خطط الشام - ج ٢

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٢

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٠

يخصه إلّا من ملك كان له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة ومن الأموال المرصدة لمصالح المسلمين. أحضر الفقهاء واستفتاهم في أخذ ما يحل له من ذلك فأخذ ما أفتوه بحله ولم يتعده إلى غيره البتة. وأسقط كل ما يدخل في شبهة الحرام فما أبقى سوى الجزية والخراج وما يحصل من قسمة الغلات وكتب أكثر من ألف منشور بذلك. وأطلق المظالم بحلب ودمشق وحمص وغيرها وأسقط من دواوينه عن المسافرين الضرائب والمكوس وحرمها على كل متطاول إليها ، فكان مبلغ ما سامح به في حلب وما إليها فقط في السنة ١٥٦ ألف دينار وما وقفه وتصدق به مائتي ألف دينار ، وتقدير الحاصل من ارتفاعه في كل سنة ثلاثون ألف دينار ، وأقطع أمراء العرب لئلا يتعرضوا للحاج وجدد قني السبل ووقف الكتب الكثيرة ، وأجرى على العلماء والقراء. ولقد رأى أصحابه على ما روى ابن الأثير كثرة خرجه فقال له أحدهم : إن لك في بلادك إدرارات وصدقات كثيرة على الفقهاء والفقراء والصوفية والقراء فلو استعنت بها في هذا الوقت لكان أصلح فغضب من ذلك وقال : والله إني لا أرجو النصر إلا بأولئك فإنما أنتم ترزقون وتنصرون بضعفائكم. كيف أقطع صلات قوم يقاتلون عني وأنا نائم على فراشي بسهام لا تخطىء وأصرفها الى من لا يقاتل عني إلا إذا رآني بسهام قد تصيب وقد تخطىء. وهؤلاء القوم لهم نصيب في بيت المال كيف يحل لي أن أعطيه غيرهم؟.

وكان يأخذ مال الفداء ويعمر به الجوامع والبيمارستانات وأخذ من أحد ملوك الفرنج ثلاثمائة ألف دينار وشرط عليه أن لا يغير على ديار الإسلام سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وأخذ منه رهائن على ذلك وبنى بالمال المستشفى النوري بدمشق ، ولما بلغ الملك الفرنجي مأمنه هلك. وكان يبعث بما يصل إليه من هدايا وغيرها إلى القاضي يبيعه ويعمر به المساجد المهجورة ولا يتناول منه شيئا ، وأمر بإحصاء مساجد دمشق فأحصيت مائة مسجد فوقف الأوقاف على جميعها ، وكانت وقوفه في الشام سنة وفاته ١٠٨ آلاف دينار صورية ليس فيها ملك فيه كلام بل حق ثابت بالشرع باطنا وظاهرا صحيح الشراء. وكان آية الرحمة على الفقراء والعدل في الرعية غضيضة عن الشر عينه ثقيلة عن الباطل قدمه. حضر جماعة من التجار عنده وشكوا أن القراطيس كان ستون منها بدينار وتزيد وتنقص فيخسرون فسأل الملك العادل عن كيفية الحال ، فذكروا أن عقد المعاملة على اسم الدينار

٤١

ولا يرى الدينار في الوسط وإنما يعدون إلى القراطيس بالسعر تارة ستين بدينار وتارة سبعة وستين بدينار ، وأشار كل واحد من الحاضرين على نور الدين أن يضرب الدينار باسمه وتكون المعاملة بالدنانير الملكية وتبطل القراطيس بالكلية ، فسكت ساعة وقال : إذا ضربت الدينار وأبطلت المعاملة بالقراطيس فكأني ضربت بيوت الرعية. فإن كل واحد من السوقة عنده عشرة آلاف وعشرون ألف قرطاس ، في شيء يعمل به فيكون سببا لخراب بيته.

قالوا ، والحق ما قالوا ، إن نور الدين جدد للملوك اتباع سنة العدل والإنصاف ، وترك المحرمات وعاقب من يأتيها ، فإنهم كانوا قبل ذلك كالجاهلية همة أحدهم بطنه وفرجه ، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا ، حتى جاء الله بدولته فكانت مصباح الحق ومنار العدل ، وقف مع أوامر الشرع ونواهيه ، وألزم بذلك أتباعه وذويه فاقتدى به غيره منهم ، وكان يروي الحديث ويرويه ، وقد ألف كتابا في الجهاد ، وكان يباشر الإشراف على خيل الجند وسلاحهم بنفسه ، ولا يتكل على خواده ، ولا يقطع أمرا قبل أن يستأذن الخليفة ببغداد. وكان في السياسة والدهاء على جانب عظيم ، تجلى ذلك يوم خيانة مجير الدين صاحب دمشق ولما أخذه أغضى عنه ، وكان يكره إهراق الدماء والحرب على غير طائل ، مع شجاعة ليس بعدها مزيد ومعرفة بالرماية تضرب بها الأمثال ، ومن جيد الرأي ما سلكه مع مليح بن قيون ملك الأرمن صاحب الدروب فإنه ما زال يخدعه ويستميله حتى جعله في لدمته سفرا وحضرا ؛ وكان يقاتل به الفرنج ويقول : إنما حملني على استمالته أن بلاده حصينة وعرة المسالك ، وقلاعه منيعة وليس لنا إليها طريق ، وهو يخرج منها إذا أراد فينال من الإسلام ، فإذا طلب انحجز فيها فلا يقدر عليه ، فلما رأيت الحال هكذا بذلت له شيئا من الأقطاع على سبيل التآلف حتى أجاب إلى طاعتنا وخدمتنا وساعدنا على الفرنج. وكان متملك الروم خرج من القسطنطينية وتوجه إلى الشام طامعا في تسلم أنطاكية فشغله عن مرامه بالمراسلة إلى أن وصل أخوه قطب الدين في جنده من المواصلة وجمع له الجيوش والعساكر ، فأيس الرومي من بلوغ ما كان يرجو وتمنى منه الصلح فاستقر رجوعه إلى بلاده.

وقال مترجموه : إنه كان يكثر إعمال الحيل والمكر والخداع مع الفرنج وأكثر ما ملكه من بلادهم بهذه الأساليب ، أما أعماله في رد المظالم وتخفيف المغارم

٤٢

فسيرته فيها سيرة عمرية ، وأما إنشاؤه المدارس والجوامع وعمارة الطرق والجسور ودور المرضى والبائسين والخانات فمما لم يسبق إليه ، أقام الأبراج على الطرق بين المسلمين والفرنج جعل فيها من يحفظها ومعهم الطيور الهوادي أي الزاجل فإذا رأوا من العدو أحدا أرسلوا الطيور فأخذ الناس حذرهم واحتاطوا لأنفسهم ، وبنى مكاتب للأيتام وأجرى عليها وعليهم وعلى معلميهم الجرايات الوافرة فصارت الشام بعد خلوها من العلم وأهله مقر العلم ومباءة الفقه.

هذه حال ملك القرون الوسطى وحسن بلائه في خدمة أمته وهو يقاتل الأعداء في الغرب والجنوب ، وقد فتح نيّفا وخمسين حصنا وأقام المعالم وهو مشتغل بحفظ الأوطان ، لم يدخل اليأس على نفسه ولم يخامره الشك بأن العاقبة المحمودة تكون له وللمسلمين ، وأنه سيظهر على عدوه فيدفعه عن حماه. مع أن مدة ملكه في الشام لم تتجاوز أربعا وعشرين سنة. لا جرم أن ظهور بني زنكي نعمة أنعمت بها الأقدار على هذه الديار ، فخرجت بها من انقسام الكلمة وتشتت الأهواء والآراء ، ومن خيانة الملوك والأمراء ، والاعتضاد بالمحاربين من الأعداء إلى تماسك وتعاضد ، ومن ظلمة الجهل والغرور إلى ضياء العلم والنور ، ومن سلب أموال الأمة إلى إمتاعها بالعدل الشامل والأمن الكامل. بسقت فروعها في أيسر زمن وأحرج العصور ، فخطب الناس ودّها في كل مكان وودوا لو كان لها الحكم عليهم ، ورجا أولياؤها أن تطول أيامها لأنها لا تسوق الناس إلا إلى طرق فلاحهم وسعادتهم.

٤٣

الدولة الصلاحية

«من سنة ٥٦٩ الى سنة ٥٨٩»

أولية صلاح الدين والملك الصالح :

توفي نور الدين محمود بن زنكي وكان له السلطان الأكبر على القلوب تحبه رعيته ويخافه أعداؤه ويحترمونه ، وبعدله وسيرته وجميل سياسته وإداراته ، وطد أساس ملكه ، ووحد كلمة الشام ومصر والجزيرة ، وأنشأ عظماء في دولته كانوا ساعده الأيمن وعضده الأقوى ففتحوا الفتوح باسمه ويمن نقيبته ، وصدروا كلهم عن رأيه ومشورته ، ومن أعظمهم بل أعظمهم صلاح الدين يوسف بن نجم الدين أيوب. وأصل صلاح الدين من دوين بلدة في آخر عمل أذربيجان من جهة إيران وبلاد الكرج وهم أكراد زوادية وهي قبيلة كبيرة تعد من أشراف الأكراد ، وانتقل أهله من هناك إلى العراق ثم عين نجم الدين أيوب والد صلاح الدين محافظا لقلعة تكريت وفيها ولد ابنه هذا ، وكان نجم الدين أيوب بن شاذي حسن الخلق عادلا شجاعا كريما دينا محسنا ربي في الموصل ونشأ شجاعا باسلا وخدم السلطان محمد بن ملكشاه السلجوقي ، فرأى منه أمانة وعقلا وسدادا وشهامة ، فولاه قلعة تكريت فقام في ولايتها أحسن قيام ، حتى عمرت أرضها وأمنت سبلها ثم أضيفت إليه ولايتها ، وكان نجم الدين عظيما في أنفس الناس بالدين والخير وحسن السياسة ، واتصل بنور الدين محمود فكان من جملة قواده ونوابه. وهذا الرجل العظيم هو الذي أولد رجلا أعظم وهو صلاح الدين.

وكأن الزمن العصيب الذي ظهر فيه ظهير الدين ثم نور الدين ثم صلاح الدين كان يتطلب ملوكا كفاة أثبتوا بالعمل مقدرتهم السياسية والحربية ، وأبرزوا

٤٤

من آثار نجدتهم وجلادتهم ما تطأطىء أمامه الرؤوس فلا يصفق الناس لهم زورا ورياء ولا يدعون لهم على المنابر بما لا يقبل ولا يسمع إن لم يكن بين جنوبهم نفوس عالية ممتازة قلّ في طبقة قواد الأمم مثلها. ولم يبق في الحقيقة بعد نور الدين من يصلح لهذا الأمر مثل صلاح الدين لأنه أنبغ رجاله وأكبرهم مقاما وشأنا وأقربهم إلى قلوب الأمة ، وهو ملك مصر حقا ، ومن ملك مصر كان حريا بأن يملك الشام ، خصوصا والشام يحبه ، لما بدا من غنائه ومضائه في نصرة الملة والدولة.

ولكن نور الدين قد خلف ولدا يقضي قانون الوراثة في الملوك في تلك الأعصر بأن يرث الابن ملك أبيه كما يرث قصره ومزرعته مهما كانت سنه ، ويتولى رجال الدولة أمره ويكفله من يعطفون على دولته ومن غذوا بنعمة أبيه وآله ، بيد أن الحالة السياسية في الشام ومصر وما إليهما من الممالك كانت بحيث يقتضي الشذوذ عن هذه القاعدة ولو إلى حين ، فيوسد الملك إلى من جمعت أشخاصهم الكفاءة قبل كل شيء لتخرج المملكة من مأزقها الحرج ، وهذا لا يتيسر أن ينهض به ولد يافع بلغ من العمر إحدى عشرة سنة ، ونعني به ابن نور الدين الملك الصالح إسماعيل. فانظر كيف تصرفت الأقدار بما فيه الخير ، ولم تترك مصالح الدولة للأصول السخيفة في توسيد الملك للكبير والصغير على السواء.

توفي في دمشق نور الدين في سنة (٥٦٩) وبالحال ملك ابنه الصالح إسماعيل وحلف له العسكر بدمشق وأطاعه صلاح الدين وخطب له بمصر وضرب السكة باسمه ، ودبر دولته شمس الدين بن المقدم من أعظم أمراء أبيه ، واستولى سيف الدين غازي شقيق نور الدين محمود على الديار الجزرية وهي لنور الدين ، وكان صلاح الدين في مصر ، فجعل الملك للملك الفتى كما كان لأبيه من قبل. بيد أنه من المتعذر إدارة المملكة في ذاك العصر إذا لم يحكمها رجل عظيم استوفى شروط الحكم ، فيصدر عن رأي واحد يمحضه أولا بمشورة رجال دولته ويكون هو المرجع فيه والمسؤول عنه ، يهتم لملكه اهتمامه بابنه وابنته ، وهل يتيسر ذلك إذا تشعبت الآراء. وكان صاحب الملك الرسمي قاصرا وأوصياؤه يدبرونه وربما كان فيهم من تطمح نفسه إلى الاستئثار بالسلطة ، ومتى كان الوكيل كالأصيل ، والمتنفل كالمكلف :

ممالك لم يدبرها مدبّرها

إلا برأي خصيّ أو بعقل صبي

٤٥

اختلاف الآراء واستيلاء صلاح الدين على الشام :

ولما بدأت نواجذ الاختلاف تبدو بين الأمراء في الشام شعر صلاح الدين وهو بمصر أن هذا الفراغ الذي حدث بموت نور الدين يستلزم أن يملأه رجل تجمع القلوب على حبه ، وأن يصل السلسلة المقطوعة بمهلكه وإلّا انفرط العقد كله ، وتصبح الديار فوضى وتفتح أبوابها على مصاريعها لدخول الدخلاء يستصفونها وتصبح بالشقاق الداخلي أبشع صورة مما كانت على عهد أواخر الدولة الأتاكية أخلاف الأتابك ظهير الدين.

واتفق نزول الفرنج بعد وفاة نور الدين على الثغر وقصدهم بانياس فخرج إليهم شمس الدين بن المقدم وراسل الفرنج وخوفهم بقصد صلاح الدين لأرضهم وقال لهم : أنتم تعلمون أن صلاح الدين كان يخاف أن يجتمع بنور الدين ، والآن فقد زال ذلك الخوف وإذا طلبناه إلى بلادكم لا يمتنع ، فعلموا صدقه وصالحوه ، وتكلموا في الهدنة وحصلوا بقطيعة استعجلوها واستطلقوا عدة من أساراهم وتمت المصالحة. وفي تهديد ابن المقدم للفرنج بصلاح الدين أعظم دليل على مكانته في قلوب رجال الدولة وأن الصليبيين عرفوا أنهم ابتلوا بداهية لا يقل عن نور الدين بحسن تدبيره وشجاعته.

بلغ صلاح الدين ما تم بين ابن المقدم والفرنج فأنكره ولم يعجبه ، وكتب إلى جماعة الأعيان كتابا يقوعهم فيه ويلومهم ، ويقول إنه تجهز وخرج وسار أربع مراحل ثم جاءه الخبر بالهدنة المؤذنة بذل الإسلام فعاد إلى مقره. وقد «استصغر أمر أهل الشام وعلم ضعفهم» وقال : «إن استمرت ولاية هؤلاء تفرقت الكلمة المجتمعة ، وضاقت المناهج المتسعة ، وانفردت مصر عن الشام». قال ابن شداد : لما تحقق صلاح الدين وفاة نور الدين وكون ولده طفلا لا ينهض بأعباء الملك ، ولا يستقل بدفع العدو عن البلاد تجهز للخروج الى الشام إذ هو أجلّ بلاد الإسلام. وقد كان صلاح الدين ينوي أن يتولى تربية ابن مخدومه نور الدين وكتب : «إن الوفاء إنما يكون بعد الوفاة ، والمحبة إنما تظهر آثارها عند تكاثر أطماع العداة». ولكن الأمراء في الشام أخذ كل منهم يعمل على شاكلته ، ويريد أن يستأثر بالأمر دونه وهو أحق منهم وأولى.

٤٦

ثم إن شمس الدين بن الداية مقدم العساكر المقيم بحلب ورضيع نور الدين وأكبر أمرائه أرسل سعد الدين كمشتكين الى دمشق يستدعي الى حلب الملك الصالح بن نور الدين ليكون مقامه بها ، ولما استقر بحلب وتمكن كمشتكين قبض على شمس الدين بن الداية وإخوته وعلى الرئيس ابن الخشاب وإخوته ، واستبد سعد الدين بتدبير الملك الصالح مخافة ابن المقدم وغيره من الأمراء الذين بدمشق ، وكاتبوا صلاح الدين في مصر واستدعوه ليملكوه عليهم (٥٧٠) فسار صلاح الدين جريدة في سبعمائة فارس فوصل إلى بصرى وكان صاحبها يستحثه على القدوم ، ولما بلغ دمشق خرج كل من كان بها من العسكر والتقوه وخدموه ، وعصت عليه القلعة وكان فيها من جهة الملك الصالح خادم اسمه ريحان فراسله صلاح الدين واستماله فسلم القلعة إليه ، فصعد اليها صلاح الدين وأخذ ما فيها من الأموال. ثم كتب الى الملك الصالح بن نور الدين كتابا يتواضع له فيه ويخاطبه بمولانا وابن مولانا ويقول : إنما جئت من مصر خدمة لك لأؤدي ما يجب من حقوق المرحوم ، فلا تسمع ممن حولك فتفسد أحوالك وتختل أمورك ، وما قصدي إلّا جمع كلمة الإسلام على الفرنج. فعرض الملك الصالح ذلك على أمراء دولته فأشاروا عليه بأن يكاتبه بالغلظة فكتب إليه منكرا عليه ، وينسبه إلى كفر النعمة وجحد إحسان والده ووعده وهدده فساء ذلك صلاح الدين وأغضى على القذى وكظم غيظه.

ولما قرر صلاح الدين أمر دمشق استخلف بها أخاه سيف الإسلام طغتكين بن أيوب وسار إلى حمص وكانت حمص وحماة وبارين وسلمية وتل خالد والرّها في إقطاع فخر الدين مسعود بن الزغفراني فلما مات نور الدين لم يمكن فخر الدين المقام بحمص وحماة لسوء سيرته مع الناس ، وكانت هذه العمالة له بغير قلاعها فإن قلاعها كان فيها ولاة لنور الدين وليس لفخر الدين معهم في القلاع حكم الإبارين ، فملك صلاح الدين مدينة حمص وعصت عليه القلعة فترك عليها من يضيق عليها ودكوها ورحل الى حماة فاستغاث صاحبها بالإسماعيلية وأعطاهم ضياعا ومالا ليستعين بهم على صلاح الدين ، فلم يلبث أن ملك مدينة حماة وكان بقلعتها عز الدين جرديك أحد المماليك النورية فامتنع في القلعة فذكر له صلاح الدين أنه ليس له غرض سوى حفظ البلاد للملك الصالح إسماعيل وإنما هو نائبه ، وقصده من جرديك المسير إلى حلب في رسالة فاستخلفه جرديك على ذلك

٤٧

وسار إلى حلب برسالة صلاح الدين واستخلف في قلعة حماة أخاه ، فلما وصل جرديك إلى حلب قبض عليه كمشتكين وسجنه ، فلما علم أخوه بذلك سلم قلعة حماة إلى صلاح الدين ، ثم سار هذا الى حلب وحصرها وبها الملك الصالح إسماعيل ، فجمع أهل حلب وقاتلوا صلاح الدين وصدوه عن مدينتهم ، وأرسل سعد الدين كمشتكين إلى سنان مقدم الإسماعيلية أموالا عظيمة ليقتلوا صلاح الدين فأرسل سنان جماعة فوثبوا بصلاح الدين فقتلوا دونه ، واستمر صلاح الدين محاصرا لحلب ورحل عنها بسبب نزول الفرنج على حمص ، فعاد إليهم فرجعوا أدراجهم ، ووصل صلاح الدين إلى حمص فحصر قلعتها وملكها ثم سار إلى بعلبك فملكها.

تملك صلاح الدين ومحاولة اغتياله وسر نجاحه :

ولما استقر ملك صلاح الدين أرسل الملك الصالح إلى ابن عمه سيف الدين غازي صاحب الموصل يستنجده على صلاح الدين فجهز جيشه ، وطلب أخاه الأكبر عماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار ليسير في النجدة أيضا فامتنع مصانعة لصلاح الدين ، ووصل عسكر الموصل وانضم إليه عسكر حلب وساروا إلى صلاح الدين ، فأرسل صلاح الدين يبذل حمص وحماة وأن تقر بيده دمشق ، وأن يكون فيها نائبا للملك الصالح ، فلم يجيبوا إلى ذلك وساروا إلى قتاله ، واقتتلوا عند قرون حماة فانهزم عسكر الموصل وحلب ، وحينئذ قطع صلاح الدين خطبة الملك الصالح بن نور الدين وأزال اسمه عن السكة واستبد بالسلطنة فراسلوا صلاح الدين في الصلح على أن يكون له ما بيده من الشام ، وللملك الصالح ما بقي بيده منه ، فصالحهم على ذلك ورحل ثم ملك قلعة بارين كما صالح بني رزيك على أن يكون له إلى حد المعرة ولهم ما يلي ذلك فنقض الحلبيون الصلح الذي كان بينهم وبين صلاح الدين وجاء سيف الدين غازي في عساكر الموصل وديار بكر وحلب وعدتهم عشرون ألفا بين فارس وراجل ، وعسكر صلاح الدين ستة آلاف عدا ما جاء بعد من مصر. وقال رسول سيف الدين لصلاح الدين إنه رأى صلاح الدين في خيمة صغيرة على بساط لطيف وتحته سجادة وبين يديه مصحف وهو مستقبل القبلة والى جانبه زرديته وسيفه وقوسه وتركاشه (جعبته) معلق في عمود الخيمة ،

٤٨

فلما رأيته وقع في خاطري أنه المنصور لأنني فارقت سيف الدين والأمراء وهم على طنافس الحرير والخمور تراق والطبول تعمل ، وليس في خيامهم خيمة إلا وفيها أنواع المحرمات ، فأديت اليه الرسالة وجاء وقت الظهر فضج العساكر بصوت الآذان وفي كل خيمة إمام. قال سبط ابن الجوزي : إن صلاح الدين لما هزم جيش سيف الدين عاد الى خيامهم فوجد سرداق سيف الدين مفروشا بالرياحين ، والمغنون جلوس في انتظاره ، والخمور تراق ومطابخه بقدورها ، وفيه أقفاص الطيور فيها أنواع من القماري والبلابل والهزارات ، فأرسل صلاح الدين بما كان في السرادق من المغنين والخمور والطيور إليه وقال للرسول : قل له اشتغالك بهذا أليق من مباشرتك الحروب ولا تعد إلى مثلها. وكان هذا المصاف بين السلطان صلاح الدين وسيف الدين غازي في سنة (٥٧١) فهرب سيف الدين والعساكر التي كانت معه وكان استنجد بعد هزيمته في قرون حماة بصاحب حصن كيفا وصاحب ماردين وغيرهما ثم سار صلاح الدين الى بزاعة فحصرها وتسلمها وقصد منبج فحصرها وافتتحها عنوة. ولما جلس يستعرض أموال صاحبها وذخائره كان في جملة أمواله ثلاثمائة ألف دينار ومن الفضة والآنية الذهبية والأسلحة ما يناهز ألفي ألف دينار ، فحانت من السلطان التفاتة فرأى على الأكياس والآنية مكتوبا «يوسف» فسأل عن هذا الاسم فقيل له : ولد يحبه ويؤثره اسمه يوسف كان يدخر هذه الأموال له فقال السلطان : أنا يوسف وقد أخذت خبىء فتعجب من ذلك (رواه ابن أبي طي).

ثم سار السلطان الى عزاز ونازلها وتسلمها فوثب إسماعيلي على صلاح الدين في حصاره عزاز فضربه بسكين في رأسه فجرحه فأمسك صلاح الدين يدي الإسماعيلي وبقي يضرب بالسكين فلا يؤثر حتى قتل الإسماعيلي على تلك الحال ووثب آخر عليه فقتله أيضا وجاء السلطان الى خيمته مذعورا وعرض جنده وأبعد من أنكره منهم. وهكذا فإن صاحب حلب أو نائبه أو جماعة دولته ، وصاحب حماة أو نائبه أو حملة غاشيته صمموا على اغتيال صلاح الدين بأيدي الخوارج حرصا على ملك قد يسلم لهم فيستمتعون به زمنا أولا يستمتعون ، ولو وفقوا الى قتله لقتلوا به أمة بأسرها حتى يعيشوا سنين في دعة ومجد ، وما أكثر الأدعياء في كل زمن في حب دينهم وقوميتهم ، فإذا لم ينالوا رغائبهم ساروا على العمياء لحظ أنفسهم فقط.

٤٩

وبعد تسليم عزاز لصلاح الدين جاء حلب فحاصرها وبها الصالح بن نور الدين فسألوا صلاح الدين في الصلح فأجابهم اليه وسألوه قلعة عزاز فسلمها إليهم ، ورفع على حلب علمه الأصفر ، ورحل عنها في المحرم (٥٧٢) ورجع من كورة الإسماعيلية وحصر قلعة مصياف ، فسأله خاله شهاب الدين الحارمي صاحب حماة الصفح عنهم بسؤال سنان فرحل عنهم إلى مصر ، وسنان هذا هو أبو الحسن سنان بن سليمان بن محمد الملقب راشد الدين صاحب قلاع الإسماعيلية ومقدم الفرقة الباطنية بالشام وإليه تنسب الطائفة السنانية وهو الذي كتب إلى صلاح الدين جواب كتاب كان هدده فيه على ما نقل ذلك ابن خلكان وافتتحه بقوله :

يا ذا الذي بقراع السيف هدّدنا

لا قام مصرع جنبي حين تصرعه

قام الحمام إلى البازي يهدّده

واستيقظت لأسود البرّ أضبعه

أضحى يسدّ فم الأفعى بإصبعه

يكفيه ما قد تلاقي منه إصبعه

ثم أردف هذه الأبيات بكتاب كله تهديد لصلاح الدين وقد كتب إليه مرة أخرى :

بنا نلت هذا الملك حتى تأثلت

بيوتك فيها واشمخّر عمودها

فأصبحت ترمينا بنبل بنا استوى

مغارسها منا وفينا حديدها

وفي ذلك بيان لقوة الإسماعيلية في عصر صلاح الدين وكانوا يتهددونه كما يتهددهم ولذلك كان يغضي في الغالب عنهم وإن حاولوا اغتياله غير مرة. ولما بلغ عسقلان (٥٧٣) وشن الغارات على الفرنج طلعوا عليه وهو في بعض العسكر فقاتلهم أشد قتال ، وقاربت حملات الفرنج السلطان فانهزم إلى مصر على البرية ومعه من سلم ، فلقوا مشقة وعطشا وأسر الفرنج العسكر المتفرق في الإغارة ، وأسر الفقيه عيسى من أكبر أصحاب صلاح الدين فافتداه بعد سنين بستين ألف دينار هذا مع أن جيش صلاح الدين كان نحو عشرين ألفا وقعت الكسرة عليهم لأنهم كانوا متفرقين في الغارات وكسروا ومعظمهم لم يعلم بالهزيمة. وفي هذه السنة حصر الفرنج حماة طمعا بهزيمة صلاح الدين وبعده وكادوا يملكونها فجد المسلمون في القتال ثم رحلوا عنها إلى حارم. وفيها قبض الملك الصالح على كمشتكين متغلبا على الأمر وكانت له حارم فعذب كمشتكين وأصحابه ليسلموا

٥٠

قلعة حارم فأصروا على الامتناع حتى مات من العذاب ، ووصل الفرنج من حصار حماة ، وحصروا حارم أربعة أشهر فداراهم الصالح بمال فرحلوا عنها بعد بلوغ أهلها الجهد ، ثم أرسل الملك الصالح عسكرا فحصروها وملكوها.

فتوح صلاح الدين ووفاة الملك الصالح :

أرسل صلاح الدين (٥٧٤) إلى شمس الدين بن المقدم ليسلم بعلبك إلى توران شاه فعصى بها فحصره صلاح الدين تسعة أشهر ثم عوض عنها وسلمها إلى توران شاه (٥٧٥) وبعث السرايا والغارات إلى أرض الفرنج بعد موت ملكهم ، وكان هذا يريد أن يغير على دمشق فأخذه رجال صلاح الدين وأسروه وغنموا ما مع جماعته ، وفتح صلاح الدين حصنا كان بناه الفرنج عند مخاضة الأحزان بالقرب من بانياس ، وكان الفرنج انتهزوا فرصة مقام صلاح الدين على بعلبك واشتغاله بأمرها فبنوا حصنا على مخاضة بيت الأحزان وبينه وبين دمشق مسافة يوم وبينه وبين صفد وطبرية نصف يوم ، فراسل السلطان الفرنج في هدمه فأجابوا أنه لا سبيل الى هدمه إلّا أن يعطينا ما غرمنا عليه فبذل لهم السلطان ستين ألف دينار فامتنعوا فزادهم إلى أن بلغ مائة ألف دينار ، وكان الداوية أصحاب الحصن لقطعون هناك الطرق على القوافل فخربه المسلمون ، وكانت الحرب بين عسكر صلاح الدين ومقدّمهم ابن أخيه تقي الدين عمر وبين عساكر قليج أرسلان بين مسعود صاحب الروم ، وسببها أن حصن رعبان كان بيد شمس الدين بن المقدم فطمع فيه قليج أرسلان وأرسل إليه عسكرا كثيرا ليحصروه وكانوا قريب عشرين ألفا فسار إليهم تقي الدين في ألف فارس فهزمهم وكان تقي الدين يفتخر ويقول هزمت بألف عشرين ألفا. وفي هذه السنة أحرق الإسماعيلية أسواق حلب وافتقر أهلها بذلك وكانت إحدى الجوائح التي أصابت الشهباء وسكانها. وسار صلاح الدين (٥٧٦) إلى مملكة قليج أرسلان صاحب الروم ووصل إلى رعبان ثم اصطلحوا فقصد صلاح الدين ولاية ابن ليون الأرمني وشن فيها الغارات فصالحه ابن ليون على مال حمله وأسرى أطلقهم.

وفي سنة (٥٧٧) عزم صاحب الكرك الفرنجي على المسير إلى المدينة المنورة للاستيلاء على تلك النواحي ، وسمع ذلك عز الدين فرخشاه نائب عمه صلاح

٥١

الدين بدمشق فقصد الكرك وأقام عليها ، ففرق صاحب الكرك جموعه وانقطع عزمه عن الحركة. وفي هذه السنة توفي الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين وعمره نحو ١٩ سنة وأوصى بملك حلب الى ابن عمه عز الدين مسعود صاحب الموصل فسار إليها بعد موت الصالح ومعه مجاهد الدين قيماز واستقر في ملكها فكاتبه أخوه زنكي بن مودود صاحب سنجار على أن يعطيه حلب ويأخذ سنجار وأشار قيماز بذلك فأجاب وعاد الى الموصل.

قال ابن الاثير : إن بعضهم قال للملك الصالح وهو يوصي بالملك بعده : إن عماد الدين ابن عمك أيضا وهو زوج أختك وكان والدك يحبه ويؤثره وهو تولى تربيته وليس له غير سنجار فلو أعطيته البلد (حلب) لكان أصلح ولعز الدين من الفرات إلى همذان ولا حاجة به إلى بلدك فقال له : إن هذا لم يغب عني ولكن قد علمتم أن صلاح الدين قد تغلب على عامة الشام سوى ما بيدي ، ومتى سلمت حلب إلى عماد الدين فعجز عن حفظها ملكها صلاح الدين ولم يبق لأهلنا معه مقام ، وإن سلمتها إلى عز الدين أمكنه حفظها بكثرة عساكره وأرضه فاستحسنو قوله وعجبوا من جودة فطنته مع شدة مرضه وصغر سنه.

وفي سنة (٥٧٨) قصد صلاح الدين الشام من مصر وأغار في طريقه على الفرنج وغنم ، واجتمع الفرنج قرب الكرك ليكونوا على طريقه لما سار ، فانتهز فرخشاه نائب صلاح الدين بدمشق الفرصة وفتح بعسكر الشام الشقيف وأغار على ما يجاوره وفتح دبورية وجاء إلى شقيف «حبس جلدك» بالسواد من أعمال طبرية وهو حصن يشرف على أرض المسلمين ففتحه. ونزل صلاح الدين قرب طبرية وشن الغارات على بيسان وجنين واللجون والغور من مملكة الفرنج حتى بلغت عساكره مرج عكا فغنم وقتل وحصر بيروت وأغار على تلك الأرجاء ونهب بلدها وكان قد أمر الأسطول المصري بالمجيء في البحر إليها فساروا ونازلوها وأغاروا عليها وعلى بلدها ، وكان عازما على ملازمتها إلى أن يفتحها فأتاه الخبر وهو عليها أن البحر قد ألقى إلى دمياط بطسة للفرنج فيها جمع عظيم منهم كانوا قد خرجوا لزيارة بيت المقدس فأسروا من بها بعد أن غرق منهم كثير ، فكان عدة الأسرى ١٦٧٦ أسيرا. ثم عبر السلطان الفرات إلى البيرة فصار معه مظفر الدين كوك بوري صاحب حران واستمال ملوك الأطراف فصار معه نور الدين محمد بن

٥٢

قرا أرسلان صاحب حصن كيفا وحاصر الرّها وملكها وسلمها إلى كوك بوري ثم أخذ الرقة وقرقيسيا وماكسين وعربان والخابور جميعا ثم ملك نصيبين وقلعتها ثم حصر الموصل وبها صاحبها عز الدين مسعود ومجاهد الدين قيماز وقد شحنت رجالا وسلاحا وحاصر سنجار وملكها وأتاه الخبر أن الفرنج قصدوا دمشق ونهبوا القرى ووصلوا إلى داريا وأرادوا تخريب جامعها فأرسل النائب بدمشق إليهم جماعة من النصارى يقول لهم : إن أخربتم الجامع جددنا عمارته وأخربنا كل بيعة لكم في أرضنا ولا نمكن أحدا من عمارتها فتركوه.

قصد الفرنج المقيمون بالكرك والشوبك المسير لمدينة الرسول لينبشوا قبره الشريف وينقلوا جسده الكريم إلى بلادهم ويدفنوه عندهم ولا يمكنوا المسلمين من زيارته إلا بجعل فأنشأ البرنس أرناط صاحب الكرك أسطولا في بحر أيلة (العقبة) وجعله فرقتين فرقة حصرت حصن أيلة وفرقة سارت نحو عيذاب يفسدون في السواحل بغتة ، ولم يعهد بهذا البحر فرنج قط ، فعمر الملك العادل أبو بكر بن أيوب نائب الناصر بمصر أسطولا في بحر عيذاب وأرسل به مع حسام الدين لؤلؤ الحاجب متولي الأسطول بمصر ، فأوقع لؤلؤ بمحاصري أيلة فقتل وأسر ، ثم طلب الفرقة الثانية وقد عزموا على دخول المدينة ومكة فبلغ رابغ ، فأدركهم بساحل الحوراء وقاتلهم أشد قتال فقتل أكثرهم وأسر الباقين وأرسل بعضهم إلى منى لينحروا بها وعاد بالباقين فقتلوا عن آخرهم بمصر.

وملك صلاح الدين آمد (٥٧٩) وكان وعد بها محمد بن قرا أرسلان صاحب حصن كيفا وسقط فيها على خزانة كتب فيها ألف ألف وأربعون ألف كتاب فوهبها لوزيره القاضي الفاضل فانتخب منها حمل سبعين جملا ، وكان فيها من الذخائر ما يساوي ثلاثة آلاف ألف دينار ، فوهبها لابن قرا أرسلان هذا ، فلما قيل له في ذلك قال : لا أضن عليه بما فيها من الأموال فإنه قد صار من أتباعنا وأصحابنا ونحن إنما نريد أن يسير الناس معنا على قتال الأعداء فقط ، وليس قصدنا من الفتح البلاد بل العباد ، هذا وبعد مدة قلّ المال لنفقة الجند فاستدان صلاح الدين من أخيه العادل ١٥٠ ألف دينار لإطعامهم. وفتح صلاح الدين تل خالد من أعمال حلب ثم عينتاب ثم تسلم بعد المحاصرة حلب من زنكي بن مودود وأعطاه سنجار ، وشرط عليه الحضور إلى خدمته بنفسه وعسكره إذا

٥٣

استدعاه ، ولا يحتج بحجة عن ذلك. ومن الإتفاقات العجيبة أن محيي الدين بن الزكي قاضي دمشق مدح السلطان بقصيدة منها :

وفتحكم حلبا بالسيف في صفر

مبشر بفتوح القدس في رجب

فوافق فتح القدس في رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة. ثم سار صلاح الدين من حلب بعد أن تسلم حارم ونظم أمر تلك الأرجاء وتجهز من دمشق فأحرق بيسان وشن الغارات على تلك النواحي وأرسل إلى أخيه العادل بمصر أن يلاقيه إلى الكرك فاجتمعا عليها وحصراها ثم رحلا عنها. وسار في السنة التالية (٥٨٠) من دمشق فنازل الكرك وكتب إلى مصر فسار إليه عساكرها فضيق على من به وملك ربض الكرك ، ولم يتيسر له الإستيلاء على قلعتها فرحل عنها لامتناعها عليه ، فسار إلى نابلس وأحرقها ونهب ما بتلك النواحي وقتل وأسر وسبى فأكثر ثم سار إلى سبسطية فاستنقذ من بها من أسرى المسلمين. وفي سنة (٥٨١) حصر الموصل مرة ثانية فسير أتابك عز الدين صاحبها والدته ومعها ابنة عمه نور الدين محمود وغيرهما من النساء وجماعة من أعيان الدولة يطلبون المصالحة وكل من عنده ظنوا أنهن إذا طلبن منه الشام أجابهن إلى ذلك لا سيما ومعهن ابنة مخدومه وولي نعمته نور الدين فلما وصلن اليه اعتذر بأعذار غير مقبولة وأعادهن خائبات فأسف العامة لرده النساء ، وندم صلاح الدين بعد ذلك على ردهن ، وجاءته كتب القاضي الفاضل وغيره يقبحون فعله وينكرونه. وسار صلاح الدين عن الموصل إلى خلاط وملك ميافارقين. وغزا صاحب الكرك (٥٨٢) وأسر قافلة من المسلمين فطلبهم السلطان بحكم الهدنة فأبى فنذر صلاح الدين قتله بيده. وكان أرنلط من أغدر الفرنجة وأنقضهم للمواثيق المحكمة والأيمان المبرمة. وكان كفيل القومص صاحب طرابلس قد حنق على جماعته الفرنج لأن زوجة ريمند بن ريمند الصنجيلي هويت رجلا من الفرنج اسمه كي وأخرجت كفيل ابنها من ملك طرابلس وكان طمع فيه ، فراسل صلاح الدين وانتمى إليه واعتضد به ، وطلب منه المساعدة على بلوغ غرضه من الفرنج ، ففرح صلاح الدين والمسلمون بذلك ووعده النصرة والسعي له في كل ما يريد ، وضمن له أن يجعله ملكا مستقلا للفرنج قاطبة ، وكان عنده جماعة من فرسان القومص فأطلقهم ، فحل ذلك عنده أعظم محل ، وأظهر طاعة صلاح الدين ووافقه على ما فعل جماعة من الفرنج فاختلفت كلمتهم. قال صاحب الكامل :

٥٤

وكان ذلك من أعظم الأسباب الموجبة لفتح بلادهم واستنقاذ البيت المقدس منهم.

وقعة حطين وفتح فلسطين :

كانت سنة (٥٨٣) سنة مباركة جدا على صلاح الدين وعلى المسلمين ، كما كانت عليه سنة (٥٦٤) بفتح مصر وإنقاذها من أيدي الفاطميين. ضرب صلاح الدين الفرنج ضربة لم ينلهم مثلها منذ وطئوا أديم الشام سنة (٤٩١) فبدأ بمضايقة الكرك (٥٨٣) خوفا على الحجاج من صاحبها فأخرب كما قال من رسالة إلى أخيه سيف الإسلام عماراتها وأحرق غلاتها ، وقطف ثمراتها ، وأزعج ساكنيها ، وأخاف آمنيها ، وأجلى عنها فلاحيها ، وأقام النوائح عليها في نواحيها. وأغار بعض عسكره على عكا وغنموا ثم حصر مدينة طبرية ومعه الجاندارية والخراسانية والحجارون والنقابون ففتحها بالسيف وكانت للقومص صاحب طرابلس ، وكان مهادن السلطان فاجتمع إلى الفرنج للحرب ـ وكانت طبرية تقاسم على نصف مغل الصلت والبلقاء وجبل عوف والحيانية والسواد وتناصف الجولان وما يقربها إلى كورة حوران.

واجتمعت ملوك الفرنج فارسا وراجلا وساروا إلى صلاح الدين فركب إليهم من طبرية، والتقى الجمعان واشتد القتال بينهم وأحدق المسلمون بالفرنج من كل ناحية وأبادوهم قتلا وأسرا على قرية حطين بالقرب من طبرية وأسر في جملة من أسر ملك الفرنج الكبير وصاحب الكرك وصاحب جبيل وغيرهم من قمامصتهم وأمرائهم. وكان الفرنج في حطين خمسة وأربعين ألفا فلم يسلم منهم سوى الفلّ وقتل الباقون واستأسروهم فقتل منهم أربعون ألفا وقيل أقلّ من ذلك ، ولما انقضى المصاف جلس السلطان في خيمته وأحضر ملك الفرنج وأجلسه إلى جانبه وكان الحر والعطش به شديدا فسقاه السلطان ماء مثلوجا وسقى ملك الفرنج منه البرنس أرنلط صاحب الكرك فقال له السلطان : إن هذا الملعون لم يشرب الماء بإذني فيكون أمانا له ، ثم كلم السلطان البرنس ووبخه على غدره غير مرة وعلى قصده الحرمين الشريفين ، وقام السلطان بنفسه فضرب عنقه فارتعدت فرائص ملك الفرنج فسكن جأشه.

قالوا : وقد عرض السلطان الإسلام على الداوية والإسبتار ، فمن أسلم منهم استبقاه، ومن لم يسلم قتله فقتل خلق عظيم ، وبعث بباقي الملوك والأسارى إلى

٥٥

دمشق. ثم عاد السلطان إلى طبرية وفتح قلعتها بالأمان ، ثم سار إلى عكا وحاصره وفتحها بالأمان وكان فيها ثلاثون ألف إفرنجي وأربعة آلاف أسير مسلم ، وأرسل أخاه الملك العادل فنازل مجدل بابا وفتحه عنوة بالسيف ، ثم فرق السلطان عسكره ففتحوا الناصرة وقيسارية وحيفا وصفورية ودبورية والفولة وجنين وزرعين والطور واللّجون والقيمون والزيب ومعليا والبعنة وإسكندرونة ومنواث وأرسوف وعقر بلا وأريحا سنجيل والبيرة وقلونية وصرفند ومجدل الحباب وجبل الجليل وتل الصافية والتل الأحمر وقريتا وصوبا وهرمس والسلع عدا ما تخللها من القرى والأبراج والقلاع. فتح كل ذلك بالسيف وفتح عسكره سبسطية ونابلس وقلعتها بالأمان ، وفتح العادل يافا عنوة ثم فتح السلطان تبنين ، وتسلم صيدا خالية ثم بيروت بالأمان بعد حصارها. وكان من جملة الأسرى صاحب جبيل فبذل جبيلا فأطلق. وحضر المركيس في سفينة إلى عكا وهي للمسلمين وأقلع إلى صور فاجتمع عليه الفرنج الذين بها وملك صورا. وذكر المؤرخون إن إطلاق أمراء الفرنج من الأسر وحملهم إلى صور كان من أعظم أسباب الضرر وقوة الفرنج ورواح عكا.

فتح القدس والرملة :

حصر السلطان عسقلان وتسلمها ثم فتح الرملة والداروم وغزة وبيت لحم؟؟؟ وبيت جبريل وتبنين والنطرون ومشهد الخليل ولدّ وغيرها ثم نازل القدس وبه من الفرنج عدد لا يحصى وضايقه بالنقابين واشتد القتال ، وطلب الفرنج الأمان فقال : آخذها مثل ما أخذت من المسلمين بالسيف فعاودوه فأجاب بشرط أن يؤدي كل رجل عشرة دنانير وكل امرأة خمسة وكل طفل دينارين ومن عجز أسر وتسلم المدينة في رجب وكان فيها بالضبط ستون ألف رجل ما بين فارس وراجل سوى من تبعهم من النساء والولدان قال ميشو : إنه كان فيها مائة ألف صليبي وكان عددهم لما فتحوه (٦١٠٠) فارس و (٤٨) ألف راجل ولم يكن فيها لما فتحها صلاح الدين سوى ربان واحد من اليهود وكان يدفع إتاوة كبيرة في السنة للملك حتى يبقى فيها.

قال ابن الأثير في معنى ارتضاء صلاح الدين بالفداء من الفرنج في القدس : إن الفرنج لما رأوا شدة قتال المسلمين وتحكم المنجنيقات بالرمي المتدارك ، وتمكن

٥٦

النقابين من النقب أرسلوا باليان بن نيرزان صاحب الرملة إلى صلاح الدين يطلب الأمان فأبى السلطان وقال : لا أفعل بكم إلا كما فعلتم بالمسلمين حين ملكتموه سنة إحدى وتسعين وأربعمائة من القتل والسبي فقال له باليان : أيها السلطان اعلم أننا في هذه المدينة في خلق كثير ، وإنما يفترون عن القتال رجاء الأمان ، فإذا رأينا أن الموت لا بد منه فو الله لنقتلن أولادنا ونساءنا ونحرق أموالنا ولا نترككم تغنمون منا دينارا ولا درهما ولا تسبون وتأسرون رجلا أو إمرأة ، فإذا فرغنا من ذلك أخربنا الصخرة والمسجد الأقصى. ثم نقتل من عندنا من أسارى المسلمين وهم خمسة آلاف أسير ، ولا نترك لنا دابة ولا حيوانا إلا قتلناه ، ثم خرجنا إليكم كلنا وحينئذ لا يقتل الرجل منا حتى يقتل أمثاله ، ونموت أعزاء ونظفر كرماء، فاستشار صلاح الدين أصحابه فأجمعوا على إجابتهم إلى الأمان وأن لا يحرجوا ويحملوا على ركوب ما لا يدرى عاقبة الأمر فيه ، فأجاب صلاح الدين حينئذ إلى بذل الأمان للفرنج.

وكان رأي صلاح الدين أخذ الفداء فتغلب رأيه على ما كان يراه بعض جماعته أولا من إهراق دماء الفرنج كما أهرق أجدادهم دماء المسلمين ، وهذا التهديد من سفير الصليبيين في الصلح لا شأن له مع صلاح الدين ، وهو في تلك القوة والمنعة ، ولكن صلاح الدين يرمي إلى مقصد أعلى من جميع مقاصد جماعته وجماعة الصليبيين ، كان يريد بما فعل من قبول الفداء تعليم الصليبيين درسا في سماحة الإسلام ، وأن لا يثير الحفائظ وهو على يقين من أن أوربا ما جيشت إلا قليلا لفتح القبر المقدس فإذا قتل من فيه وفيهم الأمراء والسادة والقادة وغيرهم يقيم في كل دار في الغرب مأتما وتزيد الطوائل بين الفريقين ، ويهب الفرنج في الغرب إلى جمع شملهم ، أكثر مما جمعوا في القرن الماضي ومنتصف هذا القرن وتعود الشام إلى خرابها.

وما الفائدة من القتل إذا كان يجلب الويلات على فاعله وعلى ذويه. على أن صلاح الدين لو قتل فرنج القدس لما كان خرج عن مألوف عادة تلك العصور وما عدّ عمله شيئا فريا ، إذ يكون قد كال لهم بالكيل الذي كالوا به لأمته. بيد أن السماحة التي بدت منه أكسبته وقومه في الغرب إسما عطرا لا يزال يردد بالخير على كرور الأيام ، ودب الفشل في نفوس القابضين على زمام الأمر فلم

٥٧

يعودوا كما كانوا في الثمانين السنة الأخيرة يأتمرون في الحال بأوامر الكنيسة البابوية ، ويحمسون الناس ليسيروا بهم على العمياء إلى الأرض المقدسة. وبهذا العمل انحلت العقدة المهمة الأولى من حروب الصليبيين ، وكان الخطب سهلا بعد ذلك في عهد صلاح الدين وأخلافه فصدق في وصفه شاعره عبد المنعم الجلياني حيث قال من قصيدة :

وفيت لهم حتى أحبوك ساطيا

بهم ووفاء العهد قيد المخاصم

فخانوا فخابوا فانتدوا فتلاوموا

فقالوا خذلنا بارتكاب الجرائم

وخص صلاح الدين بالنصر إذ أتى

بقلب سليم راحما للمسالم

فخطوا بأرجاء الهياكل صورة

لك اعتقدوها كاعتقاد الأقانم

يدين لها قسّ ويرقي بوصفها

ويكتبه يشفى به في التمائم

مر الرحالة ابن جبير الأندلسي بالشام وصلاح الدين محاصر للكرك فتعجب من أن نيران الفتنة تشتعل بين الفئتين مسلمين وإفرنج وربما يلتقي الجمعان ويقع المصاف بينهم ، وأرفاق المسلمين والنصارى تختلف بينهم دون اعتراض عليهم. واختلاف القوافل من مصر إلى دمشق على بلاد الفرنج غير منقطع ، واختلاف المسلمين من دمشق إلى عكة كذلك ، وتجار الصليبيين أيضا لا يمنع أحد منهم ولا يعترض ، وللنصارى على المسلمين ضريبة يؤدونها في بلادهم ، وهي من الأمنة على غاية ، وتجار النصارى أيضا يؤدون في بلاد المسلمين على سلعهم والارتفاق بينهم والاعتدال في جميع الأحوال ، وأهل الحرب مشتغلون بحربهم ، والناس في عافية والدنيا لمن غلب. قال : وهذه سيرة أهل هذه البلاد في حربهم ، وفي الفتنة الواقعة بين أمراء المسلمين وملوكهم كذلك ولا تعترض الرعايا والتجار ، فالأمن لا يفارقهم في جميع الأحوال سلما أو حربا. وقال بعد أن ذكر استيلاء صلاح الدين على نابلس وإطلاق أيدي جيشه في جميع ما احتازته : وخرجنا نحن إلى بلاد الفرنج وسببهم يدخل بلاد المسلمين ، وناهيك من هذا الإعتدال في السياسة.

وبعد أن قرر السلطان أمور القدس ، وأمر بعمل الرّبط والمدارس الشافعية ، رحل عنها ولم يبق معه مما أخذه من مال الفداء شيء وكان مائتي ألف دينار وعشرين ألفا ففرقها على الأمراء والعلماء والفقراء ، وأطلق كثيرا من الفقراء بدون فداء ، وأدى أخو السلطان الملك العادل فدية عن ألفي صليبي ، واقتدى به

٥٨

السلطان نفسه ، وعفوا عن كثيرين ، فلم يبق سوى أربعة عشر ألفا يخرج منهم الصبيان والبنات الذين أدى الصليبيون فداءهم ، وأغضى عن جواهر الصليبيين وناضهم من الذهب والفضة ، فكان يخرج من القدس حرا بدون منازع ، وعامل النساء من الفرنج معاملة لا تصدر عن أرقى رجل مهذب في القرون الحديثة. ذكروا أنه كانت بالقدس ملكة رومية متعبدة مترهبة استعاذت بالسلطان فأعاذها ، ومنّ عليها وعلى من معها بالإفراج ، وأبقى عليها من مصوغات صلبانها الذهبية المجوهرة ونفائسها وكرائم خزائنها ، وكذلك خرجت زوجة الملك المأسور كي وهي ابنة الملك أموري وكانت مقيمة في جوار القدس مع مالها من الخدم والخول والجواري فاستأذنت بالإلمام بزوجها وأقامت عنده ، وكان مقيما في برج بنابلس أسيرا يرسف في قيده. وخرج البطرك الكبير الذي للفرنج ، ومعه من أموال البيع والمساجد منها الصخرة والأقصى والقيامة وغيرها ما لا يعلمه إلا الله تعالى ، وكان له من المال مثل ذلك فلم يعرض له صلاح الدين ، فقيل له ليأخذ ما معه يقوي به المسلمين فقال : لا أغدر به ولم يأخذ منه إلا عشرة دنانير إلى غير ذلك من مزاياه العالية التي علم بها أعداءه كيف تكون مكارم الاخلاق.

رحل السلطان إلى عكا ومنها إلى صور ، وقد حصنت بالرجال وحفر خندقها من البر إلى البحر ، ونزل على صور وحاصرها وضايقها وطلب الأسطول فوصل إليه في عشرة شوان فاتفق أن الفرنج كبسوهم في الشواني وأخذ خمسة شوان ولم يسلم من المسلمين إلا من سبح ونجا وأخذ الباقون ، وطال الحصار عليها فرحل السلطان عنها في الشتاء وأقام بعكا وأعطى العساكر الدستور فسار كل واحد إلى بلده وبقي السلطان بعكا وقد قنع الفرنج بصور ، وأرسل إلى هونين ففتحها بالأمان كما فتح قلعة أبي الحسن من عمل صيدا وشقيف أرنون وأقام رجالا على صفد وكوكب يحاصرونهما وهما حصنان عظيمان للداوية والاسبتارية وكان شديدا على رجال هاتين الرهبنتين لما عرفوا به من الشجاعة والمكر ويقتلهم في الغالب إذا وقعوا في يده فلم يبق للفرنج من كل ما كان لهم في فلسطين من المدائن والثغور سوى صور استصفيت كلها. ولما انسلخ الشتاء (٥٨٤) سار السلطان من عكا بمن معه بعد أن ولى أعمال الخليل وعسقلان وغزة والداروم وما والاها ، وأمر بنقل الغلات من البلقاء لتقوية الفلاحين وإعانة المقطعين وكذلك أمر بنقل الغلات من مصر إلى

٥٩

أعمال عسقلان ليعيد إليها الزراعة والعمران. ومن كتاب فاضلي يصف فيه بعض مدن فلسطين في الفتح الصلاحي : وهذه البلاد مدن ما كان عزم قبل منها مدنيا. وعمارات ما كان أمل إليها مفضيا. بل طال ما كان عنها مغضيا. مثل بيسان وكفر بلا وزرعين وجينين كلها بلاد مشاهير لها قرى مغلة ، وبساتين مظلة ، وأنهار مقلة ، وقلاع مطلة ، وأسوار قد ضربت على جهاتها ، وأحاطت بجنباتها ، واتخذتها المدن سياجا على قصباتها.

بقية الفتوح الصلاحية :

اتجهت همة صلاح الدين العالية إلى فتح ما بقي في أيدي الصليبيين من ثغور الساحل. وقصد إلى دمشق ولما اجتمعت العساكر من الأطراف سار منها فنزل على بحيرة قدس غربي حمص وأتته العساكر بها فرحل ونزل على أنطرطوس فوجد الفرنج قد أخلوها فأحرقها وأحرق البسية وهي بيعة عظيمة عندهم محجوج إليها من أقطارهم. وسار إلى مرقبة فوجدهم قد أخلوها أيضا وسار إلى المرقب وهو للإسبتار فوجده لا يرام وتسلم جبلة و «بلدة» من غربي النهر على شاطئ البحر وسار إلى اللاذقية ولها قلعتان فحصر القلعتين وزحف إليهما فطلب أهلهما الأمان فأمنهم وتسلم القلعتين وعمر البلد وحصن قلعتها.

ولما كان على اللاذقية طلب مقدم أسطول صقلية من السلطان الأمان ليحضر عنده فأمنه وحضر وقبل الأرض بين يديه وقال ما معناه : إنك سلطان رحيم كريم وقد فعلت بالفرنج ما فعلت فذلوا فاتركهم يكونون مماليكك وجندك تفتح بهم الممالك وترد عليهم بلادهم ، وإلا جاءك من البحر ما لا طاقة لك به ، فيعظم عليك الأمر ويشتد الحال فأجابه صلاح الدين بنحو من كلامه من إظهار القوة والاستهانة بكل من يجيء من البحر وأنهم إن خرجوا أذاقهم ما أذاق أصحابهم من القتل والأسر ورحل السلطان إلى صهيون فتسلمها بالأمان فلم يجبهم إلا على أمان أهل القدس فيما يؤدونه فأجابوه إلى ذلك وتسلم قلعة صهيون ، ثم فرق عسكره في تلك الجبال فملك حصن بلاطنس وكان الفرنج قد أخلوه ، وملك حصن العيذو وحصن الجماهيرية ، ووصل إلى قلعة بكاس فأخلاها أهلها وتحصنوا بقلعة الشغر فحصرها ووجدها منيعة فضايقها فطلب أهلها الأمان ، وحصر ابنه الملك الظاهر غازي قلعة سرمين وضايقها وملكها ، واستنزل أهلها على قطيعة قررها عليهم وهدم

٦٠