خطط الشام - ج ٢

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٢

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٠

دمشق وأرجع إلى بلادي» فمطله معين الدين وبعث إلى السواحل يقول : «هذا ملك الشرق نازل على حمص وليس لكم به طاقة ، فإن رحلتم وإلا سلمت دمشق إليه وهو يبيدكم وأنا أعطيكم بانياس» أي إن معين الدين أتسز آثر أن يتخلى عن بانياس مفتاح دمشق الأكبر من جهة الفرنج ، ولا يجعل لسيف الدين غازي إصبعا في بلده ، لعلمه أن دولة آل زنكي في عنفوان أمرها غضة الإهاب ودولتهم هرمة ، والفتى يغلب الهرم ويخلفه بحكم الطبيعة.

تقدم نور الدين في فتوحه :

ولما رحل الفرنج عن دمشق كتب القومص صاحب طرابلس إلى معين الدين وإلى نور الدين يستنجدهما على ولد ألفنس صاحب صقلية الذي أخذ منه حصن العريمة ، ويريدهما على أخذه خوفا منه على بلده ، وكتبا إلى سيف الدين يطلبان منه المدد فأمدهما ، فحصروا الحصن ونقبوا السور ، فأذعن الفرنج واستسلموا وألقوا بأيديهم ، فملك المسلمون الحصن وأخربوه وأخذوا كل من فيه.

وعاد عسكر سيف الدين إلى الموصل وعسكر نور الدين إلى حلب وأخذ هذا بجمع أطرافه وتوجه إلى ما دانى أرضه من أرض الفرنج وظفر بعدة وافرة منهم ، وجمع صاحب أنطاكية رجاله فصد نور الدين على حين غفلة منه ، ونال من عسكره حتى اضطر نور الدين أن يهرب بنفسه وعسكره إلى حلب. وفي هذه السنة (٥٤٣) نادى منادي نور الدين في حلب بإبطال الأذان بحي على خير العمل في أواخر أذان الغداة ، وأعاد أذان أهل السنة ففرح الناس وأبطل بذلك أثرا عظيما من آثار الدولة العلوية الفاطمية.

لم تثبط هزيمة نور الدين يوم أنطاكية من عزيمته ، وقصد الفرنج فكان بينه وبينهم مصاف بأرض يغري من العمق فانهزم الفرنج إلى حصن حارم وكانوا هزموا المسلمين أولا بهذا الموضع ، وقتل منهم وأسر جماعة كثيرة فأرسل منهم جماعة مع غنائم كثيرة إلى أخيه سيف الدين صاحب الموصل. وفي هذه السنة سار نور الدين إلى بصري وقد اجتمع الفرنج قضهم وقضيضهم ، فالتقى بهم هنالك واقتتلوا أشد قتال فهزمهم نور الدين.

وكثر عيث الفرنج في صور وعكا والثغور (٥٤٤) بعد رحيلهم عن دمشق

٢١

وفساد شروط الهدنة المستقرة بين صاحب دمشق وبينهم ، وكانوا يعيثون في عمل دمشق ، ويفحشون في التخريب ويمعنون في الغارة ، فأغار عليهم العسكر الشامي والتركماني والأعراب إلى أن اضطروا إلى تجديد الهدنة مع صاحب دمشق سنتين. وأغار صاحب أنطاكية على الأعمال الحلبية فدفعه نور الدين صاحبها ، وكان عسكر نور الدين يناهز الستة آلاف فارس سوى الأتباع والسواد ، والفرنج في زهاء أربعمائة فارس طعانة وألف راجل مقاتلة سوى الأتباع ، فلم ينج منهم إلا نفر يسير ثم نزل نور الدين في العسكر على باب أنطاكية وقد خلت من حماتها فاستمال أهلها في التسليم فأمهلوا ، ثم نهض إلى أفامية فسلم الفرنج إليه البلد بعد حصارها واجتمع من بالشام من الفرنج وساروا نحو نور الدين ليرحلوه عنهم ، فلم يصلوا إلا وقد ملك حصن أفامية وملأه ذخائر وسلاحا ورجالا ، واقتضت الحال بعد ذلك مهادنة من في أنطاكية وتقرر أن يكون ما قرب من الأعمال الحلبية لنور الدين ، وما قرب من أنطاكية لهم. وقد عاون نور الدين في هذه الوقعة الأمير بزان في عسكر دمشق وعسكر أخيه سيف الدين غازي والجزيرة ، وقتل من الفرنج ألف وخمسمائة وأسر مثلهم ، وقتل البرنس وحمل رأسه إلى نور الدين. قال العماد : وكانت هذه الكسرة على إنب ، وإنب حصن من أعمال عزاز.

وظهرت الفرنج في الأعمال الدمشقية للعيث فيها واتصل بنور الدين إفسادهم في الأعمال الحورانية بالنهب والسبي فعزم على التأهب لقصدهم فسار وكف أيدي أصحابه عن العيث والفساد في الضياع ، وأمر بإحسان الرأي في الفلاحين والتخفيف عنهم. وكتب إلى دمشق يستدعي منهم المعونة على ذلك بألف فارس ، وقد كان رؤساؤها عاهدوا الفرنج أن يكونوا يدا واحدة على من يقصدهم من عساكر المسلمين فاحتج عليه وغولط ، فلما عرف ذلك رحل ونزل بمرج يبوس وبعض العسكر بيعفور ، ثم رحل من منزله بالأعوج ونزل على جسر الخشب المعروف بمنازل العسكر ، وراسل مجير الدين والرئيس بدمشق بأنه لم يقصد محاربتهم وإنما دعاه إلي ذلك كثرة شكاية المسلمين من أهل حوران والعربان وعجز أمراء دمشق عن حفظ أعمالها واستصراخهم بالفرنج على محاربته ، وبذلهم لهم أموال الضعفاء والمساكين من الرعية ظلما لهم ، فكان الجواب عن هذه الرسالة «ليس بيننا وبينك إلا السيف وسيوافينا من الفرنج ما يعيننا على دفعك إن

٢٢

قصدتنا ونزلت علينا» فلما عاد الرسول بهذا الجواب أكثر التعجب منه والإنكار له ، وعزم على الزحف إلى دمشق. وما ندري إذا كان ذلك الجواب صدر قبل وفاة معين الدين أتسز والي دمشق وصاحب أمرها نيابة عن أولاد طغتكين ، وكان أتسز صالحا عادلا محسنا كافا عن الظلم متجنبا للمآثم ، محبا للعلماء والفقراء ، بذل مجهوده في حفظ بيت سيده طغتكين فلما مات أخذ ملك مجير الدين في الانحلال.

انحلال دولة مجير الدين وتوفيق نور الدين :

آذنت شمس دولة أبناء طغتكين بالمغيب ، لهلاك الرجال الغيورين عليها ، ولأن أربابها أخذوا يتقوون بالفرنج على أبناء نحلتهم حبا بأن يبقوا في ملكهم ورفاهيتهم. ولكن دولة نور الدين التي أصبح لها المقام الأسنى في الشام بعد أن حالف التوفيق أعلامها أكثر من مرة في سنين قليلة أخذت النفوس تتطلع إليها ، وتعلق الآمال الطيبة عليها. وقد كانت دمشق التي أجابت نور الدين بهذا الجواب الفظ نشبت فيها هذه السنة فتنة بين الأجناد والمقدمين والرعاع والفلاحين وذلك لاستيحاش الرئيس في دمشق من مجير الدين صاحبها ، ولم تزل الفتنة ثائرة إلى أن أبعد من التمس إبعاده من خواص مجير الدين وسكنت الفتنة.

ولكن هذه الفوضى في دمشق يصعب دوامها ، وليست المسألة مسألة تقريب رجل أو رجال من أركان الدولة او اصطلام ثائر وخارج على الجماعة ، وقد سرت روح الغضب حتى إلى أقرب الناس من الآل الملوكي ، وقوة نور الدين تشتد وشائجها ، ودعوته تزداد انتشارا اليوم بعد اليوم ، فلم يسع أولي الأمر في دمشق سنة (٥٤٠) إلا تقرير الصلح بينهم وبينه ، فأقيمت الخطبة لنور الدين على منبر دمشق بعد الخليفة والسلطان ، وضربت السكة باسمه وخلع نور الدين على مجير الدين خلعة السلطنة والطرق والسوارين وخلع على الرئيس ابن الصوفي خلعة الوزارة فبذلا له الطاعة وأعادهما إلى عملهما وطيب قلوبهما «ورحل إلى حلب والقلوب معه لما غمر العالم من خيره». عمل مجير الدين وابن الصوفي هذا العمل مكرهين أمام قوة قاهرة ، عملاه وهما يسران حسرا؟؟؟ في ارتغاء ، على أمل أن ينتقما من نور الدين باعتصامهما بالصليبيين حتى اضطر في السنة التالية (٥٤٦) أن يسوق عسكره إلى دمشق فنزل أوائل جنده على أرض عذراء ، وقصد فريق وافر منهم ناحية السهم

٢٣

والنيرب في سفح قاسيون ، وكمنوا عند الجبل لعسكر دمشق ، ثم وصل نور الدين في جنده ونزل على عيون فاسريا بين عذراء ودومة ، وامتد عسكره إلى ضمير ونزلوا في أرض حجيرا وراوية في خلق كثير ، ثم نزل في أرض مشهد القدم وما والاه من الشرق والغرب ، وكان منتهى الخيم إلى المسجد الجديد قبلي البلد أي أن العسكر النوري أحاط بدمشق من أطرافها الأربعة فنزل كما قال المؤرخ منزلا ما نزله أحد من مقدمي العساكر فيما سلف من السنين ، وأرسل نور الدين إلى مجير الدين يقول : «كنت اتفقت معكم وحلفت لكم ، والآن قد صح عندي أنكم ظاهرتم الفرنج فإن أعطيتموني عساكركم لأجاهد في سبيل الله رجعت عنكم» فلم يرد جوابا. وجرى بين أوائل العسكر وبين من ظهر إليه من البلد مناوشات ولم يزل نور الدين مهملا للزحف على البلد إشفاقا من قتل النفوس وإثخان الجراح في مقاتلة الجهتين حتى انطلقت أيدي المفسدين من الفريقين في العيث ، وحصدت زراعات المرج والغوطة وضواحي البلد ، وخربت مساكن القرى ونقلت أنقاضها إلى البلد ، وزاد الإضرار بأربابها من التنّاء والفلاحين وتزايد طمع الرعاع والأوباش في التناهي والفساد ، ثم رحل العسكر النوري ونزل في أراضي فذايا وحلفبلتا المصاقبة للبلد ، ونشبت المطاردة وكثرت الجراح في خيالة البلد ورجالته ، ثم رحل نور الدين إلى ناحية داريا لتواصل الإرجاف بقرب عسكر الفرنج من البلد للإنجاد ليكون قريبا من معابرهم ، وبعد ذلك رحل إلى ناحية الزبداني استجرارا لهم ، وجعل من عسكره أربعة آلاف فارس ليكونوا في أعمال حوران مع العرب لقصد الفرنج ولقائهم ، ونزل الفرنج على نهر الأعوج ، وخرج مجير الدين ومؤيده في خواصهما واجتمعا بملكهم وما صادفوا عنده شيئا مما هجس في النفوس من كثرة ولا قوة ، وتقرر بينهم النزول بالعسكرين على حصن بصرى لتملكه واستغلال أعماله. ثم رحل عسكر الفرنج إلى رأس الماء ولم يتهيأ خروج العسكر الدمشقي إليهم لعجزهم واختلافهم ، وقصد من كان بحوران من العسكر النوري ومن انضاف إليهم من العرب ناحية الفرنج للإيقاع بهم فالتجأ عسكر الفرنج إلى اللجاة للاعتصام بها. ثم زحف نور الدين على دمشق وقد رأى خيانة صاحبها ومماشاته للفرنج حرصا على هذه العاصمة من السقوط في يد العسكر النوري البالع ثلاثين ألفا يزداد كل يوم قوة وعسكر دمشق ضعفا. وتحرج نور الدين من

٢٤

قتال المسلمين وما زال يميل إلى حقن الدماء لعلمه بأن خيانة حكومتها لا تكون ولن تكون سببا للعبث بالغرض المقدس الذي يرمي إليه من إنقاذ الأمة ولطالما قال : «إني أرفه المسلمين ليكون بذل نفوسهم في مجاهدة أعدائهم».

ولما تجلت لمجير الدين غلطته في مفاوضة الصليبيين للخلاص من نور الدين لم يستطع حفظا لملكه إلا قبول الشروط التي وضعها نور الدين عليه ، ودخل مجير الدين على نور الدين في حلب فبالغ هذا في إكرامه وقرر معه تقريرات اقترحها

مقاصد نور الدين وفتحه دمشق :

كانت همة نور الدين منصرفة في كل أطواره إلى توحيد الإمارات الإسلامية وهذه ، كما في التاريخ العام ، كانت على عهد الحروب الصليبية تتألف وتتمزق على الدوام بحسب طوالع الحروب والدسائس التي تقوم ثورتها بين الأمراء ، وبحسب انتقال الملك وتقسيمه ، وامتيازات الأسر. وكان في جبال الشام خاصة من الأمراء من لم تكن أرضهم تتجاوز ربض قلاعهم وضاحيتها كصاحب شيزر ، ولذلك عامل نور الدين مجير الدين صاحب دمشق على ما بدر منه من الأغلاط النابية عن حد الوطنية والقواعد الشرعية معاملة رفق وإغضاء ، لأن المقصد جمع الشمل والسؤدد مع السواد. ومما أفاد في هذا العقد وصول الأسطول المصري إلى الساحل في سبعين مركبا حربيا مشحونا بالرجال واقترابه من يافا فقتل وأسر وأحرق واستولى على عدة وافرة من مراكب الفرنج والروم ، ثم قصد ثغر عكا وصيدا وبيروت وطرابلس وفعل فيها مثل ذلك. قال ابن ميسر : وظفر الأسطول المصري بجماعة من حجاج الفرنج فقتلوهم عن آخرهم ، وبلغ ذلك نور الدين محمود بن زنكي ملك الشام فهمّ بقصد الفرنج في البر ليكون هو في البر والأسطول المصري في البحر فعاقه عن ذلك الاشتغال بإصلاح دمشق ، ولو اتفق مسيره مع الأسطول لحصل الغرض من الفرنج ، وكان من جملة ما أنفقه العادل بن السلار على هذا الأسطول ثلاثمائة ألف دينار.

لم تقف همة نور الدين عند هذه الغاية بل اهتبل الغرة وشغل المحتلين في الساحل بما نزل عليهم من بلاء الأسطول المصري ، فغزا الشمال وأسر جوسلين

٢٥

صاحب تل باشر وملك قلاعه وهي تل باشر ـ وكان الأمير حسان المنبجي قد فتحها باسم نور الدين وهو على أبواب دمشق (٥٤٦) ـ وعينتاب ودلوك ـ وكان القتال على هذه شديدا جدا ـ وعزاز وتل خالد وقورس والراوندان وبرج الرصاص وحصن البارة وكفر سود وحصن بسر فوت بجبل بني عليم وكفرلاثا ومرعش ونهر الجوز وذلك في أيام يسيرة. وهذا الفتح والفتح الذي تم على يده في السنة الفائتة (٥٤٥) من تسلم قلعة أفامية جعل نور الدين صاحب الشام. وكان جوسلين فارس الفرنج غير مدافع قد جمع الشجاعة والرأي ، سار في عسكره نحو نور الدين فالتقوا واقتتلوا وانهزم المسلمون وقتل منهم وأسر جمع كثير ، وكان في جملتهم سلاحدار نور الدين فسيره إلى الملك مسعود بن قلج أرسلان صاحب قونية وأقصرا وقال له : هذا سلاحدار زوج ابنتك وسيأتيك بعده ما هو أعظم منه.

فلما علم نور الدين الحال عظم ذلك عليه وأعمل الحيلة على جوسلين وهجر الراحة ليأخذ ثأره. وأحضر جماعة من الأمراء التركمان وبذل لهم الرغائب إن هم ظفروا بجوسلين وسلموه إليه لأنه علم بعجزه عنه في القتال فيما قيل ، فجعل التركمان عليه العيون فخرج متصيدا فظفر به طائفة منهم وحملوه إلى نور الدين أسيرا. وقال ابن الأثير : وعظمت على الفرنج المصيبة بأسر جوسلين ، وخلت بلادهم من حاميها وثغورهم من حافظها ، وسهل أمرهم على المسلمين بعده ، وكان جوسلين كثير الغدر والمكر ، لا يقف على يمين ولا يفي بعهد ، طالما صالحه نور الدين وهادنه ، فإذا أمن جانبه بالعهود والمواثيق نكث وغدر ، فلقيه غدره ، وحاق به مكره ، ولا يحيق المكر السيئى إلا بأهله. فلما أسر تيسر فتح كثير من بلاد الفرنج وقلاعهم. وعني نور الدين بتجهيز ما فتح من الحصون بالميرة والسلاح ، وكان كلما فتح حصنا نقل إليه من كل ما تحتاج إليه الحصون خوفا من نكثة تلحق المسلمين من الفرنج فتكون بلادهم غير محتاجة إلى ما يمنعها من العدو. وكان نور الدين وأبوه إذا فتحا قلعة جعلا فيها من المؤنة والذخائر ما يكفيها عشر سنين.

وأغار هذه السنة فريق وافر من التركمان على ظاهر بيسان فقتلوا من الفرنج وأسروا ولم يفلت منهم غير الوالي ونفر يسير. وقصد الفرنج ناحية البقاع فاستباحوا عدة وافرة من الضياع من رجال ونسوان وشيوخ وأطفال فلحقهم صاحب بعلبك واسترجع منهم بعض ما أخذوا وعادوا على أقبح صفة من الخذلان.

٢٦

وافتتح نور الدين (٥٤٧) حصن انطرطوس وقتل من كان فيه من الفرنج وطلب الباقون الأمان ، وملك عدة من الحصون بالسيف والسبي والإحراق والخراب والأمان ومنها دلوك ويحمور ، بعد أن اقتتل مع الفرنج أشد قتال رآه الناس وصبر الفريقان ثم انهزم الفرنج ، وتوجه مجير الدين في العسكر إلى ناحية حصن بصرى ونزل عليه محاصرا واليه لمخالفته وجوره ، وما زال به حتى نزل على حكمه. وأراد مجير الدين المصير إلى حصن صرخد لمشاهدته فاستأذن مجاهد الدين واليه في ذلك ، إذ لا سبيل إلى استقرار حالة دمشق إذا كان المستولون على بصرى وصرخد يمتّون إلى الفرنج بصلة من الصلات للاحتفاظ بمعاقلهم في أيديهم كما فعل سيف الدين الطنطاش نائب صاحب بصرى وصرخد واستعان بالفرنج على المسلمين فاضطر معين الدين أتسز إلى قتاله ونازل القلعتين فملكهما. وقوي عزم نور الدين (٥٤٨) على جمع العساكر والتركمان من البلدان للغزو ونصرة أهل عسقلان على الفرنج ، وكان هؤلاء شغلوا بأمر عسقلان منذ السنة الغابرة لإمداد صاحب مصر فظفر المسلمون بمن كانوا مجاورين لهم ، ووصل الأسطول المصري إلى عسقلان فقويت نفوس من بها بالمال والرجال والغلال وظفروا بقوة وافرة من مراكب الفرنج ثم هجم الفرنج على عسقلان وداهموها من جوانب سورها فهدموه وقتل من الفريقين خلق كثير ، وألجأت الضرورة إلى طلب المال فأجيبوا إليه فخرج أهلها في البر والبحر إلى ناحية مصر فملك الفرنج مدينة عسقلان ، وكانت لخلفاء مصر والوزراء يجهزون إليها المؤن والسلاح ، ولو لم تختلف أهواء أهل الدولة المصرية ويقتل العادل ابن السلار لما جرأ الفرنج على حصر عسقلان والظفر بمن فيها والتحكم في ضرب غرامة عليها.

وملك نور الدين (٥٤٨) حصن أفليس وقتل من كان فيه من الفرنج والأرمن ونهض عسكره طالبا بانياس. وفي سنة (٥٤٩) وصل نور الدين في عسكره لإمداد أسد الدين شير كوه وكان أرسله إلى دمشق في كتيبة ، وخيم بناحية القصب من المرج. ونزل نور الدين بعيون فاسريا ورحل في الغد ونزل بأرض بيت الآبار من الغوطة وزحف إلى البلد من شرقيه ، وخرج إليهم من عسكره وأحداثه الخلق الكثير ، ووقع الطراد بينهم ثم عاد كل من الفريقين إلى مكانه ، ولم يبرح نور الين يزحف يوما بعد يوم حتى افتتح دمشق على أيسر وجه ، والنفوس فيها متطلعة

٢٧

إلى طلعته لما كان يبلغ القاصي والداني من عدله وحسن سيرته ، ولما أحسن صاحب دمشق مجير الدين أبق بالغلبة انهزم في خواصه إلى القلعة فأنفذ إليه وأمنه على نفسه وماله فخرج إلى نور الدين فطيب نفسه ، ونادى نور الدين بالأمان وخرجت دمشق من أيدي أحفاد الأتابك طغتكين آخر الدهر بعد أن دانت لسلطانهم اثنتين وخمسين سنة.

الداعي لنور الدين على فتح دمشق

والسبب في فتح نور الدين دمشق تغلب الفرنج بناحية دمشق بعد ملكهم عسقلان حتى استعرضوا كل مملوك وجارية بدمشق من النصارى ، وأطلقوا قهرا منهم كل من أراد الخلاص ، فخشي نور الدين أن يملكوا دمشق ، فاستمال أهلها في الباطن ثم حاصرها وفتحها. وفي الكامل أن سبب حرصه على ملكها أن الفرنج لما ملكوا في العام الماضي مدينة عسقلان ولم يكن لنور الدين طريق إلى إزعاجهم عنها لاعتراض دمشق بينه وبين عسقلان ، فلما ملك الفرنج عسقلان طمعوا في دمشق. وعلل هذا الفتح سبط ابن الجوزي بما ظهر من مجير الدين من الظلم ومصادرة الدمشقيين وسفك دمائهم وأخذ أموالهم ، وقبضه على جماعة من الأعيان واستدعى سيف الدولة بن الصوفي الذي ولاه رئاسة دمشق لما أخرج أخاه وجيه الدولة منها فقتله في القلعة ونهب داره وأحرق دور بني الصوفي ونهب أموالهم. وتكاثرت مكاتباته إلى الفرنج يستنجدهم ويطمعهم في البلاد. وكان مراد نور الدين من أخذ دمشق إنقاذ القدس من الفرنج والساحل وكانت دمشق في طريقه. وطمع الفرنج في مجير الدين وكان قد أعطاهم بانياس ، فكانوا يشنون الغارات إلى باب دمشق فيقتلون ويأسرون ويسبون ، وكان مجير الدين قد جعل للفرنج كل سنة قطيعة يأخذونها منه ، وذل الإسلام وأهله في أيامه، وساءت سيرته وكثر فساده ، فكان الأمراء والأعيان بدمشق أصحاب نور الدين يقولون : الغياث الغياث وقالوا : إن شئت حصرناه في القلعة. فرأى نور الدين أخذ مجير الدين باللطف وقال : إن أخذته بالقوة استغاث بالفرنج وأعطاهم البلاد فيكون وهنا عظيما على الإسلام.

وكان من أشد الأمور على الفرنج أن يأخذ نور الدين دمشق لأنه كان أحرق

٢٨

قلوبهم وحرق أرضهم ، وكان في كل وقعة يغني غناء حسنا ، هذا ودمشق ليست له فكيف إذا أصبحت في حكمه ، لا جرم أنه يتقوى بها وتقوى كلمته ولذا عدل إلى ملاطفة مجير الدين ومكاتبته وبعث اليه بهدايا فأنس به وصار يكاتبه ويستشيره فكان نور الدين يكتب إليه إن فلانا يكاتبني فتارة يقبض مجير الدين عليهم وتارة يبقيهم ، فخلت دمشق من الأمراء ولم يبق عنده غير عطاء بن حفاظ ، وكان صاحب بعلبك قد رد إليه مجير الدين أمر دولته وكان ظالما ، فكتب نور الدين إلى مجير الدين يقول : قد نفر عليك عطاء بن حفاظ قلوب الرعية فاقبض عليه لعلم نور الدين أنه لا يتم له أمر في دمشق مع وجود عطاء فقبضه مجير الدين وأمر بقتله فقال له عطاء : لا تقتلني فإن الحيلة قد تمت عليك وذهب ملكك وسترى ، فلم يلتفت إليه وقتله وحينئذ قوي طمع نور الدين في دمشق ، وأرسل إلى أحداثها وأعيانها فأجابوه ، فسار إليها ونزل عليها وكتب مجير الدين إلى الفرنج يستنجد بهم وبذل لهم بعلبك وأموالا كثيرة ، وبلغ نور الدين فأرسل إلى الأحداث ففتحوا له الباب الشرقي فدخلها وحصر مجير الدين في القلعة ، وبلغ ذلك الفرنج فتوقفوا ولما دخل نور الدين صاح أصحابه «نور الدين يا منصور» وامتنع الأجناد والرعية من القتال لما هم عليه من بغض مجير الدين وظلمه وعسفه للرعية ومحبتهم لنور الدين لعدله وخيره.

سئمت النفوس في دمشق من سوء إدارة المتغلبين على أحكامها أمثال الوزير حيدرة ومجاهد الدين بزان وعطاء وغيرهم ، ممن لم يكونوا يهتمون بغير إملاء بطونهم وجيوبهم من دماء الرعية ، ولو أصبحوا عبيدا أرقاء لأعدائهم. أما مجير الدين آخر ملوك الأتابكية في دمشق فإن نور الدين لما غلبه بذل له إقطاعا من جملته مدينة حمص ، فسلم مجير الدين القلعة إلى نور الدين وسار إلى حمص فلم يعطه إياها وأعطاه عوضها بالس فلم يرضها مجير الدين وسار عنها الى العراق وأقام ببغداد حتى مات بها. وهذا من غريب ما يحكى في باب العدل فإن الملوك جرت عادتهم في تلك العصور اذا أخذوا ملكا أن يقتلوه فلم يفعل ذلك نور الدين تحرجا من إهراق الدم الحرام واستحكام الطوائل والثارات والأحقاد في أمة أشد ما تكون إلى التضافر. أعطى نور الدين حمص أقطاعا لمجير الدين حتى لا يقطع له أمله ثم عوضه عنها ببالس لأن حمص على مقربة من كور الصليبيين.

٢٩

ومن خان أمته وهو في عهد عزه أقرب إلى خيانتها في دور شقائه وذله ، اما بالس (مسكنة) فبعيدة عن حركة التطاحن بين الشرق والغرب. وماء الفرات أسوغ للعاصي مجير الدين من ماء بردى والعاصي. والمقصد في الحقيقة من الفتح توحيد كلمة الاسلام ، وهذا قد تم لنور الدين بفتح أبواب دمشق لعدله العمري ، وخروج آخر الأتابكيين من أولاد طغتكين منها بسلام.

لم يتبدل شيء بفتح نور الدين دمشق إلا إبطال المظالم والمغارم ، ورفع الحيف عن الضعاف ، وجمع القوة إلى مقصد واحد لا تتزلزل بالتردد والدسائس ، كانت معظم وقائع نور الدين يحالفها التوفيق وفي السنة التي صفت الديار له أخذ من الفرنج تل باشر. وفي سنة (٥٥٠) تقررت الموادعة بين نور الدين وبين ملك الفرنج مدة سنة ، وقبض نور الدين على ضحاك والي بعلبك وتسلم القلعة وفي السنة التالية (٥٥١) ظفر عسكر نور الدين بالفرنج الذين عاثوا في أعمال حلب تقررت الموادعة والمهادنة بينه وبينهم مدة سنة وان المقاطعة المحمولة اليهم من دمشق ثمانية آلاف دينار صورية (١) ، ثم نقض الفرنج الهدنة لوصول عدة وافرة من الفرنج في البحر وقوة شوكتهم بهم ، ونهضوا الى الشّعراء المجاورة لهم ووقع من المندوبين لحفظ أهل القرى من الأتراك تقصير ، فانتهز الفرنج الفرصة واستاقوا جميع ما وجدوه وأفقروا أهله منه مع ما أسروه من تركمان وغيرهم. وأغار الفرنج (٥٥٢) على أرجاء حمص وحماة وأطلقوا أيديهم بالنهب ، وأغاروا على بانياس ، فانتصر المسلمون ، ومحقت السيوف عامة رجالة الفرنج ومسلمي جبل عاملة المضافين إليهم ، وملك الفرنج جبلة وكانت في أيدي المسلمين منذ سنة (٤٧٣) وثب عليها قاضيها ابن ضليعة التنوخي واستعان بابن عمار صاحب طرابلس فأخرج منها الروم ، وكانت بيدهم منذ سنة (٣٥٧) ، وظفر أسد الدين في جماعة من شجعان لتركمان بسرية وافرة من الفرنج في ناحية الشمال فانهزمت. وافتتح نور الدين بانياس قهرا وظفر عسكره في ناحية هونين بسرية من أعيان مقدمي الفرنج وأبطالهم فلم يفلت منهم إلّا اليسير ، وعسكر الفرنج على الملوحة بين طبرية وبانياس فنهض إليهم نور الدين في عسكره من الأتراك والعرب فكتب له النصر عليهم ، وشاغل نور الدين الفرنج هذه السنة للزلازل التي حدثت في الشام ولكنهم شغلوا أيضا

__________________

(١) من ضرب الفرنج في صور.

٣٠

بما أصابهم من أضرارها في الساحل. وملك نور الدين بعلبك وقلعتها ، وكانت بيد الضحاك البقاعي فامتنع بها فلم يمكن نور الدين محاصرته لقربه من الفرنج فتلطف معه حتى ملكها. وفيها كان انفساخ الهدنة بين الفرنج وملك مصر فبعث بسرية الى غزة نهبت أطرافها وسارت إلى عسقلان فأسرت وغنمت وعادت بالغنائم الى مصر ، ثم سيّر عسكر آخر فمضى الى الشريعة فأبلى بلاء حسنا ، وندب مراكب في البحر فسارت الى بيروت وغيرها فأوقعت بمراكب الفرنج الفرنج فأسرت منهم وغنمت ، وسيّر عسكر الى الشوبك والطفيلة فعاثوا في أرجائهما ورجعوا بجر الحقائب يحملون الأسرى ، وسير الأسطول المصري إلى عكا فأسر من أهلها نحو سبعمائة نفس بعد حروب ، وندب سرية أردفها بأخرى فوصلت غاراتهم إلى أعمال دمشق فغنموا وعادوا.

وملك الفرنج حصن حارم (٥٥٣) وشنوا الغارة على الأعمال الشامية وأطلقوا أيديهم بالنهب والإخراب في أعمال حوران والإقليم ، وقصدوا داريا وأحرقوا منازلها وجامعها وتناهوا في إخرابها ، فخرج إليهم من العسكرية والأحداث العدد الكثير فهموا بالرجوع. وأغار عسكر نور الدين على أعمال صيدا وما قرب منها ، فغنموا أحسن غنيمة وخرج إليهم من كان بها من خيالة الفرنج ورجالتها وقد كمنوا لهم فغنموهم وقتل أكثرهم وأسر الباقون. وتجمع الفرنج فنهض نور الدين للقائهم فانهزم هذه المرة نور الدين لتفرق عسكره وسار عسكر مصري إلى بيت المقدس فعاث وخرب ، وجرت وقعة على طبرية انكسر فيها الفرنج وأقلعت خمس شوان من مصر فدوخت ساحل الشام وظفرت بمراكب الفرنج وعادت بالغنائم والأسرى. وفي سنة (٥٥٤) حشد ملك الروم ووصل الى الشام وجمع نور الدين عليه العساكر فعادوا من حيث أتوا وغنمهم المسلمون.

مرض نور الدين وإبلاله وتتمة فتوحه وهزيمته في البقيعة :

من أعظم البلاء على ممالك الإسلام قديما مسألة وراثة الملك ، فلم تكن قائمة على قاعدة ثابتة لا تتصل فيها إلا القوة ، وصاحبها قد يحرم غيره ممن هم أقرب نسبا من السلطان المتوفى ، فلقد مرض نور الدين (٥٥٤) مرضا شديدا وأرجف بموته بقلعة حلب فجمع أخوه أمير ميران بن زنكي جمعا وحصر هذه القلعة وكان

٣١

شيركوه بحمص وهو من أكبر أمراء نور الدين فسار الى دمشق ليستولي عليها. وبها أخوه نجم الدين أيوب ، فأنكر عليه أيوب ذلك وقال : أهلكتنا والمصلحة أن تعود إلى حلب فإن كان نور الدين حيا خدمته في هذا الوقت ، وإن كان قد مات ، فإنا في دمشق نفعل ما نريد من ملكها ، فعاد شيركوه إلى حلب مجدّا ، وجلس نور الدين في شباك يراه الناس ، فلما رأوه حيا تفرقوا عن أخيه أمير ميران. ولما أبّل نور الدين من مرضه واستقامت الأحوال أخذ حران من أخيه لطمع هذا في ملك نور الدين عند ما كاد الناس ييأسون من سلامته. وقصد صاحب صيدا (٥٥٦) من الفرنج نور الدين محمودا ملتجئا إليه فأمنه وسير معه عسكرا يمنعه من الفرنج أيضا فظهر عليهم في الطريق كمين للفرنج فقتلوا من المسلمين جماعة وكان زهر الدولة بن بحتر التنوخي واليا على ثغر بيروت ومقيما بحصن سرحمور فولاه نور الدين القنيطرة وثعلبايا بالبقاع وظهر الأحمر من وادي التيم وبرج صيدا والدامور والمعاصر الفوقانية وشارون ومجدل بعنا وكفرعميه ورتب له علائف لمحاربة الفرنج ، وكان أبوه شرف الدولة قاطنا في عرمون الغرب فربط له طريق الدامور على الفرنج.

نازل نور الدين (٥٥٧) قلعة حارم وهي للفرنج مدة فاجتمع الفرنج وراسلوه ولاطفوه وكانوا خلقا عظيما فرحل عنها ، ومن أعظم الوقائع التي أصيب بها نور الدين بالفشل أكثر من كل وقعة له مع الفرنج هزيمته (٥٥٨) يوم البقيعة بينا كان نازلا تحت حصن الأكراد فلم يشعر نور الدين وعسكره إلا وقد أطلت عليهم صلبان الفرنج وقصدوا خيمة نور الدين فركب نور الدين فرسه بسرعة وفي يده السّبحة فنزل إنسان كردي فقطعها فنجا نور الدين وقتل الكردي وسار نور الدين إلى بحيرة حمص فنزل عليها وتلاحق به من سلم من جيشه. وقد نقل سبط ابن الجوزي في تعليل هذه الكسرة بأنه لم يكن للمسلمين برك (أثقال) ولا طليعة ظنا من نور الدين أنهم لا يقدمون عليه قال : وكان ذلك من قلة الحزم حيث غفلوا عن العدو ولم يستظهروا بالبرك والطلائع قال : وكان من عزم الفرنج قصد حمص فلما بلغهم نزول نور الدين على البحيرة قالوا : ما فعل هذا إلا عن قوة ، وتوقفوا ثم تفرقوا وخاطبوه بالصلح فلم يجبهم وتركوا عند حصن الأكراد من بحميه وعادوا إلى أرضهم.

٣٢

ولما أصيب نور الدين يوم البقيعة استنجد أصحاب الموصل وماردين والحصن وذكر لهم ما تم عليه فأنجدوه بجيوش ضخمة وكانت سنة (٥٥٩) كلها فتوحا نافعة كان فيها مبدأ سعادة نور الدين ، فتح فيها حارم وقتل بالقرب منها عشرة آلاف وأسر ألوفا ومن جملتهم صاحب أنطاكية والقومس صاحب طرابلس والدوك مقدم الروم وكثر الأسرى من الفرنج حتى بيع الواحد بدينار ثم فاداهم نور الدين. وكان قد استفتى الفقهاء فاختلفوا فقال قوم : يقتل الجميع وقال آخرون : يفادى بهم. فمال نور الدين إلى الفداء فأخذ منهم ستمائة ألف دينار معجلا وخيلا وسلاحا وغير ذلك. فكان نور الدين يحلف بالله أن جميع ما بناه من المدارس والربط والمارستانات وغيرها من هذه المفاداة وجميع ما وقفه منها وليس فيها من بيت المال درهم واحد.

قال المؤرخون : وكان الصليبيون جاءوا لنجدة حارم «في حدهم وحديدهم وملوكهم وفرسانهم وقسوسهم ورهبانهم» وكان الصليبيون استولوا على حارم سنة (٤٩١) وزادوا في تحصينها وجعلوها ملجأ لهم إذا شنوا الغارات فحاصرها نور الدين سنة (٥٥١) وسنة (٥٥٧) ثم فتحها هذه السنة ، وكانت قلعة حصينة في نحور المسلمين. وفي سنة (٥٥٩) فتح نور الدين قلعة بانياس بعد عودته من حارم وكان الفرنج والأرمن على حارم ثلاثين ألفا ووقع بيمند في أسره وباعه نفسه بمال عظيم أنفقه في الجهاد.

حملة نور الدين على مصر :

فتح نور الدين تلك الفتوح ورايته منصورة وسطوته محذورة ، استصفى من ضعاف أمراء المسلمين ما اتصل إليهم بالإرث من الأقاليم فنزلوا له عنها طوعا أو كرها ، واقتصد في إهراق دماء المسلمين وأسرف في إزهاق أرواح الصليبيين ، واسترجع من الأعداء مدنا وحصونا مهمة جعلت إماراتهم الثلاث الباقية تهتز أعصابها ، وتخاف بأس حملاته وغزواته ، ولم يخامرهم شك وهم يستنشئون أخباره أنهم ابتلوا برجل وحدّ قوى الشام وجمع القلوب ووجّهها إلى قتالهم واسترجاع القطر منهم.

ولما تمّ له هذا وقع خلاف في مصر بين شاور وضرغام من وزرائها (٥٥٩)

٣٣

وكانت غدت الوزارة في دولة الفاطميين أشبه بالوزارة في دولة العباسيين يتولاها من يستطيع أن يستجيش له أنصارا وأعوانا. ولما استلب ضرغام من شاور وزارته وعجز في مصر عن مقاومته لحق بنور الدين صاحب الشام ليعينه على خصمه باذلا له ثلث أموال مصر بعد رزق جندها إن هو أعاده الى الوزارة. فرأى نور الدين أن معاونة الوزير المستنجد به لا تخلو من فائدة عظيمة أقلها أنها تفتح له سببا إلى التدخل في شؤون مصر ربما أعقب استيلاءه عليها وضمها إلى مملكته أو تقاضي ما وعد به شاور من الأموال ينفقها في وجوه المصالح والمرافق في الدولة. فإرسال حملة على مصر محسوسة الفائدة لنور الدين بل للإسلام من عدة وجوه.

اقتضى رأي نور الدين بعد تدبّر أمر مصر أن يندب لها رجلا من أعظم رجاله دهاء وحنكة ، فأرسل أسد الدين شيركوه بن شاذي وأصحبه بابن أخيه صلاح الدين يوسف ، وكانت كفاية هذا أخذت تبدو لرجال الدولة واستخصه نور الدين «وألحقه (أي صاحب شرطتها) بخواصه فكان لا يفارقه في سفر ولا حضر» وكان في تلك السنة شحنة دمشق فأخاف اللصوص وقضى على نائره الفتن وفي تلك الفتن قال عرقلة الشاعر :

ذر الأتراك والعربا

وكن في حزب من غلبا

بجلّق أصبحت فتن

تجر الويل والحربا

لئن تمت فوا أسفا

وإن تخرب فواعجبا

ذهبت الحملة الى مصر وأعاد أسد الدين شيركوه الوزير شاورا الى وزارة العاضد العلوي، ولما قبض على زمام الوزارة لم يف لنور الدين بشيء مما شرط على نفسه ، فشق ذلك على أسد الدين ، وسار فاستولى على بلبيس والشرقية فأرسل شاور واستنجد بالفرنج على إخراج أسد الدين شيركوه من الديار المصرية فسار الفرنج واجتمع معهم شاور بعسكر مصر وحصروا شيركوه ببلبيس ثلاثة أشهر. وبلغ الفرنج ما أصابه نور الدين في الشام من التوفيق وأنه أخذ حارم فراسلوا شيركوه في الصلح وفتحوا له طريقا فخرج من بلبيس يمن معه من العسكر وسار بهم ووصلوا إلى الشام سالمين.

هذا ما كان من مبدإ دخول الجند النوري إلى مصر وما لقيه من الشدائد بيد أن قائدهم عرف أمراضها وخللها واطلع على مداخلها ومخارجها ، فكان إنجاد

٣٤

نور الدين شاورا واستنجاد هذا بالفرنج درسا نافعا لدولة نور الدين أدركت به أنه لا سبيل إلى إنقاذ الشام إلا بالاستيلاء على مصر خصوصا والفاطميون كانوا يخافون الفرنج خوفا شديدا ولا يطيقون مقاتلتهم. كان هذا أيام كان لهم شيء من السلطان على النفوس وقوة على التناحر والتغاور فما بالك بهم وقد دب الضعف في كيان دولتهم وعبث العابثون بعزتها ومنعتها. وإلا كان نصيب خطته المرسومة في قتال الصليبيين عقيما ، لأن الروح الخبيث سرت لصغار الأمراء من المسلمين في الاعتصام بأعدائهم إذا ضاقت بهم حالهم وأتاهم سلطان أعظم من سلطانهم ، ولئن كانت الشام قد تطهرت من جراثيم هؤلاء العمال بفضل الدولة النورية بمصر إذا استهانت بمقدساتها أيضا يصبح البقاء في الشام خطرا دائما.

وبينا كان نور الدين يحرّق الأرّم على شاور وفي نفسه منه حزازات لأنه لم يف له بما وعده ، واستعان على قتال جيشه بالصليبيين ، عاد شاور على عادته يظلم ويقتل ويصادر ولم يبق للعاضد معه أمر ولا نهي فبعث يستنجد بنور الدين على شاور ، فما عتم نور الدين أن جهز أسد الدين شيركوه ثانية (٥٦٢) إلى مصر بعسكر جيد عدتهم ألفا فارس وأمر أيضا أن يخرج معه ابن أخيه صلاح الدين يوسف إلى مصر فامتنع صلاح الدين وقال : يا مولانا يكفي ما لقينا من الشدائد. فقال : لا بدّ من خروجك ، فما أمكنه مخالفة نور الدين. وكان في ذهاب صلاح الدين إلى مصر سعادته وسعادة أمته إذ فتح مصر وأصبح بعد ذلك ملك مصر والشام على ما سنلم به في الصفحات المقبلة. قال المؤرخون : أحب نور الدين مسير صلاح الدين إلى مصر وفيه ذهاب الملك من بيته ، وكره صلاح الدين المسير وفيه سعادته وملكه. ورب زارع لنفسه حاصد سواه. فاستولى أسد الدين على الجيزة وأرسل شاور إلى الفرنج واستنجدهم فساروا في أثر شيركوه الى جهة الصعيد فهزمهم واستولى شيركوه على إقليم الجيزة واستغلها ثم سار إلى الإسكندرية وملكها.

وجعل أسد الدين ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب في الإسكندرية وعاد الى الصعيد فاجتمع عسكر مصر والفرنج وحصروا صلاح الدين بالإسكندرية ثلاثة أشهر ، فسار شيركوه إليهم فاتفقوا على الصلح على مال يحملونه إلى شيركوه ويسلم إليهم الإسكندرية ويعود إلى الشام ، فتسلم المصريون الإسكندرية وعاد شيركوه إلى دمشق ، واستقر الصلح بين الفرنج والمصريين على أن يكون للفرنج

٣٥

بالقاهرة شحنة وتكون أبوابها بيد فرسانهم ، ويكون لهم من دخل مصر كل سنة مائة ألف دينار.

ولكن الحال في مصر لم يسر سيرا حسنا لأن الفرنج لم يخلصوا ، ومن الخطإ الفاحش استنجاد شاور وزيرها بهم واستعانته بهم على إخراج أسد الدين شيركوه منها فأرسل الخليفة العاضد يستغيث بنور الدين (٥٦٤) ثانية وكان الفرنج ملكوا بلبيس وحصروا القاهرة ، فأحرق شاور مصر لئلا يملكها الفرنج وأمر أهلها بالانتقال إلى القاهرة وبقيت النار تحرقها أربعة وخمسين يوما ، وصانع شاور الفرنج على ألف ألف دينار.

ولما قارب شيركوه مصر للمرة الثالثة هرب الفرنج وخلع عليه العاضد وأجرى عليه الإقامات ، وماطله شاور فيما كان بذل لنور الدين من تقرير المال وإفراد ثلث خراج مصر ، وعزم شاور أن يقبض على شيركوه فقبض العسكر النوري عليه وقتل ، ودخل شيركوه القصر فخلع العاضد عليه خلع الوزارة ولقبه الملك المنصور أمير الجيوش وتولى شيركوه الأمر شهرين وخمسة أيام ثم هلك ، فأحضر العاضد صلاح الدين وولاه الوزارة ولقبه بالملك الناصر ، وثبتت قدم صلاح الدين بمصر أنه نائب لنور الدين ، وتمكن منها وضعف أمر العاضد فكان لا يجري في القصر صغيرة ولا كبيرة إلّا بأمر صلاح الدين ، وأصبح يدعى له على منابر مصر بعد نور الدين.

بعض غزوات نور الدين :

ولم يغفل نور الدين في غضون ذلك عن الإثخان في الفرنج وإرهاف الحد في قتالهم ، وقويت عزيمته بعد أن أخذ حارم وبانياس (٥٥٩) على التقدم في فتوحه وكان كلما طالت أيامه أيقن أن القوة القليلة المنظمة أفعل من القوة الكبيرة المبعثرة. ولم ينغصه في عمله سوى مقاومة أحد إخوته أمير ميران له حتى اضطره الى حربه فمضى أخوه أمير ميران إلى صاحب الروم وعفا عنه نور الدين. كأن السعادة التي أقبلت على هذا الفاتح من كل وجه أبت الطبيعة إلّا أن تكدرها عليه بمشاكسة أحد إخوته له ، وكان بالأمس لما أرجف بموت نور الدين في حلب قام يطالب بمملكة أخيه فحاربه ، واليوم يحمل أخاه على دفع عاديته ثم يتجاوز عما بدر؟؟؟ من سيئاته.

٣٦

وفي سنة (٥٦١) فتح نور الدين حصن المنيطرة وخرب قلعة اكاف في البرية وفتح العريمة وصافيتا وحاصر حلبة وخربها وحاصر عرقة وعصا عليه غازي بن حسان صاحب منبج فأعطاه الرقة. واجتمع بأخويه (٥٦٢) قطب الدين وزين الدين بحماة للغزاة وساروا الى بلاد الفرنج فخربوا هونين. وفي سنة (٥٦٥) سارت الفرنج إلى دمياط وحصروها خمسين يوما وشحنها صلاح الدين بالرجال والسلاح والذخائر وغرم على ذلك أموالا عظيمة ، وخرج نور الدين فأغار على كورهم بالشام فرحلوا عائدين على أعقابهم ولم يظفروا بشيء منها. وفيها سار نور الدين إلى الكرك وحاصرها فجمع ملوك الساحل فجاءوه فتأخر الى البلقاء وقال بعضهم : إن الفرنج أغاروا على حوران وهم في جمع غلبت كثرته الخبر والعيان ، ونزلوا في قرية شمسكين فركب نور الدين وهو نازل بالكسوة ثم نزلوا بالشلالة ونزل نور الدين في عشترا. وبينا هو في البلقاء حدثت زلزلة هائلة في الشام فخربت معظم أسوار الحصون ففرق عساكره في القلاع خوفا عليها من العدو وكانت قلاعهم المجاورة لبعرين ولحصن الأكراد وصافيتا وعريمة وعرقة في بحر من الزلازل غرقى ولا سيما حصن الأكراد ، فإنه لم يبق له سور وأغارت سرية لنور الدين (٥٦٥) في بعلبك فانهزم الفرنج وعمهم القتل والأسر لم يفلت منهم إلا من لا يعتد به وقتل فيمن قتل رأس مقدم الاسبتار صاحب حصن الأكراد وكان من الشجاعة بمحل كبير وشجى في حلوق المسلمين.

وغزا نور الدين (٥٦٦) الفرنج قرب عسقلان وعاد إلى مصر ثم حصر أيلة في العقبة المصرية بحرا وبرا وفتحها. وغزا عرقة (٥٦٧) وفتحها وغنم الناس غنيمة عظيمة. واستولى نور الدين على صافيتا وعريمة عنوة ، وقارب طرابلس وهو ينهب ويخرب ويحرق ويقتل وفعل جيشه في أرجاء أنطاكية مثل ذلك ، فراجعه الفرنج وبذلوا له جميع ما أخذوه من المركبين اللذين خرجا هذه السنة من مصر إلى اللاذقية وأخذهما الفرنج وهما مملوءان من الأمتعة والتجارة ، وكان بينهم وبين نور الدين هدنة فنكثوا وغدروا فلما خربت عمالتهم أذعنوا.

قيام بني شهاب من حوران وحربهم الصليبيين :

وفي سنة (٥٦٨) كان قيام آل شهاب من حوران الى وادي التيم قال الشهابي :

٣٧

وكان الكبير منهم في ذلك الوقت الأمير منقذ ، ولما عزموا على القيام جمع الأمير منقذ الأمراء من بيت شهاب ووجره القبيلة وقال لهم : أنتم تفهمون النفور الكائن بين السلطان نور الدين سلطان الديار الشامية والحلبية والسلطان صلاح الدين سلطان الديار المصرية ولا بد أن السلطان نور الدين يتمم ما ينويه وقد دس العساكر في حوران وتعلمون ما لنا عند السلطان صلاح الدين من المحبة والمنزلة الرفيعة وأنا أرى أنه يلزم علينا القيام من حوران قبل ظهور حال من تلك الأحوال ، فلما سمع الحاضرون ما قاله الأمير منقذ قالوا له : هذا هو الصواب وليس فينا أحد يخالف مقالك ، ثم عزموا على القيام وشدوا ظعونهم وحملوا أحمالهم ، ورحلوا من حوران بعشائرهم وقصدوا غربي الديار الشامية ونزلوا حذاء الجسر اليعقوبي.

ولما سمع السلطان نور الدين بقيام آل شهاب من حوران أرسل يسألهم عن السبب الداعي لقيامهم ، وأرسل لهم الخلع والعطايا النفيسة ، وطلب منهم أن يرجعوا إلى أوطانهم آمنين ، فأبوا الرجوع بسبب خراب ديارهم ، وطلبوا أن يسمح لهم بالذهاب إلى مكان آخر فسمح لهم بذلك ، فنزلوا في وادي التيم وكان نزولهم في بيداء الظهر الأحمر من الكنيسة إلى الجديدة وكانوا في خمسة عشر ألفا والأرض التي نزلوها تحت استيلاء الفرنج ، فلما سمع هؤلاء بنزول آل شهاب جيشوا عليهم نحو خمسين ألفا بين فارس وراجل. وكان بطريقهم الكبير يقال له قنطورا استمد من صاحب قلعة الشقيف فأمده بخمسة عشر ألفا فالتقوا مع عسكر الفرنج ودام القتال ثلاثة أيام قتل من الفرنج ثلاثة آلاف ومن آل شهاب ثلاثمائة ، ونقب بنو شهاب حيطان قلعة حاصبيا مدة عشرة أيام وأخذوا قنطورا وجماعته ، وكانوا ثلاثمائة وقتلوهم وأرسلوا رؤوسهم الى نور الدين فسر كل السرور وأعطى ذاك الإقليم لآل شهاب ملكا لهم. ولما سمع صاحب قلعة الشقيف ما حل بالفرنج في حاصبيا أرسل للأمير منقذ يطلب منه الصلح.

وهكذا أدى بنو شهاب خدمة عظيمة للدولة ، قاموا لما شعروا بجفاء بين السلطانين نور الدين وصلاح الدين ، والغالب أن صلاح الدين كان استمال قلوب رؤسائهم حتى لا يسهلوا لنور الدين طريق الحملة على صلاح الدين في مصر ، فلما رأو أنهم لا قبل لهم بنور الدين عرجوا على وادي التيم فكان في ذلك خيرهم وخير دمشق خاصة لأنهم وقفوا في غربها وقفة محمودة وردوا عنها عادية الصليبيين.

٣٨

الفتور بين نور الدين وصلاح الدين :

قلنا إنه حدث جفاء بين السلطانين والسبب فيه أنه لما قويت سلطة صلاح الدين في مصر وولي ملكها بعد مهلك عمه أسد الدين شيركوه وأصبح الآمر الناهي أرسل نور الدين إليه يأمره بقطع الخطبة العلوية وإقامة الخطبة العباسية ، فراجعه صلاح الدين في ذلك خوف الفتنة ، فلم يلتفت نور الدين الى ذلك وأصر عليه فأمر صلاح الدين الخطباء أن يخطبوا للمستضيء العباسي فامتثلوا ، وكان العاضد قد اشتد مرضه فلم يعلمه أحد من أهله بقطع خطبته ولما هلك جلس صلاح الدين للعزاء واستولى على قصر الخلافة وعلى جميع ما فيه وكان شيئا كثيرا جدا فقويت بذلك شوكته وأصبح ملك مصر حقا وصدقا.

وضيق على آل الخليفة الفاطمي حتى لا يتطال أحدهم لدعوى الخلافة بعد العاضد واستدعى من الشام أباه وإخوته ، وكان نور الدين مع هذا لا يخاطبه توا بل يخاطب أمراءه بمصر ومن جملتهم صلاح الدين ، ولقد توطد ملك مصر لصلاح الدين والخطبة له فيها بعد نور الدين يدعى لهذا بعد الخليفة العباسي ، وكلما مضى شهر يزداد نور الدين استيحاشا من صلاح الدين مع أن صلاح الدين سد أبواب الشك على نور الدين ، فقام بجميع رسوم التعظيم له ، وكان معه كقائد مع سلطانه ، وكان صلاح الدين نازل الشوبك وهي للفرنج ثم رحل عنه خوفا أن يأخذه نور الدين ، واعتذر بأنه ربما نشبت الفتنة في تغيبه عن مصر ودعا دعاة العبيديين إلى إرجاع دولتهم.

ولما جاء نور الدين الكرك من قابل وحصرها (٥٦٨) كان قد واعد نور الدين أن يجتمعا على الكرك وسار نور الدين من دمشق حتى وصل الى الرقيم بالقرب من الكرك ، فخاف صلاح الدين من الاجتماع بنور الدين واعتذر بمرض أبيه وأنه يخشى أن يموت فتذهب مصر ، فقبل نور الدين عذره في الظاهر ، وفي الواقع أن أيوبا والد صلاح الدين قضى نحبه في تلك المدة. كان في نفس كل من نور الدين وصلاح الدين شيء على صاحبه ، فلم يخرج صلاح الدين بعساكره الى الشام لحصار الكرك والشوبك ونهب أعمالها إلا لما أيقن أن نور الدين ابتعد عن سمت الشمال وقصد بلاد قليج أرسلان ملك الروم لفتح مرعش وبهسنا حتى لا

٣٩

يجتمع به. والسبب الذي دعا صلاح الدين إلى حصار الكرك والشوبك وقتل بعض العربان ونهب ديارهم هناك أن جماعة من الأعراب النازلين بأرض الكرك كانوا ينقلون الأخبار إلى الفرنج وإذا أغاروا على البلد دلوهم على مقاتل المسلمين. وكان الكرك والشوبك طريق الديار المصرية ويغير أهلها على القوافل منها فقصد تسهيل الطريق لتتصل البلاد بعضها ببعض.

وكان صلاح الدين منذ تأيد سلطانه في مصر يخاف وآله من نور الدين ، وكان استقدمهم إليه فاتفق رأيهم على تحصيل مملكة غير مصر وإذا قصدهم نور الدين في مصر قاتلوه ، فإن هزمهم التجأوا الى تلك المملكة ، فجهز صلاح الدين أخاه توران شاه الى النوبة فلم تعجبهم ثم سيره بعسكر إلى اليمن ففتحها واستقرت اليمن في ملك صلاح الدين يخطب فيها للخليفة العباسي ثم لنور الدين ثم لصلاح الدين على أن صلاح الدين لم يستطع إرسال العسكر من مصر لأول مرة إلا بعد استئذان نور الدين. فهذا وغيره من الأسباب التي أقلقت نور الدين على ملكه وحاذر أن تكون عاقبة هذا الأدب والخضوع انتزاع ملكه منه أو إنشاء صلاح الدين مملكة جديدة أعظم وأغنى من مملكة نور الدين القديمة.

وفاة نور الدين وصفاته الطيبة :

بينا صلاح الدين يحاذر من نور الدين وهذا يتجهز للدخول الى مصر لأخذه أتى نور الدين اليقين ، ومملكته الحقيقية لم تتعد الشام والجزيرة وخطب له بمصر واليمن والحرمين ، ففرق الموت شمل من كان يتخوف أحدهما من صاحبه ، وبكت الأمة الملك العادل نور الدين أبا القاسم محمود بن عماد الدين أتابك لما ظهر من عدله وحسن سيرته بحيث قلّ في الملوك الغابرين أمثاله. قال ابن الأثير : قد طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام وفيه إلى يومنا هذا فلم أر بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين ، ولا أكثر تحريا للعدل والإنصاف منه ، قد قصر ليله ونهاره على عدل ينشره ، وجهاد يتجهز له ، ومظلمة يزيلها ، وعبادة يقوم بها ، وإحسان يوليه ، وإنعام يسديه ، فلو كان في أمة لافتخرت به فكيف ببيت واحد ، أما زهده وعبادته وعلمه فإنه كان مع سعة ملكه وكثرة ذخائر بلاده وأموالها ، لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف فيما

٤٠