خطط الشام - ج ٣

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٣

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٧٠

أخرى فيقبض بنفسه على عنق الواحدة ويطرحها في النار على وجهها ، ويدوس على ظهرها ويضغط على رأسها ، حتى يتم شيّها في النار وتهلك فيرفعها ويحضر غيرها ، وعلى هذه الصورة الشنعاء أهلك الجزار سبعا وثلاثين امرأة ولم تنج غير فتاة في الثامنة من عمرها.

كان الجزار يقتل الكبير والصغير من وزراء وأفندية وعلماء وأغوات ، ويرضي السلطان بالمال ويداريه فيتغاضى عنه ، وكان إذا عامل أحد المغضوب عليهم بالرفق وعزف عن قتله يجذم أنفه ، ثم يصلم أذنه اليمنى ثم يقلع عينه اليمنى ولو كان من خواص خدامه. وكم من بيت خربه بسلب ماله ظلما ، وكم من رجل قتله بعد أن صادره ، وكان لا ذمة له ولا ذمام ، خدمه رجال من بيوت معروفة فلما بدا له قتلهم وصادرهم واختلق لهم ذنوبا وألقاهم في البحر. ولقد أكرمه الأمير يوسف الشهابي حاكم لبنان لما كان الجزار صعلوكا متشردا لأول أمره وعاونه لما أصبح واليا ، فكانت النتيجة أن شنقه وألقاه ثلاثة أيام معلقا ، ولطالما أخذ النوتية والركاب في مراكب كانت قادمة من مصر قبل مجيء الفرنسيين إليها ، وقتل جميع من فيها من أبناء مصر أو الشام وصادر جميع ما يحملون من البضائع.

تفنن الجزار في إهراق الدماء وحكم المؤرخين عليه :

وكان من عادة الجزار بعد أن يصادر المصادرين أن يقتلهم كما فعل سنة ١٢٠٥ فقبض في دمشق على أولاد عبيد وأخذ منهم ستين ألف قرش ففروا إلى حلب ثم قبض على ثلاثين من أتباعه وسجنهم في القلعة ففدوا أنفسهم بمائتين وخمسين ألف قرش ثم قتلهم ليلا ، وقبض على خازن أمواله وأسبابه ونفاه إلى مصر ، وقبض على مفتي عكا وإمامها وعلى رئيس مينائها فقتلهم صبرا. وظلم جميع أكابر دمشق وسلب أموالهم.

وخرج ذات يوم في عكا قبل الشمس إلى باب السراي وأمر بإغلاق أبواب المدينة وقبض على كثيرين من العمال والكتاب والأهالي فسجنهم ، وكانوا مائتين وثلاثين إنسانا وقبض على النواب وسجنهم ، وكان كلما تقدم إليه

٢١

إنسان يكشف رأسه وينظر في وجهه فالذي يقول فيه نيشان يرجعونه إلى السجن ، والذي يقول ما فيه نيشان يطلق ، ثم إنه أحضر الفعلة أيضا وصنع بهم كذلك وقبض منهم جملة وأحضر التجار وأرباب الصنائع والحمالين وعلى هذا المنوال عامل الجميع فامتلأت السجون، ومن الغد أحضر المغاربة وأمر أن يخرجوا السجناء كلهم خارج البلد ويقتلوهم ففعلوا ما أمرهم به ؛ قال مدوّن وقائعه : وكان يوما عصيبا لم تكن تسمع فيه إلّا صراخ المقتولين ظلما وعويلهم وأنينهم ، وبقي القتلى كالغنم مطروحين خارج البلد ، ثم أمر أن ينادي المنادي في شوارع عكا ليخرج أهل القتلى لدفن موتاهم ، وأشار إلى أن كل امرأة ترفع صوتها تقتل حالا ، فخرج الناس ودفنوا القتلى. ثم ابتدأ يرسل جنوده يقبضون على الفلاحين ومشايخ القرى وأصحاب المقاطعات فمنهم من يقتله ومنهم من يصلم أذنه ويجدع أنفه ويطلقهم.

ولم يذكر المؤرخون علة استرسال الجزار في قتل الناس على هذه الصورة من غير سبب ولعله أصيب بمس من الجنون أو ان جنونه أطبق هذه المرة فأزهق الأرواح ، وإن امتاز في أدوار حياته بالسفك والفتك. وذكر المؤرخون أن الجزار قبيل وفاته أمر أن يغرقوا من كان في سجنه في البحر فنفذ أمره. وفي التاريخ العام أن الجزار أوقد جذوة التعصب بين المسلمين في بيروت وأغراهم بقتل الموارنة حتى يضمن حكمه على بيروت. ولم يكن يعرف فيما إذا كان الجزار خادما مخلصا للسلطان أو عاصيا وقحا. وكان كثيرا ما تجيئه رسل جاويشية من الإستانة تحمل إليه بعض الأوامر فيجز رأس القادم ويبعث به إلى ديوان الإستانة ، وهناك يغدق الذهب على الوزراء والخصيان ونساء الحرم السلطاني. وكثيرا ما كان يقول وهو في حال السكر للمسيو دي توليس : السلطان كالبنات يعطي نفسه لمن يعطيه أكثر ، فإذا حاول أن يقاومني فأنا أرده إلى الصواب بأن أهيج عليه مصر والشام وآسيا الصغرى ، وأزحف على الإستانة في جيش «القابسز» وأكون قادرا مثل لويس الكبير امبراطور فرنسا.

وقد وصف مشاقة الجزار وصفا معقولا قال فيه : إنه كان داهية ذا بأس وحنكة واسعة، سلمت إليه الدولة إدارة شؤون إيالتها وعولت عليه في

٢٢

إخضاع الشام وضمه تحت جناحها ، على طريقة الغدر والخداع وإلقاء الفتن والحروب الأهلية بين الأمراء والمشايخ الذين كانوا يحكمون الرعية بالجور والعسف ويسومونهم الذل أنواعا والظلم أشكالا ، وشريعة الرجل منهم إرادته السخيفة ، والحاكم يشنق ويقتل ويشوه أخلاق الشعب ، وكأن الحال قيضت لهم رجلا كالجزار ينتقم منهم ، وكان هؤلاء العتاة لاهين بالمنازعات العائلية والحروب الأهلية يكرهون العدل ويعشقون الظلم ، لا يرحمون ضعيفا ولا قريبا ، ولم تكن معاملة الجزار للأمير يوسف أقسى من معاملة هذا الأمير لأنسبائه وإن ما لحقه من الجزار هو مما يستحقه. وقس على الأمير بقية المشايخ والأمراء الذين كانوا يستبيحون أموال الرعية وأعراضهم في سبيل أهوائهم.

قال إن الجزار ظلم ولكنه خدم الدولة والشعب ، وعادت خدماته على الدولة بالنفع فأخضع القطر لشوكتها فأطاع ، ورد عنها بثباته أمام نابوليون خطرا كان يهددها يوم حصار عكا ، وأفاد الرعية بأن أزال عنهم ضغط المشايخ والأمراء المستبدين فكان جوره بالنسبة لجور الأمراء والمشايخ قبله أقل وطأة. ولما جاءهم وضع حدا لظلمهم وزعزع سلطتهم وأرغم أنوفهم وأطلق الفلاح من عقالهم. وعلى الجملة فإنه عمل بما يوافق عصره وينطبق على أبنائه ، فبموته سرّي عمن كان غضبه يهددهم ويوشك أن يوقع بهم. وقال إن الجزار على قبح أعماله حفظ المساواة بين الرعية مع تفرق مذاهبها ، فيحبس علماء المسلمين وقسوس النصارى وحاخامي اليهود وعقال الدروز سوية ، وهكذا في إجراء العذابات الجهنمية عليهم لا يفرق بينهم ، وأكبر ما يحصى عليهم من الذنوب التوقف عن أداء الأموال التي يطلبها منهم وربما نشأ تلكؤهم من عجزهم.

وقال إن الجزار كان يتأخر عن دفع الأموال الواجب عليه أداؤها للسلطنة ويعتذر عن الدفع بأنه محتاج إلى العساكر لإدخال لبنان في الطاعة ، فسئمت الدولة من تعللاته الطويلة وكتبوا له أن المدة طالت ويظهر أنك غير قادر على تمهيده ، فلذلك صممت الدولة على إرسال وزير مقتدر بعساكر كافية لإخضاع لبنان لسطوتها فكان جوابه أنني بعد أيام قليلة إن شاء الله أبشركم بفتحه لأنه ظهر عليهم الضعف عن المقاومة ، وقد منعنا وصول الذخائر إليهم من البقاع والسواحل وهم لا يقدرون على العيش بدونها ، لان أراضي الجبل قليلة بالنسبة

٢٣

لسكانه. وبعد مدة وجيزة بشر الدولة بشارة كاذبة مع الساعي فادعى أنه فتح الجبل وأنه وجد فيه من السكان النصارى مائة وعشرين ألف رجل ومن الدروز ستين ألفا ومن الشيعة ثلاثين ألفا ومثلهم من السنة ، فأتحفته الدولة بسيف مجوهر ومدحته على همته ، وأرسلت إليه بعد مدة أوراق جزية النصارى المعتادة وزادوا عليها مائة وعشرين ألف ورقة برسم نصارى لبنان ، فسقط في يد الجزار واستدعى المعلم حاييم فارحي مدير خزانته واستطلعه طلع رأيه في هذه القضية فأجابه يجب الآن دفع هذه القيمة من خزانتك لما عرضته للدولة عن فتح الجبل وعن عدد النصارى فيه. ثم ننظر في هذه الزيادة فدفع ثمن هذه الأوراق. وبعد أشهر أرسل بشارة للدولة بأن نصارى الجبل دخلوا في الإسلام. ولما دخلت السنة الثانية أرسلت الدولة للجزار أوراق جزية لبنان كالسنة الماضية فأرجع الزيادة بقوله : إن نصارى لبنان تقدم العرض عن دخولهم في الإسلام وارتفعت عنهم الجزية شرعا. قال : وهكذا كانت أمور الدولة في ذاك العهد تجري بلا تحقيق في صحة ما يعرضه عليها مأموروها.

ولما هلك الجزار أرسلت الدولة راغب أفندي الذي صار واليا على حلب بعد ذلك لضبط متروكاته ، وكانت قوانين الدولة يومئذ تقضي بأن يؤخذ كل ما يخلفه مستخدموها من أملاك وأموال وعروض ، فحررت التركة مع سندات الأموال التي كان يحررها على الأمراء والمشايخ عدا الأموال الأميرية ، فحسبت هذه الديون الظالمة من حقوق الدولة ، ولما رأوا أنها وافرة وأنه من المتعذر تحصيلها جعلوها مقسطة على رعايا أولئك الأمراء والمشايخ على عدة سنين ، فكان لبنان يدفع المال مضاعفا ، فالمال الواحد يبلغ أربعمائة كيس وكان يجبى من لبنان مال الجوالي على النصارى ومال فريضة على الدروز ، فكان القسط الواجب على اللبنانيين أداؤه من مطلوبات الجزار يبلغ مقدار ستة أموال أميرية وصار الأهالي يدفعون كل سنة مالين.

ولم يعلم ما خلف الجزار من الأموال بعد حكم تسع وعشرين سنة ولكن الذي قاله المؤرخون أن أحد رجاله الشيخ طه الكردي أخذ ألف كيس وأرسلت الدولة رجلين من الإستانة للبحث عن موجوده ، فما رأوا شيئا مهما غير ما كان أرسله إسماعيل باشا للدولة مع القبطان باشي في أول الأمر من مال

٢٤

وتحف ، يقال إنها بلغت ثمانية آلاف كيس بيد أن إسماعيل باشا صرف أموالا كثيرة على العساكر والأغوات ، وعلى كل فهي قليلة بالنسبة لطول عهده ، والغالب أنه كان معتدلا في أخذ المال غير اعتداله في سفك دماء الرجال ، أو أنه ادخر كميات من الذهب غير ما عثر عليه منها فضاعت عند وكلائه وخواصه.

قاعدة المبالغة في الثروة والفقر ، والظلم والعدل ، والعلم والجهل ، والقبح والجمال تناولت أعمال الجزار أيضا ، ولو كان في قلبه بعض رحمة وعزوف عن سفك الدم الحرام إلا بما تقضي به الشريعة لعد مصلح عصره قياسا مع الصفات التي أوردها مشاقة. لا جرم أن التبعة في بعض أعماله تعود على عماله ورجاله ، وأكثرهم من أبناء هذه الديار.

المتغلبة على الأحكام بعد الجزار :

خرج الشام بعد هلاك الجزار مقلّم الأظفار ، معروق العظام ، بل مقطع الأوصال ، سيء الحال ، وأحدث موته فراغا ففقدت به الدولة أعظم قوة تمثلها ونفّس بهلاكه خناق أرباب المقاطعات المتغلبين من الأعيان ، وكان في سجن الجزار في عكا رجل يقال له إسماعيل باشا أرناؤطي الأصل ، وأصله من جملة عساكر الوزير الأعظم حين حضر إلى مصر لاستخلاصها من الفرنسيين. ولما قام الفرنج على المسلمين وأخرجوهم من مصر وتشتت العساكر في تلك الأقطار قصد إسماعيل باشا أحمد باشا الجزار ، فدعاه إلى فتح يافا فظهرت منه خيانة مع محمد باشا أبو المرق فقبض عليه الجزار وسجنه وعذبه ، كما كان يفعل بمن يقبض عليه وبقي في سجن الجزار إلى أن هلك هذا ، فخرج إسماعيل باشا من محبسه وجعل مكان الجزار فاستولى على متروكاته حتى اضطرت الدولة إلى قتاله لعصيانه في قلعة عكا وأرسلت عليه حملة ودام الحصار أربعة أشهر حتى أخذ وقتل فاستراحت الأمة من أحمد الجزار ومن خلفه.

وعصا أهل وادي التيم فأرسل عليهم إسماعيل باشا جندا كبس القرى وقتلوا زهاء مائتي قتيل وأخذوا مائتي أسير ، وكبس الأمير بشير جنبلاط

٢٥

بعساكر الدروز بعض قرى عكا وقتل من عساكر إبراهيم باشا جماعة ، وإبراهيم باشا هو إبراهيم باشا الحلبي الذي نصبته الدولة مرة ثانية على دمشق وكان واليا على حلب. وكان حدث بموت الجزار اضطراب وخلت دمشق من الأحكام ، فمهد الأمور وعهدت إليه الدولة مع ولاية دمشق بصيدا وطرابلس وأوعزت إلى الأمير بشير الشهابي حاكم الجبل أن يكون في طاعة إبراهيم باشا وعونا له على إصلاح حال صيدا والساحل ، فصدع والي الجبل بالأمر لأنه كان داهية يراعي الدولة ولا يتأخر عن قضاء لباناتها ، ولا سيما الخراج والجزية يؤديهما في أوقاتها.

حاولت الدولة غير مرة القبض على مصطفى بربر متسلم طرابلس وظلّ في منصبه يسوم الناس مظالمه ، وما لبث خصمه اللدود عبد الله باشا العظم أن تولى دمشق للمرة الثالثة بعد أن كانت الدولة غضبت عليه بوشايات الجزار وشردته في البادية ولكنه دعاها إلى الرضى عنه وداواها بما تداوى به في العادة بأكياس من الذهب. وخرج عبد الله باشا من دمشق بالمحمل (١٢٢٠) فحدثت بينه وبين الوهابيين أمور عظيمة ، وكانوا قد استولوا على الحجاز وتقدموا إلى الشام فهلك غالب عسكره وانتهب الحاج.

عين سليمان باشا الكرجي من مماليك الجزار واليا على عكا فأقام حاكما على يافا وعلى غزة محمد آغا أبو نبوت أحد مماليك الجزار ، وبقي حاكمها إلى أن طمع بالاستقلال فيها ، وعندما تحقق سليمان باشا ذلك ركب عليه بالعسكر فهرب إلى مصر ثم إلى الإستانة وشفع فيه الشافعون فنال رتبة الوزارة. وسليمان باشا هو الذي أراد أن يرفع بعض المظالم عن الرعايا ويحملها على الأجانب في عكا كأن يبيع الغلات والقطن والزيت من الأجانب فقط ، تبتاع الحكومة ما يفضل عن عوز الأهلين وتخزنه في مخازن لها تبيعه من التجار الأجانب القادمين في مراكبهم بالأسعار التي تريدها.

ومن الأحداث في سنة ١٢٢١ ما حدث من فتنة بين العسكر الوطنيين وجند الحرس في دمشق ، فحاصرت القلعة وأغلقت المدينة كلها ، ووضعت المتاريس داخل المدينة ، وجرت بين العسكرين حرب المتاريس في الأزقة والشوارع والسطوح والأسواق والمآذن فغلب الوطنيون الحرس وكسروهم

٢٦

وهزموهم إلى مأذنة الشحم ثم ارتدوا عليهم وأخذوا طالع الفضة ، ونهب الخلق تلك الجهة كلها ، وراح الحرس مكسورين ثم عادوا وهزموا الوطنيين عند الشيخ عمود فنال الفريقان أحدهما من الآخر على غير طائل. ولم يقف شقاء دمشق عند حد التقاتل بين الجند بل أسرف الوالي كنج يوسف باشا (١٢٢٢) في ظلم الناس وأراد ستر ذنوبه فأرسل إلى الدولة ألف كيس من المال لإنعامها عليه بإمارة الحج وإيالة طرابلس مع ولاية دمشق وذهب إلى نابلس وقهر أهلها وجبى منهم أموالا عظيمة ثم ذهب إلى جبل النصيريين وقاتلهم وانتصر عليهم وسبى نساءهم وأولادهم ، وكان خيّرهم بين الدخول في مذهب أهل السنة والخروج من جبالهم فامتنعوا وحاربوا وخذلوا ، وبيعت نساؤهم وأولادهم ، فلما شاهدوا ذلك أظهروا التسنن فعفا عنهم وتركهم في أرضهم بعد أن حاربهم شهرين ونهب قراهم ، ثم رحل إلى طرابلس ليقبض على مصطفى بربر متسلمها ، فتحصن هذا في القلعة فوقع القتال ، وكان الحصار أحد عشر شهرا وطرابلس خلال هذه المدة خالية من سكانها وقد جمعوا في الخانات سلعهم ومتاعهم وماعونهم ، ثم دخل يوسف باشا البلد وأطلق لعسكره الأكراد والأرناؤد وغيرهم النهب فلم يبقوا على شيء فيها وأنزل عسكره في الدور فخربوها بأخذ خشبها للدفء والوقود. وتوسط سليمان باشا والي صيدا عند الدولة فعفت عن مصطفى بربر وتسلم يوسف باشا القلعة. وكان مصطفى بربر من خدام الأمير حسن أخي الأمير بشير فتوصل بذكائه وشجاعته إلى المناصب العالية وحاز اعتبار الوزراء وخشية الرعية.

مقتل سليم الثالث ومصطفى الرابع وتولي محمود الثاني :

في غضون سنة ١٢٢١ خلع سليم الثالث بيد الإنكشارية وقتل لأنه أراد أن ينفذ خطة في إصلاح الإدارة على الرغم من حروبه مع روسيا والنمسا وغيرهما من دول الغرب ، وينشىء عسكرا جديدا يستعيض به عن الإنكشارية وكان هذا السلطان واسع النظر لكن الدهر خانه فلم يقدر أن يطبق إصلاحه ،

٢٧

وكان أراد أن يخفق علم التمدن الأوربي فوق مملكته فاستدعى إليه من فرنسا ضباطا ومهندسين ورجالا من أرباب الصناعات فجاءه العدد الكثير منهم. وخلفه مصطفى الرابع فألغى جميع خطط الإصلاح ، ولكنه قتل كما قتل سلفه سليم ولم يطل عهده أكثر من أربعة عشر شهرا ، وخلفه محمود الثاني (١٢٢٣) متشبعا بروح إصلاح سليم الثالث ، يريد إخراج الدولة من سباتها ، معتقدا أنه لا سبيل إلى نجاتها إلا بإيجاد قوة لها من غير عسكر الإنكشارية الذين عراهم الانحلال منذ مئة سنة ، وأصبحوا يقتلون الملوك والوزراء ويخونون الدولة في ساحات الوغى ، ويعبثون بشغبهم ومؤامراتهم بكيان الدولة ، ذاهبا إلى أن من جملة الأسباب في بقاء الدولة أن يقلّد الفرنج في مناحيهم وعاداتهم. وهو الذي لبس الطربوش والألبسة الغربية. وأخذ يقيم الحفلات والمراقص وحفلات السماع على الطريقة الأوربية.

وفي سنة ١٢٢٣ مرّ ببلاد النصيريين طبيب إنكليزي فقتله الرعاع هناك ، فصدرت الأوامر بالقبض على القتلة فأرسل سليمان باشا والي صيدا عسكرا بزعامة مصطفى بربر فاكتسح ديارهم وقتل سبعين رجلا من كبارهم ، وحشا رؤوسهم تبنا وبعث بها إلى الباشا ، ثم امتنع النصيرية عن أداء المال فأرسل عليهم مصطفى بربر فنكل بهم وقتل خمسة وأربعين من رجالاتهم فأخلدوا إلى الطاعة. وكان من مقتل الطبيب وسيلة إلى الغارة على ضعاف الرعايا في زمن أصبح فيه شنّ الغارات صناعة يحترفها أناس مخصوصون في خدمة متغلب من المتغلبين.

وفي سنة ١٢٢٤ قوي الاختلاف بين والي دمشق وابن الشهابي وابن جنبلاط وكانا استوليا على أملاك عظيمة من الفلاحين في البقاع فلم يزرع أحد في تلك الأرجاء. وكان الوهابيون قد استولوا خلال هذه المدة على الحجاز وأخذو يجاذبون عمال الدولة حبل السلطة في الأرجاء التي بين الحجاز والشام. وذكر بعض المؤرخين أنهم ارتكبوا في بلاد حوران سنة ١٢٢٥ أفعالا بربرية من سبي النساء وقتل الأطفال ونهب الأموال وإحراق المنازل والغلال حتى قيل إنهم أتلفوا نحو ثلاثة آلاف ألف درهم وفي تاريخ نجد (١٢٢٥) أن سعودا اجتاز بالقرى التي حول المزيريب وبصرى فنهبت الجموع ما وجدوا فيها من

٢٨

المتاع وشعلوا فيها النيران ثم رجع إلى وطنه ومعه غنائم كثيرة من الخيل والمتاع والأثاث والطعام وقتل من أهل الشام عدة. وساق والي دمشق يوسف باشما حملة على مصطفى بربر متسلم طرابلس واستنجد بالأمير بشير الشهابي حاكم لبنان فلم ينجده معتذرا بفتن النصيرية والإسماعيلية وأن الجند اللبناني مضطر الى أن يرابط في الجبل ، فنال والي دمشق من متغلب طرابلس بالإجاعة وطول الحصار.

فتنة كنج يوسف باشا :

صدر الأمر السلطاني في سنة ١٢٢٥ إلى سليمان باشا والي صيدا أن يقتل والي دمشق كنج يوسف باشا ويصادر أمواله. لأن يوسف باشا عجز عن سوق قوة لقتال ابن سعود ورأى كما قال جودت ، اشتغال الدولة بمشاكلها الداخلية والخارجية فرصة لادخار المال ، وأكثر من الاعتداء على الأهلين وظلمهم ، واختلس زيادة على هذا أموالا كثيرة من مرتبات الحج. ومما قاله السلطان لوالي صيدا في أمره الصادر بهذا الشأن : إني آمل منك صداقة وحسن خدمة لأنك تربية الغازي الجزار أحمد باشا حتى لا يقال إن هذا راح ولم يخلف إنسانا!. ومعنى ذلك أن الدولة كانت راضية عن الجزار إذا ذكرته تذكره بأنه مثال رجالها الأمناء ، وما ذلك إلا لأنه كان يؤدي لها الخراج في الجملة ويقاتل أعداءها ويرشي جماعة الإستانة بالمال على الدوام. أما سوء سيرته في الرعية وظلمهم وتقتيلهم فهذا لا ينقص بزعمها قدر الرجل ، بل يجب على العمال أن يتقيلوا مثاله.

ولما جاء سليمان باشا في جند من الدروز وغيرهم لأخذ دمشق من كنج يوسف باشا تعصب الدمشقيون لواليهم القديم ، ووقع القتال في أرض الجديدة وداريا ، فانهزم الدمشقيون وظفر العسكر اللبناني والعكاوي وقتل كثير من الدمشقيين. وفي هذه الوقعة يقول المعلم نقولا الترك في مدح الأمير بشير :

وخاض غمار الحرب تحمل خلفه

ثلاثة آلاف تصول وتخطر

فلاقته فرسان المنايا مغيرة

تنادي على الباغين : الله أكبر

٢٩

وثار الوغى والسيف قد قارع القنا

وغطى الفريقين الغبار المكدر

فولى على أعقابه كل ظالم

وفي سهل داريا الأعادي تقهقروا

وكم من سراياهم ترامت جماجم

كأوراق أشجار على الأرض تنثر

وكان والي دمشق القديم قد جمع أمواله فبلغت كما قيل اثني عشر صندوقا من الذهب وعشرة أحمال من الفضة ، فتعرض بعض الجند لجماعته أثناء خروجهم ليلا من السراي ، فأفلت هو ووقع المال في أيدي الجند والعامة ، فتقاسموه واغتنى أناس من هذه الغارة على أموال الوالي التي سببت نكبته ، وجمعها من أموال الدولة ودماء الأمة ، وتوجه يوسف باشا كنج إلى مصر فتوسط له محمد على الكبير بالعفو ثم بعثت الدولة بعض رجالها فضبطوا ما خلفه الوالي السابق من الأموال في دمشق بعد أن نهب ما نهب ، فكانت نحو ثمانية آلاف كيس من صافي الصابون وبعض أشياء كان يتجر بها.

سليمان باشا وأمراء راشيا وكوائن حلب :

وعدّ مشاقة من حسنات سليمان باشا ضمه إقليم البلان إلى ولاية دمشق بعد أن كان مستقلا تحت لواء أمراء راشيا الشهابيين قال وذلك لأن حكام ذلك الإقليم مستبدون ، وكانت الأهالي تقاسي عذابا وجورا لا يطاقان ، والأمراء يدفعون عن الإقليم مالا معلوما لحفظ استقلالهم به وبراشيا معا ، والحكومة مشطورة مع الأهالي إلى شطرين حزب يناصر الأمير فندي وآخر الأمير منصورا ، وكان كل واحد منهما يراقب الآخر ويترصد الفرص ليفتك به ، فيحتاج كل منهما بالطبع إلى عصابة ومال وحاشية. وقد أثنى مشاقة على سليمان باشا وقال : إنه خدم الدولة والرعية خمسة عشر عاما بالعدل والأمانة ، وكان الأسف عليه عاما حتى شعرت الدولة بفقده (١٨١٩ م) وقال : لما سلبت بلاد بشارة من أيدي مشايخها كثرت التعديات واضطرت حكومة صيدا إلى وضع عساكر كثيرة ، فلما جاء سليمان باشا الكرجي واليا على عكا اقتصر على مائتي جندي من المشاة وخمسمائة فارس وأربعمائة خيال من الهوارة يتبعهم مشاة ضبطية في باب السراي وجماعة المدفعيين على أسوار المدينة وأقام في كل بلدة من المدفعيين والضابطة كفايتها.

٣٠

وسليمان باشا من مماليك الجزار اشترك مع سليم باشا في حرب الجزار ، ولما أفسد الجزار هذا العسكر على باب عكا هرب سليم باشا وسليمان باشا ، إلا أن هذا عاد إلى مولاه تائبا فوجه عليه متسلمية صيدا. وكان سليمان باشا هذا لا يسمع وشاية ويحمي من يعينهم من جماعته ولا يسمع فيهم كلاما ، وإذا عين أحدهم لا يرفعه مهما وقعت عليه من الشكاوي ، وإذا توفي أحد خدامه مسلما كان أو مسيحيا يضع ولده مكانه إن كان له ولد ويجري عليه رزقه وإن كان لا ولد له يدرّ راتبا على عياله ، وكان يعطي كل واحد من خدام بابه على حسب حاله من القرش إلى العشرة قروش كل يوم ، وهذا لأكبر ما يكون من أرباب الوظائف. قال العورا مدون وقائعه : وكان عنده لما مات ٢٢ «دعبولة» في كل دعبولة ألف كيس ريال فرنسا (كل ريال بأربعة قروش) عدا ما كان تحت يد صرافه حاييم وأخيه موسى وهو يربو على اثني عشر ألف كيس وعدا الديون التي للخزينة على تجار عكا وبيروت وما عند حريمه من الجواهر والتحف وخلا ما عنده من الغلات والكراع.

هذا الرجل الذي خلف هذه الثروة وما ذلك بالأمر المستنكر على ولاة عصره ، كان يتبجح بكلام العادلين والمصلحين مع أفراد من حاشيته ومن يغشون مجلسه ، ليدل على حبه لإحقاق الحق وزهده في حطام الدنيا. شنشنة معروفة في بعض من يتولون الأمر يبرئون أنفسهم من حب الدنيا وهم سراق منظمون ، ويستحلون في السر كل كبيرة وفي جهرهم أعفة أتقياء. هذا الرجل قال لوكيله وصرافه حاييم وكاتبه حنا العورا يوم استولى على دمشق وخلصها من يوسف كنج باشا : أنا قضيت حياة رأيت فيها الحلو والمر ، فإذا أردتم أن تخدموني بالصداقة فأنا أشترط عليكم أن لا تظلموا أحدا ، فلا أريد الظلم ولا أذية أحد ولا خراب بيت أحد. ولا عيني بمال أحد ، وأريد ما أمكن سد باب الظلم ، وليس لي حاجة في غير لقمة خبز طيبة وحصان مليح و«جوبق» دخان والكسوة الاعتيادية وامرأة واحدة ولست آذن ولا أرخص لأحد منكم أن يجمع لي مال عباد الله بالظلم ولا بالخطف ولا بالحيلة ولا بوجه من الوجوه ، ولا أريد إلا أخذ الأموال المرتبة بأمر السلطان فقط ولا

٣١

أشكر من يسعى لي بجلب الأموال من غير حلها بل أغضب عليه ، وها أنذا أشهد الله وملائكته ورسوله عليّ وعليكم بهذا جميعه ، وأنا بريء الذمة من كل ما تفعلونه في هذه الدنيا وفي الآخرة ، فهل تقبلون بشرطي هذا كي أسلمكم زمام أموري وأريح فكري ، فأجابوه : نعم قبلنا وسمعنا وأطعنا فحينئذ قال لهم : وأنا سلمتكم مصلحتي بتمامها تصرفوا بها بحسب صداقتكم ، وقد توكلت على الله وهو نعم الوكيل. كلام أشبه بكلام عمر بن عبد العزيز لأناس من حاشيته من زهاد التابعين وتابعي التابعين!

وفي سنة ١٢٢٦ حدثت فتنة بين الدروز القاطنين في الجبل الأعلى من عمل حلب وبين أهالي تلك الأرجاء وجرت بينهم وقائع فاتفق جميع أهل تلك الأطراف فأرسلوا يستشفعون بالأمير بشير فكتب إلى حكام حلب ، وأرسل مباشرين لإحضار الدروز من هناك وكانوا أربعمائة بيت وأعطاهم مئة ألف درهم لمعاشهم.

وكثيرا ما كان يجري الخلاف في دمشق بين آغا القلعة والوالي فيعتصم الآغا وجماعته في القلعة ويشرع بإطلاق الرصاص والبارود والمدافع على جماعة الوالي ويصيب الأهالي من ذلك خطوب جسيمة كما وقع سنة ١٢٢٧ فأخذ عسكر الوالي يحيط بالقلعة ويطلق من المآذن المجاورة النار عليها والجنود يطلقون النيران ، ودام ضرب المدافع والحصار الشديد ليلا ونهارا بلا فتور ، وقتل أناس خارج القلعة واحترقت بعض الأماكن ، ثم وضع عسكر الوالي سلالم ودخلوا القلعة من سورها وجرت المذبحة بين المحاصرين والمحصورين ونهب عسكر الوالي القلعة ، وكان من يذهب قتلا من الجند على نسبة من يقتل من الرعية. والقلاع آية البلاء على الرعية ولا ينتفع بها عند الاقتضاء إلا الوالي أو المتغلب انتفاعا موقتا.

ومن الولاة الذين ملأوا حلب وأرجاءها ظلما ابن جبار جلال الدين باشا (١٢٢٧) كان مثلا في المصادرات وقتل من يأبى إعطاء المال ولا يكاد يمضي يوم إلا ويقتل إنسانا وقد احتال على ثمانية عشر شخصا من رؤساء الإنكشارية في حلب وأهلكهم فسكنت الفتن قليلا وقطع من أوصال الإنكشارية وقبض على القياد بشدته وقلة ذمته في إهراق الدماء. وروى في أعلام النبلاء أن

٣٢

ابن جبار هذا عين اثنين يتجسسان أخبار الناس الذين تجب مصادرتهم فكان يرسل اثنين حاملين بلطة يأتيان بمن يجب مصادرته ، فيزج في الحبس ويوضع في رقبته سلسلة لها شوك ، ثم يطالب بما قرر عليه وهو جرم أو جرمان ، والجرم أربعون كيسا والكيس خمسمائة قرش ، فمن لم يدفع الجرم في ثلاثة أيام يخنق ويرمى تجاه باب القلعة ، وكلما خنقوا واحدا أطلقوا مدفعا فكان يعلم عدد المخنوقين في الليلة من عدد المدافع ، وكان الوالي إذا أراد النزول إلى السوق أمر فزينت له الأسواق نهارا فينزل ومعه «البلطجية» والعساكر عن يمينه وشماله فيدور في الأسواق ، ومتى أدار وجهه إلى رجل فإن البلطجية يأتون ويضربون رقبة صاحب ذلك الحانوت ، يفعل ذلك بثلاثة أو أربعة أشخاص ثم يعود ، ولما تكرر منه هذا العمل الفظيع سأله وجوه البلد عن سبب قتل هؤلاء وما ذنبهم فكان يقول : لا ذنب لهم غير أني أقصد إرهاب الناس. وتعذيبه الناس وأخذهم بالتهم الباطلة من المأثور عنه المشهور به.

وجاء بعده خورشيد باشا وكان يصلي ويصوم لكن أتباعه يفعلون كل كبيرة وهو عنهم ساكت ، وحدث أن الأهالي هجموا على دار رئيس دائرته سليمان بك وقتلوه وحملوا سائر أتباعه بما عندهم من أدوات الفحش والخمر إلى القاضي فعد الوالي ذلك نشوزا على السلطنة من أهل حلب فاستدعى عسكرا فجاءته جملة مستكثرة منهم ، فوقعت وقعة بين العسكر والعصاة في محلة قسطل الحرامي (١٢٣٥) فانكسر العصاة وهاجم العسكر البلدة وأخذوا يطلقون المدافع على أسوارها فخربوا جانبا منها ودام الحصار ١١١ يوما وجرى القتال داخل البلد في الشوارع والأسواق ، وكان القتال سجالا بينهم الى أن فر العصاة من الأهالي ودخل الولاة فيمن معهم من العسكر واحتلوا البلدة وقتلوا سبعة من كبار العصاة وأرسلوا برؤوسهم إلى الإستانة. وقد قال الأهالي إنهم ثاروا لشدة ما كانوا يلقونه من العنف وما كانوا ينوءون تحته من ضريبة الدور التي ضربت عليهم في سنة قحط وغلاء ، وقد قتل بالطبع من الثائرين والأهالي والجند مئات.

تولى دمشق سنة ١٢٣٢ صالح الكوسج باشا «وكان عادلا حليما فهما» وراقت الحال في أيامه ولم يحدث إلا نشوز عرب فليحان فأرسل عليهم جندا (٣ ـ ٣)

٣٣

فتحصنوا في اللجاة فقتلهم العرب ولم يسلم من الجند إلا القليل ، وبعد سنتين تولى دمشق سليمان باشا وكان عادلا إلا أنه محب للمال. وذكر جودت أن جماعة من الحشاشين والأشقياء (١٢٣٥) أخلوا بالأمن في حلب حتى كان الولاة يضطرون أن ينزلوا خارج البلد في مكان اسمه الشيخ بكير وأنه لم يمض على الثمانية عشرة شقيا الذين كان قتلهم بالخدعة جلال الدين باشا جبار واليها ، حتى عاد الأشقياء فكثروا وأرادوا القيام بثورة ، فتدارك الوالي الأمر باستدعاء الجنود الكثيرة ، وحسم هذه النازلة. قال بعد أن ذكر أربعة أبرياء قتلوا في حلب بدلا من أربعة مجرمين بواسطة أحد الأعيان : كان على ذلك العهد بين الأعيان كثير من الأردياء الأشرار ، وهذه الحالة لم تكن خاصة بالإستانة ولا بالولايات ، وكان قتل الإنسان في سهولته كتقطيع لحم الدجاج ، حتى حدث مرة أن الأراجيف كثرت في الإستانة وبينا كان مجلس الوكلاء ينظر في طريقة لحسم مادتها قال حالت أفندي : إن أحسن طريقة أن يقطع رأس الحلاق المقيم في «أوقجيلر باشي» وبذلك يحدث للناس خوف ودهشة وتنقطع مادة الأراجيف ، فقال له أحد الحضور : عفوا إن هذا حلاقي فقال حالت أفندي : ليس هذا الذي أردت أن أضرب عنقه بل الحلاق الذي يسكن في في الطرف الآخر وبذلك يحصل المقصود. قال وبالجملة فقد كثر في تلك الأيام في الإستانة وخارجها من اسودت قلوبهم وقست أفئدتهم من الناس ، وكانت الإدارة من كل وجه مختلة بحيث لا يتيسر وصفها ولم يبق من وسيلة إلا تجديد الأصول وإصلاح أمور الدولة وتنظيمها ، وقد نال هذا الشرف والي مصر محمد علي باشا والفضل للمتقدم ا ه. وهذا كلام مؤرخ رسمي يكتب للسلطنة ، والحقيقة أن الحالة كانت أسوأ مما وصفها به.

وقعة المزة واستسلام الدولة لوالي عكا :

تولى دمشق سنة ١٢٣٥ درويش باشا ، وفي أيامه اعتدى جماعته على مزارع ابن شهاب وابن جنبلاط في البقاع فاضطر والي الجبل إلى إرسال جند لمحاربته ، وأرسل والي عكا جندا ووقع القتال فانتصر والي الجبل على والي

٣٤

دمشق ، وبعثت الدولة والي حلب للنظر في هذه الفتنة بين الولاة ، فرأى أن السبب في ذلك عبد الله باشا والي عكا ، فحاصره والي حلب في عكا على غير طائل ، ثم عزل درويش باشا عن إيالتي دمشق وصيدا وعفي عن عبد الله باشا ، وهلك جمهور من الجند والناس في هذه الفتن التي كان منشؤها فيما قيل دسيسة من بعض الإسرائيليين هلك أحد أنسبائهم وتقربوا من درويش باشا فأثروا فيه. وذكر الشهابي في هذه الوقعة المعروفة بوقعة المزة لأن هذه القرية حرقت فيها ، أن عبد الله باشا استمال بعض مشايخ جبل نابلس ووقعت الفتنة بين أهالي ذاك الإقليم فانقسموا فئتين ووقع القتال بينهم ، وقالوا : إن سبب هذه الفتنة أن درويش باشا كان يريد تسلم عكا من عبد الله باشا بأمر الدولة فتشيّع الأمير بشير الشهابي لوالي عكا ، وسار في عسكره من المشاة والفرسان من أهل الشوف والمناصف والمتن ، وعسكر عبد الله باشا في الدالاتية والهوارة ، وجعلوا مصافهم من كوكب إلى المعظمية من إقليم البلان وخرج درويش باشا إلى المزة فأقبل الأمير بشير ، فلما علم عسكر درويش باشا بقدومه تحصنوا للحصار ، وانتشب القتال بين الطرفين وأطلقت عساكر دمشق المدافع والزنبركات أي المدافع الصغيرة ، فهجم الأمير بعسكره هجمة واحدة وهدم أسوار البلدة ، وكانت مبنية باللبن وامتلكها ، ففرت عساكر دمشق وقد قتل منهم نحو مائتين وخمسين رجلا وأخذوا منهم خمسمائة أسير ، وغنم عسكر الأمير خياما وذخائر وخيلا وسلاحا ، ورجع إلى المعظمية وبلغت أسرى عسكر دمشق من أهلها ٣٧٤ رجلا عدا من قطعوا رؤوسهم. ومضت عدة أيام وفي نهر بردى تطفو الغرقى من عسكر درويش باشا حتى بلغ عددهم ألف رجل ومائتي رجل بين قتيل وجريح ، وقتل من عسكر عكا نحو سبعين رجلا. وانتشب القتال بين الأمير خليل بن الأمير بشير وبين فيزو باشا أحد أتباع والي دمشق وهو قادم من نابلس في قرية مرجانة فقبض عسكر عبد الله باشا على مائة وخمسين أسيرا وقطعوا خمسة وعشرين رأسا وانهزم فيزو باشا إلى دمشق.

وأرادت الدولة أن تضرب على يد عبد الله باشا (١٢٣٧) والي عكا فأمدت والي دمشق بواليي حلب وأذنة ليتعاونوا على ضربه وقد تحصن فيها

٣٥

بألفي جندي ، فحاصره الولاة المذكورون تسعة أشهر فلم يستطيعوا الاستيلاء على عكا مع أنهم كانوا في ستة عشر ألف جندي. ولما عجزت الدولة عن أخذ هذا الثغر من عبد الله باشا وأصبح في يده معظم القطر الشامي حقيقة رتبت عليه خمسة وعشرين ألف كيس وهي تساوي نحو نصف مليون ليرة ، وذلك بدل نفقات عسكرها في حصار عكا ، وكان عبد الله باشا يوقع كتاباته هكذا «أمير الحاج السيد عبد الله والي الشام وصيدا وطرابلس ومتصرف ألوية غزة ويافا ونابلس وسنجاق القدس الشريف حالا».

سياسة الأمير بشير في لبنان وتقاتل الولاة وارتباك الدولة :

تولى دمشق مصطفى باشا (١٢٣٧) وفي أيامه حدثت فتنة بين الأمير بشير وابن جنبلاط وعلي العماد كتبت النصرة فيها للأمير ، وهرب المشايخ المذكورون إلى حوران فأمسكوا وقتلوا ، واضطر الأمير بشير الشهابي بعد ذلك إلى التغيب في دمشق وحوران ، ثم عاد بعد مدة إلى لبنان وتسلم زمام الأمر وطلب الأموال المتأخرة من اللبنانيين فثاروا عليه في اثني عشر ألف فارس وقيل في ثلاثة عشر ألف مقاتل وليس معه فيما قيل سوى ثلاثمائة ، فقتل منهم على قلة عديده وأخضعهم لسلطانه ، وعاونه الشيخ بشير جنبلاط على كبح جماحهم وكذلك والي عكا أرسل إليه عساكر الأرناؤد والهوارة والمغاربة والأكراد فنشب القتال بين الفريقين فقتل من جماعة الأمير بشير ١٥ رجلا وأحضروا ٢٩ رأسا من رؤوس محاربيهم. ثم قلب الأمير الشهابي ظهر المجن للشيخ جنبلاط وسعى بقتله ، كما قتل أناسا من أهله وحاشيته وسمل عيونهم ليأمن شرّهم بزعمه ، وذلك لأن ابن جنبلاط قويت شوكته وأثرى وكثر مشايعوه ، فما كان من أمير الجبل إلا أن سعى بإهلاكه وألقى الفتنة بين الحزب اليزبكي والجنبلاطي ليخلو له الجوّ وسلم معظم لبنان لأناس من مشايخ الموارنة يحكمونه ويأتونه بالجزية والخراج ليدفع هو المقرر عليه لوالي صيدا أو عكا ، ويأمن جانب الدولة فتصفو الولاية له. وكان من سياسته أن يظاهر صاحب الظهور والقوة شأن الأمراء اللبنانيين في معظم أدوار تاريخهم.

٣٦

وكثر الخلاف بين والي طرابلس ووالي دمشق ووالي صيدا ووالي عكا ، والناس يقتلون بسبب هذا الاختلاف بينهم ، وحاكم دمشق يحاصر حاكم عكا ، والدولة ترضى عن هذا وتغضب على ذاك ، وتسلب ولاية زيد لتعطيها لعمرو ، تلاحظ في ذلك التوازن بين القوات ، وتتحاشى رجوع الذين يعصون أمرها من الولاة. وأعقل الولاة وأدهاهم من كانت تدوم ولايته سنتين وكانت الوظائف الحسابية في هذا الدور بيد الإسرائيليين والكتابية بيد المسيحيين ، وكان الولاة يصادرون بعض الإسرائيليين ويحبسونهم وربما يقتلونهم لاستحصال المال فيحتال هؤلاء لتمشية أمورهم ، وحدث أن معظم الحامية والموظفين في دمشق كانوا مرة من أهل بغداد والموصل وكركوك فغضب الوالي عليهم فأمر بترحيلهم فهلك بعضهم في الطرق.

كانت الشام تتخبّط بأيدي الولاة وأرباب الإقطاعات ، والدولة غير مستريحة في داخليتها وخارجيتها ، فاستقلت اليونان (١٨٣٠ م) بعد حرب هائلة فقدت فيها الدولة أسطولها وذهب قسم من الأسطول المصري ، وكان الأسطول اليوناني ضرب بيروت ١٢٤١ (١٨٢٥) ، وتوسعت اختصاصات إمارتي الأفلاق والبغدان (رومانيا) حتى بلغتا الاستقلال أو كادتا ، وفتحت روسيا لها طريق البحر الأسود ، وما زالت حال الدولة على ذلك حتى نشأت ثورة الإنكشارية في الإستانة (١٢٤٢) وكانت الدولة أخذت تنظم جندا جديدا على الأصول الحديثة ، فاستراحت بعض الشيء بعد إهلاك الإنكشارية ، وكذلك حال الأمة المسكينة التي قاست الأهوال من اعتداءاتهم ، وكان الفضل الأكبر في ذلك لمصلح الدولة السلطان محمود الثاني الذي أظهر من الثبات وقوة الإرادة في هذا الشأن ما لم يعرف به أجداده الذين قتلوا بأيدي الإنكشارية ، واستناموا لما يأمرون به مخافة أن تزهق أرواحهم. وقضى أيضا على أهل الطريقة البكداشية في الإستانة وما إليها مما ذكره له التاريخ بالإعجاب ، وعاب بعضهم عليه شدته وأعجب بأعماله معاصروه من الأعاظم. فقد قال سفير روسيا في الإستانة بعد سنتين من قرض جيش الإنكشارية : إن السلطان محمودا بقضائه على هذا الجند المختل الذي تصعب إدارته قد ظفر بنور من النبوغ

٣٧

بمثله تنجو الممالك من المهالك. وقال دي لاجونكيير : إذا كان السلطان محمود أقل سعادة من بطرس الأكبر في إرادة التجدد فإن منشأ ذلك بأن بطرس الأكبر قد وجد أمة لا تزال على الفطرة أي جديدة ، وكان من الأسهل أن تنظم وتصاغ ، وعلى العكس في محمود فإنه صادفته عقبات من الأوضاع القديمة ، أوضاع نشأت وكبرت مع المملكة وكان منها فيما مضى قوتها وقدرتها ، أوضاع وضعها السيف وأيدها الظفر وقدّسها الدين.

تولى دمشق صالح باشا ثلاث سنين وثلاث مرات كل مرة سنة وأظهر شدة زائدة ثم تولاها ولي الدين باشا (١٢٤٢) وكان أحمق مغفلا مهملا ثم عزل ونصب عبد الرؤوف باشا (١٢٤٣) وكان عادلا لطيفا وطمعت الشام به لعدله وفي ١٢٤٣ أحدث وزير دمشق مظلمة على سبع عشرة قرية من البقاع فأمر الأمير أهل تلك القرى اللبنانيين أن يرجعوا بمالهم إلى إقليمهم فرجعوا فخرب البقاع فارتضى وزير دمشق حينئذ بأخذ عشرين ألف قرش من تلك القرى وكتب إلى الأمير أنه رتب العشرين ألف قرش عوضا عن المال الميري والقسم أي الثلث.

محاولة الدولة قتل النصارى وفتنة نابلس :

وأرادت الدولة أن تنتقم من نصارى الشام بل من النصارى في أنحاء المملكة لثورة اليونان عليها ومطالبتها بالاستقلال يوم ثورة المورة (١٢٤٤) وجزائر البحر المتوسط فأمرت والي دمشق أن يقتل المفسدين من كبراء طائفة الروم فعقد مجلسا من أعيان دمشق وتلا أمر الإستانة على مسامعهم ، فكان جوابهم أنه لا يوجد من النصارى عندنا المفسدون وجميعهم ذميون سالكون بشروط الذمة فلا تجوز أذيتهم. لهم ما لنا وعليهم ما علينا ، وأن الرسول عليه‌السلام أوصى بالذميين وقال : من آذى ذميا كنت خصيمه يوم القيامة. ونحن لا نقدر أن نتحمل هذه التبعة ، وكتبوا محضرا للدولة بحسن سلوك نصارى الإيالة وطاعتهم ودفعهم المرتبات الأميرية وأنهم يستحقون حسن الرعاية والمرحمة من السلطنة السنية. ولعمري أي علاقة للثائرين في جزائر البحر والمورة مع الآمنين من الرعايا في الشام ، فقد أبان عقلاء دمشق إذ ذاك عن رأي سديد ، ولكن لا

٣٨

ندري إذا كان رأيهم راق لدى ولاة الأمر في الإستانة. وأي أمر جائر أكثر من هذا كأن النزّاع إلى الاستقلال من اليونان كانوا يصدرون عن آراء مسيحيي الشام أو آسيا الصغرى ، أو أن هؤلاء يحثونهم على نزع أيديهم من أيدي الدولة ، ولو استطاع المسلمون أنفسهم في ذلك الوقت أن يستقلوا عن الدولة لينجوا من خلل إدارتها لما تأخروا عن ذلك ساعة.

وفي سنة ١٢٤٦ (١٨٢٩) طلب والي عكا من الأمير بشير الشهابي أن يفتح قلعة صانور وكان أهل نابلس عصوا عليه وتحصنوا في قلعة صفد وأعجزوه فلم يقدر عليهم لأن معظم الأهالي انضموا إلى الثائرين ، وكانت صانور منذ القرن الماضي تشغل بال رجال الدولة في عكا وصيدا والقدس ، فنشبت بينه وبينهم عدة وقائع وبعد حصار ثلاثة أشهر وتخريب عدة قرى ، أمر الوزير بهدم القلعة ودكها إلى الأساس ودك مغائرها وهدم آبارها ، وسبب هذه الثورة الضريبة التي فرضها والي دمشق على الثائرين ، ولما عجز عن جمعها أحيلت إلى عبد الله باشا فتعهد للدولة بدفع ألف كيس وأمر بجمعها من أهل نابلس ، وكان من زعماء النابلسيين إذ ذاك أسعد بك طوقان والشيخ القاسم الأحمد ، وفشل النابلسيون ولم يبق في القلعة عند تسليمها سوى ٣٦٧ وكان فيها أكثر من ألف ومائتي نسمة قتل بعضهم وضرب الآخرون وذكر مشاقة أن سبب عصيان نابلس سلخ عبد الله باشا لها بأمر الدولة عن إيالة دمشق ، لأن والي دمشق ادعى أن المطلوب منها ستمائة كيس لا تتحصل إلا بسوق حملة تستغرق المبلغ المتحصل منهم ، فتعهد عبد الله باشا بأن تضم إليه ويدفع ألفي كيس عنها ، وأن عسكر أمير الجبل الذي جاء نجدة لعبد الله باشا كان نحو خمسة آلاف رجل ، وأن النابلسيين نزلوا على حكم الأمير بشير الشهابي فعفا عنهم جميعا وهدم القلعة وحصل الأموال الأميرية بعد مناوشات طفيفة.

مقتل سليم باشا والي دمشق :

انقضى النصف الأول من هذا القرن أو كاد والقطر نهب أيدي الطامعين من الولاة والمتسلمين ، يسيئون في الرعية الاستعمال ، ويعبثون بما خولتهم

٣٩

دار الملك من السلطة فيمثلون أعظم مظهر من مظاهر الحكم الاستبدادي الفردي الجاهل. ولم يكن يخطر في بال الدولة أن رعاياها يقوون على الانتقام من أعظم عمالها ، وهم الموصوفون في معظم أدوارهم بالطاعة للملوك والزعماء والرضى بما تقضي به الأقدار ، ولو صحت عزيمة المظلومين مرة أو مرات أن يهلكوا من يحاول إهلاكهم وخراب أرضهم وديارهم ، لما ساءت الحال ، وبلغت الشام ما بلغته من الاختلال ، نريد أن نقول إن الرعايا طالت أيديهم فقتلوا واليا عظيما من ولاة السلطنة. ونعني به سليم باشا الصدر السابق مبيد جيش الإنكشارية.

نصبت الدولة هذا الشيخ واليا على حلب ثم على دمشق سنة ١٢٤٧ ، وكان ظاهره شجاعا مهيبا وباطنه جبانا وقد همّ أن يغتال بعض أعيان المدينة فبدأ بمدينة حماة ، وقتل بعضهم فأيقن القوم أن هذا القاتل لا يصعب عليه أن يهلك أناسا في دمشق ليصفو للدولة الحال بزعمه ، فلما جاء عاصمة الشام أراد أن يضع على كل سكرة أي عقار في دمشق «مصريتين» كما هو الحال في الإستانة فثارت العامة بإشارة الأعيان وكانوا عند المصائب الشديدة تتحد على الأغلب كلمتهم ، اتقاء شرّ عظيم يقعون فيه ، وكثيرا ما كانوا يدخلون الأوهام على الولاة ؛ لئلا يشتطوا في مطالبهم وتكون المغانم مناصفة بين الأعيان المتغلبة والحاكم المنصوب ، فضرب الوالي العامة من أبراج القلعة بالقنابل ، حتى إذا ضاق عليه الخناق جاء في بعض رجاله إلى دار قرب باب البريد فتأثره العامة وهدموا على رأسه سقف المخدع وأحرقوه.

وذكر بعضهم أن هذا الوالي تحصن برجاله في جامع المعلق أولا والسكمان بالقلعة ، فبدأ الحريق من باب الهواء وأخذ يمتد ، فلما رأى ذلك داخله الوهم لقلة رجاله وكثرة الدماشقة فتحصن بالقلعة ، وأخذ يحرق دار الحكومة ليشغل الناس ويفوز بنفسه ، وكان الحريق هائلا خرب كثيرا ، ثم اعتمدوا على حصار القلعة وأخذ الوالي يطلق المدافع على البلد ، وأقام الناس متاريس حول القلعة ثم في الحارات وحاصروا العسكر المرابط في جامع المعلق ، وقتل في هذه المناوشات كثير من الأهالي وجماعة الوالي ، وطال المطال وتألب الناس على الوالي حتى إن والي عكا أخذ يقوي أهل دمشق عليه ، ولما ضاق به الحصار

٤٠