خطط الشام - ج ٣

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٣

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٧٠

١
٢

العهد العثماني

«من سنة ١٢٠٠ إلى ١٢٤٧»

الجند أداة الظلم والتدمير :

كان الشام في هذا القرن مهد القلاقل والثورات ، يقع الاعتداء في الأكثر على النصارى واليهود وأهل السكينة من المسلمين. وأكثر الفوضى ناشئة من الجند الجاهل الذي تمادى في اللؤم والدناءة حتى آض كالوحوش الضارية. ويقسم هذا الجند إلى ثلاثة أقسام : الإنكشارية والقبوقولي وهما القسمان القويان ، والقسم الثالث حرس الولاة الخاص وهو يتألف من المغاربة والتكارنة والترك والأرناؤد والدالاتية وغيرهم ، والعداوات متأصلة بينهم. ولطالما قامت بسبب ذلك فتن ، ووقعت ويلاتها على الشعب فيهرق دمه وتنهب أمواله ، وتغلق حوانيته ، وتقف الأعمال ، ولا سيما في الحواضر كدمشق وحلب. ولا تنفض هذه المشاكل إلا بتدخل الولاة أو أحد الأعيان ، ويتكرر ذلك أبدا لأن العلة الأولى فيها لم تستأصل ما دام المجرمون لا يعاقبون والأوباش لا يحملون على حرمة الشريعة. ولذلك كانت شوارع المدن وأحياؤها كثيرة الأبواب والأرتجة وتقفل أيام الثورات ، وساعة المخاصمات والمشاغبات ، والأزقة ضيقة معوجة لتصلح لحرب المتاريس.

وأكثر رجال الجندية نفوذا الإنكشارية لكثرتهم وشدتهم وصداقتهم للوالي. وكان زعماء الجند يلقبون بالأغاوات. ويرسمون على أيديهم الوشم شعار الفرقة التي ينتمون إليها ، ويرسم على أبواب المقاهي اسم الفريق الذي يختلف إليها ، وليس لهم نظام خاص. والمحلات تخضع للآغا المقيم فيها

٣

وهو يخضع لزعيم الفرقة. ولم تكن تكفيهم إدراراتهم التي يتناولونها من مال الخزينة لكثرة أتباعهم ، فيضطرون للعمل يذهبون إليه وهم مسلحون ليسهل عليهم الانضمام إلى فرقتهم متى دعت الحاجة ، ولا شأن للخاملين وأهل الفسق إلا الاجتماع في المقاهي والحانات ، وإطالة أيدي الأذى على الناس يصادرون أموالهم ويفترسون نساءهم وصبيانهم ، وكثيرا ما يقتلون أحد أبناء السبيل لغير سبب كأن يجربوا بنادقهم أو سيوفهم في أول من تقع أعينهم عليه.

تمادى الرعاع في قحتهم وفجورهم إلى الغاية ، لضعف الحكام وقصورهم عن ردع القوي عن الضعيف ، فنشأت فئة من الناس مسلمين ومسيحيين ، اتكلوا في حفظ أنفسهم وأهلهم على أنفسهم وشدة بأسهم في الدفاع. وكان القوم يحترمون هؤلاء الأشداء ويخافونهم ، وكان منهم من عرف بالشهامة والشمم بما يغبطون عليه ويخفف ويلات الشرور اللاحقة بالرعايا من اعتداء الجند أحيانا. وبلغ التعصب الديني أقصى شدته في هذا العصر حتى تجاوزالقوم فيه حد الإفراط ، يحسب المرء كل من لم يتدين بدينه ممن يجوز له قتله أو الاعتداء عليه ، وابتزاز ماله وانتهاك عرضه ، وانتشر هذا الروح حتى عمّ السواد الأعظم من الناس. قال مشاقة بعد إيراد ما لخصناه : وكان فريق من العلماء وأهل التقوى يرون معاملة الذميّ بالحسنى تبعا لقواعد الدين الشريفة ولكنهم لم يوفقوا لردع الرعاع في زمن عمت فيه الفوضى وساد الجهل والهمجية على القوم.

من أجل هذا ساغ لنا أن نستنتج أن الشام كان أهلها وحكومتها بين ظالم ومظلوم ، يشتد الوالي في إعنات الرعية لسلب أموالهم ويرسل إلى العاصمة بالمقرر عليه ، وكثيرا ما يشاكسونه فلا يدفعون المفروض عليهم ، أو ينتقضون عليه بإيعاز بعض أهل النفوذ وقد يكون الحق معه ، والرعايا عرضة لاعتداء الجند وأغواتهم والأعيان وأتباعهم ، تساوى في الظلم المدني والقروي ، وربما كان المدني أكثر تعرضا للمهالك لقربه من هذه العوامل التي أخذت على نفسها تمثيل التخريب في مسارح الجهل على ضروبه وأشكاله. ظلمات بعضها فوق بعض ، وسلاسل مفرغة من المصائب لا يدرى أين طرفاها. وليت

٤

شعري ما يرجى من عناية دولة بأمتها وهي تعطي الوزير ثلاثة أطواخ والأطواخ أذناب خيل فالذنب معلق من أسفله في رأس عصا وطولها نحو ثلاثة أذرع وشعره مسدول عليها ، فإذا سافر الوزير يرسل الطوخ الواحد قبل سفره بيوم إلى محل نزوله فيستعدون لاستقباله وتهيئة ما يلزمه من المآكل والعلف للدواب بلا ثمن. وأما الطوخان الباقيان فيحملان أمام الوزير في السفر. ومعنى الأطواخ أن الدولة تحكم البلاد بأذناب خيلها ـ قاله مشاقة ونحن نقول : إن الدولة التي يبلغ من غرورها هذا المبلغ لا تنجح في الحكم بحال.

قال جودت في حوادث سنة ألف ومائتين : «إن وظيفة جابي المال في حلب كانت منذ أربعين سنة مطمح أنظار الموظفين في الدولة لأنها تأتيهم بثروات إذا جاءوا بها إلى الإستانة ينالون بواسطتها رتبة الوزارة ورتبة مير ميران ، وممن كان منه ذلك أحمد باشا فإنه أخذ العلم والطوخ واشتهر شهرة عظيمة ، وما برحت هذه الوظيفة تباع وتشترى بالمزاد ، وكثيرا ما كانت الدولة ترسل بمفتشين يشاركون المرتكبين من هولاء الجباة ، وكثيرون ممن يتولون هذه الوظائف يرحلون بالأموال ينفقونها في شهواتهم حتى يهلكوا فقرا وقهرا ، ولذلك كانت أموال الدولة تبدد ويسرف فيها.»

حوادث الجزار وفتن الإنكشارية وغيرها :

بدأ القرن وأعظم وزير مسموع الكلمة في الإستانة قوي الشكيمة في ظلم الرعايا بالشام ، أحمد باشا الجزار ، تولى دمشق بعد ولاية عكا ، وذهب أميرا مع الحج فرفع الدمشقيون الشكاوى عليه إلى دار الملك فعزل وذهب إلى الإستانة فعينته الدولة وزيرا على صيدا ، وأقام في عكا وحصنها وضبط أملاك بيت شهاب في بيروت ورفع أيديهم عن حكمها ، وأنشأ للثغر أرتجة وسورا فسر المسلمون بذلك ، ونصب على دمشق إبراهيم دالاتي باشا سنة إحدى ومائتين وألف وكان جسورا مهيبا فحدث بينه وبين الأهالي اختلاف وتعصبوا عليه وحدثت فتنة ، فأغلق أحمد آغا الزعفرنجي شيخ الإنكشارية القلعة وقتل من عسكر الوالي ثلاثمائة رجل وأراد أن يضرب الوزير ، فخرج

٥

هذا إلى حمص وحماة وجمع عسكرا كثيرا ، وأو عزت الدولة إلى الجزار وإلى الأمير يوسف الشهابي أن يعاوناه بعسكرهما ففعلا ، وعاد الوالي إلى دمشق فارتاع أهلها وأرسلوا النساء إلى الجامع الأموي فكلمه أعيان المدينة فاشترط عليهم أنه يلتزم الرحمة إذا خرج الزعفرنجي من القلعة وتسلمها رجاله ، ودخل البلد وقتل بعض الأردياء قيل : إنهم مئة وخمسون رجلا من جماعة القلعة ، وكان جاء الوالي في عسكره الى باب الله واجتمع العسكران ووقع قتال فهلك فيه من الفريقين خلق. وملك الوالي الميدان ، واستمر ذلك مدة والعسكر محيطة بالقلعة حتى سلمت. وأقام هذا الوالي أربع سنين في دمشق ، وذهب أمير القلعة إلى أمير عرب الموالي فارّا منه فأوعز إلى متسلم حماة أن يقتص من عربه لفسادهم في تلك الأرجاء ، فساق عليهم من حلب وحماة جيشا قتل منهم نحو ألف إنسان وانهزم الباقون. وكان عرب الموالي ثاروا هذه السنة في ضواحي حمص وحماة فنهبوا القرى وفتكوا بأغوات الدنادشة حكام المدينتين منهم وقتلوا كلا من شيخ الكلبيين وشيخ النصيرية وعاثوا في تلك الجهات وفتكوا بأعيانها. وفي سنة ١٢٠١ دخل عثمان باشا الى أنطاكية ونزل عسكره على الحريم وفعل فيها أفعالا قبيحة، وأتى إدلب وصادرها وخرب جميع القرى التي مرّ عليها ، وخرب الراموسة ، واشتبك القتال بينه وبين أهل الشيخ سعيد عدة أيام فقتل من عسكره بالطاعون والسلاح عدد كبير، ونهب قرى في تلك الأرجاء ، هذا والطاعون في حلب وأرجائها يفتك فتكا ذريعا.

وخربت القرى وهلك الفقراء في فتنة الأمير جهجاه الحرفوش (١٢٠٢) وكان قوي على إبراهيم باشا والي دمشق ، وسرت شرارة فتنة الزعفرنجي إلى أهل دمشق حتى طلب الوالي عسكرا من جبلي نابلس والشوف ودقت طبول الوالي (١٢٠٣) من دومة وفرق العساكر ثلاث فرق فدخل عمر آغا من الزفتية ، وابنه على صفّ الجوز ، والوزير على السلطاني ، وأحرقوا القبيبات وحارة التركمان ، وجرت الدماء من الصباح إلى العصر حتى أطاع أهل دمشق السلطان عبد الحميد الأول ، وخرب الوالي القلعة وأهلك متوليها بمدافعه شرذمة قليلة من عسكر الوزير ، وبقيت الحرب بين الفريقين ستة أيام بلياليها.

وفي أيام إبراهيم باشا الكردي (١٢٠٣) انتشبت الحرب في وادي أبي

٦

عباد فوق كامد اللوز في البقاع بين عسكر الجزار وعسكر الشهابيين أمراء لبنان ووادي التيم انكسر فيها عسكر الجزار كسرة عظيمة. ووقع بين عسكر الجزار والهوارة والدروز في جب جينين قتال انكسر فيه عسكر الأمير وقتل منه مقتلة عظيمة ، ثم جمع الأمير يوسف عسكر لبنان وأرسلهم مع سليمان باشا والهوارة إلى عين دارة ، فالتقوا بعسكر الجزار في قب الياس فانكسر أيضا عسكر الأمير يوسف وحدثت عدة وقائع بين عسكر الأمير في جزين وعسكر الجزار في جباع كسر فيها عسكر الأمير يوسف. وكان عسكر الزعفرنجي يعيث خلال ذلك في مرج الغوطة ، فيهلك الفلاحين ولا إهلاك الأوبئة ويرعى رجاله الزروع ولا أكل الجراد.

عهد سليم الثالث وفتن وكوائن :

هلك السلطان عبد الحميد الأول سنة ١٢٠٣ وخلفه السلطان سليم الثالث وكانت أيامه كلها غوائل وفتنا : استقلت فيها القريم وأصبحت روسيا بما أخذته من أملاك الدولة على البحر الأسود دولة بحرية مهمة ، وقبل بمعاهدة كوجك قينارجه (١١٨٨) مع روسيا وبها انحط مقام الدولة ، وحارب روسيا مرتين. وقال مترجموه من الترك : إنه كان عادلا حليما تحبه رعيته. ويقول من عاصره : إن عبد الحميد الأول كان أخرق للغاية وإنه كان جاهلا وليس فيه من جودة الرأي والحزم والمضاء شيء ، ولم يستطع أن يستفيد من الثورة السياسية والدينية التي نشبت في القافقاس ، ولم يحسن الانتفاع من أسباب النجاح التي كانت متوقعة من بحريته وجيشه.

وفي سنة ١٢٠٤ وقعت فتنة بين الأمير قاسم الحرفوش وابن عمه جهجاه في سهل أبلح بالبقاع ، فدحر قاسم عسكر الأمير بشير الشهابي فشق عليه فأرسل نجدة أخرى للأمير قاسم ، فلما علم ذلك جهجاه هرّب سكان بعلبك وأتلف ما فيها ولم ينالوا من جهجاه ، ثم استصرخ الجزار فأمر بأن يمد بجيش فأرسل معه عسكر المغاربة والدولة ومشايخ الدروز فانتشبت الحرب بينهم وبين ججهاه فاندحروا وقلق الناس ، ورحل كثير من السكان من تلك

٧

الأرجاء ، ثم تغلب جهجاه على قاسم. وفي السنة التالية وقعت وقعة بين جهجاه وحاكم بعلبك إسماعيل فانهزم هذا وقتل من رجاله نحو مائتي رجل ولم يقتل من رجال جهجاه أحد. وفي سنة ١٢٠٥ أحرقت عساكر الدولة وقيل عسكر الأمير بشير حاصبيا وأكثر القرى التي حولها.

مظالم الجزار واختلال الإدارة :

تولى أحمد باشا الجزار دمشق للمرة الثانية سنة ١٢٠٥ وظل مقيما في عكا وأرسل متسلمين منهم أرفه أميني وكان كما قال مشاقة ظالما قاسيا يشبه أستاذه في إنشاء المظالم والحوادث الصعبة على المسلمين والنصارى واليهود. وكان الجزار مغتاظا من أهل دمشق لعرضهم على الدولة مساوئه مما أدى إلى تنحيته عن عمله سنة إحدى ، فأراد الانتقام من الساعين به هذه المرة. وبالحقيقة أن مدة حكم الجزار في دمشق وهي خمس سنين لم يرتح فيها الناس شهرا واحدا من طلب الأموال ظلما وطرح المعاملة المتصل التي حدثت بها خسائر عظيمة وطرح بضائع متنوعة ، ينهبها من جهات ويطرحها بأسعار زائدة على أخرى ، وليس هناك صغير ولا كبير إلا ويناله الظلم والقهر ، ونزح كثير من السكان وتركوا أوطانهم وعيالهم. سلسلة من المظالم لا حد لها. وكان كل سنة يقتل في قلعة دمشق بدون تحقيق أناسا وقد قتل في إحدى السنين مئة وستين رجلا خنقا وذلك في ثاني سنة من ولايته. وفي السنة الثالثة قتل نحو ستين وكان كلما جاء دمشق مرة في السنة وهو ذاهب ليحج بالناس أو آيب منه يعمل هذه الأعمال للإرهاب ولم يقف أمر المظالم عند حد أوامر الجزار المجنونة ، بل كانت الفتن في جهات أخرى من الشام على عادتها في القرون الماضية ، من ذلك أنه جرت سنة ١٢٠٦ عدة وقائع كانت سجالا بين الجبل وعسكر الدولة الذين كانوا مع الأمير بشير ، وأحرقت عسكر الدولة غريفة وسبت نساء وأولادا. واشتد الخصام بين بشير قاسم وحيدر ملحم الشهابيين على الإمارة في لبنان ، وكان بشير تعهد للجزار بخمسة آلاف كيس على مثل ما تعهد به يوسف ، فأخذ يصادر كل من مالأ الأمير يوسف ،

٨

ومال الناس إلى الأمير حيدر للتخلص من الضرائب التي سامهم الأمير بشير دفعها ، وسادت الفتن في اللبنانين الغربي والشرقي ، وهاجم والي دمشق بعلبك للانتقام من الأمير جهجاه لأنه لم يخلد إلى السكينة ، وقتل عشرات من الناس في بعلبك وسغبين وقتل من العسكر أكثر من ذلك.

وهجمت أهالي حلب على بطال آغا نوري ومحمد آغا وعلى عسكره وحصل بينهما مناوشة أدت إلى انهزامه خارج حلب ، وتوجه إلى عينتاب وحاصرها خمسة أشهر إلى أن قتل وحمل رأسه ورأس أربعة وعشرين من العصاة إلى الإستانة. قال جودت : وكان هؤلاء الخونة يتقربون إلى رجال الإستانة بالأمور الدنيئة فينصبونهم حكاما في بعض المقاطعات فيفسدون في الأرض ويتسلطون على عباد الله حتى ترفع الرعية علم العصيان وتقاوم الحكومة ولا تبعة في ذلك إلا على رجال الدولة.

وفي سنة ١٢٠٦ ه‍ (١٧٩١ م) أخرج الجزار الفرنج من بيروت وبنى السور بحجارة أبنية الشهابية التي دكها ودك كنائسهم وجعلها إصطبلات. وفي هذه السنة قتل رجل من أهل بيروت خارج البلد فأغلقوا الأبواب وقبضوا على كل من وجدوه من أهل الجبل وكانوا نحو ستين رجلا فقتلوهم جميعا. وحدثني الثقة من أهل بيروت عن أبيه عن جده أن حكام بيروت المسيحيين اشتدت مظالمهم وعتوهم على المسلمين فكان الأمير يمر في شهر رمضان في المدينة يحملون أمامه الغليون للتدخين فينتصب المسلمون على الأقدام يحيونه فلا يتنازل أن يجيبهم بل يقول الخادم من ورائه : سلّم الأمير. فضاقت الحال بالمسلمين فشكوا أمرهم إلى قائد الأسطول العثماني وكان يأتي كل سنة ليحمل الأموال المقررة فقال لهم : الخطب سهل وهو أن تغلقوا أبواب المدينة متى رأيتمونا أقلعنا بسفننا وتذبحوا النصارى وبذلك ترتاحون منهم ففعل غوغاء المسلمين وقتل بهذا التدبير الجائر كثير من الأبرياء ، وبذلك تبين أن الدولة لم تكن تهتم إلا لجبايتها ، فإذا استوفتها فسواء لديها تقاتل رعاياها أم تصالحوا ، والغالب أنها تحبهم أن يكونوا على خصام أبدا حتى يخلو لها الجو ، وقاعدة «فرق تسد» من أهم قواعد حكمها.

وفي سنة ١٢٠٧ وهب الشهابيون الهرمل للأمير جهجاه الحرفوش فلم

٩

يذعن له سكانها فحاربهم وقتل منهم نحو أربعين رجلا وأحرق البلدة وفي سنة ١٢٠٨ قامت الفتن بين الأشراف والإنكشارية في حلب دامت عشرين يوما قتل فيها بعض أهل اليسار والشرف ثم انكسر الأشراف وحصرهم الإنكشارية في جامع الأطروش وجرى من القبائح ألوان وأشكال.

وفي سنة ١٢٠٩ صدر أمر الجزار بمصادرة بعض صيارف دمشق من الإسرائيليين وقتل بعضهم وأدخل الرعب على أبناء نحلتهم ، ونال مثل ذلك بعض أغنياء الأهالي على اختلاف مذاهبهم ، وبدأ القتل والصلب وقطع الأنوف وحبس خلق وجرم الأبرياء وهام الناس على وجوههم ، وفي هذه السنة غزا عسكر دمشق بعلبك فهرب الأمير جهجاه إلى رأس بعلبك فأحرق بعض بيوتها وكان رجال الدولة يحاذرون من شيء يقع على الشام بعد أن اعتصم الظاهر عمر بروسيا فقد ذكر شاني زاده أن والي صيدا عبد الله باشا كتب إلى الدولة بأن كنيستي عكا والناصرة وقلعة حيفا كلها مستحكمة البناء لا تخلو من محذور فاستفتى السلطان فأفتى بأن تهدم الكنيسة القديمة والجديدة معا لثبوت مضرتها ونفذ الحكم. وكثيرا ما كان الولاة في العهد العثماني يوجسون خيفة من الديارات والبيع إذا كانت مستحكمة البناء فقد أخرج السلطان سليمان النصارى من ديرهم في سفح جبل بالقرب من قرية البعنة في صفد وكان قديما يعرف بدير الخضر وأمر أحمد بن أسد البقاعي من الصوفية بالإقامة فيه مع أولاده.

وفي سنة ١٢١٠ تولى دمشق عبد الله باشا العظم والقطر في حالة مزعجة وقد دام في ولايته هذه ثلاث سنين وبقي الجزار في عكا وفي هذه السنة وقع القتال بين عسكر أولاد الأمير يوسف في جبيل وبين الذين كانوا في قلعتها من عسكر الأمير بشير وكسروهم. وفي سنة ١٢١١ أرسل عبد الله باشا العظم عسكرا الى البقاع فأرسل الأمير بشير والجزار والي عكا عسكرا فالتقاهم الجزار ، ووقع القتال في مندرة من قرى البقاع ، فانكسر عسكر دمشق كسرة عظيمة وقتل منه جماعة. ولم يزل عسكر لبنان والهوارة مجدا في آثارهم إلى وادي المجدل وغنموا خيلهم وسلاحهم وذهب بعض اللبنانيين وأحرقوا البترونة قرب الزبداني. وفي سنة ١٢١٢ توجه والي دمشق إلى التفتيش كالعادة فلقي الطريق ممسوكة منافذها من عسكر الجزار فساءت حال رجاله ثم توجه إلى جينين

١٠

فطمع الأهلون فيه ولم يعطوه مال الدورة ، فألحق به الجزار جنده قاصدا قهره وعسكره. فركب وركب العسكر وتوجه نحو عسكر الجزار فدارت بين الفريقين حرب انتصر فيها والي دمشق على الجزار ، وقتل الأول من عسكر الثاني خلقا ، ورجع لم يعترضه أحد وقد جمع الأموال الأميرية برمتها. وفيها قامت الإنكشارية على أعيان حلب وقتلوا كثيرا منهم حتى كانوا يقتلون السيد وهو يصلي في المحراب ، فعرض الحال على الدولة فجاء شريف باشا واليا على حلب فمنعته الإنكشارية من دخولها ، فتعهد بأن يكون مسعفا لهم فدخل وأتته الأشراف فقوي بأسهم على الإنكشارية وبعد ذلك أرسل إلى الإنكشارية سرا أن يثوروا بالسادات فكبسوهم ليلا وقتلوا منهم مائتين وخمسين نفسا وأخذ منهم شريف باشا خمسمائة ألف قرش وقدمها للدولة ، وقويت شوكة الإنكشارية في حلب.

وفي سنة ١٢١٣ ضرب الجند الدالاتية جميع قرى دمشق وأكلوا مغلها وحرقوا دوابها وصار منهم قتل وسلب ـ قاله ابن آقبيق : وقال أيضا في حوادث هذه السنة : إنه كثرت الفتن وانحل الحكم حتى بقي إطلاق البارود من القلعة سبعة أيام. وانتشرت الفوضى في الأحياء والبلاد لا حكم فيها لحاكم ولا متسلم ، وأفندية البلد (دمشق) مسجونون عند الباشا في المخيم وبقي ذلك حتى رحل الباشا ، وبقي عسكره يومين وليلتين نهبوا في خلالها ما في القرى من مأكول ومنظور وعزم غالب أهلها على الرحيل لما أوقع فيهم الجند من الضرر.

محاولة نابوليون فتح الشام واستيلاؤه على غزة ويافا :

بينا كانت الفتن الأهلية بين العمال على المال ، والشام قد ضعفت فيها كل قوة ، والدولة كلما رأت عاملا قويا تكتفي بأن تضع في جواره عاملا آخر تملي له من قوتها حتى يظل في خصام مع جاره ، والضعف في الإدارة ظاهر كل الظهور ، والناس من الجزار في قسم عظيم من ديار الشام في أمر مريج ، وهي مفتحة الأبواب خالية من أسباب الدفاع إلا ما كان من أسوار

١١

أمهات مدنها أتى نابوليون بونابرت مصر (١٢١٣) وفتحها ولما شعر باجتماع الجيوش لمحاربته وأنه إن لم يفاجىء الدولة العلية في الشام قبل أن تتم استعداداتها الحربية تكون عواقب الأمور وخيمة عليه وأن من يحتل مصر لا يكون آمنا عليها إلا إذا احتل القطر الشامي فلهذه الدواعي قام من مصر ومعه ثلاثة عشر ألف مقاتل قاصدا الشام من طريق العريش.

ولما بلغ أحمد باشا الجزار قدوم الجيش الفرنسي من مصر إلى عكا أسرع ـ على رواية نقولا الترك ـ بتدبير ما يحتاج إليه في الحصار ، وأرسل إلى يافا العسكر وحصنها بالمدافع والقنابر ، وامتد إلى مدينة غزة بعساكره وعشائره ووصلت جيوشه إلى قلعة العريش. وأقاموا فيها وتنبهت الغز للجهاد. وفي شهر شعبان سنة ١٢١٣ خرجت العساكر الفرنسية إلى مدينة بلبيس والصالحية وكتب إلى الجنرال كليبر أن يتوجه من دمياط في البر على طريق قطية. ولما سيّر بونابرت العساكر أحضر علماء الدين وقال لهم : إن الغز المماليك الهاربين مني قد التجأوا إلى أحمد باشا الجزار فجمع لهم العساكر وحضر إلى العريش وعزموا على الحضور إلى الديار المصرية فلذلك أخذتني الغيرة وعزمت أن أسير اليهم بالعساكر وأن أخرجهم من قلعة العريش ، ثم جاء الفرنسيون إلى هذه القلعة وكان فيها ألف وخمسمائة مقاتل فحاصرها ثمانية أيام ، ولما فرغت مؤونتهم وبارودهم أرسلوا يطلبون الأمان ، وأن يخرجوا من القلعة بغير سلاح ، وبعد ذلك حضر قاسم بك المسكوبي في عسكر ومهمات فبلغ بونابرت وصوله وربطوا عليه الطريق وكبسوه ليلا وذبحوا عساكره ولم يسلم منهم إلا القليل. وعندئذ أمر الجنرال دوكوا قائد مصر ووكيل بونابرت التجار أن تسير بالقوافل إلى الشام لينتفع بالمكاسب أصحاب التجارة وينتفع سكان الشام ببضائع مصر حسب العادة السابقة.

وسار أمير الجيوش بالعساكر من قلعة العريش إلى خان يونس واستخلص غزة من الغز عساكر الجزار فوجد في غزة حواصل ذخيرة من بقسماط وشعير وأربعمائة قنطار بارود واثني عشر مدفعا ومستودعا كبيرا من الخيام والقنابر. ولما بلغ يافا بنى المتاريس أمامها وأرسل يطلب إلى حاميتها التسليم وكانت نحو ثمانية آلاف فأبت وقتلت الرسول فأدار عليها المدافع وقوي الصدام فقتل

١٢

من العسكر ما ينيف على خمسة آلاف ومن أهالي البلد ألفان وهجم الفرنسيون على المراكب التي في الميناء وأخذوا منها بضاعة ثمينة. ومن الغد أطلق أمير الجيوش الأسارى وسرح الشاميين والمصريين وأمر بقتل الهوارة والأرناؤد جميعا لأن بعضهم كان في قلعة العريش وحين أطلقهم أمرهم أن يذهبوا إلى بيوتهم فأتوا يافا وحاصروا بها فقتلهم واستبقى بعض الأغاوات الكبار. وجد الفرنسيون في قلعة يافا ثمانين مدفعا وغنموا غنائم كثيرة من المراكب وغيرها.

وقائع نابليون على عكا وفي مرج ابن عامر :

وسار بونابرت بالعسكر قاصدا مدينة عكا على طريق الجبال ، ولما وصلوا إلى أرض قاقون كانت عساكر الجزار والنابلسيون في الوادي ، وحينما بلغهم قدوم الفرنسيين أخرجوا منهم من فم الوادي خمسمائة مقاتل وبدروا يرمحون تجاه العسكر وكان قصدهم أن يجروهم إلى ذلك الوادي ، فلما علم أمير الجيوش مقصدهم قسم عساكره أثلاثا ونشبت الحرب فقتل من عسكر المسلمين وولى الباقون منهزمين ، ومن الغد سار عسكر الفرنسيين إلى وادي الملح وكان بلغ الجزار اقترابهم من تلك الديار فأرسل إلى حيفا فأحضر الذخائر الحربية والعسكر ، وعندما وصل الفرنسيون إلى حيفا خرج أهاليها لمقابلتهم وسلموا أمير الجيوش مفاتيح البلد والقلعة ، ودخل الفرنسيون إلى حيفا فوجدوا بها قاربا صغيرا فيه جماعة من مراكب الإنكليز فأخذوهم أسرى ، وبعد ذلك انتقل أمير الجيوش بالعساكر إلى مدينة عكا ونصبوا المضارب والخيام في محل يقال له أبو عتبة ، وبنوا المتاريس الحصينة ووضعوا فوقها المدافع وسار الجنرال كليبر والجنرال منو إلى الناصرة ونصب حاكم إفرنسي على شفا عمرو وابتدأت الحرب على عكا خامس يوم من شوال سنة ١٢١٣ ودامت أربعا وعشرين ساعة والجيش الفرنسي يضرب المدافع والقنابر ، والمراكب العثمانية والإنكليزية تطلق المدافع من البحر حتى خيل للناظرين والسامعين أن مدينة عكا لم يبق فيها حجر على حجر ، وهمّ الجزار أن يخرج فطمنه

١٣

الإنكليز وقالوا له : إننا أسرنا في عرض البحر ثلاثة مراكب مشحونة ذخيرة فضعف أمرهم ، ثم أسر الفرنسيون مركبين كانا قادمين من الإستانة فيهما ذخائر ومدافع وستة وثلاثون ألف دينار مرسلة للجزار فسرّي عن الفرنسيين ، وحضر إلى أمير الجيوش قرب عكا الشيخ عباس بن ظاهر العمر فرحب به وأعطاه السلاح والكسوة وعشرة أكياس وكتب له أن يكون متوليا على مقاطعة أبيه. وحضر أيضا مشايخ بني متوال فوسد إليهم حكم إقليمهم وساروا من عند أمير الجيوش إلى صور وقدموا له الذخائر وتسلموا القلعة التي كانت لآبائهم.

وكان قد اجتمع من دمشق جند من المغاربة والهوارة والعربان والغز بلغوا ثلاثين ألف مقاتل بين فارس وراجل وانتهوا إلى مرج ابن عامر فبلغ كليبر خبرهم فسار إليهم في ألف وخمسمائة مقاتل ، وحينما وصلوا وشاهدتهم تلك الجموع انهزموا أمامهم مكيدة لهم ، ولم يزل الفرنسيون في أثرهم حتى وصلوا إلى أطراف المرج ومن هناك أحاطوا بالفرنسيين من كل جانب ، ولما رآهم القائد كليبر قد أحاطوا بالعسكر قسم رجاله أربعة أقسام مع كل قسمة منهم مدفع. شاهد أهالي الناصرة كثرة جيوش دمشق وأن الفرنسيين إلى قلة فبادروا وأخبروا أمير الجيوش فأحضر حالا القائد لترك وأمره بتحضير ثلاثة آلاف عسكري وأخذوا معهم أربعة مدافع ، وأمر الجنرال بونابرت أن يسيروا على وادي عبلين وبعد ثلاث ساعات من مسيرهم ركب أمير الجيوش وسار وراءهم طالبا أثرهم ، ووصل في منتصف الليل بعسكره إلى بئر البدوية وعند الصباح سار بالعسكر إلى أن نفذ إلى مرج ابن عامر وصعد إلى تل عال فكشف أرض المرج ونظر إلى الجنرال كليبر في وسط البيداء وعساكر المسلمين محيطة به والهجوم من كل ناحية وليس لهم عليه سلطان ، ثم شاهد جبلا بعيدا وعليه المضارب والخيام وكان هذا جيش الغز ، فنزل أمير الجيوش وعزل خمسمائة مقاتل ، وأمرهم أن يقصدوا الجبل ويكبسوا الجيش وتوجه قسم منه حتى صارت العساكر المحاربة في وسطهم وأحاطوا بهم ، ولما وصل أمير الجيوش إليهم ضرب مدفعا واحدا ثم ضرب القسم الثاني ثم الثالث وحينما سمعت العساكر المحاربة المدافع ورأوا قدوم النجدة وعلموا أنهم صاروا

١٤

في وسطهم ولوا منهزمين ، ولما أصبح الصباح أرسل خمسمائة جندي إلى جينين وأمرهم أن ينهبوها ويحرقوها وأخرب قرى جبل نابلس لأنهم لم يطلبوا منه الأمان.

ولما بلغ أمير الجيوش قدوم عسكر دمشق إلى صفد أمر الجنرال مرات أن يسير بخمسمائة راكب فرحل بعسكر دمشق إلى جسر بنات يعقوب ، وعلم الجنرال منو وهو في الناصرة أن في مدينة طبرية عسكر الجزار فنشب القتال بينهم ، فانكسر عسكر الجزار وانهزم بعد أن قتل منه مائتا جندي ، وظهر الطاعون في عسكر فرنسا فمات منهم خلق. وكانت الحروب قائمة على مدينة عكا الليل والنهار وهم يهجمون على الأسوار والقنابل تنهال عليهم كالمطر ، وقد أهلكوا من العساكر الإسلامية والإنكليزية خلقا كثيرا وهدموا أبراج عكا وأسوارها. ولما هلك بعض قواد الفرنسيين على أسوار عكا مع جملة صالحة من جندهم بدأ بونابرت يرجع إلى وطنه لأمر طرأ على مركزه هناك.

وكانت إنكلترا أهاجت ملوك الفرنج على فرنسا فاضطر الفرنسيون أن يرجعوا عن عكا بعد أن فقدوا على سورها ثلاثة آلاف وخمسمائة جندي ، ومات في الطاعون وعلى الطريق ما ينيف على ألف. وفي ١١ ذي الحجة أمر أمير الجيوش بالقيام بجميع المضارب والخيام وانتقل إلى مدينة حيفا وكان فيها عدة حواصل قطن للجزار فأمر بإحراقها. وسار إلى يافا فأخذ ما كان لهم من الأمتعة والمدافع الكبار ودفنوها في الرمال ، وقد كانوا أخذوا من العساكر العثمانية أربعة آلاف بندقية فألقوها في البحر وأحرقوا المراكب التي كانوا غنموها من المسلمين وأخذوا من فيها أسرى وسخروهم في نقل الجرحى والمرضى من عسكر الفرنسيين يحملونهم على ألواح خشب إلى مصر.

خطيئات نابليون في الشام :

هذا ما رواه المؤرخ نقولا الترك في دخول نابليون جنوب الشام وخروجه منها وما وقع له من الوقائع وكانت مدة مقامه في الشام شهرين لم تستفد منها

١٥

فرنسا سوى قتل بعض أبنائها ، وكذلك خسرت الشام خسارة الضعيف مع القوي. ونابليون وإن عدّوه نابغة القواد في عصره أخطأ كثيرا في توسعه في فتوحه. وفتحه الشام ومصر من جملة خطيئاته ، ولم تربح أمته من حملتها على هذين القطرين إلا نشر مدنيتها على أيدي من استصحبهم نابوليون معه من العلماء والمهندسين والطبيعيين ، وكانت مصر مباءة علمهم وعبقريتهم.

وقد آخذ صاحب تاريخ الدولة العلية القائد بونابرت بأنه ارتكب قبل مغادرته يافا أمرا شنيعا لم يسبق في التاريخ وهو قتله الجرحى والمرضى من عساكره حتى لا يعوقوه في سيره. وفي تاريخ فلسطين أن جنود الجزار في يافا يوم نابوليون كانت مؤلفة من عرب وأتراك ومغاربة وأرناؤد وأكراد وجركس ، فانسحبوا لما فتحها نابوليون إلى بعض الخانات وأبوا التسليم قبل أن يؤمنهم على حياتهم فأجابهم القائد الفرنسي إلى طلبهم فاستأمن له أربعة آلاف شخص فساقهم إلى المعسكر. ولما رآهم نابوليون سأل قائده عن هذه الجموع المحتشدة فأخبره أنها حامية المدينة التي سلمت إليه أمانا وقبلهم حقنا للدماء فبهت وحار في أمره وقال : ماذا تريدون أن أفعل بهذا العدد أعندكم زاد يكفيهم ألكم مراكب تنقلهم إلى مصر أو فرنسا ؛ ومن يتولى خفارتهم إذا أرسلناهم؟ يجب أن تعطوا الأمان إلى الأطفال والنساء والشيوخ لا للرجال الأشداء المقاتلين ، ثم استشار ضباطه في قتلهم فخالفوه ولكنه أصر على رأيه وأمر بهم فقتلوا رميا بالرصاص في ١٠ آذار سنة ١٧٩٩ ا ه.

ويقول مشاقة : إن بونابرت أمر قبل أن يغادر يافا إلى عكا بقتل الأسرى الذين وقعوا في قبضته ثلاثا : في العريش وفي غزة وفي يافا ، وكان يطلق سراحهم كل مرة بعد أن يأخذ عليهم العهود أن لا يعودوا إلى قتاله ، ولما أسرهم هذه المرة وعددهم يربو على ثلاثة آلاف حنق عليهم وعلم أنهم لا يراعون ذمة ولا يحترمون الشرف العسكري ، فأمر جنوده بإطلاق النار عليهم ولم يواروهم التراب ، وبقيت أجسامهم طعاما للطيور ، وظلت رفاتهم مكشوفة مدة ا ه. وهذا السبب معقول وله من القوانين الحربية ما يشفع به بعض الشيء أكثر من الرواية الأولى. وانتقد مسترمان على نابوليون ذبحه حامية يافا وكانت مؤلفة من أربعة آلاف أرناؤدي ووضعه السم لجنوده لدن عودته لأنهم أصيبوا

١٦

بالطاعون. وفي رواية أنه وجد فيها ألفين من الأسرى الذين أطلقهم وكانوا عاهدوه في العريش ألا يحاربوه فقتلهم والحرب غشوم.

وقال مشاقة : إن بونابرت بعد أن فرق جموع الأتراك على الحدود السورية أرسل كتابا إلى الجزار ينصح له أن يجنح معه إلى السلم فلم يتنازل الجزار إلى إجابته ، فأرسل إليه رسولا ثانيا فقتله الجزار فحنق نابوليون وتقدم برجاله البالغ عددهم عشرة آلاف مقاتل إلى غزة ، وهزم من رجال الجزار أربعة آلاف فارس ، وأسفرت وقعة يافا عن قتل ثلاثة آلاف من الجنود التركية ، ودخلت رجال نابوليون يافا ، وتصرفت بما عثرت عليه من مال ومتاع ، وهذه هي المرة الأولى والأخيرة التي سمح بها نابوليون لرجاله بالتصرف والتمتع بمال المغلوب وأملاكه. وقال الشهابي : إن العساكر الفرنسية حاصرت يافا ثلاثة أيام وملكوها بالسيف ، وكان عسكر المسلمين فيها ينيف على اثني عشر ألفا فما سلم منه إلا القليل ، وقتل كثير من النساء والأولاد حتى جرى الدم في أسواق يافا ، وأرسلت دمشق عشرين ألف جندي إلى عكا فالتقاها ألف جندي من الفرنج وكسروها وقتلوا منها مقتلة عظيمة.

ولما جاءت الأخبار إلى دمشق بأن عسكر الجزار وعسكر الإنكليز قتلوا من جند نابوليون ثلاثة آلاف جندي زينت دمشق وضربت المدافع من قلعتها ، وقد أصيبت الأقاليم التي وقعت فيها تلك الوقائع وما إليها بالخراب ، ومن أهم خرابها تسلط الجند على ضعاف الرعايا فقد نهبت العساكر التي ذهبت من دمشق لمقاتلة الفرنسيين (١٢١٣) مدينة صفد وعملوا المنكرات أثناء طريقهم. فأصيبت فلسطين هذه المرة بغوائل كانت سواحل فينيقية وأعمالها تصاب بمثلها أو أكثر منها في القرنين الماضيين. وأصبحت مثل هذه الوقائع في هذا الجزء من الشام أي في اللبنانين الغربي والشرقي وما جاورهما من الأمور العادية ، وما ذلك إلا لقيام أمثال بني حمادة وبني معن وبني حرفوش وبني شهاب ممن كانوا يحاولون أن يظهروا بمظهر كبار الأمراء وهم صغار بمواقعهم ونقص تربيتهم الحربية وضعف أخلاقهم وقلة معارفهم، فكانوا بمقاومتهم (٣ ـ ٢)

١٧

بعض المقاومة لعمال الدولة من الترك يخربون ديارهم ، ويهلكون من أخذوا على أنفسهم حمايتهم من ضعاف السكان.

حال الشام بعد رحيل نابليون عنه :

كان يظن بعد رحيل نابوليون ومعاونة الإنكليز للدولة العثمانية على إخراجه من الشام ، أن الدولة تبدل شيئا من أصول إدارتها وترجع عن استسلامها لعمالها الذين يجبون الجبايات ويرضونها بجزء منها ويحتفظون بالباقي لأنفسهم. ولكن الأحوال بقيت بحالها ، وظن الجزار نفسه أنه هو الذي دفع جيش نابوليون عن الشام ، فعاد يمثل مظالمه ويحمل على الناس مغارمه ، ويتناول استبداده المسلمين والنصارى واليهود على السواء ، وجنونه فنون.

ولم يكف فلسطين ما حلّ بها من ظلم الجزار ثم وقائع نابوليون حتى قام محمد باشا أبو المرق يسومها العسف والخسف ، يجور على أهل بيت المقدس والخليل وغزة والرملة ولدّ ، حتى اضطر السادات الأشراف الأبرياء لكثرة مظالمه أن يبيعوا أولادهم كما تباع العبيد والجواري على ما ذكر ذلك أحمد باشا الجزار في كتاب صدر عنه سنة ١٢١٧ إلى وكيله في دمشق.

ومن أحداث هذا الدور نهب العسكر الدمشقي (١٢١٤) جميع القرى في طريقه إلى غزير في لبنان ، وتفرقت عساكر الدولة في ضياع كسروان ونهبوا كل ما وجدوه وذلك للضرب على أيدي الأمير بشير الذي كان على ما يظهر يحاول أن يأكل الخراج ، ولذلك قاتله جيش الدولة (١٢١٥) مرة أخرى لما جاء إلى نواحي بعبدا في لبنان وقتل من أدركه في المتن ، ورجع بشير إلى عاريا وكان عسكر الدولة أحرق عدة بيوت من بعبدا والحدث وسبى النساء وقتل العجائز والأولاد فاجتمع معه أربعة وخمسون رأسا من القتلى فأرسلوها إلى الجزار ونهبوا أموالا ومواشي وأحرقوا عاريا. وذهب والي دمشق سنة ١٢١٧ إلى حماة وفتحها وبالغ في الظلم حتى فر غالب أهالي حماة عن بلدهم اتقاء شره ، وتفرقوا في دمشق وحلب وطرابلس وأصبحت حماة كالقرية لقلة سكانها.

١٨

قال ابن آق بيق : وفي سنة ١٢١٧ شغلت دمشق بالظلم وإكرامية الباشا من البلاد واشتغل حسن آغا بالظلم في دمشق وإرهاق القرى بالطروحة والإكراميات وفرض الذخائر ومعاونة الجردة وغير ذلك من المظالم التي لم يسمع لها أثر في السابق قال : ولما خرج عبد الله باشا العظم من دمشق سنة ١٢١٨ قاصدا إلى طرابلس ليحارب أهلها ، وضرب عسكره بعض القرى ونهبها وظلوا على هذا التخريب حتى بلغوا طرابلس فحاصرها وخرج أهلها هائمين على وجوههم ووقع القتال بين عسكره وعسكر المتسلم وقتل من الفريقين خلق. وكان أحمد باشا الجزار يرسل النجدات إلى عبد الله باشا العظم.

وقال أيضا : إن الجزار كان يطلب من الأغنياء أموالا يأخذها منهم بعد الحبس والضرب وبقي الطرح على جميع الأصناف وأغلقت الدكاكين بدمشق وبات الناس في كرب والعسكر يحيط بالبلد ، والأكراد والشيخ طه الكردي وجنوده يعذبون الخلق أنواع العذاب حتى يقروا لهم بالأموال ، والطرح على الخلق أشكال وضروب من بنّ وتنباك وألاجه وحرير وشاشات وزنانير واستصفاء بيوت وخانات وبساتين وغير ذلك ، وظهر في دار ابن عقيل وكيل الجزار بدمشق طمائر ذهب قدرت بنحو خمسمائة كيس. ولم يكن يمر يوم دون أن يقبض على أربعة أو خمسة من أرباب الوجاهة والثروة يسجنون في سجن القلعة ويعذبهم أكراد الجزار بالكماشات والحديد والعصي إلى أن يشرف المعذّبون على الموت ويشتط العمال في طلب المال من المصادرين ويطوفون بهم في المدينة ، فيضطرون إلى بيع جميع ما يملكون ليكفّ عنهم ، ووصلت الحال بالأغنياء إلى التسوّل ، وكان قتل النفوس على الأكثر في سبيل أخذ المال مشروعا كان أو غير مشروع. فقد حدثت فتنة طفيفة بين ملتزم أموال بلاد بشارة ، فأرسل الجزار على العصاة عسكرا قتلوا منهم ما ينيف على ثلاثمائة رجل وأسروا عدة، وأرسلوهم إلى عكا جعلوا على الأوتاد ثم أخذ الجزار أموالا جزيلة من السكان.

ومن الحوادث في أيام عبد الله باشا العظم بدمشق أن القبوقول قصدوا إثارة فتنة (١٢١٤) فأغلق آغا القلعة بابها ، وحاصره الباشا فاضطر إلى التسليم بعد مدة ، فقتل آغا القلعة وهمدت الفتنة ، ثم سار عبد الله باشا لمحاربة

١٩

مصطفى بربر متسلم طرابلس وحاصر قلعتها بشدة ، وطال الأمر فالتجأ بربر إلى الجزار فسكت ولم يجبه لأنه كان يفاوض الإستانة لأخذ ولاية دمشق ، وبينا الحال مشتدة على بربر وعبد الله باشا يحاصره بعسكره أرسل الجزار إلى وكيله بدمشق محمد بن عقيل ألفي جندي وأمره أن يقبض على عبد الرحمن المرادي وحسن دفتردار المتسلم وابن سبح متسلم حمص ويقتلهم حالا ونادوا باسم الجزار واليا. فبلغ ذلك عبد الله باشا وعلم أن الدولة متغيرة عليه ، فخاف كثيرا وهام على وجهه في البادية يختبىء عند العرب. أما بربر طرابلس فرضي عنه الجزار وأقره متسلما على بلده ، ثم لامت الدولة الجزار على ما أتاه من قتل ابن المرادي كما يقتل العامة فتخلص الجزار مما أتاه وألقى تبعة قتله على وكيله ابن عقيل وقطعه إربا مع أن الجزار هو الذي أمره خطا بقتله.

مساوىء أحكام الجزار :

توفي الجزار سنة ١٢١٩ (١٨٠٤) بعد أن ضرب الأهالي ضربة لم تصب بمثلها منذ أزمان. أصله بشناقي من جماعة علي بك أمير مصر هرب إلى الشام لما قتل مولاه ، وأقام يختلف إلى لبنان فاطلع على أحواله وأحوال الديار التي كانت تحت حكم الظاهر عمر من أرض الجليل. ثم توجه إلى الإستانة فعين وزيرا على صيدا أولا وحصّن عكا ورفع عن بيروت حكم بيت شهاب وضبط أملاكهم. وكان أحمد البشناقي هذا جزارا سفاكا لأنه لما كان كاشف البحيرة في مصر عهد إليه الانتقام من عربها لقتلهم عبد الله بك من المماليك فأسرف في القتل فلقب بالجزار. ولا غرو فالدم البشري في نظر أحمد باشا الجزار ، كدم الخرفان في نظر القصاب والجزّار. هاج المماليك على الجزار مرة يريدون قتله فيما يقال ولو لا حذره الشديد لقتل ، وتحصنوا في برج داخل عكا فطلبوا الأمان ، ولما علم أن خيانتهم كانت بالاتفاق مع بعض سراريه غضب عليهم جميعا وخنقهم بالماء الحار. حج الجزار مرة بالناس فلما عاد ترامى إلى سمعه اتهام مماليكه بحريمه فلم يلبث أن أرسل المماليك في حملة على لبنان وأوقد نارا كبيرة في داره ، فكان خصيانه يأتونه بنسوته واحدة بعد

٢٠