خطط الشام - ج ٢

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٢

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٠

القلعة وعفى أثرها. وكان في هذه القلعة وفي الحصون المذكورة من أسرى المسلمين الجم الغفير، فأطلقوا وأعطوا الكسوة والنفقة ، ثم سار من الشغر إلى برزيه وملكها بالسيف وسبى وأسر وقتل أهلها وأسر السلطان صاحب برزيه هو وأصحابه وامرأته وأولاده ومنهم بنت له معها زوجها فتفرقهم العسكر ، فأرسل صلاح الدين في الوقت وبحث عنهم واشتراهم وجمع شمل بعضهم ببعض ، فلما قارب أنطاكية أطلقهم وسيرهم إليها. وكانت امرأة صاحب برزيه أخت امرأة بيمند صاحب أنطاكية ، وكانت تراسل صلاح الدين وتهاديه وتعلمه كثيرا من الأحوال التي تؤثر فأطلق هؤلاء لأجلها.

ثم سار فنزل على جسر الحديد ومنه إلى دربساك فتسلمها بالأمان على شرط أن لا يخرج أحد منها إلا بثيابه فقط. وسار إلى بغراس وحصرها وتسلمها بالأمان على حكم أمان دربساك. وأرسل بيمند صاحب أنطاكية إلى السلطان يطلب منه الهدنة والصلح وبذل إطلاق كل أسير عنده فأجابه إلى ذلك واصطلحوا ثمانية أشهر ، ثم عاد إلى دمشق فأشير عليه بتفريق العساكر ليريحوا ويستريحوا فقال السلطان : ان العمر قصير والأجل غير مأمون. وكان صلاح الدين لما سار إلى الشمال قد جعل على الكرك وغيرها من يحصرها ، وخلّى أخاه العادل في تلك الجهات يباشر ذلك فأرسل أهل الكرك يطلبون الأمان فتسلمها صلاح الدين مع الشوبك وما إليها ، ثم سار السلطان إلى صفد فحصرها وضايقها وتسلمها بالأمان وشخص إلى كوكب فضايقها وتسلمها بالأمان وسير أهلها إلى صور.

ولما سقطت القدس واستولى صلاح الدين على جميع الأقاليم التي كانت بيد الفرنج ولم يبق لهم إلا يافا وصور وطرابلس تجمع أهل الأقاليم التي أخذها صلاح الدين في ثغر صور فكثر جمعهم ، وأرسلوا إلى الغرب يستصرخون وصوروا صورة المسيح وصورة عربي يضربه وقد أدماه وقالوا : هذا نبي العرب يضرب المسيح. فخرجت النساء من بيوتهن. ووصل من الفرنج في البحر عالم لا يحصون كثرة ، وساروا إلى عكا من صور ونازلوها وأحاطوا بسورها من البحر إلى البحر ووقعت وقائع على عكا قتل فيها من الفرنج نحو عشرة آلاف ومن المسلمين ألوف أيضا ، وعاد السلطان في السنة التالية (٥٨٦) إلى قتال الفرنج على عكا.

٦١

الحملة الصليبية الثالثة :

بينا كان صلاح الدين على عكا يغادي الفرنج القتال ويراوحهم ، جاءت الأخبار من الروم أن ملك الألمان قادم لنجدة الصليبيين في الشام في مائة ألف محارب ، فدخل اليأس على الناس وهذه هي الحملة المعروفة عند الفرنج بالحملة الصليبية الثالثة ، ولكن سلط على ملك الألمان الوباء والغلاء وغرق في نهر كان يغتسل فيه في الروم ، ولم يصل مع ابنه سوى ألف مقاتل فقط. يئس الناس لأنهم ذهبوا إلى أن الفرنج لا تقوم لهم قائمة بعد وقعة حطين بل بعد استصفاء أكثر المدن والمعاقل التي كانت لهم ولا سيما القدس العلة الأولى في هذه الغزوات التي ألبسوها لباس الدين ، وكانت هذه الحملة الثالثة مؤلفة من ثلاثة ملوك : فريدريك باربروس ملك ألمانيا ، وفيليب اوغست ملك فرنسا ، وريشاردس قلب الأسد ملك إنكلترا. فخف الأول إلى نجدة فرنج الشام قبل صاحبيه فكان من أمره ما كان أما الآخران فجاءا إلى عكا في البحر ، وبعد أن فتح ريشاردس جزيرة قبرس تمكن الصليبيون من أخذ عكا وقتل من المسلمين جمهور كبير.

قال ميشو : إن الوقعة التي حارب فيها ريشاردس في بحر صور سفينة كبرى للعرب ، كانت من أول الانتصارات ومقدمة الغنائم للبحرية الإنكليزية ، وقال أمغلطاي : إن الفرنج حاصروا عكا من البر ومن البحر ، وكانت عدتهم مائتي ألف وأربعين ألفا ، ونصبوا عليها المجانيق من كل جهة ، وفتحوا فيها مواضع كثيرة حتى خربت ودثرت وصارت مثل الطريق ، فغلب المسلمون وطلبوا الأمان. وقال غيره : إن السلطان كان عمر في بيروت بطسة وشحنها بالعدد والآلات ، وفيها نحو سبعمائة رجل مقاتل ، فلما توسطت في البحر صادفها ملك الإنكليز وأحاطت بها مراكبه وحصل القتال بين الفريقين ، فلما رأى مقدمها اشتداد الأمر ، نزل فخرقها حتى غرقت ، وكانت هذه الحادثة أول حادثة حصل بها الوهن للمسلمين.

ثم رحل الفرنج عن عكا نحو قيسارية ، والمسلمون يسايرونهم ويتحفظون منهم ، ثم ساروا من قيسارية إلى أرسرف ، ووقع بينهم وبين المسلمين مصاف أزالوا المسلمين عن موقفهم ، ووصلوا إلى سوق المسلمين فقتلوا منهم خلقا كثيرا ، ثم

٦٢

سار الفرنج إلى يافا وقد أخلاها المسلمون فملكوها ، ورأى السلطان تخريب عسقلان مصلحة فخربها وخرب الرملة وكنيسة لدّ وكان هدم سور طبرية وهدم يافا وأرسوف وقيسارية وهدم سور صيدا وجبيل ونقل أهلهما إلى بيروت ، وكان معظم أهل صيدا وبيروت وجبيل مسلمين وكانوا في ذلة من مساكنة الفرنج. وسار إلى القدس وقرر أموره وعاد إلى مخيمه بالنطرون. ثم تراسل الفرنج والسلطان في الصلح على أن يتزوج الملك العادل أخو السلطان بأخت ملك انكلترا ويكون للملك العادل القدس ولامرأته عكا ، فأنكر القسيسون عليها ذلك إلا أن يتنصر الملك العادل فلم يتفق بينهم حال.

وذكر بعض المؤرخين أن ملك أنكلترا هو الذي عرض على العادل أخته ، وكانت أرملة ملك كبير من ملوكهم وهو صاحب صقلية توفي عنها ، ورغب أن يتزوجها العادل ويجعل له الحكم على الساحل ، وهو يقطع الداوية والاسبتار من المدن والقرى دون الحصون ، وتكون أخته مقيمة بالقدس وأن الإنكليز لما عنفوا المرأة واتهموها في دينها ، اعتذر ملك انكلترا بعدم موافقتها إلا أن يدخل العادل في دينها فعرف أنها خديعة كانت منه.

قال ابن شداد في وصف ريشاردس ملك الإنكليز : وهذا ملك الانكتار شديد البأس بينهم ، عظيم الشجاعة ، قوي الهمة ، له وقعات عظيمة ، وله جسارة على الحرب ، وهو دون الفرنسيس عندهم في الملك والمنزلة ، لكنه أكثر مالا منه ، وأشهر في الحرب والشجاعة. قال : وكان ملوكهم يتواعدوننا به فكان المستأمنون منهم يخبروننا عنه أنهم موقنون فيما يريدون أن يفعلوا من مضايقة البلد أي عكا حين قدومه ، فإنه ذو رأي في الحرب مجرب ، وأثر قدومه في قلوب المسلمين خشية ورهبة. وقال بعد أن ذكر كيف كان ملك الإنكليز يكرر الرسائل إلى الملك لتعرف قوة النفس وضعفها ، وكيف كان يوهن المسلمين على تعرّف ما عنده من ذلك أيضا : فانظر إلى هذه الصناعة في استخلاص الغرض باللين تارة والخشونة أخرى ، وكان مضطرا إلى الرواح وهذا عمله مع اضطراره ، والله الولي في أن يقي المسلمين شره ، فلما بلينا بأعظم حيلة وأشد إقداما منه.

بقي صلاح الدين في كل يوم يقع بينه وبين الفرنج مناوشات فلقوا من ذلك شدة شديدة واستولوا سنة (٥٨٨) على قلعة الداروم وخربوها وأسروا من فيها.

٦٣

عرض لملك انكلترا ما يشغل قلبه من جهة بلاده فأحب أن يصالح صلاح الدين ، فرضي السلطان بالصلح بعد الذي أصاب جيشه من الفشل على عكا ، وفشل عكا هو الوحيد الذي أصابه ، وذلك لتكاثر جيوش الصليبيين عليه ، وقد ملّ الجند الحرب التي دامت أعواما ، وخرج المسلمون من عكا وأخذوا أمان الفرنج على أن يخرجوا بأموالهم وأنفسهم على تسليم البلد ومائتي ألف دينار وألف وخمسمائة أسير من المجهولين ومائة أسير من المعروفين وصليب الصلبوت ، وعشرة آلاف دينار للمركيس وأربعة آلاف دينار لحجابه ، وعقدت بين الصليبيين والمسلمين هدنة عامة في البحر والبر وجعلت مدتها ثلاث سنين وثلاثة أشهر على أن يستقر بيد الفرنج يافا وعملها وقيسارية وعملها وأرسوف وعملها وحيفا وعملها وعكا وعملها ، وأن تكون عسقلان خرابا ، واشترط السلطان دخول عمالة الإسماعيلية في أرض الهدنة ، واشترط الفرنج دخول صاحب أنطاكية وطرابلس في عقد هدنتهم ، وأن تكون لدّ والرملة مناصفة بينهم وبين المسلمين ، فاستقرت القاعدة على ذلك.

واتفقت وفاة السلطان بعد الصلح بيسير ، فلو اتفق ذلك في أثناء وفاته كان الإسلام على خطر.

وفي التاريخ العام أن صلاح الدين لما فتح القدس بهت المسيحيون في أوروبا فأخذ اوربانوس الثالث يحمس الناس في الغرب. وأن إمارات الصليبيين لم تقاتل مدة نصف قرن سوى صغار أمراء سورية والموصل. وكان مسلمو مصر يعيشون بسلام معهم ، وهذا كان عهد نجاح تلك الإمارات ، ولما قضى صلاح الدين على الدولة الفاطمية وقامت مقامها دولة حربية من المماليك ، لم يستطع المسيحيون ، ومصر تهاجمهم ، أن يقاوموا زمنا طويلا ، على ما ظهر من انتصارات صلاح الدين ، وإذا احتفظوا ببقايا الإمارات قرنا آخر فذلك لأن ملوك الإسلام لم يرضوا أن يقضوا عليها. لا جرم أن هذه الحرب كانت حربا مقدسة في نظر المسلمين والمسيحيين اه.

مزايا صلاح الدين ووفاته :

ولا عجب إذا انتثر سلك الإمارات الصليبية في الجنوب والغرب جملة فإن تنظيم الجيش الصلاحي كان آية الآيات ، والنجدات كانت تأتيه سراعا دراكا ،

٦٤

والفكر متجه إلى مقصد واحد. استمات المسلمون في تأييد سلطانهم ، وحاربوا بكل ما لديهم من ضروب الكر والفر وصنوف الدهاء والخديعة ، وما الحرب إلا خدعة ـ قاتلوا كما قال شاهد العيان من المؤرخين ، مرة بالأبراج ، وأخرى بالمنجنيقات ، ورادفة بالدبابات ، وتابعة بالكباش ، وآونة باللوالب ، ويوما بالنقب ، وليلا بالسرابات ، وطورا بطم الخنادق ، وآنا بنصب السلالم ، ودفعة بالزحوف في الليل والنهار ، وحالة في البحر بالمراكب ، ولكن الحرب سجال والدهر دول ، وما كل يوم يكتب النصر للغزاة ، ويحالف التوفيق أعلامهم ، وما كل خطة يقررها صاحب الأمر بادئ الرأي تكون سديدة من كل وجه ، فقد انتقدوا على صلاح الدين بعد وقائعه مع الصليبيين وظفره الباهر بهم في الأردن والجليل وبيت المقدس كيف فتح لأعدائه السبل ليذهبوا إلى صور ، ويجتمع هناك فلّ جيوشهم حتى تألفت منهم كتلة قويت بما جاءها من البحر من الإنكليز والفرنجة ، فكان ما كان من هزيمة جيشه على عكا ، ولو كان حيا لدافع عن نفسه دفاعا معقولا مقبولا فيما نحسب ، ولعلّ ذلك يدخل في باب مراحمه التي تجلت فيها نفسه العظيمة يوم فتح القدس ، فلم يعامل أعداءه إلا بما اقتضته سياسته وسيرته.

كان صلاح الدين يعنى بجنده ويتعهده ويسأل عن صحة أمرائه ومن دونهم في راحتهم ومنامهم وأكلهم وشربهم ، يحارب المحارب ساعات مخصوصة من النهار أو الليل ثم يستريح أو يحارب مدة معينة ثم يذهب إلى ذويه ، على أرقى الأصول المتعارفة في الحروب الحديثة. والغنائم تقسم بين الحاربين بحيث يغتني أفرادهم وجماعاتهم دع مالهم من الأموال الدارة من أموال الجباية والرسوم على التجار وما خصوا به من الحرمة ورفعة الشأن ، يأخذون إما رواتب أو إقطاعات ، ولم تكن إقطاعاتهم كإقطاعات الغرب تورث على الأغلب بل تزول عن صاحبها بموته أو بعزله ، ولذلك كان المحاربون متعلقين أبدا بسلطانهم وأميرهم ، متفانين في إحسان الخدمة كأنهم يدافعون عن بيوتهم وأطفالهم.

جاء صلاح الدين إلى دمشق بعد عقد الصلح مع الفرنج في فلسطين ، وكان يحب دمشق ويؤثر الإقامة فيها. فلقي الأهل والولد بعد تغيب أربع سنين وذهب يتصيد مع أخيه الملك العادل خمسة عشر يوما فكان عمله كأنه وداع لأهله وأولاده ومرابع نزهه وأنسه. ثم مرض أياما وهلك حميد الأثر فضجت الأمة لفقده ،

٦٥

وبكت العيون ، وانتحبت النفوس ، لأنه لم يحي مصر والشام ، بل أحيا بعمله المسلمين والإسلام ، وكان كما ذكره ابن شداد : رؤوفا رحيما ، ناصرا للضعيف على القوي ، يجلس للعدل في كل يوم اثنين وخميس ، في مجلس عام يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء ، ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه كل أحد من كبير وصغير ، وعجوز هرمة وشيخ كبير ، وكان يفعل ذلك سفرا وحضرا ، على أنه كان في جميع زمانه قابلا لجميع ما يعرض عليه من القصص في كل يوم ، ويفتح باب العدل وكان يجلس مع الكاتب ساعة إما في الليل أو في النهار ، ويوقع على كل قصة بما يجريه الله على قلبه ، ولم يرد قاصدا أبدا ، وما استغاث إليه أحد إلا وقف وسمع قضيته وكشف ظلامته واعتنى بقصته.

مات صلاح الدين وقد ملك مصر أربعا وعشرين سنة والشام تسع عشرة سنة ، وملك الجزيرة واليمن ، ولم يحفظ ما تجب عليه الزكاة ، فإن صدقة النفل استنزفت جميع ما ملكه من الأموال ، فملك ما ملك ولم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهما ناصريا وجرما واحدا ذهبا ، ولم يخلف ملكا ولا دارا ولا عقارا ولا بستانا ولا قرية ولا مزرعة ولا شيئا من أنواع الأملاك ، وكان رحمه‌الله يهب الأقاليم ، ويعطي في وقت الضيق كما يعطي في حال السعة ، وكان نواب خزائنه يخفون عنه شيئا من المال حذرا أن يفاجئهم مهمّ ، لعلمهم بأنه متى علم به أخرجه. وكان كثيرا ما يقول : إن مرادنا من البلاد رجالها لا أموالها وشوكتها لا زهرتها ومناظرتها للعدو لا نضرتها. وقد ذكر القاضي ابن شداد وعماد الدين الكاتب من خلال صلاح الدين ومواظبته على القواعد الدينية وملاحظته للأمور الشرعية ، وعدله وكرمه وشجاعته ، واهتمامه بأمر الجهاد وصبره واحتسابه ، وحلمه وعفوه ومحافظته على أسباب المروءة ، ما هو العجب العجاب ، وبعضه إذا جمع في شخص كان مفخرا من المفاخر على توالي الأحقاب.

ملأت خيرات صلاح الدين جميع الأقطار التي خفق علمه عليها ، وملأت اوقافه مصر والشام وهي غير منسوبة إليه. قال ابن خلكان : ولقد أفكرت في نفسي في أمور هذا الرجل وقلت إنه سعيد في الدنيا والآخرة ، فإنه فعل في هذه الدنيا هذه الأفعال المشهورة من الفتوحات الكثيرة وغيرها ورتب هذه الأوقاف العظيمة ، وليس فيها شيء منسوبا إليه في الظاهر اه.

٦٦

بل قد تجد لمماليكه وخواصه أوقافا نسبت إليهم ولم ينسب إليه إلا قليل وكان مماليك صلاح الدين وخواصه وأمراؤه وأجناده أعفّ من الزهاد والعباد ، والناس على دين ملوكهم. ومن كرم صلاح الدين أنه أخرج في مدة مقامه على عكا ثمانية عشر عشر ألف دابة من فرس وبغل سوى الجمال ، وأما العين والثياب والسلاح فإنه لا يدخل تحت حصر ، وما كان يركب فرسا إلا وقد وعد بأن يعطيه لطالب من جماعته ، وقد فرّق من ذخائر الفاطميين لما فتح مصر ما يفوق الإحصاء ولم يبق منه قليلا ولا كثيرا. ومن رسالة له إلى الديوان العزيز ببغداد : فقد علم أن الخادم بيوت أمواله ، في بيوت رجاله ، وأن مواطن نزوله ، في مواقف نزاله ، ومضارب خيامه ، أكنة ظلاله ، وأنه لا يذخر من الدنيا إلا شكّته ، ولا ينال من العيش إلا مسكته. كان صلاح الدين يعيش عيش المتوسطين ، وينفق بحيث تكاد تعده إلى الإسراف ، ويكتفي من اللباس بالكتان والقطن والصوف ، ومجلسه منزه عن الهزء ومحافله حافلة بأهل الفضل ، وكان لمداومته الكلام مع الفقهاء ومشاركته القضاة في القضاء أعلم منهم بالأحكام الشرعية ، وكان من جالسه لا يعلم أنه مجالس السلطان ، بل يعتقد أنه مجالس أخ من الإخوان. كان من عظماء الشجعان ، قوي النفس ، شديد البأس ، عظيم الثبات ، لا يهوله أمر. وصل في ليلة واحدة من الفرنج نيف وسبعون مركبا إلى عكا وهو لا يزداد إلا قوة نفس ، وكان يعطي دستورا أن يسرح عسكره في أوائل الشتاء ويبقى في شرذمة يسيرة في مقابلة عدتهم الكثيرة ، إذ كان عدد جيشهم لا يقل عن خمسمائة إلى ستمائة ألف فيما قالوا ، ومع هذا تراه صابرا هاجرا في محبة الجهاد في سبيل الله أهله وأولاده ووطنه وسكنه وسائر ملاذه ، قانعا من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تضربها الرياح يمنة ويسرة ، وكان لا بد له من أن يطوف حول العدو كل يوم مرة أو مرتين إذا كان قريبا منهم ، وإذا اشتد الحرب يطوف بين الصفين ، ويخرق العساكر من الميمنة إلى الميسرة ، يرتب الأطلاب ويأمرهم بالتقدم والوقوف في مواضع يراها وكان يشارف العدو ويجاوره.

انهزم المسلمون في يوم المصاف الأكبر بمرج عكا حتى القلب ورجاله ، ووقعت الكوسات والعلم وهو ثابت القدم في نفر يسير ، فانحاز إلى الجبل يجمع الناس ويردهم ويخجلهم حتى يرجعوا ، ولم يزل كذلك حتى عكس المسلمون على العدو

٦٧

في ذلك اليوم وقتل منهم زهاء سبعة آلاف ما بين راجل وفارس ، ولم يزل مصابرا لهم وهم في العدة الوافرة ، إلى أن ظهر له ضعف المسلمين فصالح وهو مسؤول من جانبهم ، فإن الضعف والهلاك كان فيهم أكثر ، ولكنهم كانوا يتوقعون النجدة ، والمسلمون لا يتوقعونها ، وكانت المصلحة في الصلح.

سئل ابن بيرزان يوم انعقاد الصلح عن عدة الفرنج الذين كانوا على عكا وهو جالس فقال للترجمان : قل له كانوا خمسمائة ألف إلى ستمائة ألف قتل منهم أكثر من مائة ألف وغرق معظمهم. وكان صلاح الدين يدور على الأطلاب اي الكتائب ويقول وهل أنا إلا واحد منكم.

وذكروا من مراحم صلاح الدين أنه كان للمسلمين لصوص يدخلون خيام الفرنج في الليل ويسرقونهم ، فسرقوا ليلة صبيا رضيعا ، فباتت أمه تبكي طول الليلة فقال لها الفرنج : إن سلطانهم رحيم القلب ، فاذهبي إليه فجاءته وهو على تل الخروبة راكب فعفرت وجهها وبكت فسأل عنها ، فأخبروه بقصتها فرق لها ، ودمعت عيناه ، وتقدم إلى مقدم اللصوص بإحضار الطفل ، ولم يزل واقفا حتى أحضروه ، فلما رأته بكت وأخذته فأرضعته ساعة وضمته إليها ، وأشارت إلى ناحية الفرنج فأمر أن تحمل على فرس وتلحق بالفرنج ففعلوا.

قال سبط ابن الجوزي : ويقال إن صلاح الدين فتح ستين حصنا وزاد على نور الدين بمصر والحجاز والمغرب واليمن والقدس والساحل وبلاد الفرنج وديار بكر ولو عاش لفتح الدنيا شرقا وغربا. قلنا : إن نابغة الدهر السالف صلاح الدين يوسف كان في أمته صلاحا لدينها ودنياها.

٦٨

الدولة الايوبية

«من سنة ٥٨٩ الى سنة ٦٣٧»

أبناء صلاح الدين واختلافهم ودهاء عمهم العادل :

اهتزت أعصاب المملكة لمهلك صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب مصر والشام واليمن والبلاد الشرقية لأنه الفاتح الثاني لبيت المقدس كما كان عمر بن الخطاب الفاتح الأول. وقد خلف صلاح الدين سبعة عشر ذكرا وابنة واحدة ، وناب بعض أولاده عنه في أكثر أقاليمه وخلف أخاه الملك العادل أبا بكر ، وكان ينوب عنه في مصر والشام في حياته فوقع الخلف بين بنيه وعمهم في الباطن أولا ، ثم أعلن كل واحد لصاحبه خصومته. وكان كثير ممن ربوا في نعمة الدولة الصلاحية ورأوا من عدلها ما لم يكد يسبق له مثيل إلا في دولة نور الدين ، يتخوفون أن تصير حال الدولة بعد صلاح الدين إلى الشقاق والنزاع ، ومن الذين أوجسوا خيفة من ذلك القاضي الفاضل وزير صلاح الدين الأكبر فقد كتب إلى ولده الملك الظاهر ساعة موت السلطان من كتاب «إن وقع اتفاق فما عدمتم إلا شخصه الكريم ، وإن كان غير ذلك فالمصائب المستقبلة أهونها موته وهو الهول العظيم».

وكان الملك الأفضل نور الدين علي أكبر أولاد صلاح الدين قد حلف له الناس عند ما اشتد مرض والده فاستقر في ملك دمشق وما إليها ، وبالديار المصرية الملك العزيز عماد الدين عثمان ، وبحلب الملك الظاهر غياث الدين غازي ، وبالكرك والشوبك والأقاليم الشرقية الملك العادل أبو بكر بن أيوب ، وبحماة وسلمية والمعرة ومنبج وقلعة نجم الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقي الدين عمر وبعلبك الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه ، وبحمص والرحبة وتدمر شيركوه بن

٦٩

محمد ، وببصرى الملك الظافر خضر بن صلاح الدين ، وكان في خدمة أخيه الملك الأفضل، وبيد جماعة من أمراء الدولة مدن وحصون ، منهم سابق الدين عثمان بن الداية وبيده حصن شيزر وحصن أبي قبيس ، وناصر الدين بن كورس وبيده صهيون وحصن برزية ، ودلدرم بن بهاء الدين ياروق وبيده تل باشر ، وأسامة الحلبي وبيده كوكب وعجلون ، وإبراهيم بن شمس الدين ابن المقدم وبيده بعرين وكفر طاب وأفامية. ولما ألقي للملك الأفضل زمام السلطنة بعهد أبيه استوزر ضياء الدين بن الأثير الجزري فحسن له طرد أمراء أبيه ففارقوه إلى أخويه العزيز بمصر والظاهر بحلب ، ولما اجتمعوا بمصر حسنوا للملك العزيز الانفراد بالسلطنة ، ووقعوا في أخيه الأفضل فحصلت الوحشة بين الأخوين الأفضل والعزيز واستحكم الفتور (٥٩٠) بينهما فسار العزيز في عسكر مصر وحصر أخاه الأفضل بدمشق عشرة أشهر وقطع الماء عنها. فأرسل الأفضل إلى عمه العادل وأخيه الظاهر وابن عمه الملك المنصور صاحب حماة يستنجدهم ، فساروا إلى دمشق وأصلحوا بين الأخوين وعاد كل ملك إلى بلده. قال العماد الكاتب : ولما انفصلت العساكر عن دمشق شرع الأفضل في اللهو واللعب، واحتجب عن الرعية وانقطع إلى لذاته ، فسمي الملك النوّام ، وفوض الأمر إلى وزيره الجزري ، وحاجبه الجمال محاسن بن العجمي ، فأفسدا عليه الأحوال وكانا سعيا لزوال دولته واستبدلا أراذل الناس بكبراء الأمراء والأجناد ففسدت أمور العباد. وفي هذه السنة استعادت الفرنج حصن جبيل وأخذ الأفضل من الفرنج جبلة واللاذقية.

وفي السنة التالية عاود الملك العزيز عثمان صاحب مصر قصد الشام ومنازلة أخيه الملك الأفضل ، فسار ونزل الفرار من أرض السواد فاضطرب بعض عسكر العزيز عليه وهم طائفة من الأمراء الأسدية وفارقوه فعاد العزيز إلى مصر. وكان الأفضل استنجد بعمه العادل لما قصده أخوه ، فلما رحل العزيز إلى مصر رحل الملك الأفضل وعمه العادل ومن انضم إليهما من الأسدية ، وساروا في أثر العزيز طالبين مصر فنزلوا على بلبيس ، وقصد الملك الأفضل مناجزة من فيها من جند العزيز فمنعه عمه العادل وقال : مصر لك متى شئت. وكاتب العادل العزيز وأمره بإرسال القاضي الفاضل ليصلح بين الأخوين. وكان القاضي الفاضل قد اعتزل عن ملابسة أولاد صلاح الدين لما رأى من فساد أحوالهم على ما رواه

٧٠

المؤرخون ـ والقاضي الفاضل هو الذي كان صلاح الدين يقول في ملإ من الناس : لا تظنوا أني ملكت البلاد بسيوفكم بل بقلم الفاضل وكان يستشيره في أموره ـ فدخل الملك العزيز على القاضي وسأله أن يتوجه من القاهرة الى الملك العادل ففعل واجتمع به واتفقا على أن يصلحا بين الأخوين فأصلحا بينهما وأقام العادل بمصر عند العزيز ابن أخيه ليقرر أمور مملكته وعاد الأفضل إلى دمشق وأموره بيد الجزري يدبرها برأيه حتى كثر شاكوه وقل شاكروه. وكان الاعتماد على مشورة الوزير الجزري الذي زين للملك الأفضل إقصاء أمراء أبيه ليخلو له الجو أول خطوة نحو خراب بيت بني أيوب ، وبعبارة أصح أبناء صلاح الدين يوسف. وقوة الدولة على نسبة عقل القائمين بها ، الدافعين عن حوزتها ، الغيورين على بقائها ، وقد خالف الملك الأفضل سيرة أبيه فأقصى العقلاء وكان أبوه يفادي بكل مرتخص وغال لاستمالة قلوبهم وكان لسان حال العادل وقد رأى اختلاف أبناء أخيه المثل المأثور «لم آمر بها ولم تسؤني». قال سبط ابن الجوزي لما عاد الأفضل الى دمشق ازداد وزيره الجزري من الأفعال القبيحة وآذى أكابر من الدولة ، والأفضل يسمع منه ولا يعدي أحدا ولا يخالفه ، فكتب قيماز النجمي وأعيان الدولة إلى العادل يشكونه ، فأرسل العادل إلى الأفضل يقول : ارفع يد هذا الأحمق السيء التدبير القليل التوفيق فلم يلتفت ، واتفق مع العزيز على النزول إلى الشام فسار إلى الشام فاستشار الأفضل أصحابه فكل أشار عليه أن يلتقي عمه وأخاه ولا يخالفهما إلا الجزري فإنه أشار عليه بالعصيان فاستعد للحصار وحلف الأمراء والمقدمين وفرقهم في الأبراج وعلى الأسوار.

اتفق العادل مع العزيز على أن يأخذا دمشق وأن يسلمها العزيز إلى العادل لتكون الخطبة والسكة للعزيز في جميع المملكة كما كانت لأبيه ، فخرجا وسارا من مصر فأرسل الأفضل إليهما فلك الدين وهو أحد أمرائه وهو أخو الملك العادل لأمه ونزل العادل والعزيز على دمشق وقد حصنها الأفضل ، فكاتب بعض الأمراء من داخل البلد العادل وصاروا معه وأنهم يسلمون المدينة إليه ، فزحف العادل والعزيز فدخل الأول من باب توما والثاني من باب الفرج ، فأجاب الملك الأفضل إلى تسليم القلعة وانتقل منها بأهله وأصحابه ، وأخذت بصرى من الملك الظافر خضر أخي الأفضل وكان معاضدا له ، وأعطي الأفضل صرخد

٧١

فسار إليها بأهله ، واستوطنها وأخرج وزيره الجزري في الليل في جملة الصناديق خوفا عليه من القتل فأخذ أموالا عظيمة وهرب إلى بلده.

سلم الأفضل دمشق لعمه العادل على حكم ما كان وقع عليه الاتفاق بينهما ، فتسلمها العادل على أن يكون ثلث البلاد للعادل والثلثان للأفضل وهو السلطان ، ورحل العزيز وأبقى له العادل السكة والخطبة بدمشق.

استئثار العادل بالملك الصلاحي :

توفي الملك العزيز عثمان في مصر (٥٩٥) وعمره سبع وعشرون سنة وأشهر وكان في غاية السماحة والكرم والعدل. والرفق بالرعية والإحسان إليهم ففجعت الرعية بموته فجعة عظيمة لأنه شبل من أسد ، وكان الغالب على دولته فخر الدين جهاركس فأقام في الملك ولد العزيز الملك المنصور محمد واتفقت الآراء على إحضار أحد بني أيوب ليقوم بالملك ، وعملوا مشورة بحضور القاضي الفاضل فأشار بالملك الأفضل وهو حينئذ بصرخد فأرسلوا اليه فسار محثا ، ووصل إلى مصر على أنه أتابك أي مربي الملك المنصور بن الملك العزيز ، وكان عمر الملك المنصور حينئذ تسع سنين وأشهرا. ولما وصل الأفضل إلى بلبيس التقاه العسكر فتنكر منه فخر الدين جهاركس وفارقه وتبعه عدة من العسكر وساروا إلى الشام ، وكاتبوا العادل وهو محاصر ماردين ، وأرسل الظاهر إلى أخيه الأفضل يشير عليه بقصد دمشق وأخذها من عمه العادل ، وأن ينتهز الفرصة لاشتغال العادل بماردين ، فبرز الأفضل من مصر وسار إلى دمشق ، فبلغ العادل مسيره ، ونزل الأفضل على دمشق وجرى بين العم وابن أخيه قتال ، وهجم بعض عسكر الأفضل المدينة حتى وصل إلى باب البريد ولم يمدهم العسكر ، فتكاثر أصحاب العادل وأخرجوهم من البلد ، ثم تخاذل العسكر فتأخر الأفضل إلى ذيل عقبة الكسوة ، ثم وصل الى الأفضل أخوه الظاهر فعاد إلى مضايقة دمشق ، ودام الحصار عليها وقلت الأقوات عند العادل وعلى أهل البلد ، وأشرف الأفضل والظاهر على ملك دمشق ، وعزم العادل على تسليم البلد لو لا ما حصل بين الأخوين الأفضل والظاهر من الخلف.

روى سبط ابن الجوزي أنه لما اشتد الحصار على دمشق وقطعت أشجارها

٧٢

ومياهها الداخلة إليها وانقطعت عن أهلها الميرة وضجوا ، بعث العادل إلى الظاهر يقول له : أنا أسلم إليك دمشق على أن تكون أنت السلطان وتكون دمشق لك لا للأفضل ، فطمع الظاهر وأرسل إلى الأفضل يقول : أنت صاحب مصر فآثرني بدمشق. فقال : دمشق لي من أبي وإنما أخذت مني غصبا فلا أعطيها أحدا ، فوقع الخلف بينهما ووقع التقاعد. وكان إلقاء الخلف بين الأخوين من جملة دهاء عمهما ،

ودخلت سنة (٥٩٦) والأفضل والظاهر يحاصران دمشق ، وقد أحرق جميع ما هو خارج باب الجابية من الفنادق والحوانيت ، وأحرق النيرب وأبواب الطواحين ، وقطعت الأنهار وأحرقت غلة حرستا في بيادرها ، وحفر على دمشق خندق من أرض اللّوان إلى أرض يلدا شرقا احترازا من مهاجمة من بدمشق لهما ، ولما تغير الظاهر على أخيه الأفضل ترك قتال العادل ، فظهر الفشل في العسكر ، فتأخر الأفضل والظاهر عن دمشق وأقاما بمرج الصّفّر ، ثم سار الأفضل إلى مصر والظاهر إلى حلب ، ولما تفرقا خرج العادل من دمشق وسار في أثر الأفضل الى مصر ، وضرب مع الأفضل مصافا فانكسر الأفضل وانهزم إلى القاهرة ، ونازلها العادل ثمانية أيام ، فأجاب الأفضل إلى تسليمها ، على أن يعوض عنها ميافارقين وخاني وسميساط ، فأجابه العادل إلى ذلك ولم يف له به ، ثم سار الأفضل إلى صرخد وأقام العادل بمصر على أنه أتابك الملك المنصور محمد بن العزيز عثمان مدة يسيرة ، ثم أزال العادل الملك المنصور ، واستقل العادل في السلطنة ، فقطع أولا خطبة ولد العزيز بعد أن جمع الفقهاء وقال هل يجوز ولاية الصغير على الكبير فقالوا : الصغير مولى عليه وقال : فهل يجوز لكبير أن يولي عليه وينوب عنه قالوا : لا لأن الولاية من الأصل إذا كانت غير صحيحة فكيف تصح النيابة. فقطع خطبة ابن العزيز وخطب لنفسه ولولده الكامل محمد من بعده ، وكان ذلك على الحقيقة مبدأ سلطنة العادل الكبرى ، فإن استئثاره بالخطبة والسكة في مصر سهل عليه فيما بعد ملك الشام وما إليها من ديار الشرق.

لما تم الأمر بمصر للعادل كاتب الظاهر صاحب حلب عمه الملك العادل (عمه بالمعنيين شقيق أبيه وأبو امرأته) وصالحه وخطب له بحلب وأقاليمها وضرب السكة باسمه ، واشترط العادل على صاحب حلب أن يكون خمسمائة فارس من خيار

٧٣

عسكر حلب في خدمة العادل كلما خرج الى الحرب والتزم الظاهر بذلك إلا أنه أخذ بتحصين حلب خوفا من عمه العادل وأرسل المنصور للعادل يعتذر مما وقع منه من أخذه بعرين من ابن المقدم ، فقبل العادل عذره وأمره بردها إلى صاحبها الأول. وسار (٥٩٧) الظاهر وملك منبج وخرب قلعتها وملك قلعة نجم وأفامية وكفرطاب من ابن المقدم ، وأرسل إلى المنصور صاحب حماة يبذل له منبج وقلعة نجم على أن يصير معه على العادل ، فاعتذر صاحب حماة باليمين في عنقه العادل ، فلما أيس الظاهر منه سار إلى المعرة وأقطع إقليمها واستولى على كفرطاب ، ثم سار إلى أفامية وبها قراقوش نائب ابن المقدم ، فلم يسلم هذا القلعة إلا بعد الحرب الشديدة ، فرحل الظاهر وتوجه إلى حماة وقاتلها أشد قتال ، فلما لم يحصل على غرض صالح المنصور على مال يحمله إليه قيل إنه ثلاثون ألف دينار صورية ، ثم رحل الظاهر إلى دمشق وبها المعظم ابن العادل فنازلها الظاهر هو وأخوه الأفضل ، وانضم إليهما ميمون القصري صاحب نابلس ، ومن وافقه من الأمراء الصلاحية ، واستقرت القاعدة بين الأخوين الأفضل والظاهر أنهما متى ملكا دمشق يتسلمها الأفضل ثم يسيران ويأخذان مصر من العادل ويتسلمها الأفضل ، وتسلم دمشق حينئذ إلى الظاهر ، بحيث تبقى مصر للأفضل ، ويصير الشام جميعه للظاهر.

وفي سنة (٥٩٨) سار العادل من دمشق ووصل إلى حماة ونزل على تل صفرون وقام المنصور صاحب حماة بجميع وظائفه وكلفه ، وبلغ الظاهر صاحب حلب وصول عمه العادل إلى حماة بنية قصده ومحاصرته بحلب فاستعد للحصار ، وراسل عمه ولاطفه وأهدى إليه ، ووقعت بينهما مراسلات ووقع الصلح وانتزعت منه مفردة المعرة ، واستقرت للمنصور صاحب حماة ، وأخذت من الظاهر أيضا قلعة نجم ، وسلمت إلى الأفضل ، وكان له سروج وسميساط ، وسلم العادل حران وما معها لولده الأشرف موسى وسيره إلى الشرق. ولما استقر الصلح بين العادل وابن أخيه الظاهر ، رجع العادل إلى دمشق وأقام بها وقد انتظمت الممالك الشامية والشرقية والديار المصرية كلها في سلك ملكه وخطب له على منابرها وضربت السكة فيها باسمه.

الأحداث في عهد العادل واهتمامه بحرب الصليبيين :

مضت تسع سنين على وفاة الملك الناصر صلاح الدين يوسف حتى استقر ملك الشام لأخيه العادل أبي بكر بن أيوب وتخلص من أبناء أخيه الأفضل

٧٤

والظاهر وغيرهما بل توفق إلى مقاصده باستفتاء العلماء بأن ملك مصر وأنقذها من حفيد أخيه صلاح الدين ، وكان أخذه مصر مقدمة لاستيلائه على ملك أخيه إلا قليلا ، ومقدمة لتسلسل الملك في أولاده ، إذ ليس في أبناء أخيه من يدانيه في الحقيقة بحسن السياسة وبعد النظر وكثرة التجارب والدهاء ، وكان صلاح الدين يحبه ويحترمه ويستشيره في معضلات الأمور فيبين عن رأي وحنكة وسار بعض الأمراء الصلاحية الذين غذوا بنعمة صلاح الدين سيرا لا يدل على غمط نعمة ونكران جميل ، ولكن كان الأفضل والظاهر والعزيز متخالفين متشاكسين ، وكل منهم يطمع في الملك ويسر لأخيه وعمه حسوا في ارتغاء ، فكان اختلافهم من حظ عمهم العادل وهو بتجاربه يشبه أخاه صلاح الدين من أكثر الوجوه. أما الأفضل فقد ركب هواه ، وأخلد إلى اللذات والمنكرات لأول مرة واستسلم لوزيره ابن الأثير ، وكان هذا صاحب دعوى عريضة ، لا يراعي الحال ولا يعرف الزمان ، فكتبت الغلبة للعادل ، ولو ترك الأخوان الأفضل والظاهر وشأنهما بدون أن يعدّل عمهما من جماحهما لاشتد غزو أحدهما لأخيه ، وهلك الناس بسببهما ، وكثرت الغوائل والحصارات ، هذا إن لم نقل إنه كان للعادل يد في توسيع شقة الخلاف بين أولاد أخيه ، فقد اتخذ العادل سياسة غريبة معهم يريد أن يوفق بينهم في الظاهر ولكن انتهى توفيقه بالاستيلاء على مصر والشام وبلاد الشرق ، وذلك بأن أخذ بعض المشاكسين لحزبه وكان بعد ذلك يغتنم فرصة حمل الأخ على أخيه فيملك الولايات على نحو ما ملك مصر ، ويخطب له فيها وتضرب السكة باسمه ويزال اسم أبناء صلاح الدين.

مثل أبناء صلاح الدين صورة من خلاف الإخوة بعد موت أبيهم ، والسبب في ذلك أن أباهم على بعد نظره لم يكتب لهم عهدا يبين لكل واحد حقه من هذا الملك الذي فتحه ووطد أساسه ، بل ترك الأمر للأقدار. وإذا خلف العسكر في دمشق لأكبر أولاده الأفضل فإن المملكة ليست عبارة عن دمشق ، بل حلب والقاهرة تنازعانها فضل التقدم ، ولو كانت أصول الوراثة في الملك متبعة في ذلك العصر لتوفر على الأمة وأبناء الدولة عناء كبير وشر مستطير ، ولما تعب الفاتح بفتوحه وخلف لأبنائه ميراثا يورثه هما وغما ، ويجنون بعملهم على الأمة الجناية بعد الأخرى.

٧٥

هذا وبقايا الصليبيين لم تبرح نازلة في عكا وصور وطرابلس ، ومن حسن الطالع أنهم لم يتحركوا للفتنة طول هذه المدة سوى مرة واحدة (٥٩٣) وقد وصل جمع عظيم منهم إلى الساحل واستولوا على قلعة بيروت ، فسار العادل ونزل بتل العجول ، وأتته النجدة من مصر ووصل إليه سنقر الكبير من القدس وميمون القصري من نابلس ، ثم سار العادل إلى يافا وهجمها وملكها بالسيف وخربها وقتل المقاتلة ، وكان هذا الفتح ثالث فتح لها. وخرب صيدا أيضا ونازلت الفرنج تبنين فأرسل العادل إلى العزيز صاحب مصر فسار العزيز بنفسه بمن بقي عنده من عساكر مصر ، واجتمع بعمه العادل على تبنين فرحل الفرنج إلى صور ثم عاد العزيز إلى مصر وترك غالب العسكر مع عمه العادل وجعل إليه أمر الحرب والصلح ، فطاول العادل الفرنج فطلبوا الهدنة واستقرت بينهم ثلاث سنين ورجع إلى دمشق.

ومن الأحداث على عهد العادل بعد أن صفا له ملك الشام ومصر وخضع أبناء أخيه صلاح الدين له ظاهرا وإن لم يخضعوا باطنا ، حصار ابنه الأشرف ماردين وسعى الظاهر (٥٩٩) في الصلح ، فأجاب العادل إلى أن يحمل إليه صاحب ماردين مائة وخمسين ألف دينار ويخطب له ببلاده ويضرب السكة باسمه ، ويكون بخدمته متى طلبه ، فأجيب إلى ذلك. وسار المنصور صاحب حماة إلى بعرين مرابطا للفرنج ، وكتب العادل إلى أميري بعلبك وحمص بإنجاده فأنجداه ، واجتمعت الفرنج من حصن الأكراد وطرابلس وغيرهما وقصدوا المنصور ببعرين واتقعوا معه ، فانهزم الفرنج ثم خرج الاسبتار من حصن الأكراد والمرقب ، وانضم إليهم جموع من الساحل والتقوا مع المنصور وهو على بعرين فانتصر عليهم ثانيا ، وأسر منهم عدة كثيرة وهادنهم (٦٠٠) وأرسل العادل وانتزع ما كان بيد الأفضل وهي رأس عين وسروج وقلعة نجم ولم يترك بيده غير سميساط وتوسلوا إليه في إبقاء ما كان بيده فلم يجب إلى ذلك.

وخرج الفرنج (٦٠٠) لقصد بيت المقدس فهرع العادل من دمشق ونزل على الطور وجرت الهدنة بينه وبينهم وسلم إلى الفرنج يافا والناصرة ونزل عن مناصفات لدّ والرملة. جاءت الفرنج (٦٠١) إلى حماة بغتة وأخذوا النساء

٧٦

الغسالات من باب البلد على العاصي وامتلأت أيديهم من الغنائم وخرج إليهم المنصور بن تقي الدين وأبلى بلاء حسنا ، وكسر عسكره ، وحاصر الحلبيون المرقب وكادوا يفتحونها لو لا قتل مقدمهم مبارز الدين ، ثم هزمت فرنج طرابلس الحلبيين وقتل خلق من المسلمين وصالح العادل الفرنج ، ووقعت الهدنة بين صاحب حماة وبينهم. وأغارت الأرمن (٦٠٢) على أعمال حلب فتسارع إليهم العسكر فبيتوهم وهزموهم ، وذهب الأرمن بالغنائم ، ثم تتابعت الغارات من صاحب سيس ابن لاون الأرمني على الديار الحلبية وهابته العسكر. قال سبط ابن الجوزي : وبلغ الظاهر صاحب حلب إغارة ابن لاون على حلب فخرج من حلب ونزل مرج دابق ، وجاء إلى حارم فهزم ابن لاون إلى بلاده وكان قد بنى قلعة فوق دربساك فأخربها الظاهر وعاد إلى حلب. ونازل العادل (٦٠٣) عكا فصالحه أهلها على إطلاق جمع من الأسرى ثم سار إلى حمص واستدعى العساكر فأتته من كل جهة ونازل حصن الأكراد وفتح برج اعناز وأخذ منه خمسمائة رجل ، ثم نازل طرابلس وعاث العسكر في ربعها وقطع قناتها وأخذ بالأمان القليعات وخربه ، حتى وقعت الهدنة بينه وبين الفرنج (٦٠٤) واستولى الملك الأوحد أيوب بن العادل على خلاط ، ووصل للعادل التشريف من الخليفة الإمام الناصر وتقليد بالبلاد التي تحت حكمه ، وخوطب الملك العادل شاهنشاه ملك الملوك خليل أمير المؤمنين ، وكثر هذه السنة الفرنج الذين بطرابلس وحصن الأكراد وأكثروا الغارة على حمص وولايتها فأنجد الظاهر غازي صاحب حلب صاحب حمص فمنعوا الفرنج عن ولايته.

وقطع العادل (٦٠٦) الفرات وجمع العساكر والملوك من أولاده ونزل حران ونازل سنجار ثم خامرت العساكر التي صحبته ، ونقض الظاهر الصلح معه ، فرحل عن سنجار واستولى على نصيبين والخابور وعادل العادل (٦٠٧) إلى دمشق وقصدت الكرج خلاط وحصروا الملك الأوحد بها وبعد أن نال ملكهم منه حمل ملك الكرج إلى الملك الأوحد فرد على الملك الأوحد عدة قلاع وبذل إطلاق خمسة آلاف أسير ومائة ألف دينار وعقد الهدنة مع المسلمين ثلاثين سنة وشرط أن يزوج ابنته من الملك الأوحد فتسلم ذلك منه

٧٧

وتحالفا ، وتوفي الملك الأوحد من قابل فسار أخوه الملك الأشرف وملك خلاط عاصمة إرمينية الوسطى ، واستقل بملكها مضافا إلى ما بيده من الأرجاء الشرقية.

وفي سنة (٦٠٧) أرسل نساء دمشق إلى سبط ابن الجوزي الواعظ المشهور شعورهن لتستعمل في الأدوات اللازمة للجهاد فعمل منها شكالا للخيل وكرفسات ولما صعد المنبر في الجامع الأموي أمر بإحضارها فحملت على الأعناق وكانت ثلاثمائة شكال فلما رآها الناس صاحوا صيحة عظيمة وقطعوا مثلها ثم المجاهدون ولحقوا بالملك المعظم بنابلس فخربوا في الأقاليم الواقعة تحت حكم الفرنج وقطعوا أشجارها وأسروا جماعة منهم ولم يجسر أحدهم أن يخرج من عكا وخاف الفرنج فأرسلوا إلى العادل وصالحهم.

وقبض المعظم (٦٠٩) على عز الدين أسامة صاحب قلعتي كوكب وعجلون بأمر العادل متهما بمكاتبة الظاهر ، فقال له المعظم بعد أن لاطفه : أنت شيخ كبير وبك تقوس وما تصلح لك قلعة سلم إليّ كوكب وعجلون وأنا أخلفك على مالك وملكك وجميع أسبابك وتعيش معنا مثل الوالد ، فامتنع وشتم المعظم وذكر كلاما قبيحا فلما أيس المعظم منه اعتقله في الكرك واستولى على قلاعه وأمواله وذخائره وخيله ، فكانت قيمة ما أخذ منه ألف ألف دينار. وحبس أسامة في الكرك إلى أن مات ، وأمر العادل بتخريب كوكب وتعفية أثرها فخربت ، وأبقى عجلون وملّك المعظم عمالة جهاركس وهي بانياس وما معها لأخيه العزيز عماد الدين ، وأعطى صرخد مملوكه أيبك المعظمي ، وأعطى العادل ولده المظفر غازي الرّها وميافارقين ، وفيها استولى البال القبرسي على أنطاكية فرميت تلك الأعمال منه بداهية ، وتابع الغارات على تركمانها فشردهم فتجمعوا وأخذوا عليه المضايق وحصل في واد فقتلوه وجميع رجاله وطافوا برأسه في أعمالهم ثم حملوه في البحر إلى العادل بمصر.

واستولى (٦١٢) الملك المسعود ابن الملك الكامل على اليمن واستولى ابن لاون الأرمني على أنطاكية من الفرنج وتوفي (٦١٣) الظاهر غازي ابن السلطان صلاح الدين صاحب حلب وأوصى بالملك لولده الصغير الملك العزيز محمد لأنه من بنت عمه العادل وطلب بذلك أن يستمر الأمر له لأجل جده العادل وأخواله وأولاده وبعد ذلك يكون الملك لولده الكبير الصالح صلاح الدين

٧٨

أحمد ، وبعدهما لابن عمهما المنصور محمد بن العزيز بن عثمان ، وحلف الأمراء والأكابر على ذلك ، وجعل الحكم في الأموال والقلاع إلى شهاب الدين طغريل الخادم ، وكانت مدة ملك الظاهر لحلب إحدى وثلاثين سنة ، وكان فيه بطش وإقدام على سفك الدماء ثم أقصر عنه ، وهو الذي جمع شمل البيت الناصري الصلاحي ولكن اختلافه مع أخيه الأفضل كان من أهم الأسباب في زوال الملك من ذرية صلاح الدين وكان الظاهر ذكيا فطنا. قال سبط ابن الجوزي : كان مهيبا له سياسة وفطنة وكانت دولته معمورة بالعلماء والفضلاء ، مزينة بالملوك والأمراء ، وكان محسنا إلى الرعية ملجأ الفقراء والغرباء وكهفا للملهوفين.

الحملة الصليبية الخامسة :

بينا كانت المملكة مشتغلة بالنصب والعزل وتقاتل أبناء البيت الواحد على الملك والسلطان ، اجتمعت الفرنج من داخل البحر ووصلوا إلى عكا في جمع عظيم وهذه هي الحملة الصليبية الخامسة (١٢١٩ ـ ١٢٢١ م) وكانت مؤلفة من ألمان ومجر أما الحملة الرابعة فكانت توقفت في طريقها إلى الشام واستولت (١٢٠٤ ـ ١٢٦١ م) على القسطنطينية فانفسخت بذلك الهدنة بين المسلمين والفرنج وخرج العادل بعساكر مصر ونزل على نابلس فسارت الفرنج إليه ، ولم يكن معه من العساكر ما يقدر به على مقاتلتهم ، فاندفع قدامهم الى عقبة فيق فأغاروا على أرض المسلمين وكانوا في خمسة عشر ألفا ووصلت غارتهم إلى نوى ونهبوا ما بين بيسان ونابلس وبثوا سراياهم فقتلوا وغنموا من المسلمين شيئا كثيرا وبلغوا خربة اللصوص والجولان ثم صعدوا إلى الطور ثم رجعوا إلى عكا ووصلت حملة منهم قدرها خمسمائة من صيدا إلى جزين فانهال عليهم الميادنة من الجبال فلم يفلت منهم سوى ثلاثة أشخاص.

قال المؤرخون : لما قتل كند من أكناد الفرنج المشهورين على الطور تشاءموا بالمقام عليه ، ورجعوا إلى عكا واختلفوا هناك فقال ملك الهنكر : الرأي أنّا نمضي إلى دمشق ونحاصرها فإذا أخذناها ملكنا الشام ، فقال الملك النوّام ، قالوا : إنما سمي بذلك لأنه كان إذ نازل حصنا نام عليه حتى يأخذه أي أنه كان صبورا على حصار القلاع واسمه دستريج ومعناه المعلم بالريش لأن أعلامه كانت الريش فقال : نمضي إلى مصر فإن العساكر مجتمعة عند العادل

٧٩

ومصر خالية ، فأدى هذا الاختلاف إلى انصراف ملك الهنكر مغاضبا إلى بلده فتوجهت باقي عساكرهم إلى دمياط فوصلوها ، والعادل نازل على خربة اللصوص بالشام وقد وجه بعض عساكره إلى مصر. وأقام العادل بمرج الصّفّر وأرسل إلى ملوك الشرق مستحثا لعساكرهم. ثم سار الفرنج إلى الديار المصرية ونزلوا على دمياط وسار الكامل من مصر ونزل قبالتهم ، وأرسل العادل العساكر التي عنده لدفعهم.

وخرب المعظم قلعة الطور (٦١٥) بعد أن غرم المسلمون على بنائها أموالا كثيرة واشتغلت فيها جيوش ، وذلك مخافة أن تكون سببا للاستيلاء على دمشق. ولما مات الظاهر صاحب حلب وأجلس ابنه العزيز وكان طفلا ، طمع صاحب الروم كيكاوس في الاستيلاء على حلب ، وكان موت الملك ونصب طفل من أبنائه سببا كبيرا لطمع أعداء المملكة بأخذها. فاستدعى الأفضل صاحب سميساط واتفق معه كيكاوس أن يفتح حلب وعمالتها ويسلمها إلى الأفضل ، ثم يفتح الأصقاع الشرقية التي بيد الأشرف بن العادل ويتسلمها كيكاوس ، وتحالفا على ذلك فاستولى كيكاوس على رعبان وسلمها إلى الأفضل ، فمالت إليه القلوب لذلك ، ثم سار إلى تل باشر فأخذها لنفسه فنفر الأفضل منه وتغيرت الخواطر عليه ، ووصل الأشرف إلى وحلب لدفع كيكاوس عن المملكة ، ووصل إليه بها مانع بن حديثة أمير العرب في جمع عظيم وكان كيكاوس سار إلى منبج وتسلمها لنفسه ، واتقع بعض عسكر الأشرف مع عسكر كيكاوس فانهزمت مقدمة هذا فولى كيكاوس منهزما ، ثم حاصر الأشرف تل باشر واسترجعها مع رعبان وغيرها وتوجه الأفضل إلى سميساط. وفي هذه السنة ورد الأمر إلى المعتمد والي دمشق بالاهتمام والاستعداد واستخدام الرجال وتخريب دروب قصر حجاج والشاغور وطرف البساتين ونقل غلة داريا إلى القلعة وتغريق أراضيها بالماء فإن الفرنج مظهرون قصدها. والتقى المعظم بالفرنج على القيمون فانتصر عليهم وقتل منهم مقتلة عظيمة وأسر من الداوية.

وفاة العادل :

توفي الملك العادل في عالقين في الجيدور (٦١٥) وكان نازلا بمرج الصفر وقد أرسل العساكر إلى مصر وولده الكامل بالديار المصرية ومدة ملكه نحو ١٩ سنة. وكان حازما متيقظا غزير العقل سديد الآراء ذا مكر وخديعة ، توصل بدهائه إلى أن يرشي نساء قواد الصليبيين بالجواهر والمصنوعات الدمشقية

٨٠