يهيجهم عليها عمال الدولة العثمانية ، وبريطانيا تحرض العثمانيين وتعلمهم كيف يسلكون. وقد روى كامل في تاريخه أن إبراهيم باشا فقد من جيشه في السنتين التاليتين لأمر التجنيد نحو عشرين ألفا. وممن انتقض على إبراهيم باشا أهالي الكرك فإنه لما فتح إقليمهم نظم إدارته وجعل له حامية من جنده ، وبعد قليل تمرد السكان وذبحوا الحامية والموظفين على بكرة أبيهم ، وقتلوا كتيبة من جنده كانت آيبة إلى مصر ، فأضلوها الطريق وأهلكوا أكثرها.

سياسة الأتراك والدول مع محمد علي :

وكانت الدولة العثمانية بمعاونة الدولة البريطانية لا تفتأ منذ دخول المصريين إلى الشام تدس الدسائس في القطر ، وتستميل رؤساء العشائر وأرباب الزعامات والأعيان ، بالمال تارة والوعود الخلّابة أخرى ، وبعد أن عقد محمد علي مع سلطان العثمانيين العقد الثاني وهو خمس سنين أيضا ومضى أكثره وأدى المقرر عليه من المال ، أرتأى العثمانيون بإيعاز بريطانيا العظمى أن يستخلصوا الشام وأذنة من محمد علي ، فأرسل السلطان محمود سنة ١٢٥٥ حافظ باشا في سبعين ألف مقاتل وفي رواية مئة ألف مجهزين بمدفعية مهمة ومعها طائفة من كبار ضباط روسيا وبروسيا وزحف إبراهيم باشا في أربعين ألفا حتى انتهى الجيشان إلى سهل نزّيب (نصيبين) ، واشتبك القتال بين الجيشين ثماني ساعات ونصفا فتراجع الجيش العثماني بعد أن قتل منه ستة آلاف وقيل أربعة وأسر اثنا عشر

٦٣

ألفا ، وغنم المصريون من العثمانيين في هذه الوقعة ١٦٦ مدفعا و ٢٠ ألف بندقية ، وقتل من المصريين أربعة آلاف وقتل المصريون من الأتراك في حال انهزامهم ما يبلغ خمسة أسداسهم.

وذكر المصنف المجهول أن وقعة نزيب كانت يوم ١١ ربيع الثاني ١٢٥٥ (٢٤ حزيران ١٨٣٩) وأن إبراهيم باشا استولى من العثمانيين على مائة وعشرين مدفعا وعشرة آلاف بندقية وجميع مهماتهم وذخائرهم وعتادهم وقتل منهم أربعة آلاف وخمسمائة وجرح ١٨ ألفا وأسر ثمانية آلاف وخمسمائة وقتل أمراء كثيرين. وقتل من جيش إبراهيم باشا أربعمائة وجرح ثمانمائة وفقد أربعمائة ثم قصد بيره جك (البيرة) فهرب العثمانيون وغنم منهم ٣٢ مدفعا بعتادها.

انتهى خبر الهزيمة إلى الإستانة بعد ثمانية أيام من وفاة السلطان محمود الثاني وجلوس ابنه عبد المجيد وهو فتى في السادسة عشرة من عمره. جلس السلطان الجديد وسلطنته مهددة بجيوش محمد علي ، وليس للدولة جيش ، وقد فقدت أسطولها في الإسكندرية ، سلمه لمحمد علي أمير البحر أحمد فوزي باشا ، فرأى السلطان أن يسادّ ويقارب ، فأرادته الدول على أن يتربص ريثما يتوفق إلى حلّ مرضيّ بإجماع الآراء بينهن ، فكان من ذلك حل المسألة المصرية العثمانية بالطرق السلمية الحربية ، فاتفقت الدول العظمى ما خلا فرنسا أن لا تتجدد معاهدة «خنكار إسكله سى» بين العثمانية والروسية ، وأن السلطان إذا اقتضت له معاونة لسلامة السلطنة تعاونه الدول ، على أن تبقى المضايق والدردنيل تحت إشرافهن ، وكان محمد علي يتذرع لدى الباب العالي أن تكون مصر والشام وأذنة ملكا وراثيا له ولأولاده فأرضته الدول بمصر فقط ولم تنفعه معاضدة فرنسا ، وقضي على محمد علي أن يخرج من أذنة والشام في عشرة أيام ، وأن لا تبقى له مع مصر سوى باشاوية عكا أي فلسطين من أرض الشام. تقرر ذلك في مؤتمر لندرا (١٨٤٠) بين انكلترا وروسيا وبروسيا والنمسا بيد أن محمد علي أبى أن يخرج من الشام ، فبعثت انكلترا بأسطولها إلى السواحل بقيادة روبرت ستوبفورد فضربت بيروت واستسلمت باقي الثغور كطرابلس وصيدا وصور وقاومت عكا ، وبعد أن أطلقت عليها البوارج الإنكليزية قذائفها ثلاث ساعات أصابت مستودع البارود فانفجر وقتل كثيرا من الرجال ، ثم

٦٤

اضطرت العساكر المصرية إلى العودة من طريق البر الذي كانت جاءت منه. وكانت فرنسا مناهضة هذه المرة للدول وقامت إلى جنب محمد علي تبرر عمله ، وتناصره برأيها ومعاونتها الأدبية.

ونشر السلطان عبد المجيد ١٢٥٥ (١٨٣٩) خلال هذه المدة خط كلخانه أو البراءة السلطانية وهي أول قانون إصلاحي في السلطنة العثمانية يقضي بإعطاء العناصر العثمانية حقها وحريتها ، ويضع نظاما لاستيفاء الضرائب على نظام واحد ، وتطبيق القانون العسكري وغير ذلك من الأمور الإدارية ، فصفقت أوربا لقانونه ورجت الارتقاء لمملكته. وكان هذا القانون مما أوحت به بريطانيا واستملاه عقلاء الساسة من الأتراك في العاصمة.

انفراط عقد الحكم المصري :

ولما أحس أهل لبنان بواسطة دعاة البريطانيين أن الدول أزمعت إجلاء الجيش المصري عن الشام بالقوة إن لم ينجل مختارا ، أخذوا يناوشون الحامية المصرية وقتلوا بعض المتسلمين من المصريين ، وكان الأمراء الشهابيون واللمعيون يقوون العامة سرا ويحثونهم على الثبات ، والإفرنج يخبرون الناس باتفاق الدول الأربع النمسا وبريطانيا وروسيا وبروسيا مع الدولة العثمانية على استخلاص الشام من محمد علي ، ويحرضونهم على الدولة المصرية ، ويؤكدون أن المراكب الحربية قادمة إليهم ، واشتدت الفتنة بين أهل الجبل والأمير بشير وحرق إبراهيم باشا بعض قرى الجبل وقتل رهبانا وسبى حريما.

وكان أمير لبنان في ظاهره مع إبراهيم باشا خوفا منه ، وفي الباطن مع من يضمن له ولايته ، وقبض المصريون على ٥٧ رجلا من أعيان لبنان بينهم أربعون من أمراء الشهابيين كانوا يدعون أهل بلادهم لخلع طاعة المصريين فنفاهم إبراهيم باشا إلى مصر ومنها إلى السودان ، وأخذ أعوان أمير لبنان ينتقمون من الرعايا بجمع السلاح والخيل وطرح المغارم ، وجاء على الأثر الأسطول العثماني والأوربي في أربعين قطعة صغيرة وكبيرة ، تحمل خمسة (٣ ـ ٥)

٦٥

آلاف وخمسمائة جندي عثماني وألفي جندي أوربي ، فأخذ إبراهيم باشا يجمع شمله في الداخل ، ويستدعي جنوده من الساحل ، وبحسب تقارير ضباط الإنكليز أن المقتول والمجروح والضائع من العسكر المصري لم يكن أقل من عشرين ألف جندي.

وخرج إبراهيم باشا من دمشق (١٢٥٦) بعد أن فرق ذخائره ومتاعه على المساجد والجوامع وبيوت الأرامل والأيتام ، وأخذ معه جميع الحبوب والمواشي خارجا من باب الله ونزل في سهل القدم ، ومنها قصد إلى مصر عن طريق البر. وقبل رحيله عن دمشق أرسل خالد باشا التركي من الساحل أحمد آغا اليوسف في شرذمة من الجيش فخرج إليه إبراهيم باشا بجند قليل وهزمه شر هزيمة ، فرجع إبراهيم باشا بالغنائم والذخيرة الوافرة ، أما أحمد آغا فنزل بعسكره بعيدا عن دمشق في إحدى قرى الزبداني ينتظر إخلاء إبراهيم باشا المدينة ، ثم خرج إبراهيم باشا صادعا بالأمر الذي جاءه من والده بالجلاء عن الشام فخرج أهل دمشق لوداعه وخطبهم وحرضهم على الإخلاد إلى الطاعة والسكينة ، ريثما تعود الحكومة العثمانية ، وعينت الدولة علي باشا الذي كان واليا على الشام يوم دخول إبراهيم باشا ، وكان أشد الأتراك تعصبا ، وبقي قنصل بريطانيا المستر ودد الذي أثار الموارنة على إبراهيم باشا مفوضا من الدولة التركية بمراقبة أعمال عمالها ، وكان كثيرا ما يشير على الدولة بعزل هذا فتعزله ونصب ذاك فتنصبه ، وكان الموظفون العثمانيون معه كموظفين صغار في خدمة آمر مطلق.

أراد محمد علي أن يقاوم دول أوربا ويظل في الشام ، ولكنه علم ببعد نظره أن ذلك متعذر ، وأن أسطولا ضرب بيروت وأحرق الأسطول المصري ونزل تسعة آلاف جندي إلى سواحل الشام ، وأن الموارنة بعد أن كانوا عضد ابنه إبراهيم أصبحوا يعاونون الأوربيين على طرده من الشام ، وتقدم أمير البحر بأبيه أمام الإسكندرية وأخذ من محمد علي معاهدة لم يترك له بها سوى مصر ، وأنه من مقتضى معاهدة الدولة العثمانية مع الدول ترك الحق لبريطانيا بالاتفاق مع النمسا في محاصرة الموانىء ومساعدة كل من أراد خلع طاعة المصريين والرجوع إلى الدولة العلية ، وبعبارة أخرى تحريضهم على العصيان لإشغال الجيش المصري في الداخل ، كي لا يقوى على مقاومة السفن النمساوية والبريطانية

٦٦

وأن يكون لمراكب روسيا والنمسا وبريطانيا معا حق الدخول في البوسفور لوقاية القسطنطينية متى تقدمت الجيوش المصرية نحوها.

فضل حكم محمد علي :

كانت حسنات حكومة محمد علي في الشام أكثر من سيئاتها. وضعت أصول الإدارة والجباية ورفعت أيدي أرباب الإقطاعات وأعطتهم من الخزانة رواتب تكفيهم ، ولم يخلص من ذلك إلا الأمير بشير الشهابي والي لبنان ، فإنه نال ولايته مباشرة من محمد علي في مصر ، وظلّ يتصرف بلبنان ، وبذلك رفعت سلطة المشايخ والأمراء المستبدين. قال مشاقة : كانت الدولة التركية خبيرة بأحوال الشعب أكثر من الدولة المصرية فبعثت تدس الدسائس في المشايخ ، وتغريهم بالمواعيد الفاحشة ، ليحضوا الشعب على شق عصا الطاعة ، طمعا بإرجاع نفوذهم ، وكان النصيرية أول من شق عصا الطاعة وتبعهم الدروز في حوران ووادي التيم ، فقضى المصريون معظم أيام دولتهم في الشام بالحروب والقلاقل.

ومن مآثر الحكومة المصرية التي عددها مشاقة تجفيفها المستنقعات وتصريف الأقذار في مجار خاصة ، وتحديد أسعار اللحوم ، والعدل بين الرعايا على اختلاف أديانهم وطبقاتهم ، لا تكلف صاحب الحق نفقة لتحصيل حقوقه ، وإنفاق كل مال في وجهه المخصص له ، ومع ذلك ظل الشعب يسومها العداوة ويناقشها الحساب ، لأنه اعتاد أن يكون محكوما لا حاكم نفسه ، عبدا لا حرا. وأكد أن البريطانيين استخدموا رجلا من رجالهم السياسيين اسمه المستر ودد فجاء كسروان بدعوى أنه يريد تعلم اللغة العربية ، وأخذ يبث الدسائس حتى أعلن الكسروانيون العصيان ، وقاتلوا جيشا من جيوش إبراهيم باشا وجيوش الأمير بشير ، ودام القتال أياما ، وتغلب العصاة على جند إبراهيم باشا مرارا ، وهي المرة الأولى التي ذاق بها إبراهيم باشا طعم الانكسار.

ومدح مشاقة الأمير بشيرا الشهابي الذي كان عضدا قويا لإبراهيم باشا ، وقد تولى حكومة الجبل من سنة ١٧٨٥ إلى سنة ١٨٤٠ وأرسلته الدولة لما استولت

٦٧

على الساحل إلى مالطة وبقي منفيا فيها زمنا ولم يستطع أن يعود إلى إمارته. قال إنه كان شجاعا مقداما ، وقائدا محنكا ، وسياسيا داهية ، خدم الجزار بكل أمانة ونشاط ، وخدم خلفه وحفيده مثله ، وخدم الدولة التركية والدولة المصرية ، وكان يعطي لكل خدمة ودولة حقوقها ، وكان صادقا إذا وعد أمينا على واجبه ، ولكنه لم يخدم لبنان خدمة تذكر. وانتقد مشاقة حكومة محمد علي تقاعسها عن إشهار استقلالها عن الدولة التركية ، مع أنه كان من أسهل الأمور بعد أن اكتسحت القطر ، فلو نادى محمد علي بنفسه ملكا مستقلا وأرسل سفراء إلى عواصم الدول الأجنبية ، وعقد معها المعاهدات الدولية لاعترفت له بالملك على الرغم من مقاومة دولة بني عثمان ، ولو طلب منها الاعتراف بملكه واستقلاله عن الدولة التركية عقيب حادثة قونية ، لأجبرتها على الاعتراف بسيادته لأنه استحال عليها إخراج جنوده من الشام ، أو صد هجمات إبراهيم باشا وتقدمه إلى قلب عاصمتها ، ولو فعل لكانت المملكة العثمانية عربية اليوم أو لكانت على الأقل أضيفت الشام إلى مصر وأصبح حظ القطرين واحدا. ولم يظهر سر امتناع محمد علي من الإقدام على هذا الأمر الخطير ولو فعل لغير حالة هذا الشرق القريب لا محالة.

رأي الغرباء في حكومة محمد علي :

أثبتت حكومة محمد علي في فتوحها أن المصري بل العربي إذا تهيأ له زعيم عاقل لا يقل عن الغربيين في سيرته وجلادته ، وأنه لم يضره في القرون الماضية إلا فناؤه في الحكومة التركية ، بدعوى أن الإسلام لا يفرق بين الأجناس ، والعربي والتركي أخوان ، وأن الظلم إذا جاء من مسلم كان مقبولا!. وكانت حكومة محمد علي من أفضل ما رأت الشام من الحكومات منذ ثلاثة أو أربعة قرون ، بل إن الشام في القرون الوسطى والحديثة لم تسعد بما يقرب منها فضلا عما يماثلها.

كتب المستر برانت قنصل بريطانيا في دمشق إلى سفير دولته في الإستانة سنة ١٨٥٨ م ما تعريبه : لما كانت الإيالة تحت حكم محمد علي باشا عاد كثير

٦٨

إلى سكنى المدن والقرى المهجورة ، وإلى حراثة الأرضين المهملة ، وهذا ما حدث خاصة في حوران وفي الأرجاء الواقعة حوالي حمص ، وفي كل الجهات الواقعة على حدود البادية ، وفي هذه الأماكن أكره العرب على احترام سلطة الحكومة ، وجعل السكان بمأمن من اعتداءاتهم. وكان الشام بأسره تحت إدارة شريف باشا وقيادة الجيش الذي يبلغ عدده زهاء ٤٠ ألف جندي نظامي وغير نظامي بإمرة إبراهيم باشا ، فبحسن إدارة الأول تضاعف نجاح الأهلين وحسنت المالية في هذه النواحي ، كما أن نشاط إبراهيم وحزمه وطد الأمن ومدّ رواق الثقة ، وقد عدت الحكومة ظالمة لكنها في الحقيقة لم تكن تستطيع غير ذلك ، إذ كان عليها أن تصلح عدة أمور مختلفة ، وأن تبدل الفوضى والتعصب والقلاقل التي كانت سائدة بالعدل.

«وامتعض أصحاب المقامات العالية والأفندية والأغوات من ذلك كثيرا لأنهم كانوا يثرون من ابتزاز أصحاب التجارة والحرف وسائر الطبقات العاملة. وقد سر هؤلاء كل سرور لخلاصهم من الظلم الذي أنّوا تحت عبئه طويلا ، واغتبط النصارى خاصة وفرحوا لنجاتهم من التعصب الذي أوصلهم إلى درجة من الذل لا تطاق. ولم يكن الفلاحون أقل سرورا منهم لأنه وإن كانت الضرائب المقررة تستوفى بكل شدة ، لم يكن يستوفى منهم بارة زيادة ، ولا تضبط حاصلاتهم وغلالهم ، ولا يؤخذ منهم شيء دون دفع ثمنه ، ولم يجبروا على تقديم خدمة دون بدل ، وقد فرضت الخدمة العسكرية على المسلمين ، وهذا الأمر الجديد كان ينبوع استياء عظيم. أما النصارى الذين كانوا يدفعون الخراج فأعفوا من الخدمة العسكرية ، والفلاحون الذين قطنوا القرى المهجورة أسلفوا مالا لإصلاح بيوتهم وتموينها ، وأعفوا من الضرائب مدة ثلاث سنين.

«وقصارى القول أن جميع هذه المساعدات بذلت لزيادة الحاصلات ، وكم من مرة ذهبت الجنود بإمرة إبراهيم باشا لإتلاف بيوض الجراد وما نقف منها وبفضل هذا الحكم الحازم العادل المحترم من الجميع أخذت البلاد تترقى في مدارج النجاح والنماء ، فلو طال الحكم المصري على الشام لاستعادت قسما عظيما من وفرة سكانها القدماء ، وأصابت شطرا كبيرا من الثروة التي كانت في الماضي ، وآثارها لم تزل ظاهرة للعيان في القرى والمدن العديدة في جهات

٦٩

حوران ، وفيما وجد في البادية حيث ترى فيها الطرق التي اختطها الرومانيون.

قال : «ولم يكد المصريون يطردون من القطر ويتقلص ظلّ سطوتهم ـ وقد كانوا أخضعوا الجميع لحكمهم الشديد ـ حتى عاد القوم إلى نبذ الطاعة وخلفت الرشوة والتبذير في إدارة المالية النزاهة والاقتصاد ومنيت المداخيل بالنقص ، واستأنف عرب البادية غاراتهم على السكان فخلت القرى والمزارع المأهولة جديدا بالتدريج حتى أمكن القول إنه لا يوجد ثم ظل للأمن على الحياة والأملاك وكل شيء يدل على عودة حالة الفوضى إلى هذه الديار التي تركها المصريون».

هذه أجمل صفحة في وصف حكم محمد علي في الشام كتبها إنجليزي. وقال برييه الفرنسي في كتابه الشام على عهد حكومة محمد علي ما تعريبه : «ما من بلدة نالت ما نالته الشام من العمران والمجد في كل مظهر من مظاهر الحياة ، وما من بلد عانى شقاء كشقائها من تقلبات الزمان ، وسقي أديمها بالدماء ، فإن خصبها المدهش وجمال إقليمها وتنوعه ، ومركزها المهم الذي يقرب إليه جميع الأجزاء القديمة التجارية من الأرض ، كان يجعل منها في القديم النقطة المتوسطة للعلوم والتجارة في العالم ، ولكن هذا المركز وهذه المنافع قد نبهت أطماع الفاتحين ، وجلبت غير مرة على الشام ويلات الحروب.

«وكانت الشام على عهد الأتراك العثمانيين مقسمة إلى أربعة إيالات : حلب وطرابلس وعكا ودمشق ، وقبل مجيء إبراهيم باشا إلى الشام كانت حكومة هذا القطر من الممالك العثمانية التي تتعب السلطنة ، ولا يمكن حصر السلطة في يد واحدة ، لأن معنى ذلك تسليم سلطة كبرى لرجل واحد تمكنه من العصيان وكثيرا ما كان السلطان سلطانا بالاسم مع أن الشام كانت مقسمة إلى أربع إيالات كما حدث في زمن عبد الله باشا وغيره ممن شقوا عصا الطاعة وكثيرا ما كان الباشوات يشنقون كما حدث في حلب على جدران قصر الشيخ يابران ولطالما شنقت عليه باشاوات بيد الأهالي كما أحرقوا باشا دمشق.

«وكان الدم يجري لأقل شبهة والعذاب الأليم يحل فيشنق الباشاوات وتستل أرواحهم من أسفلهم ويجعلون العصاة على الحديد ويحزون الرؤوس وبذلك كان يتمكن الباشاوات من توطيد سلطانهم على الرعايا وإلا أصبحوا عرضة للحرق والشنق. قال : ومن المحقق أنه ليس إلا طريقة الإرهاب والقوة التي

٧٠

تؤثر الأثر المطلوب في شعوب الشام وتردهم إلى الطاعة ، وقد عرف إبراهيم باشا كيف يؤثر في الشاميين وذلك بأن استمال إليه قلوب أشرافهم وأعيانهم وألقى بينهم الشقاق ضمنا عند الاقتضاء ، وبذلك تيسر له حكم هذه الإيالات ووضع ضرائب شديدة عليها ما كان القوم يتحملونها لو لم يكونوا من عناصر وأديان مختلفة ، وكان شريف باشا حاكما على الشام كله وتحت يده الحكام ، وكان طماعا في المال ا ه».

حكمنا على أنفسنا وعلى غيرنا :

هذا هو الإنصاف في الحكم على حكومة إبراهيم باشا وما هي في الحقيقة إلا روح محمد علي الكبير التي كان يستمد منه ابنه ، ولا يصدر إلا عنه في الخطوب ولا يقطع أمرا دون الرجوع إلى رأيه ، حتى جاءت أحكام المصريين نموذجا في الإدارة ، ولو عزمت الدولة العثمانية أن تستفيد من هذا الدرس لأرادت عمالها على تطبيق خطط إبراهيم باشا في الإصلاحات التي قام بها خلال التسع السنين التي قضاها في هذا القطر ، ولكن العثمانيين ابتلوا بالإهمال والغرور ، لا يعمدون إلى حسن الإدارة ويتظاهرون بالإحسان إلا يوم الشدائد ، فإذا زالت عادوا إلى طبائعهم في إعنات الرعية وإلقاء الحبل على الغارب ، ونسوا ما أعطوا من عهود ، وما وضعوا من القوانين. وهذا ما دعا إلى ظهور الفروق الكثيرة بين الإدارتين المصرية والعثمانية بعد رحيل جيش إبراهيم باشا عن هذه الديار ، وهو الجلاء الذي اقتضته الدول الكبرى بل الدولة البريطانية التي حملت الدول على موافقتها على رأيها لآمال لها تريد تحقيقها في مصر والشام ، لتكون هي الحاكمة المتحكمة في مصالحها لا الدولة المصرية الفتية التي تحب فرنسا وتساهمها سياستها أحيانا. وما مصر والشام إلا طريق الهند الأقرب ، بل مفتاحها من البحر المتوسط ، وإذا أردنا أن ننظر بعين المؤرخ المنصف نرى بريطانيا العظمى هي التي اقتضت سياستها القضاء على أماني محمد علي بل أماني العرب من إنشاء دولة عربية ، كما أوجبت سياستها قبل ثلاثين سنة أن تدعو الدولة العثمانية إلى حرب الوهابيين في نجد والحجاز حربا عوانا لأنه كان

٧١

يخشى أن يؤسسوا أيضا دولة عربية جديدة ربما كانت عثرة في سبيل أماني تلك الحكومة في شبه جزيرة العرب.

ولو نظرنا إلى ما وقع لإبراهيم باشا في الشام لأول الفتح ، لم نره إلا قتالا مع العثمانيين أي قتال الجيش المصري مع الجيش العثماني ، وإذا كان في الجيش الذي دافع عن عكا أو عن دمشق أو يوم حمص مثلا أناس من الأكراد والهوارة فهؤلاء ليسوا شاميين وهم مستأجرون يحاربون مع كل من يعولهم ويرزقهم ، على نحو ما وقع لإبراهيم باشا من هذه الفئة ، أسرهم من صفوف الدولة ثم حولهم إلى صفوفه فأخذوا يقاتلون معه ، ولم يلتو القصد على إبراهيم باشا إلا لما دخلت أصابع الأجانب ، وأخذوا يثيرون عربان نابلس وسكان كسروان وجبال النصيرية ودروز لبنان ووادي التيم وجبل حوران وكل من عرفوا بالمضاء من سكان الجبال ، وأما المدن والسواد الأعظم من الناس فقد استقبلوه وأخلصوا له وشعروا بحسن إدارته ولا سيما المسيحيون والاسرائيليون وكلهم أدركوا الفرق بين حكومته وحكومة الترك.

ولقد تجلى في وقائع محمد علي في الشام تجليا لا مجال للريب فيه ، أن اختلاف المذاهب وتباين التربية ، كان من العوامل القوية في إلقاء الفتنة بين أبناء هذا الوطن ، وأن دول أوربا عند أغراضها تستحل بث بذور الشقاق بين المتآلفين ، وتستخدم وسائط غريبة في تكدير صفاء الآمنين ، وتعبث بعقول السّذّج المساكين ، وأنها قلما اهتمت لمصلحة أمة من أمم الشرق ، بل تهمها مصلحتها فقط ، ولو كانت تريد الخير للشام لتركته يسعد ويرقى بحكم محمد علي الذي كان بإقرار رجالها من أرقى ما عهده القطر منذ قرون ، ولعل أبناء الشام أيقنوا بخطإهم في الانتقاض على الحكومة المصرية وهي مثلهم عنصرا ولغة وعادات أنهم كانوا على ضلال في الحنين إلى حكم العثمانيين ، وما كان من حقهم أن ينسوا في سنين قليلة كيف كان حكامهم يسارعون في الإثم والعدوان. وكان على الشاميين منذ عهد المصريين أن يدركوا أن الدولة دب فيها دبيب الفساد ، وأن من العناء رياضة الهرم ، وأن الهرم إذا نزل في الدول لا يرتفع.

٧٢

العهد العثماني

من سنة ١٢٥٦ إلى

١٢٧٧ رجوع الشام إلى سالف بؤسها على العهد العثماني وفتن الدروز والنصارى

أشبه الشام بعد الحكومة المصرية حال من كان في محنة مستديمة وشظف عيش ، ثم حسنت حالته بان علّم النظام والسكون ، ومتّع ببعض الراحة ، وغذي بالأطايب ، فتغيرت طبيعته ، وتبدلت نفيسته ، وبمحاولة إرجاعه إلى سابق مألوفه ، عدّ من يحاول ذلك جانيا عليه. وما كان يحلم أولا بأن يستمتع بغير ما كان له ، وبرجوعه سيرته الأولى تجلى له الفرق وتنغص عيشه.

تبين الفرق بين الإدارتين المصرية والعثمانية ولو طال عهد المصريين أكثر ـ وكانوا في صدد الفتح يتخوفون بادرة العثمانيين كل حين ـ لسعد القطر حقيقة وأيقن حتى من كانوا ينعمون من دماء الأمة على العهد العثماني أن طريقة المصريين في المساواة بين الطبقات والمذاهب المختلفة ، والشدة في إنفاذ القوانين ، وتقليد الغرب في كل أمر جوهري أفضل طريقة لراحة السكان ، وكان يرجى أن يألفوا في مدة قصيرة ما تأصل في فطرهم على توالي القرون ، وتعودوه من حكم أرباب الإقطاعات الذين صدهم المصريون عن تجارتهم الشائنة التي ألفوها زمن العثمانيين ، وهي الاتجار بالجباية يجبونها أضعافا ، ويسلبون الباقي من الأمة بمرأى من الحكومة ومسمع.

وراعي الشاة يحمي الذئب عنها

فكيف إذا الرعاة لها ذئاب

لم تكد تخلي الجنود المصرية أرض الشام حتى رجعت إلى حالتها القديمة وثارت العداوات في الصدور ، وزادت الدسائس الأجنبية ، وأخذت فرنسا

٧٣

تساعد الموارنة ، وبريطانيا تعاون الدروز ، فتعدى هؤلاء على الموارنة في سنة ١٢٥٧ ودخلوا دير القمر وارتكبوا فيه الفظائع المنكرة ، وزحفوا على زحلة بثمانية آلاف ، وانتشب القتال بينهم وبين أهلها ، ومعهم أهل بعلبك ، فانهزم الدروز شر هزيمة ، ولو لا تدخل الجيوش بشدة لامتدت الثورة. وانجلت حادثة دير القمر عن مائة وتسعة قتلى من النصارى وعدد كبير من الدروز قدره مشاقة بأكثر من خمسمائة لأنهم كانوا مهاجمين قال : ولما ظهر للنصارى غدر مشايخ الدروز بهم في هذه الحادثة نفروا منهم نفورا تاما ، وطلبوا من الوزير حاكما عليهم ورفع سلطة المشايخ عنهم فأجابهم إلى ذلك ، لأن هذا ما كان يرغب فيه ، ولولاه لما كان الأتراك يختمون عروض المحاضر طعنا على أمراء الجبل ويحضون أهله على الفتن.

عاملت الدولة العثمانية بعد عودتها إلى القطر كل من ساعدها على مقاصدها وخدمها أو تظاهر بخدمتها وتجسس لها زمن الحكومة المصرية المعاملة التي ترضيه ، فرجع أرباب النفوذ والإقطاعات إلى سالف مجدهم ، المبني على تقطيع أوصال الشعب والتغذي بلحمه. وأقامت بدلا من الأمير بشير الشهابي الأمير بشير قاسم الشهابي حاكما على لبنان. وكان دون سلفه إدارة ومعرفة ، وأقصت الأمراء الشهابيين عن وادي التيم ، وأقامت شبلي العريان متسلما لها لأنه خدم الأتراك في حرب المصريين ، نزع من النصارى سلاحهم وقدم للدروز بارودا وذخائر ، وكان يرى سلب القرى المسيحية وإحراقها من عوامل الخدمة لطائفته ودولته.

ولم يكن من مصلحة الدولة أن تسود الألفة بين الطوائف ، وأن يتعامل أهل الوطن الواحد بالحسنى ، فكان أكثر رجالها يوقدون جذوة التعصب الديني ويساعدون الدروز على النصارى في لبنان ، حتى يتيسر للدولة أن تنزع الحكم من أرباب الإقطاعات وتقيم له واليا كما لطرابلس وصيدا والقدس وحلب ودمشق ، ولذلك كثرت الفتن والمناوشات بين النصارى والدروز ، فأثار الأمير قاسم الشهابي الدروز على الموارنة (١٨٤١ م) فقتلوهم ونهبوهم فتدخلت الدولة وعزلت الأمير قاسما الشهابي لتقيم مكانه واليا عثمانيا ، نصبت عمر باشا النمساوي ثم عزلته ، وجعل الجبل قائم مقاميتين الأولى نصرانية والثانية

٧٤

درزية ، فلم ترتض الطائفتان ذلك ، وأصبحت الأولى بيد فرنسا والثانية بيد انكلترا ، واختل الأمن في أرجاء الشام لمحاولة الدولة نزع السلاح من فئة أو أهل ناحية وإبقاءه في أيدي آخرين.

كتب قنصل انكلترا في دمشق سنة ١٨٤١ م (١٢٥٧ ه‍) إلى نجيب باشا كتابا قال له فيه : «إذا كانت الحكومة ترغب حقيقة في استتباب الأمن ففي وسعها أن تبدأ بإظهار حسن نيتها فتمنع تخريب القرى وتدمير أماكن العبادة الكائنة على بضع خطوات من دمشق. إن نزع السلاح من يد الشاميين عامة أمر مرغوب فيه لو تسنى إتمامه دون التخوف من حدوث ثورة عامة ، بيد أنا رأينا هذه الوسيلة مقصورة على نصارى لبنان الغربي ولبنان الشرقي ، على حين سمح لسائر أتباع السلطنة بحفظ أسلحتهم ، ومع ذلك لا ينبغي أن يغرب عن البال أن الباب العالي اعترف بصدق رعاياه النصارى وأمانتهم في هذه الأرجاء إذ لجأ إليهم قبل الجميع فوزع عليهم أسلحة لطرد عدو الطرفين (يريد إبراهيم باشا المصري) كما أن احتلال جنود حضرة السلطان الآن للشام هو نتيجة مساعدة اللبنانيين».

فتن أهلية في الجبال والمدن :

وفي سنة ١٨٤٢ قبض عمر باشا النمساوي على زعماء الدروز فاجتمع أتباعهم وهجموا على سراي بيت الدين وكان هناك فتهددهم ، وحضر شبلي العريان بجنده المنظم واجتمع في الطريق بفرقة من الأرناؤد قادمة إلى عمر باشا ليرسلها لتأديب الدروز فوقعت بين الفريقين موقعة فهزمهم جند عمر باشا في أقل من ساعة.

وظلت مراجل الأحقاد في لبنان تغلي والحكومة تجهل أو تتجاهل السبيل لقطع شأفة الفتن من الجبل وغيره من الأصقاع الشامية. وقد عينت سنة ١٢٦٠ ه‍ رجلا لجباية الأموال الأميرية من جبل النصيرية ومطاردة بعض الأشقياء ، فلما بلغ ناحية البهلولية طلب مقدمي الكلبية ورؤساءهم فأرسلوا إليه رجلين وهما إسماعيل عثمان وحبيب مخلوف فأرسلهما في الحال إلى اللاذقية مقيدين وأخذ في تعذيبهما ، وانتهى الخبر إلى الجبل فتجمع نحو خمسمائة رجل من أهله

٧٥

ومضوا إلى اللاذقية وهاجموا دار الحكومة وكسروا السجن وأخذوا السجينين ومن معهما من المأمورين ، فصدر الأمر بأن يجهز الجند الذي كان معه مع جميع الأهالي النازلين بين أنطاكية وصافيتا ، فتألف منهم جيش عسكر في القرداحة ، فأرسل النصيرية بعض نسائهم إلى القائد يحملن أعلام الأمان ويطلبن العفو ، وأن يضمن لهن سلامة الأنفس والأموال والعيال ، فأبى إلا إنزال العقوبة بالثائرين ، وكان عددهم نحو ستمائة ، وعدد العسكر النظامي والمقاتلة من الأهلين نحو عشرين ألفا وقيل ثلاثين ألفا ، وكان في قرية المران شيخ من أهل الدين والصلاح يعتمد العاويون عليه وكان يعرف علم الفلك فأخذ الطالع كما جاء في مصدر علوي وقال لهم : إنه لن يفقد منهم إلا رجل يصاب برجله ولا يموت وسألوه عن موعد الهجوم فقال : غدا الظهر فنزلت الطمأنينة على قلوب الثائرين خصوصا وقد وعدهم أنهم لا يصابون بأذى ، ولما حان وقت الظهر تجمهر الثائرون وانقسموا ثلاث فرق وهاجموا العسكر ، ودارت الدائرة على الجيش وقتل القائد وهلك من عسكره على ما قيل نحو ألفي رجل وغنم النصيرية جميع الذخائر ، فأرسلت الحكومة على الثائرين وفدا يدعوهم إلى الطاعة بصورة لطيفة ويضمن لهم سلامتهم فأطاعوا وسلموا الذخائر بأسرها إلى الحكومة.

وفي سنة ١٢٦١ قام الدروز ثانية في لبنان وقتلوا النصارى واستمرت الفتن إلى سنة ١٢٧٧. وفي سنة ١٨٤٥ أرسل والي دمشق إلى دروز حاصبيا يحضهم ، على رواية مشاقة ، على قتل النصارى ويمدهم بالسلاح والذخيرة ، وأوعز إلى دروز حوران أن يقدموا لمساعدتهم ، وسأل مثل ذلك مسلمي البقاع فهرب نصارى حاصبيا قبل الإيقاع بهم. فانقض عليهم الدروز في جهات راشيا وفتكوا بمعظمهم وتشتتوا في تلك الأرجاء ومنهم من سلم فجاء زحلة ، ومنهم من عاد إلى حاصبيا ، ومنهم من قتل ، وعينت الحكومة أحد أمراء الشهابيين حاكما على حاصبيا لكنها لم تسمح له بمعاقبة المعتدين وزعماء هذه الفتنة.

وفي غرة المحرم سنة ١٢٦٧ وقعت فتنة بحلب سرت إلى حي باب النيرب وهي قرلق وبانقوسا فنهبت أحياء النصارى وأحرقت ثلاث كنائس ودام النهب ثلاثة أيام ، ثم قام الأهالي على الوالي وطلبوا منه رفع «الفردة والنظام»

٧٦

فامتنع من ذلك فضربه الأوباش ، ثم انكسر سكان الحارات وانتشر الحريق في الأحياء المذكورة والنهب والقتل فقتل من الحلبيين نحو خمسمائة رجل كلهم من الرعاع ومن العسكر نحو ذلك وقبض على مثل هذا المقدار من الناس ، ثم بحثوا عن أمتعة النصارى المسلوبة فأرجع إليهم غالب ما نهب منهم.

وفي هذه السنة عصى محمد الحرفوش أمير بعلبك وجمع عسكرا من بعلبك وإقليم البلان ، فأرسلت عليه الدولة قوة بقيادة مصطفى باشا فانهزم أمامه إلى قرية معلولا وتحصن بها مع إخوته وأولاد عمه فحصرهم الجنود إلى أن دخلوا عليهم بدلالة أهل القرية ، فأسر الأمير محمد وطوّق القائد العثماني بعلبك بثلاثة آلاف جندي فاستسلم أمراؤها فقبض عليهم وأرسلهم إلى دمشق فنفوا إلى كريت ، وقضي بذلك على عامل من عوامل حكومة الإقطاعات.

وفي نكبات الشام أن الحروب الأهلية التي حدثت في دير القمر وزحلة وغيرهما من الأنحاء سنة ١٨٤٨ (١٢٦٥) انتهت بقتل ثلاثة آلاف رجل من النصارى قتلوا في لبنان والبقاع وبعضهم في المدن ونحو أربعمائة رجل من الدروز ولو لا محاربة الدروز النصارى بالخيانة ومساعدة الحكومة لهم في كل مكان على نزع السلاح لكثر عدد القتلى وزاد على هذا القدر ، وأما الخسائر المالية فلم تقدر في ذلك الحين.

وفي سنة ١٢٦٨ امتنع دروز حوران من دفع الخراج فندبت الحكومة لإخضاعهم والي دمشق محمد باشا القبرصي بفرقة من الجند فوقعت بينه وبينهم معركة دامت بضع ساعات فانهزم والي دمشق ووضع الدروز أيديهم على مهمات الجند والمدافع ، ثم توسط قنصل بريطانيا فأرجع الدروز مسلوبات العسكر ، وتعرف هذه الوقعة بوقعة صاري عسكر (سر عسكر) انتهت سنة ١٢٦٩.

حرب القريم منشؤها في الشام وكوائن درزية ونصيرية :

وفي سنة ١٢٦٨ حدثت في القدس وبيت لحم أمور تألفت منها الأسباب لنشوب الحرب العظمى بين الدولة العثمانية وروسيا وهي الحرب المعروفة بحرب القريم (١٢٧٠) وذلك لاختلافات قديمة بين الروم واللاثين بسبب كنيسة

٧٧

القيامة وكنيسة المهد في بيت لحم. ادعت كل من الطائفتين حق الرياسة والتقدم على الأخرى باستلام مفاتيحها ، وكانت روسيا طمعت في الشرق وقامت تطالب بحماية الروم الأرثوذكس أبناء مذهبها كما ادعت فرنسا حق المطالبة بحماية موارنة لبنان والطوائف البابوية منذ منتصف القرن الثامن عشر ، وحاولت الدولة أن تغفل عن مطالبة قيصر روسيا ، فاتخذ من ذلك حجة وقام يريد إنفاذ وصية بطرس الأكبر القاضية بافتتاح الأرض العثمانية والاستيلاء على الإستانة.

هجم الأسطول الروسي في البحر الأسود على الأسطول العثماني وحطمه ، فنشبت الحرب بين الروس والعثمانيين وانتصر الروس وكادوا يبلغون الإستانة ، فأرسلت انكلترا وفرنسا جيشا وأساطيل إلى أرجاء البحر الأسود ، وقاتلت الروس وانتصروا عليهم في سواستبول ، وكذلك بعثت ساردينيا فرقا من الجند الإيطالي ، دفع الدول إلى ذلك أمر غير حب المحافظة على الدولة العثمانية ، وهو الخوف من خروج روسيا إلى البحر المتوسط وبخروجها خطر على أوربا بل خطر على بريطانيا العظمى وطريق هندها ، وبعد حرب ثلاث سنين (١٨٥٦) ظفرت الدولة مع الدول الأخرى بالروس ودفعت بريطانيا نفقات الحرب ، وحصلت الدولة الروسية على مطاليبها وامتيازاتها ، ومن شروط المعاهدة ضمان استقلال المملكة العثمانية وسلامتها ، والحظر على أية دولة أن تدخل في شؤون تركيا الداخلية ومساواة النصارى مع المسلمين في الحقوق. ولما رأى رجال الدولة أن الطريقة البالية القديمة في إدارة الملك العثماني تودي بها لا محالة أقنعوا السلطان بنشر الخط الهمايوني وبه قبلت الدولة (١٨٥٦) في عداد الدول الأوربية فكان هذا العامل النافع من نتائج حرب القريم ، وبان للدولة وجه خطإها في اعتزالها السياسة الدولية.

وفي سنة ١٢٧٣ وقعت فتنة بين الدروز والحوارنة في اللجاة فاز فيها الدروز وفي سنة ١٢٧٥ (١٨٥٨) قهرت الدولة النصيرية بقهر زعيمهم إسماعيل هواش وجردتهم من كل رعاية وخصوصية ، والسبب في هذه الفتنة أن طائفة الكلبية عصت أوامر الحكومة فأرسلت هذه خمسمائة فارس ضربت قرى الساحل ، واتصلت الأخبار بالنصيرية فهاجموا الجند وقتلوا منهم فجهزت الحكومة بعد أيام عسكرا عظيما وهاجمت الطائفة وجعلت قوة لها في الساحل وزحف النصيرية ولم يلبثوا

٧٨

أن أحاطت بهم العساكر من كل جهة فدافع النصيرية حتى فقدوا خمسة وعشرين رجلا وفي اليوم التالي التحم القتال ودامت المناوشات والمقاومات أربع سنين حتى أرسلت الدولة عسكرا جرارا ، وندبت كامل باشا لإجراء الصلح بين الدولة والنصيرية فتم ذلك على يده.

مبدأ المذابح المعروفة بحادثة سنة الستين وحادثة بيت مري ودير القمر :

استطال النصارى بعد حرب القريم ، ولا سيما في لبنان ، وأخذت الدولة تثير الدروز على النصارى على ما يؤكده الغربيون والنصارى ، وبقيت الحوادث تتوالى والأصابع العثمانية والأجنبية تعبث بعقول المغفلين ، وكانت الثورات على ما في تاريخ زحلة تتوالى والخصام يزداد اتساعا ، وعوامل الحقد تسكن القلوب فتحركها على جر الويل وإهراق الدماء ، وكان ذلك من أهم ذرائع التنافس والتنابذ بين المسيحيين والدروز ، وكأن البلاد ألفت التعصب فتوالى عليها من العصبيات القيسية واليمانية واليزبكية والجنبلاطية والمعلوفية والمكارمية والزحلية والقنطارية ، ثم بدأت العصبية المسيحية والدرزية ، فكانت الأخيرة أشر من الأولى ، وتحفز الدروز للتنكيل بالمسيحيين ولا سيما سكان زحلة ودير القمر الذين أوغروا صدورهم ببسالتهم ونفوذ كلمتهم لدى إبراهيم باشا والأمير بشير لمعاضدتهم لهما.

بدأت الفتنة العظمى بهجوم شراذم من الدروز على قرية بيت مري في لبنان يوم ٣٠ آب ١٨٥٩ فانهزم الدروز وأحرقوا ثلاث قرى مسيحية وقتل بعض رجالها ، وفي الربيع التالي بدأت الدروز تفد على المختارة مركز آل جنبلاط كبار مشايخ الدروز. قال مشاقة : وفي شهر نيسان من تلك السنة ورد أمر إلى خورشيد باشا من السلطان بإهلاك النصارى عن آخرهم واطلاق أيدي الأوباش ، فألح خورشيد باشا على سعيد بك جنبلاط أن يصدع بالأمر فأوعز إلى رجاله بالهجوم على النصارى ، فقتل الدروز بضعة عشر منهم في الطرق ، ثم وقعت مناوشة في دير القمر وأرغم طاهر باشا قائد الحامية في دير القمر نصارى الدير على تسليم سلاحهم له ، وبعد أن جمع سلاح النصارى سمح للدروز

٧٩

بالهجوم على المدينة فسالت الدماء أنهارا ثلاثة أيام ، ولم ينج من النصارى إلا عدد قليل ، ثم أحرقوا المساكن وارتكبت الجنود التركية مع النساء على عادتها ما ارتكبت ، وبلغ عدد قتلى الدير على رواية مشاقة ما يقارب ألفي نفس من الرجال البالغين والنساء والأطفال ثم أعمل الدروز سيوفهم في أهل جزين. فحوادث الشام سنة ١٨٦٠ بدأت إذا ببيت مري في السنة الماضية وثنت بدير القمر ومن هناك انتشرت في الأطراف.

مذابح حاصبيا وراشيا ورأي إنكليزيين في أصل المذابح :

طلب والي دمشق الخراج المتأخر من دروز حاصبيا وعين أحد الشهابيين في فرقة من العساكر لشد أزره ، فتألب دروز وادي التيم وإقليم البلان على الشهابي في حاصبيا وهاجموها ولم يلاقوا مقاومة شديدة من النصارى لقلة عددهم وكان عدد القتلى متساويا بين الفريقين ثم نزع من النصارى سلاحهم ، وأخذ الدروز يفتكون بهم ويحرقون مساكنهم ، ثم تنحى العسكر التركي وتزك الدروز وشأنهم مع النصارى فقتلوا منهم ٧٢٤ رجلا وقتل من الدروز والأتراك أربعون. وفي اليوم الذي جرت فيه مذبحة حاصبيا باغت دروز حوران نصارى راشيا الوادي في بيوتهم وفي السراي على مرأى من الجنود التركية وبمساعدتهم أجهزوا على جموعهم وقتلوهم مع أمراء الشهابيين ولم ينج منهم سوى أميرين ثم نهبوا بيوتهم ، وبلغ عدد قتلى راشيا الوادي خمسمائة رجل وطفل وامرأة.

وهاجم دروز حوران بقيادة إسماعيل الأطرش مدينة زحلة فردهم أهلها مرارا ، وطال القتال يومين فاضطر الدروز إلى الرجوع عنها ، ثم عاد الدروز ومعهم الجند العثماني وأحرقوا جانبا من المدينة وأخذ الجند يرتكب الفاحشة واغتصبوا الراهبات ونهبوا الكنائس والأديار ، فلم يبق لدى قناصل الدول شك في أن الدولة العثمانية تريد هذه المذابح وتدبرها حتى لا تطالبها الدول بحماية النصارى وتجد سبيلا إلى مراقبة أعمالها الجزئية والكلية مما يسقط من منزلتها ، وقد هلك من الزحليين نحو مئة إنسان لأنهم لم يمكنوا الدولة من إدخال جندها إلى بلدهم. وإسماعيل الأطرش هذا قتل يوم جاء لمعاونة أبناء مذهبه في وقعتي

٨٠