خطط الشام - ج ٣

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٣

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٧٠

وهم مقدمة الصهيونية الذين كانوا يحاولون أن يقيموا بناء القومية اليهودية في فلسطين ويعيدوا لصهيون أي القدس مجدها بإنشاء المعبد الذي خرب وعرش داود.

انسيال الدروز على جبل حوران ووقائعهم :

مضت قرون على لبنان قبل منحه استقلاله النوعي عقيب حوادث الشام وهو بؤرة الفتن ، ومنبعث الثورات والقلاقل ، لأنه كان فيه كتلتان عظيمتان بل دينان مختلفان الموارنة والدروز. كل منهما يريد التوسع في السلطة ، وكل منهما تعلم الطاعة لرؤسائه وعقاله ، يسير بقيادتهم يوم الكريهة ، أو يجتمع تحت لواء صاحب إقطاعه راضيا مختارا ، وكل منهما يستمد من قوة غريبة. والموارنة أقدم استمدادا وصلات بالأمم اللاتينية من جيرانهم ، وجيرانهم أشد بأسا وأكثر مضاء أثبتوا ذلك في مقاتلتهم الصليبيين ، فكان قتالهم لهم أشد من مناجزة بعض الطوائف الإسلامية من سكان أرجاء الساحل لهم. فلما وقع ما وقع في حوادث لبنان عام (١٨٦٠ م) قضت الطبيعة على بعض رجال طائفة الدروز أن يهاجروا إلى جبل حوران فرحلوا إليه في فريق من إخوانهم أهل وادي التيم والجبل الأعلى وصفد وعكا وغوطة دمشق وإقليم البلان وكان منهم طائفة فروا من وجه القضاء في الأصقاع الأخرى ، وآخرون أتوا حوران بدافع الحاجة ، فكثروا سواد من كانوا حلوا في هذه الربوع أيضا من أبناء مذهبهم ، وأول نزول الدروز في حوران بعد وقعة عين دارة المشهورة في لبنان سنة (١٧١٠ م ١١٢٢ ه‍) فتألفت كتلة منهم هناك وقويت عقيب حوادث الشام ، وأخذ الدروز يرجعون إلى أخلاق البادية بعد أن أوشكوا أن يدخلوا في الحضارة في اللبنانين الغربي والشرقي. اعتز قدماء الدروز بإخوانهم الذين جاءوهم وأخذوا يجمعون شملهم على عادتهم بإمرة قوادهم ، وكان أهمهم بنو حمدان ثم أسرة بني الأطرش التي أصبح معظم الجبل بتدبير كبيرهم إسماعيل الأطرش خاضعا لهم ، وسلطة هذا البيت تتناول أكثر أنحاء الجبل والأكثرية معهم على الأغلب. ومنذ نزول الدروز في حوران ما برحوا يناوشون النصارى والسنيين من أهل القرى والبادية

١٠١

القتال ، حتى استقلوا به استقلالا تاما ، وكانت أول وقائعهم المشهورة بعد وقائع إبراهيم باشا ما حدث سنة ١٢٩٦ بينهم وبين أهل بسر الحريري من أجل فتاة ، فهجم الدروز على بسر وقتلوا من أهلها ثمانية أو عشرة أشخاص وقتل من أهل بسر خمسة أثناء الدفاع عن أنفسهم، وعند ذلك تجمع الحورانيون ألوفا ، وأراد مدحت باشا أن يجيب الحورانيين إلى مطالبهم وهي إنزال العقوبة بثلاثة وعشرين رجلا من الدروز ، فأبى الدروز إلا أن يعطوا دية عن القتلى، وقصد أن يسوق قوة على حوران للتهديد لا للضرب ، ثم حلت المسألة صلحا.

قال عثمان نوري في تاريخه : وعقيب ذلك طلب مدحت باشا إعفاءه من ولاية سورية ، فاغتبط عبد الحميد بذلك لأنه كان يرى أن بقاءه طويلا في هذه الديار لا يجوز ، لأنه تذرع بعمرانها وهو منه موجس خيفة على الدوام. وقال كان النزاع والجدال قائمين على ساق وقدم بين أهالي سورية المتباينين في الدين والجنس ، فلما وليها مدحت باشا دخلت في طور السكينة والأمن ، ولا سبيل إلى تقرير الحكم العثماني في أرض تتأثر فيها الأفكار بالنفوذ الأجنبي إلا بانتظام الإدارة وإجراء العدل وتنظيم المالية ، وهذا ما عمله مدحت باشا. وكان عبد الحميد يرائيه في كل ما يرتئيه ، ويحول دون أمانيه ، بحيث أن السلطان لم يكن يتوقف ساعة عن بث بذور الاضطراب في الولاية لينتقم من مدحت باشا ، وذلك بتحريض مثل المشير أحمد أيوب باشا وجميل باشا عليه ا ه.

انتهت مسألة الدروز بعد أن ساقت الدولة عليهم قوة إلى القراصة من عمل نجران وقتلت منهم ستمائة واستأمن الرؤساء ، ولم يكن سواد الدروز في الجبل إذ ذاك أكثر من عشرة آلاف ، وتسمى هذه الوقعة بوقعة القراصة وهو ماء قرب نجران ، ولما لم تحسن الدولة الإدارة في الجبل زادت جرأة الدروز إلى أن كانت سنة ١٢٩٨ فهجموا على قريتي الكرك وأم ولد وذبحوا سكانهما على بكرة أبيهم ولم يبقوا حتى على الأطفال الرضع ، فسيقت عليهم حملة بقيادة المشير حسين فوزي باشا أسفرت عن ربط دية شرعية مقسطة عليهم ، وتأسيس قائم مقامية جبل الدروز مؤلفة من ثمان نواح وتعيين القائم مقام والمديرين منهم.

كانت الدولة تقاسي الأمرّين في تأديب عصاة الدروز كل مرة. قال مدحت باشا في مفكراته سنة ١٢٩٧ والذي زاد في الطين بلة أن فرنسا تحمي الموارنة

١٠٢

الكاثوليك وانكلترا تتشيع للدروز ، وكل هذا من السياسات التي تريد بها هاتان الدولتان توسيع نفوذهما في سورية أو ضرب إحداهما بالأخرى ، فلما أخذت الدولة أهبتها لتأديب الدروز قام سفير إنكلترا في الإستانة يشكو من ذلك ، ويكرر التردد على المابين والباب العالي فأصبحت الأوامر ترد تترى بحل هذه العقدة حلا سلميا».

ومن جملة تدخل فرنسا أنها تجاهرت بحماية يوسف كرم قائم مقام النصارى في شمالي لبنان لما ثار على متصرفه داود باشا لما أراد زيادة خراج لبنان من ٣٥٠٠ كيس إلى ٧٠٠٠ كيس ليزيل العجز من موازنة الجبل فنال من عسكر المتصرف فاستنجد هذا بواليي دمشق وبيروت فأرسلا إلى متصرف الجبل زهاء عشرة آلاف مقاتل فسارت إلى كرم. وعندها تدخل قنصل فرنسا في الأمر ومنح الحماية الفرنسية ليوسف كرم فركب من بيروت على دارعة قاصدا إلى فرنسا وكان ذلك سنة ١٨٦٦.

المصلح مدحت باشا وطبقته من العمال :

اضطر مدحت باشا أن يتخلى ويا للأسف عن ولاية سورية وقد طبق مفاصل الإصلاح في أرجائها الواسعة على أسرع ما يمكن ، أنشأ الطرق والمكاتب والمدارس ونشط الصناعات والزراعة ، وضرب على أيدي المرتشين ، ونشر الحرية الشخصية ، ولقن الحكام والمحكوم عليهم دروسا في الوطنية والشعور بالواجب وكان يرجى للشام أن تسبق الإستانة في الحضارة بفضل إصلاحاته لو طالت أيامه وأيام غيره من الولاة المقتدرين أمثال ضيا باشا في دمشق ، ورستم باشا وداود باشا في لبنان ، وكامل باشا في حلب ممن كانوا بسيرتهم معلمين للحكام ، وضعوا لهم أصول الإدارة ، وحرصوا حقيقة على إمتاع الناس بالعدل وأعمال العمران ، فكانوا حجة على الدولة بأنها تستطيع الإصلاح إذا أرادته على قلة الرجال لديها على شرط أن تتركهم يعملون بوجداناتهم وعقولهم ، وما عهد إليهم تنفيذه من القوانين الكافية بمعرفة أرباب النزاهة من رجال الشام.

وقد تعاقب على دمشق خلال هذا القرن ٦١ واليا وعلى حلب ٥٢ واليا

١٠٣

وهكذا سائر المتصرفيات الثانوية ، لا يسلم الوالي إلا ريثما يودّع ، والطيب منهم هو الذي لا تطول أيامه خاصة ، لأن حساده كثيرون في الإستانة وفي الولاية التي يتولاها وتقارير الجواسيس عند عبد الحميد مقبولة لا ترد ، والدولة يصعب عليها أن تتفلت من قيودها القديمة قيود حكومة القرطاسيات أي المفاوضات الطويلة بالورق ، فإذا رأت رجل جد من أبنائها يحاول أن يعلمها الصواب في المعاملات ، لا تلبث أن ترميه بكل شنعاء ، وكان حظ النوابغ في كل دور من أدوار العثمانيين ولا سيما في العهد الحميدي أن يغض منهم ويسعى إلى التخلص من إصلاحهم ومراميهم ، ولسان الحال يناديهم لا نحب أن نخرج عن مألوفنا العاطل المجمع على عطله ونؤثر أن نموت فيه على سلوك سبل التجدد :

من يهن يسهل الهوان عليه

ما لجرح بميت إيلام

١٠٤

العهد العثماني

«من سنة ١٣٠٠ إلى سقوط عبد الحميد الثاني»

الحالة في مبدإ القرن الرابع عشر وإصلاح جبال النصيرية والسبب في خرابها :

غدت الدولة العثمانية أوائل هذا القرن قوية الشكيمة لسرعة الاتصال مع دار السلطنة، وتشعب الأسلاك البرقية وطرق البريد ، وشدة مراقبة دول أوربا لأعمال السلطنة ، وتسابق الدول في تأييد نفوذهن في الولايات. وامتاز لبنان الذي كان يكثر ترداد اسمه بثوراته وإقطاعاته الحين بعد الآخر ، بأن انقطع ذكره بعض الشيء من باب المسائل المزعجة ، وأصبح يعمل لنفسه بما متع به من امتياز خاص ، ولم يعد الدرزي والماروني فيه يقتتلان كما كانا في القرن الماضي لتأييد سلطان ملك أو أمير ، أو للأخذ بيد صاحب الإقطاع أو حبا بالغارة والنهب والقتل.

ونشبت فتن في جبال النصيرية لأن هؤلاء لم يتأت لهم نصير من الغرب كما قام للبنانيين يأخذ بأيديهم إلى السعادة التي يتخيلها لهم ، ويسوقهم إلى طريق الحكم الذاتي ولو على صورة ابتدائية ، وكان أهل السنة المجاورين للنصيرية ينظرون إليهم نظر الازدراء ، وهم في جبالهم يعدون قوة يحسب حسابها ، وإذ كانوا طوع إرادة مشايخهم ورؤساء قبائلهم كانت سلطة الدولة عليهم قليلة. وإذا كتب للدولة ان أحرزت بعض سلطان عليهم في الشواطىء البحرية أو في الأماكن القريبة من ضفاف العاصي من جهة الداخل ، فإن أعالي الجبال كانت معتصمهم ، وربما كان فيها أماكن لم تدسها حوافر الخيول التركية لوعورة مضايقهم ، وقد أرسل السلطان عبد الحميد رجلا من خاصته اسمه

١٠٥

ضيا باشا جعله متصرفا على لواء اللاذقية في مبدإ هذا القرن فرفع عن النصيرية الظلم ، ووسد الحكم لبعض مشايخهم ووجوههم ، بأن جعلهم أعضاء في المحاكم والمجالس ليشعر نفوس قومهم العزة بعد الامتهان والذلة ، وأنشأ لهم جوامع ومدارس فأخذوا يتعلمون ويصلون ويصومون ، وأقنع الدولة بأنهم مسلمون فلم يعصوا له أمرا ، ونفس من خناقهم فبدأوا يشعرون بأنهم بشر كسائر مواطنيهم وأنهم شركاء في هذا القطر لهم فيه حقوق سائر أرباب المذاهب وبعد أن ترك هذا المتصرف العاقل منصبه الذي دام بضع سنين على أحسن ما يكون ، مع أنه كان بعلمه في درجة الأميين ، خربت المدارس وحرقت الجوامع أو دنست ، وكانت الدولة في أكثر أدوارها لا تأخذ من معظم إقليم النصيرية شيئا يذكر من الضرائب ، والقائم مقام الذي يجبي منهم ضريبة السنة أو بقايا ضرائب السنين السالفة تصفق له الدولة وينال تقدير ولاة الأمر فيشرفونه برتب الدولة ومراتبها ، وكانت جباية خمسين ألف قرش من النصيرية تستلزم إعداد حملة عليهم ينفق عليها ما يقرب من المبلغ المجبي أحيانا.

قلنا : إن النصيرية كانوا ينظر إليهم نظر ازدراء. وقد سألنا عالم جبلهم في أيامنا الشيخ سليمان الأحمد عن رأيه في الحوادث الأخيرة ، فكتب إلينا يقول ما نثبته بالحرف لأن قوله حجة في هذا الباب قال : «كان أهل الحاضرة (اللاذقية) في هذا القرن يعدون ما يفعله جهلة العلويين (النصيرية) بفتيا علماء الدين ، فيعصبونه بهم لدى الحكام ويغرونهم بهم وبالرؤساء ، ويحرضونهم على الفتك بهم بكل واسطة ، وكان الدين أعظم الوسائط التي توصل بها إلى هذه الوحشية والبربرية (ومن جري ذلك المصاب العظيم الذي وقع على آل سعيد البهلولية من أشرف وأجل البيوت العلوية في حادثة سنة ١٢٩٥) وما كان العلويون ليحملوا وزر مصائبهم على الدولة التركية ، بل على وجهاء البلد ورؤسائه السنيين وعلمائهم ، ثم على أهل الفساد من مقدميهم ورؤسائهم الذين كانوا يسارعون لما بين عشائرهم من الضغائن والأحقاد والغارات إلى الدخول بخاطر الأغوات ثم بخاطر الحكام عن أيديهم ، ومن تم له الفوز جردت له الحكومة العساكر الجرارة ، وسلمته قيادتهم الفعلية فيسطو بهم وبعشيرته على عدوه. ولا تسل عما تفعل الهمجية. ومتى دوخت تلك العشيرة وقتل أشرافها

١٠٦

وذللت ، عاملت الحكومة العشيرة الظافرة نفس تلك المعاملة دواليك ، حسبما تقتضي سياسة التفرقة والأحوال. ولا أدري إلى أي عصر تمتد سلسلة هذه الروايات المحزنة التي نرجو من الله أن يحسم أسبابها بأيدي المصلحين. والتبسط في شرحها لا يجدي أو لا ينتج إلا أن الشرقيين هم السبب الأعظم في بلاء أنفسهم وحجة الله فيه على المتسمين بسمات الدين ، وتلك حزازة في نفوس المصلحين.

والذي أراه أن قدم الحكومة التركية لم ترسخ في جبال العلويين حق الرسوخ وخاصة في مقاطعة الكلبية ، وكانت الحكومة إذا أحرجت جردت العساكر فنهبت وسلبت وحرقت وفتكت ، فإذا رجعت العساكر ، عادت العشائر إلى ما كانت عليه ، يضبط الحاكم الحازم جماحهم ، ومتى بدل بحاكم ضعيف الإدارة أو مرتش ، عم البلاء من الرؤساء الفسدة والأشقياء الجهلة. لما حكم إبراهيم باشا المصري قطع دابر أهل الفساد ، وضرب الأمن أطنابه بحيث لم يكن يسمع في عرض البلاد وطولها نهب ، ولا قطع سبيل ، فرتع الأنام في بحبوحة الأمن مدة حكمه الذي كان مع صرامته نموذج العدل والإنصاف ، فلما دالت دولته حصل من اختلال الأحوال ما لا يحصره المقال ا ه».

فتن درزية وفتن أرمنية :

كان يظن بعد أن خمدت ثائرة الفتن في لبنان وما إليه من جبل اللكام أن الناس يرتاحون من الحملات والغارات إلا ما كان من غزو البادية بعضهم مع بعض فإن ذلك من المتعذر لأنه مرض قديم مستعص نشأ قبل الإسلام بقرون ، ولم تقو جميع الحكومات التي تعاقبت على الشام أن تقضي عليه وتستأصله من أصوله ، بيد أن القوة التي أحرزها جبل حوران بالدروز الذين هاجروا إليه جعل من الجبل موطن غارات وغزو ، وأصبح هذا الجبل إبرة سفينة الأمن في الشام ، وكان يتلبس بهذه الصفة جبل لبنان في القرون الماضية فيتعب سائر الأرجاء الشامية ، ويضطر الحكومة أن تتقي شره بإثارة أهل الجوار عليه ، وإلقاء الخلاف بين أمرائه ومشايخه.

نشبت فتن في جبل حوران في أعوام مختلفة ، وكثيرا ما كان بعض أشقياء

١٠٧

الدروز فيه يطيلون أيدي الاعتداء على سكان حوران والغوطة والمرج وجبل قلمون ، فيتحد أشقياء المقرن القبلي منه مع عرب السردية ويغزون في البلقاء وما إليها قبائل بني صخر والحويطات والسرحان وقرى حوران الجنوبية ، وينضم أشقياء المقرن الشرقي إلى عرب الصفا يغزون تجار بغداد ودير الزور ، ويتحد أشقياء المقرن الشمالي مع عرب الحسن ويهاجمون قرى جبل قلمون والنبك وحمص ، ويتحد بعضهم مع عرب اللجاة فيسلبون قرى سفوح جبل حوران ويقتلون الموظفين ويمثلون بالعسكر إذا خلوا بهم ، ولا يدفعون الأموال الأميرية ، وبذلك تأيدت شوكة الدروز وخافهم جيرانهم من أهل القرى والبادية ، وتخوفت الدولة عاقبة أمرهم للرابطة القوية بين أفرادهم ، وهم إذا جاءهم الغريب ، والدماء تسيل بينهم كالسيول ، لا يلبثون أن يكونوا عليه يدا واحدة ويصدقوا قتال عدوهم المشترك ، بما فيهم من شمم وإباء عربي وعند الشدائد تذهب الأحقاد.

رأى الدروز في سنة ١٣٠٤ وقد ارتاشوا وتأثلوا ونما عددهم أن يستولوا على قرى اللجاة للتحصن بها عند الإيجاب واستثمار ما يمكن استثماره منها فاحتشد نحو خمسمائة فارس منهم بقيادة شبلي وفندي الأطرش ، ووصلوا إلى المسمية وهاجموا قلعتها فردوا عنها. وفي سنة ١٣٠٨ انقسم دروز حوران إلى فرقتين المشايخ والعامة وزادت بينهم العداوة والبغضاء فأدى ذلك إلى حدوث وقائع متعددة ودخل بعض المشايخ إلى قلعة المزرعة فأرسلت عليهم ست كتائب مشاة وألاي فرسان مع مدافع ، وفي أثناء مغادرتهم ثكنة المزرعة تعرض لهم العامة فقابلهم العسكر بالضرب ، فانهزم الدروز بعد أن تحملوا خسائر كلية ودخل الجند السويداء وأسرعوا ببناء ثكنة عسكرية. وتعرف هذه الوقعة بوقعة العامة ونال الدروز من الجند في سنة ١٣١١ في طريق المزرعة وحاصروا قلعتها ثلاثة أيام. وفي سنة ١٣١٣ هجم الدروز على قرية الحراك وقتلوا أكثر أهلها وهدموا جامعها الحصين ونهبوها مع قرى المليحة الغربية والمليحة الشرقية وحريك ودير السلط وكحيل فأرسلت الدولة عليهم (١٣١٤) حملة بقيادة أدهم باشا ولما بلغ أول حدود الجبل تعرض له الدروز فقابلهم العسكر بالمثل ، وبعد وقعة القراصة ونجران والسجن وأم العلق دخل العسكر السويداء.

١٠٨

ولو وضعت الإصلاحات الإدارية موضع العمل بجد ونشاط لاستقام الأمر كثيرا ، ولقلت الفتن التي تقع بين الرعايا والعمال.

وكانت الحكومة سنة ١٣١٥ تتذرع بتطبيق أصول الأعشار بصورة الأمانة على حسابها ، فقتل الدروز ضابطا كبيرا مع ثلاثين جنديا في عرمان ، ومدير ناحية صرخد ورفقاءه من الدرك ، وأكثر حراس الأعشار في جميع قرى إلجبل فأرسلت عليهم الحكومة مفرزة مؤلفة من أربعمائة جندي وفي رواية درزية أربع كتائب قتلوها بالفؤوس والسيوف إلا قليلا في محل يدعى العيون قرب عرّمان وغنموا مدفعين وجميع الأسلحة والذخيرة وحاصروا ثكنة السويداء ٢٨ يوما ريثما وصلت القوة العسكرية بقيادة المشير طاهر باشا مؤلفة من ٥٤ كتيبة ، وحدثت بينهم وبين كتيبتين كانتا في آخر القوة حرب دامت ست ساعات وانهزم الدروز في وقعة الشهبة. وخوفا من وقوع قتل عام رجع العسكر عنهم. وفي هذه المرة قبضت الحكومة على ستمائة رجل منهم مائتان من رؤساء العصابات ، ونفتهم من الشام ثم أرجعتهم مكرمين من الإستانة فابتاعوا بالدراهم التي نالوها من إحسان الدولة سلاحا في طريقهم ليقاتلوا به عمالها.

وفي سنة ١٣١٩ ساقت الدولة على الدروز قوة من الفرسان والمشاة إلى الصفا واللجاة للتنيكل بهم ، واسترداد ما سلبوه من المواشي وغيرها. وفي سنة ١٣٢١ وقع خصام بين طائفتي الحلبية والمغوشين من الدروز أسفرت عن قتل أكثر من أربعين شخصا ، فأرسلت الحكومة ثلاث كتائب لإجراء التحقيق. وهكذا توالت وقائع الدروز وأكثرها في مقاومتهم للدولة كلما أرادت أن تدخلهم في الطاعة ، وتجري عليهم الأحكام التي تجري على جيرانهم من أخذ رسوم الأغنام ، وتسجيل الأملاك أو النفوس أو أخذ الأعشار. ولكم جرت وقائع لذلك في قنوات ومفعلة والشوفي والحجلة والكفر ونجران ، وكم من وقائع بين المساعيد والعزام وبين بني الأطرش الدروز وبني المقداد السنيين. وبعد جهاد أربعين سنة أصبح الدروز في جبل حوران الأكثرية المطلقة بعد أن كانوا أقلية في أواخر القرن الماضي وزادت نفوسهم ستة أضعاف عما كانوا قبل خمسين سنة.

١٠٩

الحملات على جبل الدروز وعلى الكرك :

وفي سنة ١٣٢٤ اعتدى دروز حوران على عرب المعجل فغزا الدروز المعجل في النقرة من حوران فقتل المعجل منهم نحو سبعين رجلا ثم اعتدى المعجل على قافلة درزية وقتلوا رجلا من أكابر بيوتهم بالقرب من براق ، فهاجمهم الدروز في ضمير من مرج الغوطة وقتلوا نحو أربعمائة من العرب ، وأبقوا على النساء ، وفي سنة ١٣٢٨ غزا دروز حوران جيرانهم أهل قريتي معربة وغصم وسكانهما مسلمون ونصارى على أثر خصام وقع بين نواطير القرية ونواطير بصرى على الكرم فقتلوا ٥٩ رجلا وامرأة عدا الجرحى ونهبوا القسم الأعظم من قرى السهوة وجيزة وسماقية وطيسة ، فأرسلت عليهم الدولة حملة مؤلفة من ثلاثين ألف جندي بقيادة سامي باشا الفاروقي فضربهم ضربة خفيفة قتل فيها زهاء ألف رجل منهم ونحو مئة وخمسين من الجند وأحرقت بعض القرى ولا سيما الكفر أهمّ موقع حربي في الجبل وحواليها دار معظم القتال ، وغنم الجند والضباط ما فيها من متاع وحلي وأرزاق مما حشره الدروز فيها من أنحاء الجبل ، ولم تستفد الدولة من هذه الحملة إلا احصاء نفوس الجبل ، واستأمن الدروز فحكم على بعض زعمائهم وأشقيائهم بالصلب فصلبوا في دمشق وجند بعض شبانهم وعفي عن بعض المجرمين وجرم بعض الأبرياء. وهكذا غرمت الدولة والأمة حتى امتلأ صندوق القائد فيما يقال ولم تنفذ خطط الإصلاح التي وضعت على العادة في كل مرة ، ومنها ما يرضى به الدروز لكن تطبيقه يحتاج إلى إخلاص وحكمة. وقد أبان الدروز في هذه الحرب شأنهم في أكثر حروبهم وغاراتهم عن مهارة في الفنون الحربية وشجاعة متناهية.

وأرادت الدولة في تلك السنة أن تحصي نفوس سكان لواء الكرك كما أحصت سكان لواء حوران ، فانتقض أهل الكرك على الدولة لأنهم بادية على الأكثر والبادية تخاف الجندية أكثر مما يخاف منها أهل المدن والمزارع لأن عهدهم بالحكومة حديث وصعب التأليف بين طبائعهم ومعاملة الموظفين الفاسدين وكان لواء الكرك أسس في سنة ١٣١١ على سيف البادية بين الحجاز والشام ، وقد ثبت للدولة أن المرسلين يعملون بنشاط لتنصير تلك الأصقاع ، وكان ذاك الإقليم من قبل بعيدا عن كل سلطان ويحكمه رؤساء عشائره ، ولم يكن أكثر قراهم

١١٠

معمورا مأهولا ، وكانت ديارهم كأنها قطعة من الحجاز القاحلة لا الشام الخصيبة ، وصادف أن قطعت مرتبات عرب بني صخر والخرشان وغيرهم من أهل الوبر ، فقام البدو الذين حرموا رواتبهم وهي أربعة آلاف ليرة في السنة ، وسطوا على بضع محطات السكة الحديدية الحجازية على طول أكثر من مائتي كيلومتر في أرض اللواء ، ونهبوا قطارا بحمولته وقتلوا وجرحوا بعض موظفي الخط ، وقام الكركيون باديهم وحاضرهم وأطالوا يد الاعتداء على التجار والموظفين والحامية فقتلوا منهم نحو ١٥٠ إنسانا ، ولو لم يلجأ أكثرهم إلى قلعة الكرك لهلك في هذه الفتنة بضع مئات وحرقت الأماكن الأميرية كلها ونهبت خزانة الحكومة ودور الموظفين وأحرق قسم منها ، وخرب قسم عظيم من المدينة (٥٤٩ دارا) بإطلاق القلعة المدافع عليها وقطع العصاة الأسلاك البرقية وهاموا على وجوههم في البراري ، وبعد أن جاء المدد للمحصورين في القلعة قبضت الدولة على عشرات من الثائرين عدا من قتلتهم هناك صبرا وحكمت عليهم بأحكام مختلفة وأكثرهم بالقتل. ولم يشترك أهالي معان والطفيلة في هذه الفتنة ، وكانت النية أن يقوموا مع الكركيين في يوم واحد. وجرت وقائع بين عسكر الدولة وعرب المجالي وبني حميدة وابن طريف وكورة وسليط وغورين وكثر ربا وعراق وخنزيرة والمعايطة وعبيد وجلامدة وأغوات بالقرب من قرية كفر ربة استسلم فيها بعضهم ، وبلغ عدد القتلى من الكركيين نحو ألفي نسمة. ولم يحدث بعد هذه الوقعة شيء يذكر في أرض الشام اللهم إلا هياج العربان للغارة والنهب في الشمال والجنوب ، وكانت الدولة تسوق عليهم قوى خفيفة تارة ، وتتركهم وشأنهم تارة أخرى ، خصوصا إذا لم يقع منهم على أهل المدن والقرى اعتداء مباشرة ، ولم يتدخل قناصل بعض الدول لمأرب لهم ، كأن يكون في القتلى بعض النصارى أو أن تقضي السياسة بأن يوجدوا مسألة جديدة تحب دولة ذاك القنصل استثمارها في دار الملك.

ومن الحوادث التي وقعت في سنة ١٣٢٤ (١٩٠٦ م) الخلاف الذي وقع بين الحكومة المصرية والحكومة العثمانية على حدود الشام وعقدت بينهما المعاهدة المعروفة بمعاهدة رفح وتعين الخط الفاصل الإداري بين ولاية الحجاز ومتصرفية

١١١

القدس وبين شبه جزيرة طورسيا ، وكان للصحف الوطنية المصرية حملات على بريطانيا بهذا الشأن.

رأي في دلال الدروز والنصيرية على الدولة :

وفي الحق أن مسألتين في هذا القطر شغلتا الأفكار خلال هذه الفترة : مسألة النصيرية في الساحل ، ومسألة الدروز في الداخل. أما المسألة الأولى فمما يحدث له أمثال في كثير من الأقطار ، وتنتهي كل ثورة بصلب بعض أرباب النفوذ والسيطرة وتخريب بيوت الثائرين والساكنين. ورابطة النصيرية وتعلقهم بمشايخهم أقل من رابطة الدروز وهي أقرب إلى الحل إذا انعقدت. ثم إنهم ليسوا من المعرفة بحيث يتطالون إلى تأييد سلطانهم ، أو تحدثهم أنفسهم بالاستقلال عن الدولة ، إذ لا ملجأ لهم من الأمم الغربية يرجعون إليه ويصدرون عنه ، ولكن هل كان دروز حوران مثلهم يا ترى؟ بعد أن حاول إخوانهم غير مرة أن يقيموا لهم حكومة مستقلة في لبنان ثم انسالوا على جبل حوران يحاولون الاستقلال بربوعه ، والابتعاد عن سيطرة عمال العثمانيين في هذا الجبل الذي ينتهي العمران به وتبدأ البادية المترامية الأطراف؟. إن ظواهر الحال تدلّ على أن الدروز في جبل حوران حاولوا منذ عهد إبراهيم باشا المصري أن ينزعوا أيديهم من أيدي حكام القطر ويستمتعوا بامتياز لهم خاص ، لأنهم يثقل عليهم حكم غيرهم في الجملة ، وبين عامتهم وعامة غيرهم فروق في الآداب العمومية والأخلاق والعادات ، وإذا ثاروا يعرفون السبب في ثورتهم ، لأن مشايخ العقل منهم يلقنون أجاويدهم ، وأجاويدهم يلقنون عقالهم ، وعقالهم يلقون عامتهم كل ما ينفع في شؤونهم العامة فكانوا يرضون عقيب كل فتنة أن يتفقوا مع الدولة على مال معين يؤدونه للسلطنة ، ثم لا يلبثون أن يمتنعوا عن أدائه مع أن الجبل الذي تملكوه بالسيف أو بالشراء بأثمان زهيدة من جيرانهم المسلمين والنصارى هو من الخصب بحيث لا يصعب عليهم أن يؤدوا الأعشار والأموال المطلوبة أو جزءا من الضرائب التي يدفعها سائر الحورانيين ، ولعلهم أو بعض مشايخهم كانوا يدلون على الدولة بما لهم من عطف بريطانيا عليهم فيتوهمون

١١٢

أن ينشئوا لهم في صميم الشام دولة صغرى ناسين جميع الاعتبارات التي كانت تحول دون أمانيهم ، وتهيب بالدولة إلى مناجزتهم القتال كلما حاولوا أن يرفعوا رؤوسهم.

وكانت الدولة هي التي ساعدت على تعاقب ثوراتهم وتسلسل شقاواتهم واستلذاذهم بالحروب ، لأنها اتخذتهم آلة في لبنان ووادي التيم وحوران للانتقام من عدوها إبراهيم باشا واستخدمتهم آلات لها في مذابح سنة الستين. ودفعتهم في طريق الشقاوة والمقاومة بمالها وسلاحها فظنوا أنفسهم قوة مهمة لا تقف أمامها قوى دولة ، وعرفوا أنهم إذا ظفروا كان لهم ما يريدون ، وإذا غلبوا يحسنون مداراة رجال الدولة ، ولهم من بريطانيا العظمى على كل حال دولة تسأل عنهم وتعنى بمصالحهم ، فلهم أن يدلوا على جيرانهم وعلى الحكومة.

وكان الشعب في معظم الأرجاء يستخف بعامة الدروز إذا اختلفوا إلى الحواضر ، وإذا ذكروا يذكرونهم كما يذكرون النصيرية بالسخرية والمهانة ، فيشق ذلك على جماعتهم خصوصا والدروز لم يفقدوا أصولهم العربية ومن شأنها الشمم والإباء ، فكانوا يصعب عليهم سماع ما يصمونهم به ، وربما كذب الناس عليهم ونسبوا اليهم أمورا ليست من مذهبهم ولا من عاداتهم ، كذبهم على النصيرية أيضا. وكان لبعض المشايخ المتعصبين في الحواضر يد في إلقاء هذه الكراهة وهذه النفرة بين هاتين الشيعتين وبين الأكثرية من أهل السنة ، الذين انشقوا منهم ، ولعل الحكومة كانت تتعمد ذلك ولا يسوؤها فتغضي عما كان النصيرية والدروز يسامونه من الذل ، وتفسح المجال للعامة والمشايخ البله أن يعاملوا مواطنيهم تلك المعاملة المؤلمة على النفوس الأبية ، فيقابلها الدروز بمثلها يوم يكون لهم السلطان المطلق في جبلهم وأرضهم.

ولو كانت الدولة بذلت شيئا من العناية بهذين الشعبين الجبليين في الساحل والداخل ، كأن تنشر بينهم التعليم الابتدائي ، وتعطف على كورهم فتصلح طرقها ، وتدخل عليها ما يمكن من أسباب النجاح لاستغنت هي والأمة عن مقابلتهما ، وهم بعض أبنائها ، بالسيف والمدفع لتعيدهم كلما نشزوا إلى حظيرة (٣ ـ ٨)

١١٣

الطاعة ، ولو دخلت المدنية على دروز جبل حوران ونصيرية جبل اللكام ، كما دخلت مثلا على دروز جبل لبنان ، لكان من هذين الشعبين العربيين خلقا وخلقا قوة في الشام ، ولما استحكم هذا النفور الذي كان من أثره ما ظهر في العهد الأخير يوم رضوا بأن ينزعوا أيديهم من أيدي جيرانهم ، مع علمهم بأنهم شركاء متضامنون في هذا القطر المحبوب.

١١٤

العهد العثماني

«من سنة ١٣٢٦ إلى ١٣٣٦»

الدستور العثماني وثورته :

منذ أقفل السلطان عبد الحميد سنة ١٢٩٤ المجلس النيابي وعطل الأحكام الدستورية ما برح بعض أحرار العثمانيين تركهم وأرمنهم وعربهم وأرناؤدهم ، يتأففون من حالة الدولة ويدعون سرا ، إذا لم يمكن الجهر ، إلى المطالبة بإعادة هذا المجلس ، وقد أسسوا للوصول إلى هذه الغاية جمعيات سرية في بعض ممالك أوربا ومصر ، جعلت لها فروعا في بعض الولايات العثمانية وعملت في الخفاء زمنا ، والسلطان يصمّ آذانه تارة ، ويتصامّ عن هذه المطالب المشروعة تارة أخرى ، ويعاقب من يقتدر عليه من هؤلاء الدعاة إن كانوا في قبضته وتحت علمه بالنفي والتغريب ، أو بالمداراة وإغداق الأموال والرتب على بعضهم إذا كانوا بعيدين عنه. وأهم جمعية ألفت لهذا الغرض جمعية الاتحاد والترقي ، تشعبت فروعها في أنحاء السلطنة وقويت في بث دعوتها في الشام حوالى سنة ١٣١٤ وما برحت على ضم شملها وتكثير سواد القائلين بقولها وإبلاغ دعوتها في جرائد لها أنشأتها خارج السلطنة ، وكلمة الجمعية تزيد انتشارا كلما اشتد عبد الحميد في إرهاق الداخلين فيها ، ولا سيما في المدارس العليا في الإستانة ، والمدارس العليا مجمع شمل أذكياء الطلاب من الترك والعرب والشركس والأرناؤد واللاز والأرمن والروم ، فإذا عادوا إلى الولايات يضيفون إلى تذمر الأهلين من فساد الأحكام تذمرا ، ويكثرون سواد الحانقين على ذاك النظام الرث القديم.

١١٥

التاثت الأحوال ، وتنكرت الأخلاق ، وبات القول الفصل للرشى والمحاباة والشفاعات ، وغلوا في التجسس والوقيعة ، وكثر الفقر وعم القهر ، وزاد الضغط على الأمة ، ونال الجند حظ وافر من الشقاء ، وغدا المرابطون منهم والغزاة لا يطعمون إلا ما يحفظ عليهم رمقهم فقط ، وكثيرا ما كانوا يهلكون جوعا كما وقع لهم في اليمن مرات ، أو بسوء التدبير كما وقع لكتائب الأرناؤد في دمشق في إحدى الحملات على الدروز ، فهلك مئات منهم لأنهم تركوا في العراء في تشرين الثاني فهلكوا بالزحير ، وقد يخدمون السنين ولا يلبسون ثيابا تقيهم حمارّة الحر وصبارّة القر ، ويطول أمد خدمتهم فيقضون العشر والخمس عشرة سنة لا يسرحون ، خصوصا إذا كانوا في ديار قصية كاليمن والحجاز.

أخذ أحرار الضباط يبثون في الأجناد روح الثورة ، وكانوا مستعدين لقبول ما يلقى عليهم ، فتمرد أولا بعض الجند في آسيا الصغرى ، ثم سرت روح التمرد إلى جند مقدونية. والجنود موقنون أن الدولة لا تهتم بأرواحهم اهتمامها بالبنادق التي يحملونها. واتفق أن ضاقت صدور المسلمين من الأرناؤد في مقدونية من طمع الدول الأوربية فيهم ، وأدركوا أن العثمانية تسلمهم متى عجزت كما فعلت مع غيرهم ، فيقعون في قبضة الحكومات الأجنبية على نحو ما وقع لمسلمي البوسنة والهرسك وبلغاريا ورومانيا واليونان والصرب. فقام الأرناؤد يدا واحدة في مناصرة الجيش المطالب بالدستور ، واتحد الفيلقان الأول والثاني في الروم ايلي ، وتبعهما الفيلق الرابع في كردستان ، وذلك بالاتحاد مع عصابات البلغار. ونادى الضابطان نيازي بك وأنور بك بالدستور ، أو يزحفان على دار الملك ، فلم يسع السلطان إلا أن يعيد العمل بالقانون الأساسي الذي كان أوقفه منذ إحدى وثلاثين سنة ، فصدرت الإرادة بوضعه موضع العمل صبيحة يوم الجمعة ٢٥ جمادى الآخرة سنة ١٣٢٦ ه‍ (١٩٠٨ م) وبوشر بانتخاب النواب وأطلقت حرية الاجتماع وحرية القول وحرية الكتابة والنشر بعد ذاك الضغط المنهك ، وألغيت الجاسوسية التي جعلت وكدها في كشف عورات الناس بما لا يفيد شيئا في حياة الدولة. وأخرج ألوف من الموظفين والخدمة والمغنين والطباخين وغيرهم من المابين أو قصر يلديز حيث كان السلطان أكثر أيام ملكه ، وإليه انتقل الحكم من الباب العالي الذي كان في عهده اسما

١١٦

بلا مسمى ، ما يريده لا يكون إذا لم يرده المابين ، وما يريده المابين ينفذ في الحال بدون مناقشة ولا حوار.

إعادة الدستور وحال الدولة بعده :

أعيد الدستور إلى العمل بدون إهراق دماء ، لأن جواسيس السلطان عبد الحميد هوّلوا له في قوة النزّاع إلى الثورة من فيالق جيشه ، وكانوا قتلوا بعض رجاله في سلانيك ممن أرسلهم للبحث عن قضية الثورة ، كما بالغوا في تقدير قوة الأحرار وسريان أفكارهم في الولايات ، فلم يسعه وهو محكوم لأوهامه وظنونه إلا أن يرد ما اغتصبه من حقوق الأمة العثمانية ، ونجحت سياسة الأحرار وفشلت سياسة أعوانه الذين كانوا يتملقونه ويقولون له : إن أوربا إذا اتفقت على الدولة لا تستطيع أن تفلت من يديها ، وما زال دولها متخالفات فلا يخشى على السلطنة العثمانية ، أما الرعية فهي من ضعف الجانب بحيث تستطيع الدولة أبدا أن تقضي على كل ثورة تحدث في أرجاء ولاياتها ، ثم إن الرعايا همج يسبحون بحمد آل عثمان في كل أوان ، ولا تدرك عقولهم معنى للحرية ، والحرية لا يتطلبها إلا بعض الشبان ومن لفّ لفهم من المحرومين والناقمين الذين فسدت نياتهم بما لقنوه من تعاليم أوربا المضرة!.

وأخذ الناس في الشام يقدسون جمعية الاتحاد والترقي التي كانت سبب هذ الانقلاب الذي أنعش الأمة بعض الشيء وكثرت الآمال والأماني في إصلاح الحال ، وطردت الشام ولاتها وعمالها الذين عرفوا بالجاسوسية لعبد الحميد والنيل من رعيته ، وكفّ أهل النفوذ في القاصية عن الضغط على الفلاحين ، إذ عرف هؤلاء من يدلهم على رفع شكاويهم للمراجع، وأهين بعض من اشتهر عنهم أنهم من أنصار عبد الحميد الغارقين في رواتبه ومراتبه حتى اضطروا أن يندمجوا في الأحرار ويقدسوا شبانهم ، ولطالما امتهنوهم وسعوا بهم إلى الحكام في عهد الحكومة المطلقة ، وبدىء بانتخاب أعضاء مجلس النواب ، فحاولت جمعية الاتحاد والترقي أن يكون نواب الشام ممن تركن إليهم ، أو ممن عرفوا بميلهم إلى الحرية وبعدهم عن السياسة الحميدية ، ولكنها سعت لتقليل عددهم

١١٧

في الشام سعيها لذلك في سائر الولايات العربية ، لئلا تتألف منهم أكثرية في المجلس ، إذا انضموا إلى بعض العناصر الأخرى فيصبح الأتراك أقلية ، لأن الاتحاديين لا يريدون إلا دستورا ينتعش به الأتراك ، وينال الخير بالعرض سائر العناصر على صورة لا تضر بكيان الترك ، ويسعون إلى تتريك العناصر لتؤلف جمعية الاتحاد أمة واحدة متجانسة بلغتها إذ لم يمكن تجانسها بدينها ، ويقوم أحرار العثمانيين من الأتراك في القرن العشرين بما عجز عن عمله محمد الفاتح وسليم ياوز من الفاتحين.

وبينا أحرار الأتراك دعاة القومية التركية الشديدة يفكرون في وضع خطط الإصلاح ، ويحيون كل ما هو تركي ، ويحاذرون كل ما هو عربي ، والناس في فرح وجذل لأنهم أخذوا على الأقل يقولون ما يريدون ويستمتعون بحرياتهم ، أعلنت اليونان ضمها لجزيرة كريت كما أعلنت النمسا إلحاق ولايتي البوسنة والهرسك ، ورفض أمير بلغاريا السيادة العثمانية وأعلن استقلاله ، وعاد مجلس النواب إلى عمله (١٣٢٦ ه‍) ولم يمض إلا أشهر قليلة حتى ندم السلطان عبد الحميد على ما وهب طوعا أو كرها من تنفيس خناق العثمانيين ، وأحب أن يقوم بعمل ارتجاعي يعيد به الناس إلى الضغط والفناء فيه وفي أعوانه ، فيعملوا أحرارا من دون ممانع أو مناقش ، فنهض جماعته من جواسيس وعمال ومن طردوا من الضباط من الجيش لقلة اقتدارهم وغيرهم من العوام الذين تخدعهم ألفاظ الشرع ويتبعون كل ناعق ، وألفوا حزبا باسم الدين سموه «الحزب المحمدي» وأنصار هذا الحزب كثيرون لأنه اسم تحبه أكثرية الأمة ، فدخل الناس فيه أفواجا عن سلامة نية ، حتى قيل إن من وقعوا على محضر الرضى بالدخول في سلكه بلغوا سبعين ألفا في دمشق وحدها ، واختار السلطان لبث دعوته الولايات التي لم تتأثر أعصابها كثيرا بدعوة الأحرار وثورة الجند كالشام مثلا ، وأخذوا يهيجون العامة باسم الدين ويرتبطون بالسلطان بأيدي أناس كان للمال الذي بذله تأثير عظيم في نفوسهم ونفوس الغوغاء.

فعصا السواد الأعظم من جنود الإستانة بما بذله السلطان لهم من الذهب الوهاج ، ولم ير أعوانه الذين هيجوا الأجناد واسطة لإضاعة رويتهم أحسن من إسكارهم ، فأسكروهم ليلة الفتنة ، وفرقوا عليهم الذهب الكثير ليقوموا

١١٨

بالمطالبة بتطبيق الأحكام الشرعية بحذافيرها ، وإبعاد بعض النواب وإسقاط الوزارة وتعيين الضباط الأميين الخارجين من صفوف الجيش ، لا من دكات المدارس ، أي اختيار الجهلة على المتعلمين ، وبعبارة أفصح إبطال القانون الأساسي لأنه مخالف بزعمهم للإسلام ، ومن قواعده الحرية ، والحرية ليست من شأن الدين!. وقتل في هذه السبيل أناس من النواب وغيرهم من الدستوريين وعامة الناس في شوارع العاصمة ، لأن الجند الثائر كان يطلق النار في الفضاء إرهابا وترويعا فيصيب الأبرياء وغيرهم ، واغتال الضباط الجهلة كثيرا من الضباط الدارسين.

فلما تجلى هول الموقف للاتحاديين أهاجوا النفوس في الروم ايلي ، فقامت بعض ولايتها على ساق وقدم تطلب التطوع في الجندية للدفاع عن الدستور ، وهب جند الفيلقين الثاني والثالث في أدرنة وسلانيك وزحفا على الإستانة بقيادة محمود شوكت باشا البغدادي فاستوليا على المواقع الحربية في العاصمة في أسبوع ، وقبض على المنتقضين والعصاة من الجند المشاغب ، وضربت أعناق بعض المشايخ والمتمشيخين للسياسة لا للدين ، ونفوا ألفا وخمسمائة رجل من رجال السلطان وحاشيته إلى الحجاز واليمن ، وخلعوا عبد الحميد بفتوى من شيخ الإسلام أثبت عليه فيها قتل الأنفس البريئة وسجنها وتعذيبها ومخالفة الشرع وحرق كتب الإسلام والإسراف في مال الأمة ، وبايعوا باتفاق مجلسي النواب والأعيان لولي عهده رشاد أفندي باسم السلطان محمد الخامس وحملوا السلطان عبد الحميد المخلوع منفيا إلى سلانيك.

عبد الحميد وسياسته وأخلاقه :

وبذلك تخلصت الأمة من عبد الحميد بعد أن حكم فيها ثلث قرن زاد أخلاقها فسادا. تولى لأول أمره زمام السلطنة وكيلا عن أخيه مراد الرابع ، وكتب على نفسه عهدا دفعه لمدحت باشا ثم أرسل على ما قيل من أحرق دار مدحت ليحرق العهد في جملة ما أحرق ، وأخذ يستميل قلوب أكثر أهالي الإستانة حتى اجتمع الصدران الأعظمان رشدي باشا ومدحت باشا ودعوا ألف

١١٩

شخص من الكبراء وأرباب المقامات ، وقرروا أن جنون السلطان مراد مطبق لا يرجى أن يفيق منه ، وأفتى شيخ الإسلام بحل بيعته ـ وما أسرع مشايخ الإسلام في إصدار فتاواهم لصاحب الوقت أيا كان وما أبطأهم في فتاويهم في المسائل الجوهرية ـ وبويع لعبد الحميد فما عتّم أن أقصى عن دار ملكه من كانوا السبب الأول في خلع عبد العزيز من العظماء.

وأخذ عبد الحميد يكثر من التضييق على أخيه مراد وعلى سائر أفراد الأسرة السلطانية ولا سيما ولي عهد السلطنة ، ويشرد كل من عرف بالإنكار عليه من الوزراء والعظماء ، فألقى بذلك الرهبة في نفوس قواد المملكة وساستها ، وأصبحت الطبقة التي اختارها تسير على رغبته ، وكل من خالفه ، ولو في سره ، أقصاه وسجنه وعذبه ، وكلما مضت سنة على ملكه يزداد مرانا على هذه الفعال ، ويبالغ في الاحتياط لنفسه ، وغدا يتولى كل أمر بذاته ، ويبعد أرباب الوجدان من رجال الدولة ويستعيض عنهم بأناس ممن يصطنعهم ، وما يصطنع إلا من فسدت أخلاقهم من كل جنس على الأغلب ، حتى آلت أزمة الدولة في العهد الأخير إلى أيدي طبقة من أعوانه طغوا وبغوا.

أخذ عبد الحميد يملك الأملاك باسمه على خلاف عادة الملوك والسلاطين ، فكان كلما سمع بأن في إقليم كذا أراضي من أملاك الدولة يأخذها بلاثمن إن كانت من الأملاك الأميرية ، أو بثمن طفيف إن كانت للأفراد وعجزوا عن استغلالها ، فيضمها إلى أملاكه السنية ، وألف عدة شركات وفتح في العاصمة مخازن لبيع البضائع وبعض المعامل ، وضارب بالأوراق المالية واتجر بالامتيازات. وهكذا أصبح عبد الحميد تاجرا مزارعا مضاربا قلما يهتم بشيء من أمر الملك إلا إذا كان تقريرا من جواسيسه الذين كثروا في العاصمة والولايات كثرة ضاقت بالإنفاق عليهم خزانة الأمة ، وكلهم أمناؤه إن اخطأوا فلهم الأجر ، وإن أصابوا فحدث ما شئت أن تحدث عما ينهال عليهم من إنعامه وإحسانه. ولقد قلّ جدا في عماله من لم يتجسس له ، لا سيما بعد أن شاهد الناس أن الترقي في الوظائف لا يتأتى في الأغلب إلا من طريق الجاسوسية المحببة إلى قلب السلطان ، وغدا التجسس عند بعض الطبقات من الأمور التي لا تنكر.

اشتد ضغط عبد الحميد على المدارس حتى حظر أن يعلم فيها التاريخ

١٢٠