خطط الشام - ج ٣

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٣

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٧٠

خرج إلى بيت القاضي بجانب دار المشورة ، فجاء سبعة رجال وكسروا الباب والنافذة عليه وألقوا النار بعد أن أخرجوا من عنده ابن أخيه والكيخية ، ثم قطعوا أعناقهما افتراء وعدوانا كما قال مدون هذه الوقعة إذ ليس لهما ذنب يوجب القتل حتى إن الباشا نفسه افتروا عليه لأنه لم يظهر منه أدنى أذى إليهم غير تمسكه بإتمام الأوامر التي بيده من الإستانة ، وربما كان يضمر للأعيان شرا لا نعلمه وأما في الظاهر فليس لهم عذر سوى أنهم افتروا عليه وعلى جماعته على نوع مستغرب مناف للشرائع كلها ثم أخذوه عريانا إلى القلعة ، مع الاثنين خاصة بعد أن داروا برؤوسهم ودفنوهم داخل القلعة وتولى الشربجي الداراني ورشيد نسيب الشوملي أمر البلد ، وبات الناس يتوجسون خيفة من رجال الإستانة ، ولو كان ما أتوه في حالة راحة الدولة لأرسلت عليهم جنودها يفعلون بالأبرياء والجناة الأفاعيل المنكرة ، ولكن الدولة كانت تتوجس خيفة من محمد علي والي مصر وما بلغه من القوة بجنده وبحريته واستعداده ، ولها مشاكل في أوربا تخاف أن تتجزأ قوتها إذا أرادت تأديب الدمشقيين. ولذلك لم تحب أن تناقش الأهالي الحساب ولم تسؤها فجيعتها بشيخ همّ قاتل ، والقاتل مبشر بالقتل ، ومن عادة الدول على الأغلب أن تفتك بعد حين فيمن استعملته آلة للفتك، ولذلك نرى مؤرخي الترك قد نطقوا بلسان الحكومة ولم يحركوا ساكنا كأنهم رأوا لعمل الدمشقيين مبررا من حسن نيتهم.

وقال مشاقة : لما قتل الدمشقيون سليم باشا اجتمع أعيانهم ورتبوا حكومة موقتة وأخذوا يترقبون ورود عسكر الدولة للانتقام منهم ، فورد الخبر بخروج عساكر مصر لتأتي الشام فسكن روعهم بعض الشيء ، ولما خرجت عساكر مصر صرفت الدولة النظر عما عمله أهالي دمشق وأرسلت واليا عليهم اسمه علي باشا. وأخذت الدولة تؤول عمل أهل دمشق وأصبحت كالمحامية عنهم تختلق لهم الأعذار عما بدر منهم لأن السياسة اضطرتها إلى ذلك. فقد جاء في تاريخ لطفي نقلا عن جريدة تقويم الوقائع الرسمية أن سليم باشا لم يعمل بحسب الوقت لما جاء دمشق ، وقد عين الحاج علي باشا والي قره مان لاستئصال الفتنة التي كان شبوبها يترامى إلى المسامع ، بيد أن سليم باشا قتل قبل وصول خلفه ، وتبين أن للغرباء يدا في هذه الفتنة ، وأن تأديب المشاغبين بسوق قوة على دمشق يضر بأهاليها!

٤١

وقال المؤرخ إن سبب عصيان الدمشقيين أن سليم باشا مر بحماة عند شخوصه إلى دمشق وقتل بضعة رجال من عرب عنزة وقيد البرازي في القيود وأتى به معه إلى دمشق فدهش أهلها ، وكان اقتراحه وضع ضريبة فأوقد جذوة الفتنة. وذكر أن الأهالي هجموا على السراي أولا وأغلقوا دكاكينهم وانتشرت الفوضى. وقد كتب السلطان على محضر قدمه بهذا الشأن عاطف بك ابن خليل شقيق سليم باشا قال فيه : قد يتبادر إلى الذهن أن لبعض الأطراف يدا في حادثة دمشق ، ومن الجائز أن يكون ذلك بصنع والي صيدا لأن هؤلاء ليسوا على ثقة تامة من دولتنا العلية وهم ينفرون منها على الدوام ، وعلى هذا فإن أمور إيالةالشام إذا دخلت في النظام على ما يجب يحدث ذلك ضررا لهم ، وقد عرفوا هذا حق المعرفة ، فيجوز أن يكونوا سبب هذه الفتنة لإيصال الحالة إلى تلك الصورة.

وقد ظهر من الأوراق الرسمية الأخرى التي نشرها لطفي في تاريخه أن السلطان ذهب مذهبين في هذه الفتنة فكان يقول في بعض أوامره قبل مقتل سليم باشا القائم بتطبيق قانون رسوم الاحتساب سدا لنفقة الجند : إن أهالي دمشق وحواليها وإن كانت أرضهم مباركة ، لا يستنكف أكثرهم عن عار ولا يعرفون الحياء ، وظاهر أنهم أشرار وسيرون بحول الله وقوته من أسباب التأديب ما يقفون به عند حدهم. وقال في كتاب آخر : إن وقوع هذه الحادثة في دمشق ليست منبعثة من جسارة الأهالي فقط ، بل نشأت بلا ريب من إغواء الأطراف وتحريكها. وذكر المؤرخ أن السبب في فتنة سليم باشا تحريك محمد علي والي مصر ليجعل مقدمة لدخوله الشام ، وفي رواية أخرى أن والي عكا عبد الله باشا كان هو السبب في ذلك.

وقصارى القول أن سليم باشا مبيد جيش الإنكشارية الذي عجنت طينته بالدماء فقتله أعيان دمشق مخافة أن يبطش بهم كما بطش في حماة ، خافوه ووجدوا فرصة للنيل منه لما جاء يطبق قانون الاحتساب ، فأثاروا الرأي العام عليه ففعلوا وربما كانوا يريدون الاكتفاء بتهديده ليحملوه على الهرب ، ولكن الأمر خرج من أيديهم إلى أيدي العامة فقتلوه غير حاسبين للعاقبة

٤٢

حسابا ، فكان قتله على غير رضى العقلاء من الأعيان ، وكان هلاكه مخيفا لمن يأتي بعده من الولاة.

الحكم على الموقف السياسي في نصف قرن :

ويجوز لنا بعد نقل حوادث نصف قرن أن نلخصها ونستنتج منها على الصورة التالية (أ) كان الظلم يقع على المسلمين والمسيحيين والإسرائيليين على السواء ، ولما كان المسلمون هم السواد الأعظم من السكان كان تأثير الظلم في مجموعهم أقل من تأثيره في مجموع الإسرائيليين مثلا. (٢) أوغل أرباب الإقطاعات في الظلم فقلّم الجزار من أظافرهم ليستأثر وحده بالظلم والقتل ، فحالفه التوفيق بطول المدة إلى الضرب على أيديهم بعض الشيء ، فلما هلك عادت الحالة الأولى إلى سابق تعاستها من ظلم المستضعفين والفلاحين. (٣) مرّت حملة نابليون بونابرت على جنوبي الشام كالسحابة ، وكان من الجزار أن ضمّ قوى الأقاليم برأي انكلترا التي تولت حربه بحرا بأسطولها ، وساعد أن حكومة الديركتوار في باريز استدعت نابوليون فعاد أدراجه مسرعا لا يلوي على شيء كما رجع ريشاردس قلب الأسد ملك انكلترا في الحروب الصليبية بعد أن عقد مع صلاح الدين يوسف ميثاقا أنقذ به الصليبيين ومحاربيهم من القتل والقتال. (٤) الظلم الواقع على النصيرية وإرادتهم على تغيير معتقداتهم واتخاذ مقتل رجل غريب يمتّ بنسبه إلى دولة أجنبية قوية ذريعة إلى تخريب جبالهم وقتل زعمائهم بدون تحقيق ، على حين كان زعماء الأرجاء الأخرى من القطر يفعلون فعلهم وزيادة ، ولا من يردعهم أو يقوى على نزع سلطانهم وتخفيف وطأتهم ، مثل محمد باشا أبو مرق الذي عجت الأرض إلى السماء في فلسطين من مظالمه حتى أخذ الناس يبيعون أولادهم كما تباع الجواري والإماء فرارا من ظلمه وقياما بما يفرضه عليهم من المغارم. (٥) قيام مصطفى بربر متسلم طرابلس واستعانته بكافل عكا على كافل دمشق وظلمه الرعية ومحاولة الدولة غير مرة أن تستريح من تسلطه فلم تستطع ذلك إلى أن هلك حتف أنفه. (٦) انقضاء دولة بني العظم بهلاك عبد الله باشا آخر من ولي

٤٣

منهم سنة ١٢٢٣ ولم يقم بعده أحد من ذريتهم لتولي الأحكام. (٧) اشتغال الدولة بالغوائل التي أصابتها ولا سيما استقلال اليونان ومحاولتها لما نال اليونان ما أرادوا أن تنتقم ممن يدينون بدينهم في الشام ، فرد حزم الحازمين إرادة المختلين من ولاة الأمر الظالمين بحجة دينية أيضا. (٨) عدم توفيق سليم الثالث في تطبيق خطط الإصلاح وكذلك مصطفى الرابع حتى تولى السلطنة محمود الثاني فبدأ في إنفاذ إصلاحه بمقياس واسع ، كان أوله مقتل جيش الإنكشارية في العاصمة والولايات ، فعدّ مصلح عصره الذي أدخل دولته في المدنية الغربية طوعا وكرها ، وجعل لها مقاما بين الدول لم يكن لها من قبل على اتساع أقاليمها ، وخروج أكثر القاصية من حكمها فتبين لها أن عظمة الممالك بحسن إدارتها وكثرة مدنيتها لا بعظم رقعتها وخصب بقعتها ، وأن دولة غناماها في عنفوانها وبذخها كما هي في ضعفها وشيخوختها ، توليّ رقاب الأمة ولو بالصورة الظاهرة ، وجبوة خراجها ولو بالتغاضي عن بعضه للجباة لا للرعية لا تصلح ويصلح أهلها.

٤٤

دور الحكومة المصرية

«من سنة ١٢٤٧ إلى سنة ١٢٥٦»

حالة الدولة العثمانية عند إذلال جيش محمد علي الكبير لها :

كانت الدولة العثمانية إلى أواخر منتصف القرن الثالث عشر جسما كبيرا تعروه نوبات عصبية من حين إلى آخر فيردها بقوته ، أو يطول زمنها عليه حتى تنتهي بطبيعتها. وصاحب المرض إذا طالت عليه معاودة النوبات قد يألفها ويظن أنه بريء من كل خطر ، على حين تكثر آلامه ، وتقرب منه حمامه ، والأدوار العصبية أشد ظهورا في ألم الجسم ، وإذا تكررت على المصاب يصير إلى العجز فلا يستطيع أن يدفع ضرا ولا يجلب خيرا. فكانت الدولة العثمانية إذا نظر إلى ظواهرها يظن معها قوة ، وفي الحقيقة هي إلى ضعف لكثرة ما استحكم فيها من أمراض وساورها من أوجاع ، غفلت عن تعهد قوتها الحقيقية ، فكانت تعلو وتسفل وتطفو وترسب ، بحسب مقدرة القائمين عليها من الصدور والسلاطين ، تقوم بالفرد ولا شأن للجماعة في معالجة ما يصلحها من تقنين وأصول إدارة ، وأهم ما امتاز به جندها الطاعة للرؤساء إلا أنها أصبحت في حروبها تستهلك أكثر مما تستحصل ، لأن جيش الإنكشارية وهم مستندها في قوتها عراه الانحلال فغدت الوقعة التي كان يكتفى فيها بعشرة آلاف مقاتل تسوق إليها ثلاثين ألفا ثم يشغب ولا يعمل عملا. ولا عبرة بالعدد إذا كان المجموع أقرب إلى التفسخ ، ومعنويات المقاتلين إلى الضعف.

إن بعض الغوائل التي أصيبت بها المملكة والشام من جملتها في هذا القرن والذي قبله كانت بصنع جيش الإنكشارية وتمرده على رؤسائه ، وبضعف

٤٥

الزعماء واختلافاتهم المتصلة مع الولاة في الخارج ، والوزراء والملوك في دار الملك ، فكان وضع السيف فيهم على عهد محمود الثاني ، وصدور الأمر بقتلهم في الولايات مما نفس خناق الأمة. وإن كانت العقوبة التي نزلت بهم في الشام أخف ، لأن بعضهم وفيهم الرؤساء كانوا من الأهلين ، فلما نزل ما نزل بجماعتهم غيروا ألقابهم وبدلوا طرازهم وثيابهم ، وبعد أن تخلصت الدولة والأمة منهم صعب على العثمانية في بضع سنين أن تصلح ما فسد في عشرات بل في مئات ، وهل من سبيل إلى ارتجال جيش منظم إلا إذا ساد السلام أعواما طوالا ، وانتشر العلم وتعلم القواد على الأقل ، وكيف يتأتى ذلك وطالع الدولة الحرب على الدوام لا تفتأ متنقلة من أزمة إلى أزمة ، وكانت في هذه الحقبة خرجت من حرب الوهابية في الحجاز ودخلت في حرب اليونان.

ولم يخطر ببال الدولة يوم قام محمد علي في مصر أن يتدرج بعد قتل المماليك في مراتب القوة والسيادة ، حتى يقبض على زمام الأمر (١٨٠٤ م) وينظم قوتيه البرية والبحرية ، وينشط الزراعة والتجارة وتسمو به الهمة ، أن لا يكتفي بما يملك بل ينزع إلى التوسع في فتوحه ، لإيقانه أن الدولة وإن كانت في صدد إدخال الإصلاح على أوضاعها بفضل محمود الثاني سلطانها العاقل ، لا تستطيع أن تلحق غبار مصر التي جرت على الأصول في تنظيم جيشها وإدارتها وسلطان العثمانيين على اتساع ولاياته وكثرة خيراتها ، يتعذر عليه أن يقوم في مملكته بما قام به محمد علي في ولايته ، لأن الإصلاح في الجسم الثقيل المختلف الأمراض ، أصعب منه في جسم له مرض واحد ، إذا عولج كان أقرب إلى الصحة والاستمتاع بالسلامة.

كان الغرب في هذا القرن يسير إلى الارتقاء بخطى واسعة سريعة ، والدولة العثمانية تنظر إلى هذه المظاهر باهتة ، وقلما يبدو لرجالها أن يتحدثوا في سر هذا الارتقاء وعواقبه عليهم وعلى جيرانهم ، إن لم يجاروهم في هذا المضمار. فأصبحت دولة بني عثمان لا تكفى عادية دولة من دول الغرب إلا إذا استعانت بأخرى عليها ، واستفادت من تخالفهم وتباين أغراضهم ، بعد أن كانت أيام شبابها تنال من دولها مجتمعات ومنفردات. ولكن الجيش الذي يصل إلى أسوار فينا على عجلات البقر ، ويقاتل المحاربين والمسالمين بالسيف والنشاب

٤٦

غدا يحتاج إلى أسباب في النقل أسرع ، وسلاح في الفتك أقطع ، غدا يحتاج إلى علم وعدد، أكثر من احتياجه إلى أسماء ضخمة وعدد ، وأصبحت السبياسة والإدارة والحرب علوما عملية ، والدربة والتنظيم رأس كل أمر ، والجيوش بنظامها وقيادتها وعددها وذخيرتها وبالفكرة المتشبع بها أفرادها ، فكيف تنجح بعد الآن دولة تعد الجهل من مظاهر القوة ، وكيف لا تتجلى الفروق بين دولة جمدت ولم تعمل ، ودول تحركت ونمت وربت ، وبين أمة فتحت أقطارا واسعة منذ قرون وبقيت طول حياتها الطويلة تصارع عناصرها ويصارعونها ، وهي عنهم غريبة وهم عنها غرباء لم تتمثلهم ولم تتمثل فيهم كما فعل محمد علي فتمثل في مصر والمصريين.

لماذا تراجعت الدولة العثمانية :

نسب ميشو انحطاط الدولة العثمانية وإخفاقها في حكم الولايات التي افتتحتها إلى عدة أسباب أهمها الجهل والجمود والغرور قال : «ومن حسن طالع النصرانية أنه لما فترت الهمة في الحروب الصليبية التي يراد بها حماية أوربا ، أخذ الأتراك يضيعون شيئا من قوتهم العسكرية التي أخضعوا لسلطانها الشعوب النصرانية ، فكان العثمانيون بادىء بدء الأمة الوحيدة التي كان لها جيش دائم منظم تحت السلاح ، وبه أحرزت الدولة التفوق على الأمم التي تريد إخضاعها لسطوتها. وغدت أوربا في القرن السادس عشر ، ولمعظم ممالكها جيوش يقاومون بها أعداءهم ، وسرعان ما انتشر النظام والتربية العسكرية بين شعوب النصرانية. وأخذت المدفعية والبحرية تزيد كل يوم نظاما ورقيا في الغرب ، على حين كان الأتراك يزهدون في التجارب التي وصلت إليها الجيوش البرية والبحرية ، ولا يستفيدون بتاتا من العلوم التي انتشرت بين أعدائهم وجيرانهم ، ويزاد على ذلك ما عبث بكيان الأتراك من الخرافات وقلة التسامح ، فحال ذلك دون فتوحهم. كانوا إذا استولوا على ولاية يحاولون أن يحكموها بأنظمتهم ، ويغرسوا فيها عاداتهم وعباداتهم ، فاقتضى لهم من ثم أن يبدلوا وجه كل شيء ويقضوا على حياة كل شيء في

٤٧

الأمصار التي ينزلونها ، وأن يقضوا على أهلها أو يضعوهم بحيث لا يستطيعون أن يناجزوهم الشر ، ويرفعوا رؤوسهم فيهم ، ولذلك يلاحظ أن الأتراك استولوا مرارا على المجر ، فكانوا يرحلون عنها بعد كل حملة يحملونها عليها ، ولم يستطيعوا أن يؤسسوا فيها مستعمرة أو موطنا ثابتا ، وهم في انتصار يتلوه انتصار. والشعب العثماني الذي كفى لاحتلال ولايات مملكة الروم واستعبادها لم يكف لسكنى أقطار أبعد والاحتفاظ بها ، وبهذا نجت ألمانيا وإيطاليا من غارات الأتراك ، وربما استطاع العثمانيون أن يفتحوا العالم لو قدر لهم أن يخلّقوا الأقاليم التي ينزلونها بأخلاقهم وينزلوا فيها كثيرا من أبنائهم.

قال : «من الأسباب الرئيسة التي أضعفت القوة الجندية في الأتراك ، الحروب التي كانوا أعلنوها على أوربا وفارس. فقد صدهم جهادهم الفرس عن حملاتهم على النصارى ، وجهادهم في النصارى أضر بنجاحهم في حروبهم في آسيا. وكانت طريقة الأتراك في حربهم الفرس والشعوب النصرانية متباينة ، فبعد أن قاتلوا زمنا مقاتلة ما وراء النهر والقفقاس ، أصبحوا عاجزين عن قتال أوربا ، فضعفوا عن قتال الفرس وعن قتال النصارى من أمم الغرب. وظلوا بعدئذ بين عدوين تقريبا يهمهما زوالهم ويتحمسان بالحماسة الدينية. حمل الأتراك معهم مثل جميع البرابرة الذين أتوا من شمال آسيا نظام حكومة الإقطاعات ، وكان أول عمل يأتيه أولئك الشعوب الرحالة تقسيم الأراضي بوضع بعض القيود والشروط لمقتطعيها ، ومن هذا التقسيم نشأ نظام الإقطاعات. والفرق بين الأتراك وسائر البرابرة الذين فتحوا المغرب هو أن استبداد السلاطين المبني على الحسد والغيرة لم يترك مجالا قط للإقطاعات أن تكون وراثية ليكون بجانبهم طبقة من الأشراف كما هو الحال في الحكومات الأوربية المطلقة ، وهكذا لم تكن تشهد في المملكة العثمانية سوى سلطة رئيس مطلق إلى جانبها ديمقراطية عسكرية.

«شبهوا الأتراك بالرومان. وكانت بداءة هذين الشعبين واحدة ، وما أشبه أشياع روملوس بأتباع عثمان. ويتفاوت الشعبان في نظر التاريخ ، ذلك لأن العثمانيين ظلوا كما كانوا في الأصل. أما الرومان أيام فتوحهم فلم يزهدوا في معارف من فتحوا ديارهم. ولم يستنكفوا من الأخذ بعاداتهم ومعبوداتهم.

٤٨

ولم يقتبس الأتراك من الأمم المغلوبة شيئا ، وتشددوا في أن يظلوا على بربريتهم. ولم تتأصل الأرستقراطية الوراثية في جانب الاستبداد المطلق ، وربما كان ذلك أحد الأسباب التي قضي بها على الأمة العثمانية أن تبقى في حالة الهمجية. وكل من درسوا سير المجتمعات يدركون أن بالأرستقراطية تتهذب الأخلاق وتتثقف عادات الشعوب ، وبالطبقة المتوسطة تنتشر المعارف وتبدأ المدنية.

«إن فقدان طبقة الأشراف أو العالية في الحكومات الشرقية لم يبين لنا سرعة انحلال هذه الحكومات فقط ، بل إنه حلّ لنا معنى جمود الفكر الإنساني في هذا الضرب من الحكومات ، وكيف لم يتقدم قيد غلوة. وما كان في المساواة المطلقة ، ومن حكومة تغار من كل ما لا تكون هي منشأه ومصدره شيء من المنافسة والقدوة وحب المجد ، وبدون هذه الأسباب يقضى على كل مجتمع أن يبقى في الجهل الأعمى الذي كان عليه لأول أمره ، وأن يفقد معظم مزاياه ومصالحه. وبالنظر لزهد الأتراك في العلوم والآداب ظلت أعمال الصناعة والزراعة والملاحة في أيدي مواليهم وكانوا في الحقيقة أعداءهم ، ذلك لأنهم كانوا يشمئزون من كل جديد ، ومن كل ما لم يحملوه معهم من آسيا ، فاضطروا أن يلجأوا إلى الأجانب في كل ما اخترع ونظم في أوربا ، وهكذا لم يكن لهم نقض ولا إبرام في مصادر سعادتهم وقوتهم، وفي متانة جيوشهم وأساطيلهم. ولا يخفى ما أضاعه الأتراك بونائهم عن السير في معارج الرقي العسكري الذي أصاب منه الأوربيون قسطا موفورا ، ولما كان الشأن في حروبهم لجيوش متحمسة بالتعصب كانت الغلبة لهم ، فلما جاء دور العلوم البشرية وما أبرزته عقول الناس من المخترعات والمكتشفات ، كان العقل المساعد هو المحد من الشجاعة.

«شبه بعضهم جيش الإنكشارية العثمانية بطوائف البرتوريان من الرومان ، في حين كان هؤلاء منتخبين ، وما جرى على خاطر الأتراك قط أن يختاروا أميرهم سواء في ذلك شعوبهم وجيوشهم. وكانت مصلحة الإنكشارية تقضي أن يلقوا الاضطراب في المملكة لئلا يخلو لها الجو فتستفيد شيئا من الجديد. أما الأتراك الذين توطنوا في يونان فكانوا يحترمون العادات القديمة أكثر من

٤٩

غيرهم ، كما يحترمون الأوهام وحب العمالات التي ينزلونها. ولما استولوا على مدينة الإستانة كانوا يوجهون أنظارهم على الدوام إلى المواطن التي أنشأتهم وتناسلوا فيها ، فكانوا أشبه بسياح وفاتحين عابري سبيل في أوربا : من ورائهم قبور أجدادهم ، ومهاد عبادتهم وكل ما يقدسونه ويحترمونه ، وأمامهم شعوب يكرهونها ، وأديان يريدون القضاء عليها ، وأقطار يتراءى لهم أن الباري تعالى يلعنها. وأهم ما أخر الأتراك وقادهم إلى انحطاطهم ، ذكرى مجد سالف ، وإعجاب وطني لا تناسب بينه وبين ثروتهم وقوتهم ، فكانوا يستهينون ، ولهم القوة ، بالأخطار التي تهددهم ، فإذا كتب لهم النصر سكروا وقربوا القرابين وإذا غلبوا حملوا على رؤسائهم».

هذا رأي المؤرخ الفرنسي في العثمانيين وعلة انحطاطهم وقال غيره وأغرق : إن شأن الأتراك العثمانيين في الولايات التي يفتحونها إذا رحلوا عنها شأن جماعة من البدو نزلوا منزلا موقتا ضربوا خيامهم فيه ، إذا ترحلوا عنه من الغد لا تشاهد بعدهم في الأرض التي نزلوها سوى آثار أطنابهم ، وعمد خيامهم فقط.

حملة محمد علي على الشام وهزيمة الأتراك :

أظهر والي مصر محمد علي وهو بعض عمال الدولة العثمانية مثالا مجسما من التجدد في الممالك ، وبدت أمارات قوته بعد أن قرض المماليك من مصر ، فلم يسع الباب العالي إلا الاعتراف بسلطته ومحاسنته ، شأنه مع كل عامل أحرز قوة ، على شرط أن يؤدي الجزية، ويعرف كيف يصانع رجال الدولة وسلطانهم. وكان محمد علي أسعد طالعا من سلطانه ، لأنه لم يصطدم يوم قام بإصلاحه بما اصطدم به السلطان محمود في تطبيق الإصلاحات ، رأى من المصريين قبولا لدعوته ، واستعدادا للمدنية ، وهو لم يقاوم الطبيعة كما قاومها الترك العثمانيون في السياسة التي استخدموها للقضاء على العناصر ، بل استعرب وتمصر وألف بطانته من كل من يخدم مصر بدون عصبية.

قام بما أراد في مملكته الصغيرة أحسن قيام ، وفتح صدره لكل جديد ،

٥٠

بل فتحت مصر بفضله صدرها لذلك. بيد أن محمد علي لم يقف عند الحد الذي بلغه من الاستئثار بوادي النيل ، وطمح إلى التوسع في الملك ، شأن عظماء الفاتحين الطامعين في بسطة السلطان ، ولكن أي البلاد يفتح؟ هل يتوسع في إفريقية؟ في صحراء ليبيا وصحراء النوبة وهي أصقاع لا توازي العناء. وربما صدمته دول الاستعمار عن التوغل في شمالي إفريقية أو في أواسطها ، أم يقصد الشام وهي مفتاح كل فتح ، وفيها من العمران ما يوازي العناء في استصفائها ، وبينها وبين سكان مصر من وجه الشبه ما لا ينكر محله ، ثم لا يصعب عليه إذا خفقت عليها أعلامه ، أن يتقدم إلى الأمام ، ويملك من أرض العرب والترك ما طاب له، ولا يعلم ما تحدثه الأيام.

بحث محمد علي عن وسيلة لذلك فلم يلبث طالعه السعيد أن خلق له سببا معقولا لفتح الشام ، وذلك أن بعض فلاحي الشرقية بمصر ضاقت نفوسهم من إعنات عماله بالجندية والضرائب ، فهاجروا إلى جهات غزة ملتجئين إلى والي عكا ، وكان عددهم ستة آلاف ، فطلب منه محمد علي إرجاعهم خوفا من كثرة عدد من يتبعهم إلى الشام ، فامتنع الوالي من ذلك بدعوى أن القطرين تابعان لسلطان واحد ، فاستشاط محمد علي غضبا خصوصا وهو الذي استرضى خاطر الدولة على والي عكا وكانت غضبت عليه ، ودفع عنه ستين ألف كيس غرامة اقتضتها منه لترضى عنه ، فاتخذ عزيز مصر من ذلك حجة لفتح الشام فأمر سنة ١٢٤٧ ه‍ بإعداد جيش للسفر إليها عن طريق العريش وطريق البحر في آن واحد ، وذلك لمحاصرة عكا من جهتين ، وعين ولده إبراهيم باشا قائدا عاما للجيوش ، وسليمان بك الفرنساوي قائم مقام له ، وجنّد ستة ألايات من المشاة وأربعة من الفرسان ، ومعهم أربعون مدفعا وكثير من مدافع الحصار الضخمة ، وما يلزم ذلك من الأعتاد والمؤن. فوصل إبراهيم باشا مع الأسطول إلى يافا وفتحت له كما فتحت القدس ونابلس أبوابها ، وكانت عكا أشهر مدن الشام بحصانتها وفيها خمسة آلاف مقاتل ، فدام حصارها سبعة أشهر تحاصرها من البحر بوارج حربية مسلحة بالمدافع الكبيرة ، ومن البر ثلاثون ألف جندي، وبريطانيا العظمى متغاضية عنه طوعا أو كرها ، إذ كان لمحمد علي من فرنسا نصير وظهير ، وليست بريطانيا حرة مطلقة ، في

٥١

البحر المتوسط لتضرب أسطول محمد علي منذ أقلع من الموانىء المصرية إلى السواحل الشامية. قال المؤرخون : ولما كانت الجيوش المصرية تحاصر عبد الله باشا في عكا جاءه من نابلس ستمائة رجل واخترقوا صفوف العسكر المصري ودخلوا عكا لمساعدة وزيرها شاهرين سلاحهم ضاربين من عارضهم.

وبعد فترة قليلة تمكنت الدولة من تجنيد عشرين ألف مقاتل بقيادة عثمان باشا والي حلب ، فترك إبراهيم باشا قسما من الجيش على عكا ، والتقى في ضواحي حمص مع القسم الآخر بالجيش العثماني الذي كان كأخلاط الزمر لا نظام له ولا دربة ، وأبلى المصريون بلاء حسنا حتى أوصلوا العثمانيين إلى العاصي وغرق كثير منهم فيه ، واختفى عثمان باشا في حماة ، ثم احتل إبراهيم باشا بعلبك وعاد إلى عكا وشدد الحصار عليها ففتحها بمعاونة العرب والدروز والموارنة الذين أتوه بأنفسهم طوعا بعد أن ظهر على الأتراك في أرض حمص ، وأتاه الأمير بشير الشهابي إلى المعسكر يريد الدخول في طاعته. فتحت عكا بضرب المدافع ثلاث ثغرات من سورها واستمر القتال بالسلاح الأبيض فاستسلمت الحامية ، وأخذ عبد الله باشا واليها أسيرا وحمل إلى مصر مكرما ، ثم فتح الأسطول المصري سواحل الشام كاللاذقية وطرابلس وبيروت وصيدا وصور. وبعد أن فتح إبراهيم باشا عكا قصد دمشق ومعه الأمير بشير وأمراء حاصبيا وراشيا فجمع علي باشا والي المدينة عسكرا من الأكراد وأحداث البلد قدّر بعشرة آلاف ، وكشف إبراهيم باشا بمنظاره خيول الأكراد ومقاتلة الدماشقة فوجه خيل الهنادي لمقاتلة الأكراد ، ونبه على العسكر النظامي أن يقاتلوا الدمشقيين ولا يؤذوهم ، بل يطلقون البنادق في الفضاء ، فلما سمع الدمشقيون أصوات النار تهاربوا وقاتل الأكراد جهدهم حتى غلبوا ، وفي إثرهم خيل الهنادي تقتل من تلحقه منهم.

تقدير مؤرخين وشاعر لغلبة محمد علي :

يؤخذ مما قاله البيطار أن إبراهيم باشا قد ساعده الأمير بشير الشهابي ورؤساء جبل نابلس ، لأن عبد الله باشا والي عكا كان حاصر قلعة صانور وهدمها

٥٢

وحصل منه ضرر لأهل نابلس وكان ذلك من أسباب الغلاء الذي وقع في الديار الشامية ، وأن إبراهيم باشا بينا كان جيشه على عكا يقاسي الأهوال ويتجدل منه الرجال إثر الرجال جاء عباس باشا حفيد محمد علي باشا إلى البقاع وحصن بعض القلاع هناك ليقطع الطريق على العساكر العثمانية الآتية لقتالهم ، وافترق أهل جبل لبنان وتلك النواحي فرقتين ، فتابع النصارى منهم الأمير بشيرا المتفق مع إبراهيم باشا ، وخالفهم الدروز وأظهروا الطاعة للسلطان ، ثم قصد إبراهيم باشا إلى طرابلس وحمص ودخلهما بلا قتال.

قال : وتوجه إبراهيم باشا إلى بعلبك وجاءه المدد من العساكر والذخائر وعاونه أهل الجبل من المسيحيين والدروز ، وكان قبل ذلك وقعت بين هاتين الطائفتين فتن فرجع إليهم إبراهيم باشا وكسر شوكتهم فأطاعوه ، ثم دخل عسكر إبراهيم باشا عكا من الأبراج على السلالم. وذكر بعضهم أن من جملة من قتل من عسكر إبراهيم باشا اثنا عشر ألفا ومن عساكر عكا نحو خمسة آلاف. قال : وفي ثالث المحرم ١٢٤٨ أرسل إبراهيم باشا إلى دمشق يطلب منهم أن يمكنوه من الدخول إليها فلم يرسلوا إليه جوابا ثم طلب ثانيا فأرسلوا إليه إنا لا نمكنك من الدخول أصلا ، وفي رابع عشر المحرم وصل بعض جيوشه إلى قرب قرية داريا فخرج إلى لقائهم خلق كثير من أهل دمشق فقاتلوهم قتالا يسيرا ، ولم يقصد كل من الفريقين إضرار الآخر ، وقتل من كل فريق رجل أو رجلان ، ثم دخل إبراهيم باشا دمشق وقد فر منها واليها علي باشا وعسكره والقاضي والمفتي والنقيب ومحمد شوربجي الداراني وجميع أبناء الترك الموظفين وغالب أعيان دمشق ، ثم عزم على قتال حمص فحصل بينه وبين العسكر السلطاني قتال قتل منهم نحو خمسة آلاف وأسر نحو أربعة آلاف وفر باقي العسكر والباشوات وكانوا نحو ثلاثين ألفا وغنم أموالهم وعتادهم وسار بعد ذلك إلى حماة فحلب فملكهما بلا قتال ، ثم جاء أنطاكية وعينتاب واللاذقية واستولى على حصن الإسكندرونة وعلى حصن بيلان وكان فيه حسين باشا فحدثت بينهما مقتلة عظيمة.

وفي البهجة التوفيقية أن الدولة جيشت جيشا آخر بلغ عدده ستين ألف مقاتل بقيادة حسين باشا فالتقى الجيشان أمام حمص وانهزم الجيش التركي

٥٣

وبلغ عدد القتلى من الترك ٢٠٠٠ والأسرى ٣٠٠٠ وتقهقر الجيش التركي إلى حلب ، وحاول حسين باشا دخولها فمنعه أهلها خوفا من انتقام إبراهيم باشا فتقهقر إلى بيلان فتقدم الجيش المصري ودخل حلب وتأثر الجيش التركي فهزمه وغنم منه خمسة وعشرين مدفعا وكان غنم منه أولا اثني عشر مدفعا ثم غنم أربعة عشر مدفعا آخر وقتل من العثمانيين أربعة آلاف ومن المصريين خمسمائة وخمسون ، ووقع في يد إبراهيم باشا ألفان من العساكر النظامية أسرى من الأرناؤد والهوارة فأعطاهم الأمان وأدخلهم في جملة جنده ، واختفى حسين باشا ولم يعرف له أثر ، واجتاز إبراهيم باشا جبال طوروس وكان السلطان في هذه المدة جيش ستين ألف مقاتل آخر ـ وفي رواية أخرى مئة وخمسين ألف عسكري بالمدافع والمهمات ـ ولم يكن مع إبراهيم باشا سوى ثلاثين ألفا فالتقى الجيشان في سهول قونية ووقع القائد رشيد باشا أسيرا في أيدي المصريين وانهزم الأتراك وغنم المصريون منهم في هذه الوقعة نيفا ومائة مدفع وكثيرا من الذخائر وأسروا عشرة آلاف عسكري بينهم كثير من الضباط والقواد وقتل منهم ثلاثون ألفا.

ويقول مشاقة : إن جيش حسين باشا لم يكن سوى أربعين ألفا من الترك ، على حين لم يكن مع إبراهيم باشا سوى اثني عشر ألفا وكان أبقى من عسكره جانبا للمحافظة في الأقاليم المفتتحة وهلك الآخر في الحرب أو الوباء فغلب ، وهذا أقرب إلى المعقول. وقد استغرب كامل باشا لم لم تستطع الدولة أن تجيش في الحال نحو عشرين إلى ثلاثين ألف جندي من حلب ودمشق وترسل أسطولا إلى عكا يصد عنها أسطول محمد علي أو يقيم العثرات في سبيله ، كما أنه استغرب كيف أن العثمانيين لم يحفظوا خط رجعتهم ولم يقفوا موقفا يردون به عادية أعدائهم ، وانهزموا تحت نيرانهم إلى الإسكندرونة تاركين خمسة وعشرين مدفعا وألفي أسير على حين لم يفقد من المصريين سوى عشرين جنديا.

وقد وصف الشيخ أمين الجندي فعال الأتراك وهنأ عزيز مصر وولده إبراهيم وحفيده عباسا بفتح الشام فقال من قصيدة :

والله غيّر ما بهم من نعمة

لما تغير حالهم وتبدلا

وقد استباحوا المنكرات فلا تسل

عما توقع منهم وتحصلا

٥٤

وقضاتهم للسحت قد أكلوا فهل

أبصرت حيا من مضرتهم خلا

نبذوا الشريعة من وراء ظهورهم

وطغوا وزادوا في الضلال توغلا

وتمسكوا بالبدعة السوداء لا

بالسنة الغراء فارتدوا على

ومشايخ الإسلام أصبح علمهم

جهلا فلم تر قط منهم أجهلا

وقال في وصف وقائع المصريين مع الترك :

فترى الكماة مبددين على الثرى

والخيل من وقع القنابر جفّلا

أضحت طعاما للطيور لحومهم

ودماؤهم للمشرفية منهلا

واختلّ عقد نظامهم رعبا وقد

غطوا الرؤوس ولم يغطوا الأسفلا

وقال :

وأتى بهم للرستن المشهور إذ

بين المقابر قد تستر واختلا

حيث الجهاديون حل وزيرهم

في باب حمص وقد أبى أن يدخلا

قامت بخدمته وطاعة أمره

حمص إذ امتثلت ولم تبد القلا

لما رأى سيف الإله أحدّ من

كل السيوف مدى الزمان وأطولا

ألقى السلاح تأدبا وتواضعا

عند المزار وللضريح استقبلا

حتى إذا نفدت ذخائره وما

ألفى بحمص للعساكر مأكلا

أمضى إلى أرض القصير ركابه

يبغي العساكر أن تقوم وترحلا

وهناك حاربهم وفرّق جمعهم

في صولة والبر بالقتلى امتلا

وقال :

هل يغلب الأسد المجرب ثعلب

مهما استعان بمكره وتحيلا

وإلى حماة الشام سار وبعدها

لمعرة النعمان يخترق الفلا

حتى إذا اقتحم المضيق ببأسه

وعلى الجبال سما وأشرف واعتلى

تركوا الذخائر والخيام وكلها

يخشون منه لدى الفرار تثقلا

من يخبر الأتراك أن جيوشهم

كسرت وأن حسينهم ولىّ إلى

والعز بالعرب استنار مناره

ببزوغ شمس مراحم لن تأفلا

٥٥

سقوط الأناضول وتضاؤل السلطان العثماني أمام الجيش المصري :

وما زال الجيش المصري يتقدم في الأناضول حتى وصل إلى كوتاهية وأراد أن ينزل بورصة بحجة أن ليس له في أواسط الأناضول حطب ومؤنة في الشتاء ، وكانت الطريق إلى الإستانة أمامه مهيعا لا يقف فيها ما يوقف سيره ، وأهل الأناضول والإستانة راضون عنه ، وأشاع إبراهيم باشا أن مقصده من غزوته هذه توطيد دعائم السلطنة. وكان رجاله من الأوربيين يحثونه على أن يواصل السير ويفتح الإستانة ، وأن لا يقتصر على فتح الشام وعلى ما أخذه من آسيا الصغرى ولو استمع إليهم لقامت الدولة المصرية في القسطنطينية بدلا من دولة الأتراك ، فأعاد محمد علي بذلك الدولة العربية. قال دي لاجونكيير : ولم يكن لمحمد علي هذا النظر البعيد وهذا الطموح ، بل لم يكن يطلب غير الاستقلال والتوسع في الملك. وبقيت هذه المشكلة التي كان يتأتى أن يكون منها عراك بين قوميتين هما العربية والتركية ، مقصورة على دائرة معينة من الحرب ، لم تتعد حد القتال بين ملك وأحد عماله الناشزين عليه.

ولما رأى السلطان محمود ما آلت إليه حاله ، عرته الدهشة وداخله الفزع ، فطلب معاونة الدول العظمى علنا لتعينه على محمد علي ، وحرص خصوصا على معاونة روسيا التي أصبحت بعد معاهدة أدرنة ترى نفسها حامية الدولة العثمانية ، وليس من مصلحتها أن تكون هذه الدولة قوية ، فأخرجت روسيا إلى الإستانة اثني عشر ألف جندي ، واستدعي فيلق البغدان وهو مؤلف من أربعة وعشرين ألف مقاتل ليأتي إلى الإستانة ، وعقدت معاهدة في كوتاهية على أن تبقى الشام وأذنة وجزيرة كريت لمحمد علي ويرحل عن الأناضول على مال معلوم يدفعه كل سنة قيل إنه ستون ألف كيس وذلك لمدة خمس سنين والسلطان لا يسأل محمد علي غير ذلك ، والخطبة تلقى في المساجد باسم السلطان. وعقدت روسيا معاهدة سرية مع الدولة العثمانية مدتها ثمان سنين ، دعيت معاهدة «خنكارا إسكله سى» وهي دفاعية هجومية كان القصد منها جعل المضايق في قبضتها ، فهلعت قلوب أوربا لذلك، وأخذت انكلترا تحسب لهذه المعاهدة ألف حساب.

ولما انتهت شؤون الفتح جعل إبراهيم باشا مقره في أنطاكية ، فكان يحضر

٥٦

أحيانا إلى حلب ودمشق وعكا ثم يرجع حتى يرقب عن أمم حالة بلاد الأكراد ، وكانت منتقضة على الدولة العثمانية إذ ذاك. وكان إبراهيم باشا يوقع على كتاباته الرسمية (الحاج إبراهيم والي جدة والحبشة وسر عسكر حالا) وبعد فتوح عكا صار توقيعه هكذا (سر عسكر عربستان) أي قائد جيوش بلاد العرب وفوض محمد علي ولاية دمشق إلى شريف باشا وماليتها إلى حنابك البحري ، وكان هذا من المقربين جدا من محمد علي ، ثم رأت الحكومة المصرية فصل حلب عن ولاية دمشق (١٨٣٨ م) وأقامت واليا عليها إسماعيل بك ابن عم إبراهيم باشا حاكما مستقلا ، ورجح مشاقة أن السبب في ذلك الثورات التي حدثت في الأقاليم والقلاقل التي ذهبت براحة الأهالي والتعدي والحروب التي أفنت معظم الرجال لأنها كانت كلها محصورة بإدارة واحدة وهي دمشق ، ولذلك حصل للحاكم العام عثرات جمة في تنفيذ أوامره للبعد بين البلدان. وعهد تنظيم مالية حلب لجرمانوس البحري ، وقيل : إن حكومة محمد علي كانت إلى الرفق بدمشق أكثر منها في حلب ، لأن الحلبيين قاوموا إبراهيم باشا بعض المقاومة ، ولم ينزلوا عن القلعة حالا ، وقال مشاقة : بل دخل بدون معارض فوضع عليهم غرامات حربية وغرمهم مالا لاحتكار بعض الأصناف حتى يستفيد من ذلك أعوانه.

أعمال إبراهيم باشا في إصلاح الشام :

وكان من أول أعمال إبراهيم باشا الجليلة في الديار الشامية ترتيب المجالس الملكية والعسكرية ، وإقامة مجلس الشورى وغيرها من النظم الحديثة ، وترتيب المالية ، جعل نظاما لجباية الخراج ومعاملة الرعايا بالمساواة والعدل ، لا تفاوت في طبقاتهم ومذاهبهم ، ولذلك لم يلبث الأمراء والمشايخ وأرباب النفوذ أن استثقلوا ظل الدولة المصرية ، وتمنوا رجوع العثمانيين ليعيشوا معهم كالحلمة الطفيلية تمتص دماء الضعفاء وينالهم من ذلك مصة الوشل ـ ورأت الشام في أيام إبراهيم باشا إبطال المصادرات ، وتقرير حق التملك ، وتوطد الأمن في ربوعها ، وأحييت الزراعة والتجارة والصناعة ، وعمت تربية دود

٥٧

الحرير واستخرجت بعض المعادن ولا سيما معدن الفحم الحجري في قرنايل. وفرض على لبنان ٦٧٨٢ كيسا يتقاضى الأمير ضعفيها ويدخر في خزانته الخاصة المال الزائد على المفروض.

وأكد كثيرون أن بعمله هذا استعادت أكثر قرى حوران وعجلون وحماة وحمص وغيرها عمرانها القديم. وأخرب بعض القلاع التي كان يعتصم فيها الثائرون أحيانا مثل قلاع جبل اللكام وقلعة القدموس ، وقرب العلماء والشعراء ، ورخص للأجانب في إرسال معتمديهم إلى دمشق ، وكانوا يمنعون من دخولها قبله ، فينزل وكلاؤهم السواحل مثل صيدا وعكا وبيروت وطرابلس. ويقال على الجملة : إن الناس حمدوا حكومة محمد علي في الشام ولم يتبرموا بها لو لم يقم ابنه إبراهيم عملا بايعاز أبيه بتجنيد الشبان ولو لم يثقل كاهل الأهلين بالضرائب ـ وأقل الضرائب الشخصية ١٥ قرشا وأعظمها خمسمائة قرش ـ فإن هذا مما نفرت منه القلوب ولا سيما من كان يقع عليهم عبء معظمها مثل أهل حلب وأهل دمشق.

فتوق وفتن وحصار الفلسطينيين لإبراهيم :

لم تقع حوادث مهمة في السنين الأولى التي قضاها إبراهيم باشا في الشام اللهم إلا ما وقع في القدس سنة ١٢٤٩ من فتنة بين المسيحيين قتل فيها خلق وما كان من عصيان النصيرية فانتدب الأمير بشير الشهابي لتأديبهم فأرسل عليهم عسكرا خيم في البهلولية فهرب النصيرية بقضهم وقضيضهم وتركوا مواشيهم وغلالهم وأمتعتهم ففتحها العسكر وأحرق لهم خمس عشرة قرية وقطع أشجارها ثم أحرق لهم ثلاثين قرية أخرى ثم خمسين أخرى وكانت مناوشات بين عسكر الأمير والنصيرية. وعلل مشاقة هذه الوقائع بأن المصريين لما شرعوا بتغيير عوائد العشائر ، وطلب أموال أميرية زيادة على ما اعتادوا دفعه ، نفرت قلوب الأهالي منهم ، وصاروا يتمنون رجوع حكم الأتراك ، وابتدأ الناس ينتقضون عليهم واضطر المصريون إلى الاستكثار من الجند لحفظ مركزهم الجديد ، فعصت عليهم طائفة النصيرية في جبال اللاذقية وأرسل الحاكم عسكرا لقتالهم

٥٨

من لبنان وحاصبيا وراشيا ، فتوغلوا في تلك الجبال وامتلكوا عدة محال ، ولعدم العناية واستخفافهم بالخصم آلت الحال إلى تراجعهم وقتل كثير من رجالهم ، وآبوا إلى اللاذقية يتعثرون بأذيال الخجل ، إلى أن جردت الحكومة على الجبال المذكورة عسكرا كثيرا وقهرت أهلها.

وأوعز إبراهيم باشا إلى الأمير بشير أن يرسل ولده بألفي مقاتل إلى طرابلس سنة ١٨٣٣ م ١٢٤٩ ه‍ يجتمع هناك بسليم بك أحد قواد المصريين لتأديب العكاريين والحصنيين والصافيتيين فذهب وقبض على بعض العصاة في طرابلس وعكار وكثير من الأعيان وجرت بينهم عدة وقائع. والغالب أن وقائع جبال النصيرية امتدت منها إلى صافيتا وعكار والحصن أو امتدت من هذه إلى تلك. وفي سنة ١٢٥٠ حدث هياج في حلب ثم في بيروت وأنطاكية ، واشتغل إبراهيم باشا بإدخال من وقع في يديه من الرجال في سلك الجندية ، فهرب الناس وتشتتوا وتوقفت الأعمال ، وطلب من نابلس إنفاذ قانون الجندية فخرج أهلها عن الطاعة وحاصروا إبراهيم باشا في القدس نحو شهرين وكان لبيت أبي غوش بين القدس ويافا يد طولى في هذه الفتنة ورئيسها قاسم الأحمد حاكم نابلس ، فلما ضاق الحصار بإبراهيم باشا اضطر محمد علي أن يجيء بالذات إلى يافا وأرسل إلى قاسم الأحمد كتابا يتلطف فيه مصحوبا بمال جسيم ويقول إنه لا يأخذ منه عسكرا ولا مالا فرضي قاسم الأحمد وفك الحصار وخرج إبراهيم باشا حتى وصل إلى يافا ، فوجد العساكر قد وصلت لنجدته ، فرجع على عقبيه في الحال واشتغل بالقتال والنهب والسلب ، فهرب قاسم الأحمد إلى الخليل فلحقه إبراهيم باشا بعسكره ، واشتغل بالنهب والقتل حتى لم يبق ولم يذر. ثم دار على الساحل فأدب العصاة من أهله ولم يزل يتتبع آثار قاسم الأحمد حتى قبض عليه وقتله في دمشق ، وقتل أربعة من أولاده وأمر بجمع السلاح من جميع البلدان.

وفي تاريخ فلسطين أن إبراهيم باشا لما قضى بأخذ أموال ورجال من فلسطين ندم أصحاب الإقطاعات على سكوتهم ، واجتمعوا في قرية بيت وزن غربي نابلس واتفقوا على محاربته ، فنكث جماعة منهم مالوا معه ودلوه على الطريق والمياه ، فعاجل المخالفين قبل أن ينظموا حركتهم ، وفتح طريق

٥٩

طول كرم ثم نابلس ، وعطف على القدس فاحتلها ، وقد تهافت الأهالي على قتاله من كل جانب فهاجمهم وكسر جمهور القبائل الشمالية عند شعفاط ، ولكن أهالي الخليل هزموه عند برك سليمان وحصروه في القدس فاستعاد نشاطه وقارعهم ثانية وظفر بهم.

خطأ إداري لإبراهيم باشا ووقائعه في اللجاة ووادي التيم :

لا جرم أن إبراهيم باشا أخطأ في تطبيق قانون التجنيد في الشام على نحو ما فعل أبوه في مصر ، وكان عليه أن يقنع والده بالعدول عنه إلى حين ، لأن صاحب القطر الأصلي لم يقطع آماله من استرجاعه وهو يسعى بكل ممكن إلى استخلاصه من غاصبه ، وكل ما تنفر منه قلوب الرعية يفرح به لأنه يخدم مصلحته. فمسألة التجنيد قللت من أنصار الحكومة المصرية في القطر لقلة اعتياد الناس الجندية في ذاك العصر ، وقد أصبح القوم يعدون التجنيد من باب إلقاء النفس في التهلكة ، وزال من الأفكار معنى الدفاع عن الوطن والذب عن مقصد شريف ، وهذا الروح كان قد ضعف في الأمة بعد أن حكمها الغرباء قرونا بالعنف والقهر. قال في معلمة الإسلام : إن تجنيد الشعب في الشام أدى إلى هجرة عدد عظيم من أهلها إلى آسيا الصغرى والعراق. ووضع اليد على الحيوانات للأعمال العسكرية نتج منه انحطاط الزراعة والتجارة ، ولئن كان الأمن قد استتب في الأرجاء فإن الغضب العام لم يكن أقل منه. وجاء في تاريخ حماة أن إبراهيم باشا كان يحشر الناس لبناء الثكنة العسكرية في حماة ويقبض على كل من يجده في البلد فكانوا يفرون منه إلى رؤوس الجبال وتارة يختبئون في الأنهار وربما قلع الإنسان عين نفسه أو قطع إصبعه ليعفى من الخدمة العسكرية.

ولقد اتفق دروز وادي التيم مع دروز حوران وعرب تلك الجهات وأبوا تجنيد أولادهم، فأرسل والي دمشق (١٢٥١) عليهم جندا فالتقوا به في جنوبي اللجاة في وعرة هناك كتبت فيها الهزيمة على المصريين ، ثم أرسل عليهم قائدا اسمه محمد باشا فقاتلوه وقتلوه وقتلوا خلقا كثيرا ، ثم أنفذ إبراهيم باشا أحد رجاله شريف باشا إلى قرية أم الزيتون في وادي اللوى في أربعمائة فارس فقتلهم

٦٠