خطط الشام - ج ٣

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٣

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٧٠

والنظامي وهم من أبناء العرب الذين أسروا من الجيش التركي أو فروا منه خمسة آلاف والنظامي لم يتجاوز هذا القدر.

وكان شاعر الثورة الشيخ فؤاد الخطيب يحفز أرواح هذه الأمة بشعره ومما قاله في الثورة:

يا آل جنكيز إن تثقل مظالمكم

على الشعوب فقد كانت لهم نعما

فالظلم أيقظ منهم كل ذي سنة

ما كان ينهض لو لا أنه ظلما

أرهقتم الشعب ضربا في مفاصله

حتى استفاق وسلّ السيف منتقما

فالشنق عن حنق منكم وموجدة

قد أرهف العزمات الشم والهمما

هيهات يصفح عنكم أو يصافحكم

حرّ ولو عبد الطاغوت والصنما

* * *

يا ابن النبي وأنت اليوم وارثه

قد عاد متصلا ما كان منفصما

والتف حولك أبطال غطارفة

شم الأنوف يرون الموت مغتنما

فاصدم بهم حدثان الدهر مخترقا

سدا من الترك إن تعرض له انهدما

* * *

يا من ألحّ علينا في ملامته

بعض الملام وجرّب مثلنا الألما

لو كان من يسمع الشكوى كصاحبها

مضنى لما ضج بالزعم الذي زعما

* * *

ايه بني العرب الأحرار إن لكم

فجرا أطلّ على الأكوان مبتسما

يستقبل الناس من أنفاسه أرج

ما هبّ في الشرق حتى أنشر الرمما

تلك الحياة التي كانت محجبة

في الغيب لا سأما تخشى ولا سقما

سارت مع الدهر من بدو ومن حضر

حتى استتبت فكانت نهضة عمما

من ذلك البيت ـ من تلك البطاح ـ على

تلك الطريق ـ مشت أجدادنا قدما

* * *

لستم بنيهم ولستم من سلالتهم

إن لم يكن سعيكم من سعيهم أمما

إلى الشآم ـ إلى أرض العراق ـ إلى

أقصى الجزيرة ـ سيروا واحملوا العلما

١٤١

أماني الأتراك وخيبتهم وتخريبهم :

كانت حالة الشام تسوء كلما طال أمد الحرب العامة ، وقد أتى الجند وبعض ضباطهم وعمال الحكومة من ظلم الناس باسم الجيش والتكاليف الحربية ما ضاقت به الصدور ، وغلت مراجل الأحقاد ، وكلما دامت الحرب شهرا زاد القوم من الدولة اشمئزازا وقهرا ، ومن يجسر والأحكام العرفية سائدة ، وسلطان الفزع الأكبر فاغر فاه ، أن يقول كلمة خير ، أو يرفع مظلمة أو ينقد معوجا ، فإن التعذيب كان مصير من يجرؤ على ذلك ، والسجن والقتل كان يتهدده كما وقع لمئات في دار الملك ومنهم أصدقاء أنور ياشا وشركاؤه في أعماله ، قتل بعضهم لأنهم قالوا بطلب الصلح من الحلفاء ، وأن الدولة تحاول بحربها الانتحار. قال سفير أميركا : «رأيت أنور في أحد الأيام وقد اشتدت وطأة الضباط على الفلاحين والتجار فقلت له : إن تلك الأعمال (نهب التجار والفلاحين باسم الجيش) تفضي بالمملكة إلى الخراب العاجل والدمار الأكيد ، ولكنه لم يعبأ بأقوالي ولم يخفق فؤاده ألما لتلك الأعمال ، بل كان يفتخر بأنه أنشأ جيشا كبيرا مجهزا من لا شيء. بلغ عدد الجنود التي جمعها أنور نحو مليون ونصف مليون ، وبقي نحو مليون أسرة في أنحاء المملكة وليس لهم من يساعدهم على القيام بأعباء الحياة ، وقد فتك بهم الجوع فتكا ذريعا. أما الحكومة التركية فكانت تدفع لكل جندي في جيشها نحو ربع ريال في الشهر ا ه».

قلنا : إن الدولة جمعت في الشام سبعا وعشرين قرعة أي من ابن الثامنة عشرة إلى ابن الخامسة والأربعين وكان معدل ما يجمع من كل صنف ثمانية آلاف جندي فيكون مجموع المجندين من السوريين مائتين وأربعين ألف مقاتل فرّ منهم بحسب الإحصاءات الرسمية إلى آخر الحرب نحو مئة وخمسين ألف جندي وظلّ في الخدمة بين أسير ومريض ومستخدم في خدمة خفيفة ببلده نحو خمسين ألفا وقتل نحو أربعين ألفا. ولو أردنا تفصيل ما وقع من الجيش ولأجل الجيش ، وأهمه استباحة الأعراض المصونة ، والعبث بالمقدسات والمشخصات، لاقتضى لذلك مجلد برأسه ، فقد فسدت الأخلاق بحيث لا يتأتى أن تصلح إلا بفناء معظم من تلوثوا بتلك اللوثات ، وكانت تنضب المواد الحيوية يوما بعد يوم ، وقل الفحم الحجري جدا فأخذ الأتراك يسيرون القطارات بالحطب ، يقطعون

١٤٢

الزيتون والكينا من فلسطين ، والجوز والمشمش والحور من الغوطة ، والسنديان والزان والصنوبر من لبنان ، والزيتون والفستق من حلب ، والغضا من الحجاز ، واشتد الجوع وعزّ الخبز ، وأصبح الغني يغتبط بأنه ينال قوت يومه على أيسر وجه ، وذل أعظم عظيم في هذه الديار أمام جمال باشا وأشياعه من الاتحاديين ، وصانعه أكبر البقية الباقية من الأحرار مخافة أن ينالهم من ظلمه ما نال غيرهم ، وكان الموت معلقا بين شفتيه ومن لا يصانعه يذله ، وربما قتله أو نفاه من هذه الأرض. وكان يعمل ما يريد ثم يكتب إلى الإستانة بما حصل. ومن أغرب الأحكام أن يجعل القتل في أيدي العرفاء والنقباء من صغار الضباط ، فكان لأحدهم إذا قبض على عشرة فارين أن يهلك واحدا منهم بالقرعة! وهكذا تجددت الأحكام القره قوشية ، ورخصت الأرواح وبيعت بيع السماح.

قال جمال باشا في مذكراته : ويقيننا أن الفضل في عدم حدوث ثورة في سورية خلال العامين والنصف العام اللذين أعقبا إعلان الشريف حسين استقلال بلاده ، إنما يرجع إلى أحكام القتل التي وقعت في نيسان ١٩١٦ وبقطع النظر عن ذلك فإن أنور باشا وهو وزير الحربية ، وطلعت باشا وهو وزير الداخلية ، قد وافقا على تنفيذ أحكام القتل بدون استئذان من المراجع العليا ، ثم أرسلت إلى الإستانة تقريرا بما أجريته وهناك راجعته محكمة الاستئناف التابعة لوزارة الحربية ثم أرسلته بناء على قرار مجلس الوزراء إلى القصر للتصديق السلطاني ، وهكذا أيدت الإرادة السنية الأحكام التي قضى بها الجيش ونفذها وبذا ختمت هذه الرواية ا ه.

وكلما كانت الأمة ترجو انفراج الأزمة كان أحمد جمال باشا وهو قوي الثقة بنفسه وجيشه يرجو أن تنجلي الحرب عن نصرة دولته ، ويؤسس في الشام معاهد لتتريك العرب وتقوية الدعوة التركية الاتحادية في نفوس الأمة ويفتح شوارع في يافا والقدس وبيروت ودمشق ويضع المصورات والخطط والتصميمات لهندسة أمهات مدن الشام على الطريقة الحديثة ، وقد نفذت أحكامه على البادية والحاضرة ، حتى إن بعض أمراء العرب كانوا عيونا له يقبضون إحساناته الكثيرة ، ولا يتلكأون عن قبول المعاونات التي يقدمها لهم الإنكليز. ولم يسلم من يد جمال باشا إلا دروز جبل حوران فإنهم خدعوه بوعودهم ، ولم يتجندوا

١٤٣

بحجة العمل في أراضيهم لإخراج الحبوب للجيش. ولكن الغلات التي استغلوها لم يقدموا منها شيئا للدولة على الرغم من إلحاح القائد العام عليهم ، فحفظوا حبوبهم في أهرائهم حتى شحت في الشام ، ثم أخذوا يبيعونها بأثمان فاحشة ولو لا ذلك لجاع أهل مدينة دمشق نفسها على قربها من حوران أنبار الشام العظيم. ولذلك كان جمال باشا يحرّق الأرّم عليهم ، ولو خرجت دولته ظافرة لأرسلوا حملة على هذا الجبل تهلكه وتخربه. وأخرى وهي تعد في مآثر الدروز هذه النوبة ، وهي أنهم آووا في جبلهم نحو عشرين ألف لا جىء من العرب والترك على اختلاف مذاهبهم ، فرارا من الجندية أو غيرها ، وأطعموهم مدة الحرب بلا عوض ، ومنهم من كانوا يشغلونهم في أراضيهم مقابل إطعامهم فقط ، فكانت مضافات الرؤساء منهم أشبه بفنادق ومطاعم عامة مجانية ، خدامها أصحاب تلك البيوت من أعيان الجبل ، فمثلوا بعملهم القرى العربي والمروءة والشهامة ، وكفروا عن سيئات المسيئين منهم في الماضي ، وكان جبل الدروز أقوى صلة بين جزيرة العرب والشام والعراق مدة الحرب ولا سيما بعد استقلال الحجاز ، وعزم الحلفاء على فتح الشام باسم الأمير فيصل واسم أبيه ، فكان مركز جبل حوران من الوسائط النافعة لأبناء الشام والحجاز معا ، وفيه تألفت عصابات من الدروز لإلقاء الاضطراب في صفوف الجيش التركي ، وظلّ أكثر زعماء الجبل على ولائهم للدولة العثمانية حتى أظلتهم الرايات العربية.

الوقائع المهمة في فلسطين وسقوط القدس وما إليها :

أخذ الجيش التركي في الجبهة ينضغط على نفسه وتتضاعف فيه مضعفات النفوس من جوع وعري ، ففي ٢٦ و ٢٧ آذار ١٩١٧ حدثت معركة غزة الأولى بين الترك والإنكليز وفي ١٩ نيسان كانت معركة الرمادة ، وفي ٤ آب انهزم الأتراك للمرة الثانية في محاولتهم غزوة مصر في قطيا ، وفي ٢٣ تشرين الأول و ٧ تشرين الثاني اخترق البريطانيون خط العثمانيين بين بئر سبع وغزة ، فتخلى الأتراك عن الابن وبئر السبع وكانت وقعة في أزقة غزة على أسلوب حرب المتاريس اشتركت فيها البحرية البريطانية بمدافعها من البحر ، وكانت الغلبة

١٤٤

فيها للأتراك وفقد من الإنكليز على رواية قائد الجيش الرابع في وقائع غزة ٤٠٠٠ وفقد الترك ٢٨٦ قتيلا و ٧٥٦ جريحا و ٥٨٥ متغيبا وأسيرا ، وادعى القائد التركي أن كل جندي من الحامية في غزة قتل جنديا إنكليزيا وأن الجيش البريطاني في أرجاء غزة كان مؤلفا من أربع فرق فرسان وأربع مشاة ، وأن المعركة دامت ثلاثة أيام واضطر البريطانيون إلى النكوص على أعقابهم يحتمون في خطوطهم تاركين وراءهم القتلى والجرحى وعددهم ٧٠٠٠ أي ما يعادل جميع القوة التركية التي اشتركت في القتال في تلك الجبهة. وفي الأخبار الرسمية التركية أن خسائر الإنكليز (رجب ١٣٣٥) في ساحة غزة الثانية قدرت بثلاثة آلاف فيهم كثير من الضباط ، وأفاد أحد الأسرى أن فرقته بات عددها أربعة آلاف رجل بعد عشرة والأسرى بلغوا نحو الأربعمائة وخسائر الإنكليز بالنسبة للوقعة الأولى كثيرة وخرب الجانب الأعظم من غزة وكان تشتت أهلها تحت كل كوكب. ومن الأسباب التي قضت بخرابها أن الأتراك وضعوا بعض مدافعهم الرشاشة الخفيفة في المآذن وأخذوا يطلقونها على البريطانيين ، فما كان من هؤلاء إلا أن قابلوهم بإطلاق القنابل من مدفعيتهم من البر والبحر. ولم يتناول الخراب غزة فقط بل تناول يافا أيضا ، وذلك لأن العثمانيين أجلوا أهالي تينك المدينتين إلى الداخل فترك سكانهما عروضهم ومتاعهم وأموالهم أو باعوها بأثمان طفيفة وارتكبت الفرقة الثالثة من الفرسان وهي من الترك أنواع الفظائع في النساء بما يخجل منه.

كانت قيادة الجيش الفعلية في الشام بيد الألمان وبالاسم بيد العثمانيين فإن القواد فونكريس وفالكنهايم وليمان سندرس أبلوا بلاء حسنا في وقائع شبه جزيرة سينا وغيرها ولذلك كان قائد الجيش الرابع يكرههم لأنهم جعلوه وأوامره وراء ظهورهم. ووظيفته الحقيقية في هذه الحرب أن يقدم لهم جندا وأرزاقا وينفذ ما يأمر به القائد الالماني لنظام الجيش وانتظامه. ولم يقصر الأتراك والحق يقال في مد الخطوط الحديدية إلى جبهة مصر على تعذر جلب الأدوات اللازمة لها من الغرب فأنجزوا خط العفولة نابلس متصلا بحيفا ودرعا ودمشق قبل الحرب ثم أنجزوا مسعودية ـ طور كرم ـ لد ـ الصرار ـ الحفير ـ وهو (٣ ـ ١٠)

١٤٥

٢٥٤ كيلومترا ، ومدوا خطا من التينة حتى دير سنيد قرب غزة وهو ٤٠ كيلو مترا في أيام قليلة وخربوا خط حوران دمشق وطرابلس حمص لأخذ خطوطهما الحديدية ، وأصبحت بئر السبع مركزا مهما فيها الكهرباء وأدوات الرفاهية في المدن ، وسدوا طريق العريش ـ الابن ـ نخل ، وحفروا آبارا وعملوا أحواضا وجروا الماء في البادية إلى القصيمة إلى ثلاثين كيلومترا.

سار الجيش الإنكليزي على عادته في قتال الترك في سينا سيرا بطيئا ولكنه كان أمينا ، ومدوا خطهم الحديدي بالقرب من الساحل ليكون له من الأسطول عند الاقتضاء معتصم ، وفي ٣١ تشرين الأول أخذوا بئر السبع وفي ٢١ كانون الأول ١٩١٦ أخذوا العريش وفي ٩ كانون الثاني ١٩١٧ أخذوا رفح. وأخلوا شبه جزيرة سينا من كل ما هو تركي سنة ١٩١٧ ، وأخذت يافا في ١٦ تشرين الثاني وكانت أخليت من السكان زهاء سنة ونصف وتشرد أهلها ، وسقطت القدس في ١٠ كانون الأول ١٩١٧ ودخلها القائد المشير اللنبي الإنكليزي دخول الظافر فسقطت بيت المقدس كما قال بعضهم في أيدي الفرنج بعد أن خرجوا منها في الحروب الصليبية منذ ثمانمائة وتسع عشرة سنة. وقرعت أجراس الكنائس فرحا بسقوط القدس ومن جملتها الكنائس الألمانية كأن ما خسرته ألمانيا سياسيا بهذا السقوط يعزيها بعودة الأرض المقدسة دينيا إلى أيدي المسيحيين.

واستولى الإنكليز على أريحا يوم ٢١ شباط ثم جعلت الجبهة على خط يافا أريحا وظل المتحاربون يقتتلون إلى سنة ١٩١٨ وقد كلت همم المقاتلين من الترك فاخترق القائد اللنبي الجبهة التركية في أيلول ١٩١٨ واستسلم جيشان تركيان وكان انهزم أحدهما نحو الشمال أي نحو طريق القدس نابلس ، ونشبت بين الفريقين البريطانيين والأتراك معركة هائلة في البيرة انتهت بهزيمة الأتراك وانسحابهم إلى اللبن وبلغ الجناح الأيسر من الجيش البريطاني حيفا وتجاوز الجناح الأيمن نابلس وسقطت حيفا في ٢٣ أيلول ١٩١٨ وكذلك عكا والناصرة وبفتح حيفا وطور كرم ونابلس والناصرة وطبرية فتحت أبواب الشام أمام الجيش البريطاني.

١٤٦

عمل الجيش العربي (١) :

في شهر حزيران سنة ١٩١٦ أي في السنة الثالثة للحرب العامة لما قام الشريف حسين بن علي أمير مكة المكرمة بثورته على الترك وقتل وأسر حامية مكة من الأتراك ونودي به ملكا على الحجاز ، ثار ابنه الأمير علي في عرب المدينة المنورة الموالين لأبيه على الحامية التركية غداة ثورة مكة فلم يستطيعوا أخذها لأن فخري باشا قائد حاميتها التركي كان حصنها تحصينا عظيما فما استطاع العرب أن ينحوا على تلك الحصون مخافة أن يصاب قبر الرسول ومسجده بأذى وقبعت الحامية التركية بما ادخرته من الطعام في داخل حصونها وأجلت الحكومة أكثر أهل المدينة إلى الشام وآسيا الصغرى وعددهم لا يقل عن أربعين ألفا ولم تترك سوى بضعة آلاف ممن آثروا أن يموتوا في جوار قبر النبي على الجلاء غير مطالبين الجيش المحاصر بخبز ولا إدام. وأخذ عرب الأمير علي يناوشون الحاميات التركية على السكة الحجازية مدة ويخربون بعض خطوطه ويعود العسكر العثماني فيصلح ما خربوه ويستخدمه في الضروريات لتموين الجيش المرابط في المدينة ، وأخذ منذ ذاك الحين الأمير فيصل ثالث أنجال الملك حسين في سرايا من عرب الحجاز يشاطىء ساحل البحر الأحمر متقدما إلى سمت الشمال نحو الشام وينضم إليه أسرى الجيش التركي من العرب ممن أسروا في ترعة السويس وشبه جزيرة سينا وساحة العراق. ففتح ينبع البحر والوجه وهنا تألف الجيش الشمالي الذي قاده الأمير فيصل ، أما شقيقه الأمير عبد الله النجل الثاني فكان في الطائف يحاصرها حتى سقطت ، أي أن الأمير عليا كان يشاغل الحامية التركية في المدينة ويفتح رابغ ويجعلها ميناءه، وشقيقه الأمير فيصلا يحاول الابتعاد عنها للانضمام إلى الجيش البريطاني في شبه جزيرة سينا.

وفي تموز ١٩١٧ أي بعد أحد عشر شهرا من ثورة صاحب الحجاز على الترك فتحت العقبة بمعاونة الشيخ عودة أبي تايه من مشايخ الحويطات ومن شجعان العرب ، وقد أبلى بلاء ليس بعده بلاء في هذه الوقعة وفي أكثر الوقائع

__________________

(*) تفضل بعض رجال الثورة العربية السيد نسيب البكري والسيد فخري البارودي والشيخ سعيد الباني فأعطوني بعض معلوماتهم عن دخول الجيش العربي إلى الشام.

١٤٧

التي اشتبك فيها الجيش العربي مع الجيش التركي ، وكان له الفضل بإسقاط الطفيلة وأبي الأسل والكويرة وغيرها من المواقع التي احتلها العرب في أوائل الشام من الجنوب. وقد أسر في فتح العقبة تابورا تركيا برمته تام الأهبة لم يفلت منه ولا أركان حربه ورجال شوراه الحربي استسلموا كلهم لأبي تايه فعاملهم أرقى معاملة مدنية. وكان لمدافع الأسطول البريطاني من البحر أولا يد طولى في إخلاء الترك للعقبة وبسقوطها حمى العرب مؤخرة البريطانيين في سينا ، وكان الأتراك يأتون من معان إلى بادية سينا يضربون البريطانيين ، وباستيلاء العرب على العقبة استطاع الإنكليز أن يستولوا على غزة ثم رفح وبئر السبع ، أما الأتراك والألمان فقد دافعوا عن العقبة دفاعا عظيما ولكن البريطانيين كانت لهم السلطة على الساحل والعرب يحاربون بأجسادهم وأرواحهم مع صاحب الحجاز وأولاده.

استولى العرب على الطفيلة ووادي موسى وحاولوا الاستيلاء على معان الواقعة على الخط الحديدي فردوا عنها مرتين بخسائر ، خصوصا يوم ٢٢ تموز عندما هاجموا محطة أم الجرذان (الجردونة) فكانت خسائرهم عشرين ضابطا ومائتي جندي واستولوا على أم الجرذان ثم تخلوا عنها. وأرسل الأتراك من الكرك أربع كتائب وسرية من البغالة بغية احتلال الطفيلة وبينا كانت سائرة في وادي موسى بلغ العرب خبرها ، فتحصن محافظ الطفيلة الأمير زيد رابع أنجال ملك الحجاز في مائتي جندي نظامي وقوة قليلة من البدو في رؤوس الجبال وأخرج أهل الطفيلة وسلّحهم وفرقهم على الجبال التي في أطراف الوادي ، وجعل العسكر التركي في شبه حصار وأطلق عليهم النار ، فارتبك الجيش الزاحف وجفلت البغال وقتل حامد فخري بك القائد التركي المعروف عند الأتراك بفاتح بكرش فسقط في يد الجيش وانهزم أكثره وسلم الباقي ، وأخذ العرب ما يربي على ستمائة أسير تركي وغنموا أربعة مدافع سريعة الطلق ولم يكن معهم سوى مدفعين قديمين. أما الكرك على حصانتها فإن الأتراك أخلوها من أنفسهم.

وانضمت إلى الجيش العربي في الوقائع الأخيرة سرية مدفعية إفرنسية كما كانت الطيارات الإنكليزية لا تغفل يوما عن كشف مواقع العدو وتهيئة سبل التقدم لهم ، وكانت وقائع البدو مع الترك على الأكثر أشبه بمناوشات عصابات

١٤٨

لا بحروب منظمة. والأمير فيصل ينظر إليه نظر قائد عربي يتلقى الأوامر من المستر اللنبي ولقبه قائد الجيوش الشمالية.

جاء في نشرة وزارة الحربية البريطانية في آب ١٩١٧ أن خطة العرب في بداءة نهضتهم خطة حسنة تحوي في مطاويها حذقا وحزما ودهاء ، فقد خربوا قسما من السكة الحديدية واستولوا على مراكز الأتراك على جانبي الطريق وكانوا على جانب من البسالة يتغلبون غالبا على جيش أكثر منهم عددا وعددا. وقال ليمان سندرس الألماني : إن العرب من أول شهر أيار إلى التاسع عشر منه خربوا خمسة وعشرين جسرا.

خرب العرب محطة القطرانة وأسروا عددا من الترك وبعد أسبوع هجموا على الحسا فأخذوا قطارا كان هناك ودمروا قسما من العدة والذخيرة ولكن الأتراك أخرجوهم بعدئذ من الحسا فتقهقروا جنوبا وهم يخربون في الجسور والخط. وفي تشرين الثاني ١٩١٧ واقعت القوى البريطانية حامية الترك في عمّان فسقطت الصلت في أيدي البريطانيين والعرب وعاد الأتراك فهاجموها في آذار ١٩١٨ وردوا البريطانيين إلى غربي الأردن. وكانت حال الصلت ومعان وعمان وغيرها تعسة جدا لأن الاستيلاء عليها كان متبادلا بين الفريقين المتحاربين وأهلها بين نارين خصوصا نار العثمانيين الذين كانوا يعاقبون الأهلين لدى عودتهم إلى بلد انهزموا منه بحكم الطبيعة أو القواعد الحربية بما يخرج عن حد المألوف تشفيا وانتقاما.

لما صدر الأمر بالهجوم العام لضرب الجيش التركي الألماني الضربة القاضية فاوض البريطانيون الأمير فيصلا أن يجهز حملة تسير من أبي الأسل إلى جسر تل شهاب في حوران لتقطع خط الرجعة على الجيوش التركية فتألفت الحملة من الجيش النظامي يرافقها شرذمة من البدو. ويظهر أن القيادة التركية شعرت بذلك لأن من البدو من كانوا يتجسسون للعرب وعليهم وللترك وعليهم ، ومن عادة البدوي أن ينحاز إلى صفوف الغالب وينتقض على المغلوب ولو كان في صفوفه لأن هدفه الوحيد السلب والنهب ـ فأوعز القائد التركي إلى الحامية أن تدافع عن معان بالهجوم على الجيش العربي في الوهيدة لإشغال الحملة عن المسير إلى تل شهاب وسار الألمان مع الأتراك من الشمال على الشوبك والطفيلة

١٤٩

ليلتقوا مع الجيش التركي الذي خرج من الشرق على معان فباغتت الحامية ليلا على تل سمنة المطلة على معان واستولوا على حصونها ، وبضبطها أصبح الجيش العربي في خطر ، فبلغ الأمير فيصلا ذلك بالهاتف من الوهيدة بين معان وأبي الأسل وتبعد عن كل منهما زهاء ساعتين أو أكثر ، وكانت مقر الجيش العربي ومقر الأمير وراءها في أبي الاسل ، فاهتم للأمر لتناقص عدد الجيش العربي الذي انضمت أكثريته إلى الحملة المنوه بها ، وكانت بارحت قبل هذا الهجوم بيوم المقرّ من جهة الطريق الشرقي البعيد عن الخط الحجازي مسافة يوم تقريبا وهو من جهة الجفر وباير (ماءان لأهل البادية) فندب الأمير أخاه الأمير زيدا واستعاد حصون تل سمنة ، وكان الأتراك ينوون أن يتقدموا منها للاستيلاء على الوهيدة مقر المعسكر العربي ، ولو لم يتقدم أحد أبناء العرب ممن كان مع الجيش التركي ويفاوض بالهاتف مركز الجيش العربي وينذره سوء العقبى ويسارع الأمير فيصل بإرسال عبيده وعددهم مائة وخمسون ويسيروا كالبرق الخاطف يقفون أمام الجيش التركي ويشاغلونه ريثما تقدمت فرسان الجيش العربي وتبعها المشاة ـ لو لا هذا لما رد الأتراك عن معان ولهلك الجيش العربي بأسره.

ومن ذلك الحين انقلبت حامية معان من طور الدفاع إلى طور الهجوم ، وعهد الأمير فيصل بالقيادة العامة في مقر أبي الأسل إلى أخيه الأمير زيد والتحق بالحملة يرافقه قليل من الجند النظامي وحرسه من العبيد وبعض المتطوعة من بدو ومن حضر قاصدا الأزرق ليتخذه مقر القيادة للحملة ، وضرب موعدا للنوري بن شعلان أن يلاقيه بالأزرق مع شرذمة من قبيلته كما أوعز إلى عوده أبي تايه أن ينزح مع شرذمة من قبيلته من الجفر إلى الأزرق ، ولكن جنده كان قليل العدد والبدو الذين أرادهم على أن يوافوه تخلفوا عنه فأصبح موقفه في خطر ، وكان في وسع مئة جندي عثماني لو هموا به أن يأسروه ومن معه ، ولكن قذف الرعب في قلوب المحاربين من الترك فظنوا أو هناك جيوشا جرارة لا قبل لهم بها ، وزاد حراجة الموقف تشويشا أن بعض مشايخ قرى جبل الدروز بعثوا إلى الأمير يحتجون على احتلاله الأزرق بدعوى أن احتلاله يوغر عليهم صدر الحكومة التركية لأن الأزرق وإن كان مقدمة بادية الشام وغير مملوك لأحد لكنه

١٥٠

يعتبر في نظر الدروز ونظر القبائل الرحل ملحقا بالدروز ، ولم يؤثر هذا الاحتجاج في نفس الأمير فيصل لعلمه أن لا قيمة له بالنسبة إلى زعماء الجبل الموالين له وفي طليعتهم سلطان باشا الأطرش الذي أخلص كل الإخلاص للثورة العربية وعاونها بماله وجاهه ، ولعلمه أنهم متجرون بهذا الاحتجاج غير أنه أورث اضطراب الأفكار خشية تجسسهم للأتراك ، وبعد خمسة أيام أرسل أحد شيوخ قبيلة بني صخر وهو الوحيد في موالاة الجيش العربي دون بقية شيوخ القبيلة الذين كانوا موالين للحكومة التركية ويقطعون السابلة على كل قافلة تلتحق بالأمير فيصل في أبي الأسل ، وجهزه بفئة من المتطوعة لتخريب جسر عمان لقطع المواصلة بين القيادة التركية ومعان. وجاء على الأثر الكولونل لورانس الإنكليزي ، ملقن الثورة العربية والمشرف عليها الذي دعي «ملك العرب غير المتوج» وأخبره بسقوط نابلس وما وراءها إلى الشمال ، وأنه وقع في أسر الجيش البريطاني من الجيش التركي زهاء ستين ألفا وكان الفضل الأكبر في ذلك لتخريب جسر تل شهاب. وصباح اليوم السادس ورد على الأمير فيصل نجاب يخبره بسقوط معان وأسر حاميتها وسوق رجالها إلى العقبة ، وبعد ساعتين جاءه نجاب آخر من عمان يحمل إليه أوراق الحكومة التركية فيها مبرهنا على سقوطها وانجلاء الترك عنها قبل تخريب الجسر. فرأى الأمير فيصل عندئذ نقل المقر إلى بصرى عاصمة حوران ، مخافة أن يضم الأتراك شملهم في درعا دفاعا عن دمشق ولم يكد يستقر بها حتى بلغه سقوط درعا بيد الجيش العربي الإنكليزي ومتطوعة الحورانيين ، فسار إليها ونظم حكومتها وأخذ منه القلق لأنه كان جرى اتفاق بينه وبين الحلفاء أي بينه وبين البريطانيين أن كل فريق من العرب أو البريطانيين يسبق جيشه إلى فتح مقاطعة أو بلد يكون حق احتلالها وإدارة شؤونها لذلك الفريق إلى أن يبت في المصير ، وحافظ الجيش الإنكليزي على هذا الوفاق فكان إذا سبق ففتح بلدا أو أسقط حصنا في العمالة التي يريد إعطاءها للعرب يتوقف ريثما يدخل العرب فينسب الفتح إليهم ولا سيما في الشام الداخلية. ولذلك خف السيد نسيب البكري من الأزرق بأمر الأمير فيصل إلى جبل الدروز ولقي صديقه سلطان باشا الأطرش وجيش هذا من الجبل نحو مائتي فارس وذهبوا إلى بصرى وهناك التحق بهم بعض الحورانيين

١٥١

ولا سيما آل مقداد وساروا إلى دمشق على طريق الكسوة فناوشهم جيش الأتراك قليلا في حصون جبل المانع ريثما يتمكن من الهزيمة بانتظام ، ودخلت هذه الحملة التي كانت مؤلفة من نحو خمسمائة فارس ما عدا المشاة إلى دمشق واتفق دخول هذه الحملة مع أوائل الحملة البريطانية الزاحفة على الفيحاء من طريق جسر بنات يعقوب ـ القنيطرة.

سقوط حوران ودمشق بيد الجيوش البريطانية :

وفي ١٧ أيلول ١٩١٨ قطع الجيش العربي الخط الحديدي على عشرة كيلومترات من شمالي درعا (بين خربة الغزالة ودرعا) بمعاونة الطيارات الإنكليزية ، وكذلك خط درعا ـ حيفا اي من المزيريب وخط عمان ـ درعا فانقطع الخط في نصيب ، وأصبحت حامية درعا مقطوعة عن كل مدد ، وفي اليوم الثاني كان الهجوم البريطاني العام فوجه الترك إلى العرب بقسم كبير من قوتهم فلم يبق فيها الجناح الأيسر من الجيش البريطاني إلا بقية ما لبثت أن تفرقت شذر مذر ، وأسر العرب في هزيمة الأتراك تسعة آلاف أسير ، وغنموا تسعة آلاف بندقية وثمانية مدافع وأربعة وخمسين رشاشا. وفي ٢٦ منه هجم الجيش العربي وقد انضم إليه عرب الرولة وعرب عنزة وعدد من الدروز على سكة الحجاز على ١٥ ميلا جنوبي درعا ، فخربوا جسرا وقسما من الخط.

وفي ٢٨ منه احتلت القوات النظامية درعا وفي ٣٠ منه تغلبت فرقة استرالية على نجدات الأتراك في قطنا ، وتقربت عند المساء إلى أبواب دمشق وفشل الأتراك ، وظل الجيش البريطاني يطارد المنهزمين حتى بلغ ضواحي دمشق يوم ٣٠ أيلول وكان ناوش المهاجمون بعض الحاميات في المدن التي ذكرت ولا سيما في الناصرة (٢٠ ايلول) وقد نشب قتال فيها بين البريطانيين والألمان من الساعة الخامسة صباحا إلى الظهر ، وعندها أخلى ليمان سندرس الناصرة وركب سيارته إلى دمشق.

وعلى هذا كان أول من دخل دمشق فرقة من الخيالة الاسترالية والفرقة البريطانية جاءت من درعا على طول الخط الحجازي ومن الغد (أول تشرين

١٥٢

الأول) دخل البريطانيون والجيش العربي في يوم واحد ، وقد تأثر الجيش البريطاني بقايا المنهزمين من الجيش التركي بين ربوة دمشق وقرية دمر فهلك من الجند المنهزم نحو مئة وعشرين ، وسرقت خزينة الجيش التركي وكانت في القطار في مركبتين بين الشاذروان ودمر فنهبها الفلاحون وغيرهم من المصطافين ، وطارد الفرسان البريطانيون والاستراليون المنهزمين من الأتراك ممن حاولوا المقاومة أولا في سفح جبل قلمون قرب دومة فظن الترك أن الأهلين قاموا بمناصرة الجيش البريطاني فاستسلموا فخف أهل قرية حفير من أعالي الجبل لرد الأتراك دفاعا عن قريتهم. وكان بعض سكان حوران اعتدوا في الأيام التي سبقت سقوط دمشق على بعض المنهزمين من الجيش لأخذ سلاحهم على الأكثر ، ولكن الأمير طاهرا الحسني وأبناء عمه الأمير سعيد والأمير عبد القادر كانوا ألفوا من المغاربة سرايا من المطوعة وأخذوا ألف بندقية من الحكومة التركية خرجوا الى أذرع وخففوا ويلات الجيش التركي وساعدوه على الهزيمة ، ولما خلت دمشق من حكومة كانت مسائل الأمن فيها لأناس من أهل البلد والوجاهة في مقدمتهم أحفاد الأمير عبد القادر الحسني فلم يقع ما يكدّر في النفس والأموال.

وقبيل سقوط مدينة دمشق عقد الأتراك مجلسا حربيا حضره قواد الجيش من الترك والألمان والنمساويين والمجريين ورجال الشورى الحربي ، فرأى القسم الأعظم من المؤتمرين نسف جميع الأماكن الأميرية في دمشق ، وكان الألمان أعدوا لذلك العدة ، وقال بعض الراوين بل نسف مدينة دمشق ، إلا أن القائد النمساوي أقنع رفاقه بأن هذا عمل غير معقول ، لأن الدمشقيين حاربوا مع الدولة العثمانية وقاموا بكل ما فرض عليهم بإخلاص ، فليس من العدل وقد خسر الترك الحرب أن يعاملوا دمشق هذه المعاملة القاسية وكانت حجته داحضة. وكان جمال باشا المرسيني المعروف بجمال باشا الصغير من رأي القائد النمساوي سرا فعاضده وأشار إلى من استلموا زمام البلد من الوطنيين أن يعلنوا استقلال الشام ، فرفعوا العلم العربي على دار الحكومة ضحوة يوم ٣٠ أيلول وبعد أن هنأ جمال باشا الصغير الحاضرين من الدمشقيين باستقلالهم ، غادر دمشق على

١٥٣

سيارته إلى رياق ، وكان آخر قائد تركي خرج من عاصمة القطر ، بعد أن ملكها الأتراك أربعمائة وأربع عشرة سنة.

وبعد يومين استدعى من فوض إليهم الأمن في البلد من وجوهها الأمير فيصل بن الملك حسين قائد الجيش العربي ، وكان مرابطا في الجيدور فدخلها ونزل في دار آل البارودي في القنوات وهناك شرع بتأسيس الحكومة العربية. وكان البريطانيون عهدوا إلى اللواء علي رضا باشا الركابي من قواد الجيش التركي ومن أبناء دمشق بأن يكون حاكما عسكريا لمدن الداخلية دمشق وحلب وما إليهما بالنظر لما ثبت للبريطانيين من حسن بلائه في خدمتهم ، ويقال : إنه كان أرسل إليهم مصوّر الحصون حوالي دمشق وكان وكل إليه الترك عملها ، وأرسله القائد التركي قبيل سقوط دمشق ببضعة أيام ليجمع شمل المنهزمين من الجيش التركي في القنيطرة وأعطاه مبلغا كبيرا من المال ، فادعى أن العربان سلبوه ماله وثيابه ، وانضم إلى الجيش الإنكليزي ، وهكذا ذهب من دمشق قائدا تركيا وعاد إليها بعد أيام حاكما عربيا بريطانيا.

وأطال بعض أهالي بعلبك أيديهم على المنهزمين من جند الترك ، وأخذوا سلاحهم وسلبوهم ثيابهم وعتادهم وقتلوا نحو ثلاثين جنديا ، وذل الأتراك في الشام بعد عزتهم ، وكان الاتحاديون العلة الأولى في هذه الذلة ، وذهاب هذا الملك العظيم ، وخدم الاتحاديون الدولة بادىء بدء إذ حموا الدستور كما قال كامل باشا لكنهم بتدخلهم في السياسة وبسط سيطرتهم على السلطة الإجرائية أصبحوا حكومة في حكومة ، وأضحوا خطرا على الدستور. بل صاروا بعد خطرا على المملكة كلها ، ضاربوا بها في سوق السياسة الألمانية فخسروها.

سقوط بيروت والساحل والهدنة :

كانت الطيارات البريطانية يوم ٢٩ أيلول أمطرت قنابلها على مستودعات محطة رياق نقطة اتصال الجنوب بالشمال ونهب ملحم قاسم أنابير رياق وحوش حالا في جماعة من رجاله ، فنسف الألمان ما بقي من المؤن والعتاد في المستودعات والأنابير ، وانهزموا في السكة الحديدية إلى الشمال ، ولم يتركوا أحدا من الترك معهم نجوا باستعمال الشدة ، وفي ذاك الحين قذف الألمان في بيروت المؤن

١٥٤

والمواد الحربية في البحر ، وأصلاهم الحلفاء نارا حامية خلال هزيمتهم ، ولم تنفعهم وتنفع الأتراك خطوط الدفاع التي كانوا جعلوها في الجبل المطل على بيروت ، كما لم تنفعهم والترك أيضا الخطوط التي انشأوها في جبل المانع والمزة وقاسيون المحيطة بدمشق من غربها وجنوبها وشمالها ، وهكذا لم تصب دمشق وثغرها بيروت بأذى يوم الهزيمة على نحو ما كان العقلاء يحاذرون.

لم يجر استيلاء الحلفاء على بيروت إلا يوم ٧ تشرين الأول أي بعد سقوط عاصمة الشام بثمانية أيام ، فأرسلت الحكومة العربية في دمشق برقية إلى رئيس بلدية بيروت بأمر الأمير فيصل غداة وصوله إلى دمشق تأمره فيه برفع العلم العربي ، ووصل إلى بيروت من دمشق اللواء شكري باشا الأيوبي تحف به شرذمة من الفرسان ، واحتل دار الحكومة ، وبعد أربعة أيام وصل القائد الإنكليزي وأمر اللواء العربي بالعودة إلى دمشق ، وأنزلت الراية العربية وعين الكولونل بياباب الفرنسي حاكما على بيروت ، وأخرج الفرنسيون جندا إلى البر بين تصفيق الأهالي ولا سيما أبناء الطوائف الغربية ، ثم صدر أمر القائد اللنبي إلى الأمير فيصل أن يحتل جيشه حمص وحماة وحلب ، وكانت الجنود الإنكليزية والاسترالية تتقدمه أولا ، ففتحت حمص يوم ١٤ تشرين الأول ، وحماة يوم ١٦ ودخل الجيش العربي حلب يوم ٢٥ منه مساء بعد مقاومة خفيفة ومناوشة الفرسان البريطانيين والاستراليين لبقايا الجيش التركي الذي دافع لإشغال الجيش المهاجم حتى يتسنى له الانسحاب من حلب بانتظام وسلام خشية الأسر ، ويتم له نقل الموظفين وعيالهم والنقود والأوراق والسجلات ، وطلب الشريف ناصر بن علي قائد الحملة العربية إلى قائد الفرقة البريطانية الجنرال مكاندرو أن يمده بسرية من جيشه ليضمها إلى فصيلة عربية يمدّ بها السرية التي كان أنفذها لاحتلال حلب فرفض الجنرال طلبه ، وبعد الإلحاح عليه صرح بأن القائد العام أمره أن لا تطأ قدم جندي واحد من الجيش الإنكليزي مدينة حلب إلا بعد دخول الجيش العربي ورسوخ قدمه بها ، وهكذا لم يدخل الجيش البريطاني حلب إلا بعد دخول الجيش العربي بأربع وعشرين ساعة وتأليف الحكومة العربية الموقتة ، وكان آخر ما سقط من الديار الشامية ميناء الإسكندرونة احتلته البحارة الفرنسية يوم ١٨ تشرين الثاني ١٩١٨.

١٥٥

وصرح القائد مكاندرو في خطاب له في إحدى المآدب بحضور المستر مارك سايكس والمسيو جورج بيكو بعد أن أثنى على شمم العرب وذكائهم ونبوغهم وشجاعتهم بقوله : «ومما يلفت النظر أنهم بفرط بسالتهم وإقدامهم سبقونا إلى حلب بيوم كامل أربعا وعشرين ساعة».

احتل العرب قلعة حلب ودار حكومتها ، وقد فقدوا أربعة وخمسين جنديا ، وأحصوا أربعمائة قتيل تركي في الشوارع. وذعر الترك لأنهم أصبحوا بين عدوين الجيش المهاجم والأهالي وانقض زعماء بادية حلب على الجيش التركي ، عندما كان يدافع على سلامته على أبواب حلب ، للسلب والنهب. وفي ٢٦ تشرين الأول بدأ الجيش العربي بمهاجمة الأتراك في القسم الشمالي الذي كانوا فيه من المدينة فأجلوهم وتبعهم فرسان البريطانيين في اليوم التالي فواصلوا الزحف شمالا إلى أن بلغوا المكان الذي تتقاطع فيه سكة حديد بغداد وسكة حديد سورية ، وقد وقعت في قطمة معركة شديدة بين الأتراك والبريطانيين قتل فيها كثير من الفريقين وانتهت بانهزام الأتراك إلى الشمال والجيوش البريطانية تتأثرهم ، والأتراك يرتكبون الفظائع في القرى المستضعف أهلها ، ووقف البريطانيون على كيلومترات قليلة من شمالي حلب ، فأبلغت انكلترا قائد جيوشها بعقد الحلفاء الهدنة مع الأتراك يوم ٣١ تشرين الأول ، وكان الأتراك يتذرعون بالهدنة منذ بدء الهزيمة الكبيرة في فلسطين ، ولكن بريطانيا العظمى سوفت في الأمر ريثما أخرجت الترك من الشام كله بالقوة على ما يظهر ، وبعد الهدنة ظلت شراذم من الجيش التركي في حارم وأنطاكية وبيلان وإسكندرونة لم تستطع اللحاق بالجيش المنهزم ، فتفسخت وتخللتها الفوضى ، وانقلبت إلى شبه عصابات تسلب وتنهب وتؤذي الأهلين ، إلا أنها لم تلبث أن انضمت إلى المنهزمين وراء جبال طوروس أو دخلت في الطاعة واستسلمت.

ومن شروط الهدنة مع الأتراك تسليم حامية الحجاز وعسير واليمن والشام وما بين النهرين وانسحاب الجيوش من قلقية عدا من يحافظون على الأمن ، وكان الفريق فخري باشا محاصرا في المدينة المنورة في خمسة عشر ألف جندي ، ولم يسلم إلا عندما جاءه الأمر من حكومته في الإستانة أي في كانون الأول. وبينا كان الأمير فيصل لأول الاحتلال العربي في حلب وردت عليه برقية من

١٥٦

وزارة خارجية بريطانيا العظمى بواسطة المستر اللنبي تطلب حضوره إلى باريز ليشهد مؤتمر الصلح للدفاع عن قضيته ، وعينه والده وكيلا عنه في مؤتمر فرسال ، إذ لم تكن له صفة رسمية ثابتة تخوله حضور جلسات المؤتمر بصفة قانونية ، فقدم للمؤتمر مذكرة قال فيها إننا نعتقد أن سورية هذه المقاطعة الصناعية الزراعية التي يقطنها عدد وافر من السكان من طبقات مقيمة هي بلاد متقدمة تقدما كافيا من الوجهة السياسية يمكنها معه أن تقوم بأعباء أمورها الداخلية ، ونرى أيضا أن الاستشارة والمعاونة الأجنبية ستكون عاملا ثمينا جدا لنمونا القوم ، ونحن مستعدون لصرف ما يلزم من النقود مقابل هذه المعاونة ، ولا يسعنا أن نفادي مقابلها بجزء من الحرية التي أخذناها قبلا بأنفسنا وبقوة سلاحنا.

سبب سقوط الشام بأيدي الحلفاء :

عجب العارفون لسرعة سقوط الشام في أيدي الجيش البريطاني ، وكيف كان تقدم الجيش المهاجم على مقدار سير خيول الفرسان ، ولا عجب فالجيش مهما بلغ عدده إذا كسرت معنوياته ورأى الأفراد قادتهم يفرون ويختبئون ويرتعدون يدب فيه الفشل ، ولم يكن الجيش التركي في الشام والحجاز أكثر من مائة وعشرين ألفا ، بقي في المدة الأخيرة منه مع ليمان ساندرس الألماني خمسون ألف جندي على حين كان يلزمه مئتا ألف ، وجميع مدافع الترك على اختلاف العيارات لم تتجاوز الثلاثمائة ، ومعظم ما يستندون عليه المدافع النمساوية ثم البطاريات الألمانية ، أما الأعتاد الحربية والقنابل منها بوجه خاص فكانت قليلة جدا عند العثمانيين ، لا يبيحون استعمالها إلا عند الضرورة الماسة ، على حين كان البريطانيون يسرفون لا يبالون في إطلاق القنابر. وقد ألقى لبمان ساندرس التبعة على جمال باشا الكبير فقال في تقرير له إلى وكيل القائد العام : إن كل ما في سورية من إنسان وجماد وحيوان قد تسمم من سوء إدارة جمال باشا وإن الثبات فيها لا يمكن أبدا.

وفي الحق أن سوء الإدارة قضى بأن يجوع الجند المحارب ولدى الدولة أنابير الأطعمة الكثيرة لم ينتفع بها. وما كان يظن أن الجند التركي ، وبه يضرب

١٥٧

المثل بالطاعة والشجاعة ، أن يبدأ بالهرب ، منذ بدت أمارات الفشل والبؤس ، كانوا يهربون زرافات في الجبال إلى آسيا الصغرى وهم لا يعرفون الطريق وأهل القرى يطعمونهم ويلبسونهم ويهدونهم السبل. على أن الثبات أمام الجيش البريطاني لم يعد فيه أدنى فائدة ما دام حلفاؤهم البلغار قد طلبوا الصلح ، وأمارات الانهزام بدت بجميع أعراضها في الساحة الغربية في أوربا.

وقصارى القول أن هذه الحرب كانت على الشام من أشأم الحروب لأنها حاربت وهي تحب السلم ، فكان حربها تبعا للدولة ، وفقدت أبناءها وأموالها وخرب عمرانها. فقد منها نحو عشر سكانها في المعارك والجوع والأمراض أي نحو ثلاثمائة ألف رجل على أقل تعديل وخسرت من حيوانها وشجرها وذخائرها وبيوتها وجسورها ما يساوي الملايين من الدنانير ، ويصعب تعويضه إلا في السنين الطويلة ، هذا ما عدا من قتل من السوريين في الحرب مع الحلفاء فقد تطوع من الشاميين من غير المسلمين مع الحلفاء أكثر من عشرين ألفا منهم خمسة عشر ألفا كانوا في الجيش الاميركاني.

قبض الاتحاديون على زمام السلطنة العثمانية من سنة ١٣٢٦ (١٩٠٨) إلى سنة ١٣٣٦ (١٩١٨) ولم تتخللها إلا أشهر معدودة خرج الحكم فيها عن يدهم إلى الأحزاب الأخرى ، وكان من عملهم الأول إعطاء الحرية لأمة لم تشترك في طلبها بل تولدت من فكرة بعض الأحرار والضباط ، ثم قضوا على تلك السلطنة العظيمة ، وجنوا جنونا عظيما بسياسة تتريك العناصر ، حتى خرجوا عن طور العقل ، ولم يحبوا أن يسمعوا بالعرب والعربية وحقوق العرب ، فضلا عن مراعاتهم وهم نصف سكان المملكة ، وفي أرضهم أشرف معاهدها التي كان سلاطين العثمانيين يبسطون بواسطتها نفوذهم المعنوي على العالم الإسلامي. قامر أنور وطلعت وجمال بالمملكة العثمانية كأنها سلعة في السوق فخسروا رأس المال ، وكانوا يعللون آمالهم أن يضيفوا إليه أضعافا مضاعفة ، وبسقوطهم دب الفشل في الدولة العثمانية نفسها ، وكيف لا يدب وقد خرجت رازحة بديونها فاقدة أكثر من نصف مملكتها.

١٥٨

رأي مؤرخ تركي في انقراض الدولة العثمانية :

نسب أحد مؤرخي الترك المعاصرين أسباب انقراض العثمانيين إلى عوامل كثيرة أهمها في نظره.

(١) انقطاع البطولة من المسلمين وقيام الأتراك سدا أمام النصرانية وبذلك جلبوا عليهم خصومة أوربا النصرانية جمعاء ، فكانت مطارق النصارى تتساقط على رؤوس الأتراك قرونا.

(٢) التغافل عن الوطنية التركية ولم تجعل التركية أساسا لسياسة الدولة ، فصانوا أديان من وجدوهم من القوميات وأبقوا على ألسنتهم ، بل أيدوها وناصروها ، فمنح محمد الفاتح مثلا الروم امتيازات مذهبية ، فأحدث بذلك دولة في دولة ، وارتكب خطأ فاحشا ، وعوضا عن أن يجعلوا المملكة متجانسة صيروها كبرج بابل ، وما قاسته التركية بل هذه الدولة في هذه السبيل مما لا يستطاع تسطيره ، فإن السلجوقيين حافظوا على جميع ما وجدوه في الأناضول من الأديان والقوميات الغريبة ، وجرى العثمانيون على مثالهم فرعوا ما وجد بأعيانه، وما عرفوا ما هو التمثل ، وكانت هذه العناصر كلما وجدت فرصة تستل من بناء الدولة حجرا وتذهب به ، وبصنعهم صارت الحال إلى ما صارت إليه ، وقد اشتهرت ممانعة شيخ الإسلام زنبللي علي أفندي لياوز خان (السلطان سليم) لما أراد أن يسلم الروم ، قاومه باسم الدين ، فبقيت هذه العناصر بحالها لفقدان الدعوة إلى القومية التركية ومكان الشريعة. وهذه العناصر فتحت للأجانب سبيل التدخل في شؤون الدولة الداخلية فكانوا السبب في انقراضها ، ولم يهدأ لهم بال في هذا الشأن ، واجتهدوا في الوصول إليه ، ومن أسباب هذه الذهنية المشؤومة الرأي الأخرق القائل بلزوم الإبقاء على صنف من الرعايا يؤدون الخراج للدولة. وهذا من أساليب العرب وأصولهم

(٣) تدخل الدين في مصالح الحكومة ، وعدم قيام بناء الدولة على ما يجب

(٤) جهل الملوك واستبدادهم وسفاهتهم

(٥) ربيتهم أبناء الصرب والروس والاولاح والأرمن والعرب والأرناؤد والكرج والجركس وغيرهم من العناصر ، ثم تسليمهم أمور الدولة إليهم بدلا من أن يأخذوا

١٥٩

بأيدي أبناء الترك ، وهؤلاء وإن لم يكونوا أتراكا كانوا يبذلون الجهد للقضاء على التركية وإسدال الحجاب عليها ، وكان الملوك يعتصمون بالإسلام فأورثوا بذلك التعصب قوة

(٦) كانت الكنيسة الروسية الأرثوذ كسية عاملة على الانتقام لمملكة بيزنطية فبشعور روسيا بهذا الانتقام ، وحرصها على جعل الأتراك روسا في لغتهم ومناحيهم ، كانت تحارب تركيا أبدا وهذا من جملة أسباب الانقراض.

إلى أن قال : إن الحكومة العثمانية تذرعت بالمعنويات ولم تلتفت إلى الماديات ، وهذا من أعظم خطيئات الترك العثمانيين ، وكان عليهم أن يجمعوا الأتراك بأسرهم تحت علم واحد، وبدلا من أن يجعل العثمانيون حرثهم نسقا واحدا هبوا كالأسود الظمأى إلى أواسط إفريقية يلتمسون السراب عبثا ، ومن طرف آخر انصرفوا إلى أوربا كالطيور التي جعلت قلوبها كالسباع ، فنطحوا برؤوسهم بلا موجب قلاع فينا ثم وقفوا ورؤوسهم دامية. ومن أعظم دواعي الأسف أنهم فتحوا سبيل الرواج للسانين العربي والفارسي ، فداس هذان العنصران لسانهم الخاص أي التركية ، وعبث بالأمة الفقر والجهل الخ. ونحن نقول إن السبب الأعظم تغافل الدولة عن تقليد الغرب في الماديات والمعنويات فظهر على توالي القرون الفرق بين الخامل والعامل ، وكان تركيب الدولة من عناصر مختلفة ، ومعظمه كان في بدء أمرها من غير المسلمين ، من جملة الدواعي في عدم تركيبها تركيبا مزجيا ، خصوصا ومعظم تلك العناصر أرقى من الترك الأصليين عنصرا وأعظم تاريخا ، ولا عيش للمتوسط مع الذكي ، وإذا أخضعه لسلطانه بالقوة فإلى حين.

١٦٠