خطط الشام - ج ٢

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٢

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٠

١
٢

الدولة النورية

«من سنة ٥٢٢ الى سنة ٥٦٩»

فتنة الإسماعيلية ووقعة دمشق :

لم يكف الشام تفرق كلمة أمرائه واستصفاء الفرنج لسواحله في الربع الأول من القرن السادس ، حتى مني بعدو داخلي يقاتل أهله في عقر دارهم ويستنجد بالفرنج على إرهاقه ، ونعني بهم الباطنية الذين كانوا يسمون القرامطة قديما ويدعون في هذا الدور بالباطنية أو الإسماعيلية. فقد انتشر مذهبهم في كل بلد وكثر الدعاة إليه ، وكانت دار الدعوة في حلب ودمشق ، موطن التنفيذ والعمل. فإن أبناء هذا المذهب ودوا لو يؤسسون دولة في العراق أو الشام ، ولكنهم أخفقوا غير مرة ، ولما شعروا بضعف أمراء الشام وتشتتهم ، واشتغال قلوب معظمهم بقتال الصليبيين ، أيفنوا أن الفرصة قد سنحت فسار داعيتهم بهرام من العراق الى الشام ، ودعا بدمشق إلى مذهبه ، فتبعه خلق كثير من العوام وسفهاء الجهال والفلاحين ، وواثقه الوزير المزدقاني فأظهر دعوته علنا ، بعد أن كان يختفي ويطوف المعالم والمجاهل ولا يعلم به أحد ، فعظمت به وبشيعته المصيبة. وسكت عن هؤلاء الباطنية العلماء وحملة الشريعة خوفا من بطشهم ، ولما استفحل أمرهم في حلب ودمشق اضطر صاحب دمشق طغتكين أن يسلمهم قلعة بانياس دفعا لشرهم ، ليسلطهم على الفرنج ويقطع تسلطهم على المسلمين، فعدّ الناس ذلك من غلطاته.

عظم أمر بهرام بالشام وملك عدة حصون بالجبال وقاتل أهل وادي التيم ، وكان سكانه من النصيرية والدروز والمجوس وغيرهم ، واسم أميرهم الضحاك بن جندل ، ثم قتل بهرام وقام مقامه في قلعة بانياس رجل منهم اسمه إسماعيل ، وأقام الوزير

٣

المزدقاني عوض بهرام بدمشق رجلا اسمه أبو الوفا ، وعظم أبو الوفا حتى صار الحكم له بدمشق ، فكاتب الفرنج ليسلم إليهم دمشق ، ويعوضوه بصور ، وجعلوا موعدهم يوم الجمعة ليجعل أصحابه على باب الجامع ، وعلم صاحب دمشق بالأمر فقتل الوزير المزدقاني وأمر الناس فثاروا بالإسماعيلية فقتل بدمشق ستة آلاف إسماعيلي (٥٢٣) وقال سبط ابن الجوزي : وكان عدة من قتل من الإسماعيلية عشرة آلاف على ما قيل ولم يتعرضوا لحرمهم ولا لأموالهم ، ووصل الفرنج في في الميعاد وحصروا دمشق فلم يظفروا بشيء ، واشتد الشتاء فرحلوا كالمنهزمين ، وتبعهم صاحب دمشق بالعسكر فقتلوا عدة كثيرة منهم ، وسلّم إسماعيل الباطني قلعة بانياس إلى الفرنج وصار معهم.

قال ابن الأثير : ولما بلغ الفرنج قتل المزدقاني والإسماعيلية بدمشق عظم عليهم ذلك وتأسفوا على دمشق إذ لم يتم لهم ملكها ، فاجتمعوا كلهم صاحب القدس وصاحب أنطاكية وصاحب طرابلس وغيرهم من الفرنج وقمامصتهم ، ومن وصل إليهم من البحر للتجارة والزيارة في خلق عظيم نحو ألفي فارس ، وأما الراجل فلا يحصى. وروى ابن القلانسي أنهم كانوا يزيدون على ستين ألفا فارسا وراجلا ، وساروا إلى دمشق ليحصروها ، ولما سمع تاج الملوك بذلك جمع العرب والتركمان فاجتمع معهم ثمانية آلاف فارس ، ووصل الفرنج فنازلوا البلد وأرسلوا إلى أعمال دمشق لجمع الميرة والغارة على الكور ، فلما سمع تاج الملوك أن جمعا كثيرا قد سار إلى حوران لنهبه وإحضار الميرة ، كما نهب صاحب القدس (٥٢١) وادي موسى وسبى أهله وشردهم ، سير إليهم أميرا من أمرائه يعرف بشمس الخواص في جمع من المسلمين ، فلقوا الفرنج فواقعوهم واقتتلوا وصبر بعضهم لبعض ، فظفر بهم المسلمون وقتلوهم فلم يفلت منهم غير مقدمهم ومعه أربعون رجلا ، وأخذوا ما معهم وعادوا إلى دمشق لم يمسسهم قرح ، فلما علم من عليها من الفرنج ذلك داخلهم الرعب فرحلوا عنها شبه منهزمين ، فتبعهم المسلمون يقتلون كل من تخلف منهم.

ولما استولى الفرنج على قلعة بانياس بنزول صاحبها الباطني عنها وانضمامه إليهم سقطت بأيديهم أيضا قلعة القدموس وكانت للباطنية. وبإحراز هاتين القلعتين قوي أمر الفرنج وإن عظمت خسائرهم المادية ، وعاد الناس فأمنوا وخرجوا بعد فشل

٤

الصليبيين في فتح دمشق وأيقنوا أن الفرنج لا يكاد يجتمع لهم بعد هذه الكائنة شمل لفناء أبطالهم واجتياح رجالهم وذهاب أثقالهم.

دخول آل زنكي الشام :

كانت مملكة حلب للبرسقي وبها ولده مسعود فلما قتل البرسقي استخلف مسعود الأمير قيماز بحلب وسار إلى الموصل ثم استخلف على حلب قتلغ أبه السلطاني فأساء السيرة ومد يده إلى أموال الناس لا سيما التركات ، وتقرب إليه الأشرار فنفرت قلوب الناس منه. وكان سليمان بن عبد الجبار ابن أرتق الذي كان صاحبها أولا مقيما بحلب ، فاجتمع إليه أحداثها وملكوه المدينة وقتلغ في القلعة ، وسمع الفرنج اختلافهم فجاءهم جوسلين صاحب أنطاكية فصافوه بمال ، فرحل بعد أن خندق الحلبيون حول القلعة ، فمنع الداخل والخارج إليها من ظاهر البلد ، وأشرف الناس على الخطر العظيم ، وأرسل عماد الدين زنكي صاحب الموصل عسكرا مع القائد قراقوش إلى حلب ، ومعه توقيع السلطان محمود بالشام فأجاب أهل حلب إليه ، وتقدم عسكر زنكي إلى سليمان وقتلغ بالمسير إلى زنكي فأجابا ، فلما وصلا الموصل أصلح زنكي بين سليمان وقتلغ ولم يرد واحدا منهما إلى حلب ، وسار زنكي إلى حلب وملك في طريقه منبج وبزاعه وتلقاه أهل حلب ودخل ورتب الأمور وملكها وقلعتها (٥٢٢). قال ابن الأثير : ولو لا أن الله تعالى قد منّ على المسلمين بملك أتابك لبلاد الشام لملكها الفرنج لأنهم كانوا يحصرون بعض البلاد الشامية.

ثم عزم عماد الدين زنكي على الجهاد وأرسل صاحب دمشق يلتمس منه المعونة على حرب الفرنج ، وبادر إلى تجريد وجوه عسكره ، وكتب إلى ولده بهاء الدين سونج بحماة يأمره بالخروج في عسكره والاختلاط بالعسكر الدمشقي ، فخرج من حماة إلى مخيم عماد الدين أتابك فأحسن لقاءه ثم غدر به وقبض عماد الدين على سونج وعلى جماعة المقدمين واعتقلهم في حلب ، وزحف من يومه على حماة وهي خالية من حماتها فملكها ، ورحل إلى حمص ، وكان صاحبها قيرخان بن قراجه معه ، وطلب منه تسليم حمص فراسل نوابه وولده فيها فلم يلتفتوا إلى مقاله ،

٥

فأقام عماد الدين عليها مدة طويلة يبالغ في محاربة أهلها فلم يتهيأ له ما أراد فرحل عنها إلى الموصل.

وطلب صاحب دمشق الى صاحب الموصل أن يطلق ولده ومن اعتقلهم من الأمراء والمقدمين فطلب عنهم خمسين ألف دينار ، فأجاب تاج الملوك إلى تحصيلها ، ولم يطلق عماد الدين ابن تاج الملوك سونج ومن معه من الأمراء إلّا في سنة (٥٢٥). ومات الخصي صاحب صرخد فاستولت سرّيّته على قلعتها ، وأرسلت إلى دبيس بن صدقة صاحب الحلة تستدعيه من العراق للتزوج به ، وتسليم صرخد بما فيها من مال وغيره إليه ، فسار دبيس إلى الشام فضلّ به الأدلاء بنواحي دمشق فنزل بناس من كلب كانوا شرقي الغوطة فحملوه إلى صاحب دمشق تاج الملوك ، ولما سمع عماد الدين زنكي بأسر دبيس أرسل الى تاج الملوك يطلبه ، ويبذل له إطلاق ولده سونج ومن معه من الأمراء فأجابه تاج الملوك الى ذلك وأطلق عماد الدين سونج ومن معه من الأمراء فأجابه تاج الملوك الى ذلك وأطلق عماد الدين سونج ورفاقه.

وفي سنة (٥٢٤) جمع عماد الدين عساكره وسار من الموصل إلى الشام ، وقصد حصن الأثارب ، وكان أهله على اتصال بالفرنج يقاسمون الحلبيين على جميع أعمال حلب الغربية ، فالتقوا وعسكر عماد الدين واشتد القتال وانتصر المسلمون وانهزم الفرنج ووقع كثير من فرسانهم في الأسر وكثر القتل فيهم ، وأخذ المسلمون الأثارب عنوة وقتلوا وأسروا كل من فيها ثم خربها عماد الدين.

استنجاد بعض الصليبيين بالمسلمين واستقرار حال دمشق :

بينا كانت دمشق مغتبطة بتاج الملوك بوري لشجاعته ، وقد سد مسد أبيه في كفايته وكفاحه ، ناداه الأجل سنة (٥٢٦) عقيب جرح كان به من الباطنيّة ، ووصى بالملك بعده لولده شمس الملوك إسماعيل ، ووصى ببعلبك وأعمالها لولده شمس الدولة محمد. ولما استقر إسماعيل بن بوري في ملك دمشق ، واستقر أخوه في بعلبك استولى محمد على حصن الرأس وحصن اللبوة ، فكاتب إسماعيل أخاه في إعادتهما فلم يقبل ، فسار صاحب دمشق وفتح حصن اللبوة ثم فتح حصن الرأس وقرر أمرهما ، ثم حصر أخاه في بعلبك فسأله الصلح فأجابه إليه ، وأعاد عليه بعلبك وأعمالها واستقرت أمورهما.

٦

ودخلت سنة (٥٢٧) فسار إسماعيل صاحب دمشق على غفلة من الفرنج الى حصن بانياس وفتحه ، وذلك لما بلغه من عزمهم على نقض الموادعة المستقرة ، وهال الفرنج ما وقع لقلعة بانياس وأكثروا التعجب من تسهل الأمر في فتحها مع حصانتها وكثرة الرجال فيها في أقرب مدة. وفتح إسماعيل حماة وقلعتها وقتل من كان بها ، وحصر قلعة شيزر فصانعه صاحبها بمال حمله إليه. وفي هذه السنة اجتمعت التراكمين وقصدوا طرابلس ، فخرج من بها من الفرنج اليهم واقتتلوا فانهزم الفرنج ، وسار القومص صاحب طرابلس ومن في صحبته فحصرهم التركمان في قلعة بعرين وهرب القومص منها. ثم جمع الفرنج جموعهم وقصدوا التركمان ليرحلوهم عن بعرين فاقتتلوا وانحاز الفرنج الى نحو رفنية وعاد التركمان عنهم.

وقع الخلاف بين الفرنج من غير عادة جارية لهم بذلك ، ونشبت الحرب بينهم وقتل منهم جماعة ، والسبب في ذلك اختلاف طفيف نشأ بين أمرائهم حدا بصاحب يافا على أن يستنجد بالمسلمين في عسقلان فساعدوه حتى خربت تلك الأرجاء إلى حدود مدينة أرسوف ، وعقد صاحب يافا معاهدة مع المسلمين فجاء صاحب القدس وحاصره ، ولكن المسلمين اهتبلوا الغرة فجاسوا خلال ديار الفرنج وأخذوا يناوشونهم القتال ، فخاف صاحب بيت المقدس العاقبة وأراد مشاغلة المسلمين فأغار على أطراف حلب ، فنهض إليه الأمير سوار النائب في عسكر حلب ومن انضاف إليه من التركمان وتحاربوا أياما وتطاردوا إلى أن وصلوا إلى أرض قنسرين ، فحمل الفرنج عليهم فكسروهم كسرة عظيمة ، فعاود سوار النهوض إليهم في من بقي من عسكره والأتراك ، فلقوا فريقا من الفرنج فأوقعوا به وكسروه ، فانكفأت الفرنج إلى أرضها مهزومة ، وانتهى إلى سوار خبر خيل الرّها فنهض هو وحسان البعلبكي فأوقعوا بهم وقتلوهم عن آخرهم ، وأغار سوار على الفرنج في تل باشر فقتل منهم ألف فارس وراجل وقاتلهم أيضا في موضع يعرف بنوار في عسكر حلب وما انضاف إليه من التركمان ، وكانت الحرب بين الفريقين سجالا. واشترى الإسماعيلية قلعة القدموس من صاحبها ابن عمرون صعدوا إليها وقاموا بحرب من يجاورهم من المسلمين والفرنج ، وكانوا كلهم يكرهون مجاورتهم.

وفي سنة (٥٢٨) سار صاحب دمشق إلى شقيف تيرون وانتزعه من ابن ضحاك ابن جندل التيمي المتغلب عليه. وانتهى اليه أن الفرنج اعتزموا على نقض المستقر

٧

من الهدنة وقصد أعمال دمشق ، وشرعوا بإخراب أمهات الضياع في حوران ، فوقع التطارد بين الفريقين عدة أيّام ، ثم أغفلهم صاحب دمشق وقصد بلادهم عكا والناصرة وطبرية وما جاورها فظفر وغنم وسبى ورجع سالما في نفسه وجملته فذل الفرنج وطلبوا تقرير الصلح بينهم.

خيانة صاحب دمشق وقتل أمه له :

ومما خدم عماد الدين زنكي أن شمس الملوك إسماعيل صاحب دمشق كان لأول جلوسه على عرش أبيه أقر الولاة على حالهم وسار بسيرته مدة ، فنفس من خناق الأهلين وساعده اختلاف الصليبيين ثم تغيرت نيته وكثرت قبائحه ومصادرة المتصرفين ، والأخيار المستورين ، بفنون قبيحة في العقوبات ، وأضمر السوء لأصحاب أبيه وقبض على خواصهم وأركان دولته فنفرت القلوب منه. وكان (٥٢٧) وثب عليه أحد مماليك جده طغكتين وهو في الصيد بناحية صيدنايا وجبة عسال فأخطأه ، وقرره شمس الملوك فقال : ما أردت إلّا راحة المسلمين من شرك وظلمك ثم أقرّ على جماعة من شدة الضرب فضرب شمس الملوك أعناقهم من غير تحقيق ، وقتل أخاه الأكبر سونج صاحب حماة الذي كان في أسر عماد الدين ، قتله بالجوع في بيت ، فعظم ذلك على الناس ، ونفر من ظلمه المساكين والضعفاء والصناع والمتعيشون والفلاحون وامتهن العسكرية والرعية.

وأهمّ ما قضى عليه على ما يظهر اضطهاده رجال الدولة فتآمروا عليه ورأوا السبيل إلى النيل منه ، خصوصا لما بعث الى عماد الدين زنكي حين عرف اعتزامه على قصد دمشق لمنازلتها يحثه على سرعة الوصول إليها ويمكنه من الانتقام من كل من يكرهه من المقدمين والأمراء والأعيان بإهلاكهم وأخذ أموالهم وإخراجهم من منازلهم ، وكتب إليه أنه إذا تأخر استدعى الفرنج وسلم إليهم دمشق بما فيها ، وأسرّ ذلك في نفسه ولم يبده لأحد من وجوه دولته وأهل بطانته ، وشرع في نقل المال والمتاع الى حصن صرخد. فاجتمع أعيان الدولة وأنهوا الحال إلى والدته الخاتون صفوة الملك ، فدبرت عليه من قتله من غلمانها ، غير راحمة له ولا متألمة لفقده ، لما عرفت من قبيح فعله وفساد عقله وسوء سيرته. ونودي بشعار أخيه شهاب الدين محمود بن تاج الملوك. وجاء عماد الدين زنكي وخيم بأرض عذراء ، فلما طال الأمر

٨

راسل في طلب الصلح على أن يخرج شهاب الدين محمود إليه لوطء بساط ولد السلطان الواصل معه ويخلع عليه ويعيده إلى بلده ، فلم يجب إلى ذلك ، وتقررت الحال على خروج أخيه تاج الملوك بهرام شاه.

قتل شمس الملوك باتفاق رأي والدته مع أرباب الدولة في دمشق لما بدا من ظلمه واستصراخه الإفرنج بعد يأسه من معونة عماد الدين زنكي ، وكان جده طغكتين مثلا سائرا في غزوة لهم المرة بعد المرة ، ومداراتهم أحيانا بالحيلة ، وجمع أمراء الشام على قصدهم أبدا ، ومصانعة خلفاء بغداد وخلفاء مصر طلبا لنجدتهم ، ولو بالقليل من قوتهم المادية والمعنوية ، ولكن ابن ابنه سلك غير طريقته فقتلته أمه ورجال دولته. وكانت هذه الأعمال المنكرة من بعض صغار الملوك الذين لا يحرصون إلّا على مصلحتهم الخاصة ، وإذا تأثرت أقل تأثر عمدوا إلى وضع أيديهم في أيدي أعدائهم من موجبات بقاء الإفرنج في ثغور الشام وأنطاكية والرّها وطبرية والناصرة والقدس واستيلائهم على كثير من المعاقل. ولو لم يكن شجر الخلاف بين ملوك الفرنج في هذا الدور لسهل عليهم ملك المدن الأربع دمشق وحماة وحمص وحلب، بالنظر لخلل الدول المستولية عليها واضطرارها إلى قتال أعدائها من المسلمين وأعدائها من الصليبيين ، بل وأعدائها في الداخل أمثال شمس الملوك. وللناقد البصير بعد هذا أن يقول إن دولة أتابك طغتكين كانت عزيزة الجانب في أولها فأصبحت ذليلة وعبئا ثقيلا على الشام بعد بطنين من مؤسسها.

توحيد الحكم على يد زنكي وقضاؤه على إمارة صليبية :

بعد تقلقل أمر آل طغتكين أخذت روح آل زنكي تسري في القطر ، فنهض سوار نائب زنكي في حلب سنة (٥٣٠) فيمن انضم إليه من التركمان ، وجرد جيشه على الأعمال الفرنجية فاستولى على أكثرها ، وغزا اللاذقية وأعمالها بغتة ، وعاد من هذه الغزاة إلى شيزر ومعه زيادة عن سبعة آلاف أسير بين رجل وامرأة وصبي وصبية ومائة ألف دابة ، واجتاح أكثر من مائة قرية كبيرة وصغيرة فامتلأت الشام من الأسارى ورجعوا بهم إلى حلب ودياربكر والجزيرة.

هذا ما وقع من الأحداث في العقد الثالث من القرن السادس ، وأهم ما حدث ظهور دولة عماد الدين زنكي صاحب الموصل في حلب وإيقانه أنه لا سبيل إلى دفع

٩

الصليبيين عن الشام إلا إذا رجع أمر المسلمين إلى ملك واحد ، وأنه إذا تقدم بجيشه قليلا بعد أخذه حلب يستولي على دمشق ، وينقذ الأمة من فوضى آل أتابك طغتكين وضعفهم، وكثر هجوم عماد الدين على حمص (٥٣٠) فتسلمها صاحب دمشق من أولاد قيرخان بن قراجه وعوضهم عنها تدمر ، فتابع عسكر زنكي بحلب وحماة الغارة على حمص لما رأوا خروجها إلى صاحب دمشق ، فأرسل هذا إلى عماد الدين في الصلح فاستقر بينهما. وكف عسكر عماد الدين عن حمص وحدثت فتنة بدمشق بين صاحبها والجند وعاد عماد الدين فنازل حمص (٥٣١) وبها صاحبها معين الدين أتسز فلم يظفر بها ، فرحل عنها إلى بعرين وحصر قلعتها وهي للفرنج وضيق عليها ، فجمع الفرنج ملوكهم ورجالهم وساروا إلى زنكي ليرحلوه عن بعرين ، فلما وصلوا إليه جرى بينهم قتال شديد فانهزمت الفرنج ، وعاود عماد الدين حصار الحصن فطلب الفرنج الأمان ، فقرر عليهم تسليم الحصن وخمسين ألف دينار فأجابوا إلى ذلك ، وكان زنكي مدة مقامه على حصار بعرين قد فتح من الفرنج المعرة وكفرطاب ، ومنع زنكي في هذه الوقعة عن الفرنج كل شيء حتى الأخبار ، فكان من بحصن بعرين منهم لا يعلم شيئا من الأخبار لشدة ضبط الطرق وهيبته على جنوده. وملك زنكي حصن المجدل (٥٣٢) وكان لصاحب دمشق ، ودخل مستحفظ بانياس إبراهيم بن طرغت تحت طاعته ، وسار إلى حمص وحصرها ثم رحل عنها إلى سلمية بسبب نزول ملك الروم على حلب ، ثم عاد إلى حمص فسلمت إليه المدينة وقلعتها ، وكان شرع أهل حلب في تحصينها وحفر خنادقها والتحصن من الروم بها ، وأغارت خيل الصليبيين على أطراف حلب، وتملكوا حصن بزاعه ثم نصبوا خيامهم على نهر قويق فخرجت إليهم فرقة وافرة من أحداث حلب فقاتلتهم وظفرت بهم ، ونهض سوار في عسكر حلب وأدرك الصليبيين في الأثارب ، فأوقع بهم وقهرهم ونزل ملك الروم هذه السنة (٥٣٢) على بزاعة وحاصرها حتى ملكها بالأمان وأسر من فيها ثم غدر بهم ، ونادى مناديه من تنصر فهو آمن ومن أبى فهو مقتول أو مأسور ، فتنصر منهم نحو أربعمائة إنسان منهم القاضي والشهود ثم رحل عنها إلى شيزر وترك فيها واليا يحفظها مع جماعة وأقام عشرة أيام يدخن على مغارات اختفى فيها جماعة فهلكوا بالدخان وكان سكان بزاعة خمسة آلاف وثمانمائة نسمة ، وعاد زنكي وحاصرها حتى ملكها وخرب الحصن والبلد عامر. وفي

١٠

سنة (٥٣٣) سار من مصر عسكر إلى وادي موسى فحاصر حصن الوعيرة ثمانية أيام ، وعاد بعد ما توجه إلى الشوبك وأغار عليها وترك هناك أميرين على الحصار. وتزوج عماد الدين أم شهاب الدين محمود صاحب دمشق زمرد خاتون بنت جاولي وهي التي قتلت ابنها شمس الملوك إسماعيل وذلك طمعا من عماد الدين في الاستيلاء على دمشق لما رأى من نفوذ هذه المرأة في الدولة. وكثيرا ما كانت الكلمة النافذة للنساء من آل بيت الدولة والغيرة الصادقة في وقايتها من السقوط.

وكان متملك الروم خرج في السنة الفائتة واشتغل بقتال الأرمن وصاحب أنطاكية وغيره من الفرنج وعمر ميناء الإسكندرونة ثم سار إلى بزاعة وملكها وغدر بأهلها ثم رحل عنها إلى حلب ، فجرى بينه وبين أهلها قتال كثير فعاد عنها إلى الأثارب وملكها وسار نحو شيزر وحاصرها أربعة وعشرين يوما فأنجدها عماد الدين حتى اضطر متملك الروم إلى الرحيل فظفر عماد الدين بكثير ممن تخلف منهم. وكان يرسل إلى ملك الروم يوهمه بأن فرنج الشام خائفون منه ، فلو فارق مكانه تخلفوا عنه ، ويرسل إلى فرنج الشام يخوفهم من ملك الروم ويقول لهم : إن ملك بالشام حصنا واحدا ملك بلادكم جميعا ، فاستشعر كل من صاحبه فرحل ملك الروم عنها. ونهض هذه السنة الأمير بزواج في فريق وافر من العسكر الدمشقي والتركمان إلى ناحية طرابلس فظهر إليه قومصها والتقيا فكسره بزواج وقتل منهم جماعة وافرة وملك حصن وادي ابن الأحمر وغيره. ونهض ابن صلاح والي حماة في رجاله إلى حصن الخربة فملكه.

قويت دولة عماد الدين زنكي بعد استيلائه على حلب وحماة وحمص والمعرة وكفرطاب وبعلبك وغيرها ، وإفحاشه القتل في الفرنج واستيلائه على بعض معاقلهم ، فلم يسع شهاب الدين محمودا صاحب دمشق إلا مهادنته على قاعدة أحكمت بينهما ، وأصبح القول الفصل لعماد الدين دون شهاب الدين في شؤون الشام. أما الفرنج في أنطاكية فلما ارتاح بالهم من جهة ملك الروم وصالحوه على ما اشترط ، عادوا هذه السنة فنقضوا الهدنة مع عماد الدين وقبضوا في أنطاكية على خمسمائة رجل من تجار المسلمين وأهل حلب والسفار.

وبينا كان عماد الدين يدبر ويفكر ويهتم لأخذ دمشق نعى الناعي (٥٣٣) شهاب الدين محمود بن تاج الملوك بوري ، قتله غلمانه في فراشه فتولى بعده أخوه جمال

١١

الدين محمد صاحب بعلبك فبعثت والدته الخاتون صفوة الملك والدة شهاب الدين إلى زوجها عماد الدين زنكي ، وهو على الموصل ، تبعث همته على النهوض لطلب الثأر ، فجاء وفتح الأثارب وبعلبك. وقال بعض المؤرخين : إن زنكي أمن قلعة بعلبك وتسلمها ثم غدر بأهلها فأمر ببعضهم فصلبوا فاستقبح الناس ذلك منه.

ولما رأى صاحب دمشق أن دولة عماد الدين زنكي ستكون لها الغلبة على دولته اعتضد بالفرنج على مال يحمل إليهم ليدفعوا عن دمشق عادية عماد الدين ، فسار هذا طالبا للقاء الفرنج إن قربوا منه ثم عاد إلى الغوطة ونزل بعذراء فأحرق عدة ضياع من المرج والغوطة إلى حرستا التين ورحل متثاقلا. وكان الشرط بين الفرنج وصاحب دمشق أن يكون في جملة المبذول لهم انتزاع ثغر بانياس من يد إبراهيم بن طرغت ، فاتفق أن نهض هذا إلى ناحية صور للإغارة عليها ، فصادفه ريمند صاحب أنطاكية واصلا في الفرنج على إنجاد أهل دمشق ، فالتقيا فكسره وقتل في الوقعة ومعه نفر يسير من أصحابه ، وعاد من بقي منهم إلى بانياس فتحصنوا بها وجمعوا إليها رجال وادي التيم فنهض إليها معين الدين أتسز في عسكر دمشق وحارب بانياس بالمنجنيقات ، ومعه فريق وافر من عسكر الفرنج ففتحها وسلمها إليهم.

وجاء عماد الدين بعسكره هذه السنة أيضا إلى دمشق وقرب من السور ، وكان قد فرق عسكره في حوران والغوطة والمرج وسائر الأطراف للغارة ، ونشبت الحرب بينه وبين عسكر دمشق ، ثم سار عائدا على الطريق الشمالية بالغنائم الدثرة. وسار عماد الدين إلى أرض الفرنج فأغار عليها واجتمع ملوك الفرنج وساروا إليه. وفي الروضتين أنه لقيهم بالقرب من حصن بارين وهو للفرنج ، فصبر الفريقان صبرا لم يسمع بمثله ، فحاصره حصرا شديدا فراسلوه في طلب الأمان ، وكان حصن بارين من أضر كور الفرنج على المسلمين ، فإن أهله كانوا قد خربوا ما بين حماة وحلب من الأرضين ونهبوها وتقطعت السبل ، كان عماد الدين استولى على هذا الحصن سنة (٥٣١) وأعطى الأمان لمن فيه وقرر عليهم تسليمه ، ومن المال خمسين ألف دينار يحملونها إليه. وظهرت عسكرية عسقلان على خيل الفرنج (٥٣٥) الفائزين عليها فعادوا مفلولين. وملك الباطنية حصن مصياف ، وكان واليه مملوكا لبني منقذ أصحاب شيزر ، فاحتال عليه الإسماعيلية ومكروا به حتى صعدوا اليه وقتلوه

١٢

وأغار الأمير لجه التركي (٥٣٦) النازح عن دمشق إلى خدمة عماد الدين على بلد الفرنج وظفر بخيلهم وفتك بهم فقتل منهم سبعمائة رجل. وظهر (٥٣٧) صاحب أنطاكية في ناحية بزاعة فثناه عنها النائب في حفظ حلب وحال بينه وبينها. وظهر متملك الروم في الثغور دفعة ثانية وبرز إليه صاحب أنطاكية وأصلح أمره معه. وفي سنة (٥٣٧) خرجت فرقة وافرة من الفرنج إلى ناحية بعلبك للعيث فيها فقتل المسلمون أكثرهم وعادوا إلى بعلبك سالمين. وظفر عسكر حلب بفرقة كبيرة من التجار والأجناد خارجين من أنطاكية تريد أرض الفرنج فأوقعوا بها وقتلوا من كان معها من فرسانهم.

وفي سنة (٥٣٩) فتح عماد الدين زنكي الرّها من الفرنج ثم تسلم مدينة سروج وسائر الأماكن التي كانت بيد الفرنج شرقي الفرات. وكان لا يمر بعمل من أعمالها ولا معقل من معاقلها فينزل عليه إلا سلم إليه في الحال ، وهزم التركمان الفرنج الذين انتدبوا من أنطاكية لإنجاد أهل الرّها شر هزيمة ، وتمكن السيف في أكثر الراجل وتفرقوا في أعمالهم ومعاقلهم مفلولين. أي أن عماد الدين أتى ببأسه على إمارة الشمال الصليبية برمتها وهي إحدى الإمارات الأربع التي أقامها الصليبيون في الشام ، فلم يبق لهم إلا إمارة أنطاكية وهي تمتد إلى قيليقية وإمارة طرابلس وإمارة القدس.

الحال بعد نصف قرن من نزول الصليبيين :

نصف قرن مضى على دخول الصليبيين الشام وهي إذا ما خلا فيها سيد قام سيد ، يشتد في دفعهم أو يحافظ على الحالة الحاضرة ، وكلما رأى من يعتد بعقلهم وغيرتهم من أمراء المسلمين عدم وفاء الصليبيين للعهود زادوا في قتالهم وأمعنوا في تخريب حصونهم وأرضهم ، وهذه الأراضي أي القرى والمزارع كانت ملك الفلاحين من المسلمين والمسيحيين ، والويل لمن كان صقعهم في طريق المهاجمين والمدافعين فإن مزرعته وداره إلى بوار ، ولا سيما في أعمال حلب وطرابلس لقربهما من إمارتين إفرنجيتين قويتين وأعمال حوران والسواد والبلقاء وجبل عوف وجبل الشراة فإن المتكفل بغزوها صاحب القدس وهو أقوى ملوك الفرنج في الشام. وإليه يرجع في المهمات والقضايا العظيمة ، وهو ينجد أصحاب الرّها وأنطاكية وطرابلس يوم الشدائد.

١٣

وكان آل تنوخ وآل معن حجازا في أعالي سواحل لبنان بين أملاك الصليبيين وأملاك صاحب دمشق ولهم الأثر المذكور في ذلك ، ولذلك كان يتنازعهم المستولي على دمشق والمتولون للساحل ولكن خدمتهم للمسلمين أكثر بالطبع وهواهم مع أبناء دينهم وعلى نحو ذلك كان الدروز وقد قاتلوا في صفوف المسلمين فأظهروا من الشجاعة والنجدة ما تقرّ به العيون. ومن الغريب أن شيعة جبل عاملة كانت مع الصليبيين على إخوانهم المسلمين إلا قليلا ، وكأنهم اضطروا إلى ذلك اضطرارا لأن أرضهم في قبضة الصليبيين ، كما كان هوى الموارنة لمكان الدين مع الصليبيين ، ومن الموارنة أدلاء لهؤلاء وعمال وتراجمة ، وكان بطاركة أهل الصليب يتنقلون في قرى لبنان الساحلية ولهم السلطان الأكبر على أمراء الفرنج.

وكانت قوى فريق المسلمين وفريق الدخلاء متعادلة في الغالب ، ينال كل منهما من جاره ويغزوه في عقر داره ، ويعود وقد ملئت أيدي المتحاربين بالغنائم والأسرى. والفرنج يأتيهم المدد كل سنة على طريق البحر ، والبحر لا يحمل الناس كالبر ، والمسلمون تأتيهم النجدات من مصر في الجنوب ومن العراق في الشرق ومن ديار بكر وديار مضر وآسيا الصغرى. والفرنج مؤلفون بحسب عناصرهم من طليان وفرنسيين وألمان ، وجيوش المسلمين مؤلفة من تركمان وأكراد وعرب.

وما غفل فريق عن فريق سنة واحدة خلال هذه المدة. ولم يكتب لأحد عظماء الأمراء من أهل الاسلام أن يطول عهده وترسخ قدمه في الملك والسلطان حتى يحمل حملة رجل واحد على الفرنج ، فإن دمشق وحلب وعليهما في الجنوب والشمال المعول في الحرب لأنهما المعسكران العظيمان كثيرا ما شغلا بأنفسهما ورد دسائس الذين يتربصون الدوائر بملوكهما ، والفرقة الباطنية التي كان المقصد من الإغضاء عنها أن تقف سدا في وجه الأعداء لما عرف به أربابها من الشدة والمضاء ، أصبحت آلة شر على المسلمين لا لهم في أكثر الأحيان ، ولم يخلصوا لمن انشقوا عنهم مذهبا وإن لم ينشقوا عنهم قومية.

فاقتضت الحال أن يتولى أمر الأمة بعد تتش وآق سنقر وبزان وابن عمار وابن منقذ ومسعود وطغتكين وبوري وزنكي أمراء من عيار أرقى وبسلطة أعظم ، تكون اجزاء حكومتهم أكثر تجانسا من ذي قبل ، وليس الزمن زمن ملك وإمارة ، ولا عهد سكة مضروبة ، وخطبة مخطوبة ، بل العهد عهد عمل بالقرائح والعقول ،

١٤

وعمل بالسلاح والكراع ، وعمل بالخطط العسكرية والخدع الحربية ، وقت كله جد في جد ، وإلا فالعدو يتقدم ، والإسلام يهلك ويعدم ، وعمل عظيم كهذا متوقف على قيام زعيم كبير يلتف الناس حوله عن رضى ، ويجذب قلوبهم بصالح أعماله لا ببهرج مقامه ولطف مقاله ، ويبهرهم بلامع إخلاصه ، لا ببريق الذهب على كرسيه وتاجه.

صفات عماد الدين زنكي وتولي ابنه نور الدين :

بدأ العقد الرابع من القرن السادس وفيه قتل عماد الدين زنكي على قلعة جعبر بيد جماعة من مماليكه. وكانت صفاته صفات حربية راقية اشتهر بشجاعته ونجدته ، اشتهاره ببطشه وشدته ، وكان يحب التوسع في الملك والذّب عن حوزة الإسلام ، ويدرك بثاقب نظرهأن الأعداء محيطة بمملكته لا ينجيها منهم إلا القضاء على إحدى إماراتهم في الرّها وما إليها ، ولا يتقى بأسهم بمناوشات وحروب تستصفى معها بعض القلاع والحصون ثم يستعيدونها وبالعكس ، وما دامت دمشق لم تدخل في سلطانه لا يقوى ملكه بالشام الإسلامية مع ملكه الموصل على ردّ عوادي الدهر ودفع غوائل العدو. توفرت في شخصه شروط التوسع في الملك ، وعرف إدارة الممالك بالعمل ورثها من أبيه آق سنقر وبذّه فيها ، فكان مربيا فاضلا شهما مشهودا له بذلك ، دفع إليه السلطان محمود لما تولى الموصل ولديه آلب أرسلان وفروخ شاه المعروف بالخفاجي ليربيهما فلذا قيل له أتابك.

ومن صفات عماد الدين أنه كان ينهى أصحابه عن شراء الملك ويقول : إن الأقطاع تغني عنها ، ومتى كانت البلاد لنا فلا حاجة إليها ، ومتى ذهبت البلاد منا ذهبت الأملاك معها ، ومتى كان لأصحاب السلطان ملك تعدوا على الرعية وظلموهم ، على حين كانت الاقطاعات في عهده للأمراء والقواد وأرباب الدولة شائعة غير منكرة عند المسلمين وعند الصليبيين في هذه الديار. قيل للشهيد أتابك زنكي : إن هذا كمال الدين بن الشهرزوري يحصل له في كل سنة منك ما يزيد على عشرة آلاف دينار أميرية وغيره يقنع منك بخمسمائة دينار. فقال لهم : بهذا العقل والرأي تدبرون دولتي؟! إن كمال الدين يقلّ له هذا القدر وغيره يكثر له خمسمائة دينار. فإن شغلا واحدا يقوم به كمال الدين خير من مائة ألف دينار. وكان كما

١٥

قال. وهذا أكبر دليل على حرصه على رجاله وإيقانه أن الدولة لا تقوم إلا بأمثال الوزير الشهرزوري.

وكانت لعماد الدين عناية بأخبار يتنشّدها ويغرّم عليها الأموال الطائلة ، فيقف على أخبار الملوك ساعة بساعة ، وإذا جاءه رسول لا يمكنه من الحديث مع أحد الرعية لئلا ينتشر الخبر في البلد. وكان يفرق الأموال في القلاع والبلدان فلا يجعلها في مكان واحد ويقول : إذا كانت الأموال في موضع واحد وحدث حادث وأنا في موضع آخر وذهبت لم انتفع بها ، وإذا كانت متفرقة لم يحل شيء بيني وبينها رجعت الى بعضها. وكانت المملكة قبل أن يملكها خرابا من الظلم وتنقل الولاة ومجاورة الفرنج فعمرها وامتلأت أهلا وسكانا ، وقبل أن يجيء زنكي إلى الشام اشتدت صولة الصليبيين واتسعت مملكتهم من ناحية ماردين وشيحان إلى عريش مصر وانقطعت الطرق إلى دمشق إلا على الرحبة والبر ، وجعلوا على كل بلد جاورهم خراجا وإتاوة يأخذونها منهم ليكفوا أذيتهم عنهم. وكان مهيبا شديد الوطأة على من يعبثون بحياة الامة. بلغه أن بعض الولاة تعرض لامرأة فقلع عينيه وجب مذاكيره فخاف الولاة وانزجروا ، وكان شديد الغيرة ولا سيما على نساء الأجناد. وكان يقول : إن لم تحفظ نساء الأجناد وإلا فسدت لكثرة غيبة أزواجهن في الأسفار. ترجمه العماد الكاتب بقوله: كان زنكي ابن آق سنقر جبارا عسوفا ، بنكباء النكبات عصوفا ، نمري الخلق ، أسدي الحنق ، لا ينكر العنف ، ولا يعرف العرف ، قد استولى على الشام من سنة (٥٢٢) إلى ان قتل في سنة (٥٤١) وهو مرهوب لسطوه اه. وبعض هذه الصفات تنزهت منها نفس ابنه نور الدين محمود وهذا الرجل الذي كان ينتظر لإنقاذ الشام مما حل به من الويلات ، فإنه جمع الصفات الحسنة في أبيه وتجرد عن الصفات الرديئة فيه.

كان نور الدين في قلعة جعبر يوم مقتل أبيه عماد الدين بيد المماليك فسمي الشهيد، فأخذ في الحال خاتمه وهو ميت من اصبعه وسار إلى حلب فملكها ، وأرسل كبراء دولة زنكي إلى ولده سيف الدين غازي بن زنكي يعلمونه الحال وهو بشهرزور ، فسار إلى الموصل واستقر في ملكها. قال ابن عساكر : وسير نور الدين الملك آلب أرسلان بن السلطان محمود بن محمد إلى الموصل مع جماعة من أكابر دولة أبيه وقال لهم : إن وصل أخي سيف الدين غازي إلى الموصل فهي له ، وأنتم في

١٦

خدمته ، وإن تأخر فأنا أقرر أمور الشام وأتوجه إليكم. ولما انتهى نعيّ عماد الدين إلى صاحب دمشق خف في الحال إلى حصن بعلبك وحصره وكان متوليه نجم الدين أيوب بن شادي والد صلاح الدين يوسف ، فخاف أن لا يتمكن أولاد زنكي من إنجاده بالعاجل فصالح صاحب دمشق وسلم القلعة إليه ، وأخذ منه إقطاعا ومالا وملكه عدة قرى من عمالة دمشق.

ولم يكد نور الدين يتربع في دست الحكم بحلب حتى بدت آيات فضله ، وصحة حكمه وعقله وحزمه ، وباستيلائه على الأعمال ظهر نبوغه فدخلت الشام في حياة سياسة جديدة ، بعد تقلقل أمر الدولة الأتابكية بدمشق ، ودخول الوهن على فروعها بزوال أصلها الثابت ظهير الدين طغتكين. وسار نور الدين على قدم أبيه عماد الدين في التقرب من ملوك الأطراف فخطب ابنة معين الدين أتسز الملك الحقيقي لدمشق ، والحاكم المتحكم في سياستها ليتم له بالصهر والقرابة ما كان أبوه يرمي إليه بزواجه بأم شهاب الدين محمود فلم يتم له ، وتزوج نور الدين بعد ذلك بابنة صاحب قونية واقصرا فأمن بهذا الزواج من غارة يغيرها صاحب آسيا الصغرى على الشام ، ومن تسرّب عسكر الصليبيين عن طريق الروم إلى مملكته.

بعد أن أصيب جوسلين صاحب الرّها بتمزيق شمل إمارته قبل سنتين على يد عماد الدين زنكي ، جمع الفرنج من كل ناحية وقصد مدينة الرّها على غفلة بموافقة النصارى المقيمين بها فاستولى عليها وقتل من بها من المسلمين. فنهض نور الدين (٥٤١) فيمن انضاف إليه من التركمان فاستعاد البلد وقتل كثيرا من أرمنها ، ومحق السيف كل من ظفر به من نصاراها. واستنجد صاحب دمشق بنور الدين على قتال والي صرخد الذي كان خرج إلى ناحية الفرنج للاستنصار بهم ، فجاء نور الدين في عسكر حسن فاجتمع الجيشان على حلب ، وبلغ صاحبي حلب ودمشق أن الفرنج احتشدوا قاصدين بصري فحال عسكر المسلمين بينهم وبين الوصول إليها ، واستظهر عسكر المسلمين على الفرنج فولوا الأدبار فتسلم صاحب دمشق حصني بصرى وصرخد.

الحملة الصليبية الثانية وغزوتها دمشق :

وفتح نور الدين في السنة التالية (٥٤٢) مدينة ارتاح بالسيف وحصر ثامولة (؟)

١٧

وبسرفوث وكفرلاما من أعمال الفرنج. قال صاحب الكامل : كان الفرنج بعد قتل والد نور الدين قد طمعوا وظنوا أنهم بعده يستردون ما أخذه ، فلما رأوا من نور الدين هذا الجد في أول أمره علموا أن ما أملوه بعيد وخاب ظنهم وأملهم وبينا كان نور الدين يجمع شمله لضرب الفرنج في مقتل من مقاتلهم للقضاء على قوتهم التي ظهر له ضعفها يوم استرد أبوه منهم الرّها ، وردت الأخبار من قسطنطينية أن حملة عظيمة قادمة من بلاد الفرنج وهي المعروفة بالحملة الصليبية الثانية مؤلفة من فرنسيس بقيادة لويز السابع ، وألمان بزعامة كونراد الثالث ، وفي الجيش إنكليز وفلامنديون وطليان ، ومن هؤلاء البنادقة والجنوية والبياسنة (البيزيون) وذلك لإنجاد الصليبيين في الشام ، إذ ساءت حالهم بعد سقوط الرّها وقلّ فارسهم وراجلهم لأن سيوف التركمان والأكراد والعرب قد حصدتهم ، وعلى كثرة تناسلهم مدة نصف قرن صبحوا في قلة وأصبح أعداؤهم في كثرة.

تجمعت هذه الحملة بتحميس القديس برناردوس في الغرب ، وكان له كما لرؤساء الدين السلطان الأكبر على النفوس يصرفها كما يشاء. وذكر المؤرخون أن عدد هذا الجيش كان ألف ألف عنان من الرجالة والفرسان وقيل أكثر من ذلك. وفي التاريخ العام أن كلا من الجيش الألماني والجيش الفرنسي كان مؤلفا من سبعمائة ألف فارس ما عدا الرجالة الذين لا يحصى عددهم ، وأن الروم قدروا مجموعه سبعمائة الف رجل. قال وهو تقدير ظاهر المبالغة. واختار هذا الجيش طريق البر وعرض عليه روجر صاحب بوليه وصقلية أن يسافر بحرا لأنه كان ينوي الاستعانة بجيش الصليبيين ليدفع المسلمين عن دياره ، وكانوا احتلوا سركوزة ، فلقي جيش الصليبيين من صاحب القسطنطينية وأمراء بني سلجوق في آسيا الصغرى ضروب القهر والمرت. قال مؤرخونا : واستمر القتل فيهم أي في الصليبيين إلى أن هلك العدد الدثر منهم ، وحل بهم من عدم القوت والعلوفات والمير وغلاء السعر ما أفنى الكثير منهم.

وصلت مراكب الفرنج (٥٤٣) إلى ساحل البحر كصور وعكا ، وأجمع من كان بها من الفرنج بعدما فني منهم أي من القادمين من طريق البر بالقتل والمرض والجوع نحو مائة ألف إنسان أن يقصدوا بيت المقدس. ولما قضوا مفروض حجهم عاد من عاد بعد ذلك إلى أوطانهم في البحر ، وبقي ملك الألمان أكبر

١٨

ملوكهم ومن هو دونه ، وصلى الصليبيون في القدس صلاة الموت ، وعادوا إلى عكا وفرقوا المال في العسكر وكان مقدار ما فرقوه سبعمائة ألف دينار ولم يعينوا لهم وجهة وما كانت وجهتهم إلا فتح دمشق فورّوا بغيرها وهرّبوا المسلمين بين أيديهم. ولم يشعر أهل دمشق إلا وملك الألمان قد ضرب خيمته على باب مدينتهم في الميدان الأخضر. وكان الفرنج في نحو خمسين ألفا من الخيل والرجل وقيل أكثر من ذلك. ويقول ابن منقذ : إن ملك الألمان لما وصل إلى الشام اجتمع إليه كل من في أرجاء الساحل من الفرنج ، فقصدوا أولا المنزل المعروف بمنازل العسكر فصادفوا الماء مقطوعا عنه ، فقصدوا ناحية المزة ووصلت طلائعهم إلى الميدان الأخضر فنشبت الحرب بين الفريقين ، واجتمع عليهم من الأجناد والأتراك والتركمان وأحداث البلد والمطوعة والغزاة الجمّ الغفير ، وكانت المكاتبات قد نفذت إلى ولاة الأطراف بالاستصراخ ، وأخذت خيل التركمان تتواصل ، فلما ضاق الأمر بالفرنج بعد اربعة أيام ورأوا شدة عزيمة المسلمين في قتالهم رحلوا مفلولين.

ويرى مؤرخو الحروب الصليبية من الفرنج أن جيش الحملة الصليبية الثانية كان أكثر نظاما وقيادة من جيش الحملة الأولى ، ليس فيه المتشردون والأشقياء ، وكان مؤلفا من فرسان وبارونات وغيرهم أخذوا بالحماسة الدينية وساروا في قيادة ملكين عظيميين. وفي التاريخ العام أن هذه الحملة الصليبية الكبرى لم تجد نفعا البتة حتى استغربت حالها أمم النصرانية فبحث بعضهم عن الخطايا التي استحقت بارتكابها هذه الكارثة ، ونسبت أخرى هزيمة الحملة لخداع الروم أو لخيانة نصارى الشرق وذكروا أن الصليبيين في القدس قد ارتشوا من أمير دمشق بمبلغ مائتين وخمسين ألف دينار وأن الأمير أرسل المال زيوفا أو نحاسا طلي بالذهب.

انكسر الجيش الذي قاتل دمشق بقيادة كونراد الألماني ولويز السابع الفرنسوي وبودوين الثالث ملك القدس في بساتين المزة ولحق فلّهم بالساحل ، بعد أن قطعرا أشجار الحدائق للتحصن بها وأحرقوا الربوة والقبة المهدوية. وقد وصف أبو الحكم الأندلسي جيش الفرنجة على دمشق في مخيمه ومعتركه ومجتلده ومنهزمه وصفا جميلا قال :

بشطى نهر داريا

أمور ما تؤاتينا

وأقوام رأوا سفك ال

دما في جلّق دينا

١٩

أتانا مائتا ألف

عديدا أو يزيدونا

فبعضهم من اندلس

وبعض من فلسطينا

ومن عكا ومن صور

ومن صيدا وتبنينا

اذا أبصرتهم أبصر

ت أقواما مجانينا

ولكن حرقوا في عا

جل الحال البساتينا

وجازوا المرج والتعدي

ل أيضا والميادينا

تخالهم وقد ركبوا

قطائرها حراذينا

وبين خيامهم ضموا ال

خنازر والقرابينا

ورايات وصلبانا

على مسجد خاتونا

ومن توفيق صاحب دمشق يومئذ وهو مجير الدين أبق أن تدبير المملكة كان لمعين الدين أتسز مملوك جده طغتكين ، وكان عاقلا دينا محسنا لعسكره فاستنجد بصاحب الموصل سيف الدين غازي وصاحب حلب نور الدين محمود ، فجاء الشقيقان في جيش لجب ، وانضم جيشهما بل روحه وروح أبيهما إلى روح مملوك طغتكين مؤسس الدولة الأتابكية ، مع تحمس الأمة ومعرفتها حق المعرفة أن الفرنج إذا أخذوا دمشق سقطت الشام كلها ، وربما تعدوها إلى الحجاز وهناك الطامة العظمى على المسلمين ، وكان اجتماع آل زنكي الأقوياء مع صاحب دمشق الضعيف في سلطانه فاتحة لعمل عظيم يتوقع منهم في الشام ، وأن ملكها سيؤول إليهم بحكم الطبيعة. ولم يرض سيف الدين ولا نور الدين أن يناقشا مجير الدين ومعين الدين الحساب عما قدماه وقالاه ، بل مرا بالأحقاد مرّ الكرام ، وجعلا الأقاويل دبر آذانهما وعند الشدائد تذهب الأحقاد.

ذكروا أن معين الدين أتسز كان قد كاتب سيف الدين غازي صاحب الموصل قبل نزول الصليبيين على دمشق ، يستصرخ به ويخبره بشدة بأسهم ويقول له أدركنا ، فسار سيف الدين في عشرين ألف فارس ونزل في إقليم حمص وبعث إلى معين الدين يقول : «قد حضرت بجند طمّ ولم أترك ببلادي من يحمل السلاح ، فإن أنا جئت الفرنج وكانت علينا الهزيمة وليست دمشق لي ولا لي بها نائب لم يسلم منا أحد وأخذت الفرنج دمشق وغيرها فإن أحببت أن أقاتلهم فسلم البلد إلى من أثق به ، وأنا أحلف لك إن كانت النصرة لنا عليهم أنني لا أدخل إلى

٢٠