خطط الشام - ج ٢

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٢

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٠

وفي سنة (١١٦٠) غزا أسعد باشا العظم البقاع فركب الأمير ملحم الشهابي بعسكره إلى المغيثة ونزل إليه عند بر الياس فانكسر الباشا ووصل الأمير ملحم إلى سهل الجديدة ثم رجع وأحرق جميع قرى البقاع ورجع إلى إمارته منصورا وهابته الدولة. والسبب في هذه الفتنة تأخر الأمير ملحم في دفع الأموال الأميرية علة العلل وأصل معظم الفتن ، وغضب سليمان باشا العظم (١١٦١) على الانكشارية في دمشق فأخرجهم عنها ، فحضر رئيسهم أحمد آغا القلطقجي ومعه عدة أغوات إلى جبل الشوف ، واجتمعوا عند المشايخ بني يزبك وكانوا ينزلون وينهبون من نواحي دمشق ويقطعون الطريق ، وأحرق الأمير ملحم ديار بني تلحوق في الغرب وديار بني عبد الملك في الجرد.

وحاصر سليمان باشا العظم الشيخ ظاهر العمر في قلعة طبرية (١١٦٠) ثلاثة أشهر فأدركه ركب الحج فارتفع عنها ، ولما خرج الباشا إلى الحج أرسل الأمير ملحم عسكرا إلى بعلبك فطرد الأمير حيدرا الحرفوش وولى مكانه الأمير حسينا ، وخربت الدروز أرجاء بعلبك وقطعت أشجارها. وفيها حضر خط شريف بقتل أغوات الانكشارية بدمشق فقبض الوالي على بعضهم وقتل ابن الفلاقنسي. وذكر ابن بدير أنه بلغ متسلم دمشق سنة (١١٦٢) أن بعض الدروز من جماعة ابن تلحوق جاءوا دمشق ينهبون ويحرقون فأرسل إلى الموالي والمفتي والقاضي يأمرهم بأن يأخذوا معهم الأعلام وينادوا : هؤلاء خوارج فمن كان يحب الله والسلطان ليخرج إلى قتالهم. فخرج الناس فقتلت الحامية زمرة وكان الدروز يحتجون بأن قدومهم كان لإخراج إخوان لهم كانوا مسجونين فلما موطلوا نادوا في حارة الميدان والقبيبات كل من لا يخرج للقتال معنا ننهب ماله وداره ، فانضم جماعة من الحارات ونزلوا إلى السويقة ووقع القتال بينهم وبين القبوقول والدالاتية ، وأغلقت البلد حوانيتها وحصرت الحارات ونبه المتسلم على أهلها أن لا يخرجوا إلى الأزقة ليحرسوا دورهم ، ثم جرت مقتلة بين الفريقين قتل فيها نحو خمسين قتيلا من جماعة المتسلم والقبوقول. وفتح عسكر الباشا الدكاكين في باب الجابية ونهبوا ما فيها من طعام وهدموا مصاطبها وصيروها متاريس ومن الغد باكروا القتال

٢٨١

وزحفوا إلى السويقة ومعهم العملة والبناؤون فحرقوا الدور والقصور وأطلقوا المدافع على الأشقياء فولوا الأدبار ، فأمر المتسلم عسكره أن يقعوا في نهب الدور والدكاكين. وروي أنه أخرج فتوى وحجة وأمرا قاضيا بأن ينهب الجند من حد السويقة ويقتلوا ويهدموا ولا يعفوا عن إنسان فسلبوا الأموال وسبوا الحريم. ولما هرب الدروز نودي في البلد بالأمان وأن تفتح الأسواق ويكف عن النهب قال ابن بدير : وقد سرت مع من سار فرأيت فضائح الميدان ، والقتلى مجدلة ، والأبواب محطمة ، والدكاكين مقفرة ، ثم اضطرب أهل القبيبات والميدان والسويقة وباب المصلى وأخذوا ينقلون أثاثهم إلى داخل المدينة مثل باب السريجة والقنوات وغيرهما من الحارات. وخاف الأكابر والحكام والعامة فجعلوا يعزلون الدكاكين ويخبأون ما حوته في البيوت وبلغ عدد الدور المنهوبة في هذه الوقعة كما قيل ألفا وتسعمائة دار وأما الحوانيت فكثيرة جدا.

هذا وقد أخذ القبوقول يمسكون الناس ويأتون بهم إلى الحكام ويقولون : هذا كان يقاتل مع الأشقياء فيقتلهم المتسلم من غير حجة ولا إثبات ، ولا قصد للقبوقول إلا أخذ ثارات لهم مضت مع الإنشكارية ، إلى آخر ما أصاب دمشق في ذاك العام من حرق ونهب وغلاء وفضائح وفظائع. وكان من العادة أن تغلق أرتجة الفيحاء وحوانيتها جملة عند اندلاع لسان الفتن بين القبوقول والإنكشارية وبينهم وبين الدالاتية والأشراف والأكراد والدروز ، حتى ينادي مناد من قبل الحاكم يأمر بفتح الدكاكين ويطمن الناس.

وجاء دمشق (١١٦١) أحد موالي أسعد باشا العظم وكان نقل بعد ولايته دمشق إلى حلب ، فذكر الإنكشارية والعامة ظلمه أيام كان سيده حاكما في دمشق فقاموا قومة رجل واحد فالتجأ إلى القلعة وحماه القبوقول ، ولما أريد على الخروج من دمشق أبى فأغلقت البلدة دكاكينها ومحالها وتجمع الإنكشارية وتبعهم الناس وتعصب العناتبة والأكراد والدالاتية مع القبوقول وأهل حارة العمارة وحدثت غارة في سوق الدرويشية وأطلقت النيران على الإنكشارية ثم قاموا على أهل حي العمارة فانهزم أهلها منها وأحرقوها حتى صارت بلقعا وراح أهلها إلى الجامع الأموي ، ودامت الفتنة أياما حتى قر رأي الأكابر والأمراء على إخراج مولى ابن العظم من دمشق فأخرج ولم تطفأ جذوة الفتنة ، لأن

٢٨٢

الثائرين ما زالوا يتلمظون بطعم الغنائم ويزدردون حلوى الغارة ، وجاء الخبر بأن الجالين عن دمشق نهبوا الضياع في طريقهم وقتلوا الأنفس وهتكوا الأعراض وصادفوا جماعة من طائفة الحكام فسلبوهم وقتلوا منهم فريقا. وأخذ القبوقول يطلقون النار على الرعية وظلت الفتنة قائمة في البلد بين القبوقول والإنكشارية والأشراف فقتل من هؤلاء نحو ثلاثين وبضعة أولاد وشبت الحرب في شوارع المدينة أياما ثم عتا الإنكشارية على حاكم دمشق فصاح في جنده وركب إلى الميدان فهربوا أمامه فأعمل هو وجنوده السيف فيهم فقتلوا منهم خلقا كثيرا ومن لم يمت بالسيف قادوه بالسلاسل والأغلال ، وعم نهب العسكر الكبير والصغير والناس بين قتيل وأسير ، ونهبت الدور والدكاكين وانتكبت نكبة عظيمة فعريت النساء وخطفت الجواري والعذارى ، وتمنى العقلاء الموت ، ثم نهض جماعة الحاكم إلى النهب فمنعهم وأمر بجمع ما نهبوه فما وصل إلا القليل أودعه بعض الجوامع وأمر مناديا ينادي لتأخذ الأسباب أصحابها ، فأخذ بعضها وذهب الأكثر ، وأما أتباع الوالي فطفقوا يقتلون كل من يصادفونه ويقطعون رأسه أو يحبسونه ، وتناول أذاهم من في الدور وتعست الحال.

ووصف ابن النجار هذه الفتنة فقال : إن السلطان أرسل واليا آخر غير الذي كان وجرت هذه الوقعة في عهده ، فقتل الأشقياء من المسلمين والدروز والنصارى وخربوا وحرقوا الدور ونهبوا الأماكن قال : وتعطلت الأسواق والمعاملات بسببهم في دمشق قريبا من سنة لا تقام جمعة ولا يسمع آذان ولا يفتح جامع ولا يتمكن أحد من الخروج من منزله لحاجة ولا لغيرها ، لفسادهم وإفسادهم وتعديهم على الخاص والعام. وإنما كان سبب تمكنهم من ذلك عدم وجود وال بدمشق فإن واليها كان خرج منها إلى الحج أميرا فجاء الوالي الثاني وقتل منهم من قدر عليه وفر منهم من فر وسلب دورهم ومتاعهم وأثاثهم ، ولحق دمشق وأهلها من ذلك الوالي وحاشيته وجنده كل بؤس ، وذلك بسبب قيامهم على أولئك الأشقياء ، وانتهبت غالب المنازل في دمشق وقتل خلق كثير من الأبرياء ، نزل هذا الجند الكثير من دور الناس ، وأخرجوا أهلها منها بالعنف وظهر من أتباع هذا الوالي ما أنسى أهل دمشق ما كانوا

٢٨٣

فيه من الضنك والشدة قبل قدوم هذا الجند إليهم وقال : إن هذه الفتن وقعت سنة (١١٧٠) وأرسل عبد الله باشا الشجي واليا ليرفع الحيف عن الدمشقيين ويعيد الأمن إلى طريق الحج ، واشتبك القتال كما تقدم بين القبوقول والإنكشارية ثم فرّ الإنكشارية طالبين البراري والقفار فتبعهم نفر من الجند وقتلوا منهم عددا ، ثم إن الجند أخذ في قتل من يراه كائنا من كان وشرعوا في النهب والسلب فانتهبوا معظم المنازل والحوانيت من الحقلة إلى باب الجابية ، والجند يأتون بالرؤوس إلى الوزير ، فقتل من الرعايا على هذه الحال عدد كثير وانتهب المال والمتاع ، وظلم رئيسهم وحواشيه واختطفت النساء والغلمان جهارا من غير مدافع ، والجند يقولون إن جميع الدمشقيين كفرة وإنهم قوم يزيد. قال الشهابي في دخول والي دمشق الجديد إلى المدينة : إنه كان مع الشتجي ثلاثة عشر ألف رجل فاجتمعت أهالي دمشق إلى الميدان ليمنعوه من الدخول فدهمهم ليلا وقتل منهم مقتلة عظيمة.

وفي سنة (١١٦٣) حصل بين سعد الدين باشا العظم وبين أهل حلب وحشة فرحل عنها جرداويا «وكان عرض عليه منصب حوران فاستعفى من ذلك لأنه لم يتول هذه الإيالة في الدولة العثمانية أحد استقلالا لقلة دخلها ووفرة خرجها فولوه طرابلس جرداويا لأخيه أسعد باشا الوزير فأقام جرداويا فيها وفي صيدا وحلب اثنتي عشرة سنة» روى الشهابي في حوادث سنة (١١٧١) أنه وقعت شرور كثيرة بين انكشارية دمشق والقبوقول وكانت دروز الجبل تعين الإنكشارية في القتال فانتصروا وحاصرت القبوقول في القلعة وجرى بينهم أربع وقائع ، والإنكشارية تنتصر بإمداد الدروز ، ثم وقعت الفتنة بين عسكر الباشا وعسكر الإنكشارية فانكسر عسكر الوزير وخرج الإنكشارية من دمشق نحو ألف فارس ووقع القتال بين أهل البلد وعسكر الوزير فقتل من أهل البلد نحو مائة قتيل ثم نادى الباشا بالأمان.

وعدد ابن بدير كثيرا من مظالم الدفتردار فتحي أفندي ومما قال : إن الأهلين لما ضاقوا به ذرعا استعدوا الباب العالي فأعداهم فأحضر إلى العاصمة ليمثل بين يدي السلطان ، فأخذ يمنح المنائح لأرباب المظاهر حتى أدخلوا على السلطان شخصا آخر بدلا منه وأوهموه أنه هو المشتكى منه فأمر

٢٨٤

بقتله فقتل. أما فتحي فسفره أعوانه من النظار تحت جنح الدجى فآب إلى دمشق يفعل الأفاعيل المنكرة ، حتى إذا ضاق الخناق ورد الأمر بقطع رأسه فقطع وجرّ في شوارع المدينة وترك للكلاب تنهشه ومثل ببعض أعوانه وصودرت أمواله.

عهد عثمان الثالث ومصطفى الثالث وبعض الأحداث في أيامهما :

وبينا كانت دمشق تموج بالفتن وتستل فيها الأرواح بسوء إدارة الولاة وتلاعب رؤساء الجند كان لبنان وهو ربيب القوة والمقاومة لا يخلو على ذاك العهد من فتن تدك العمران ، وتفني الإنسان والحيوان ، فقد ذكر المؤرخون أن المشايخ المناكرة تطاولوا (١١٦٣) على إقليم جزين فعظم ذلك على الأمير ملحم الشهابي وركب لحرب جباع الحلاوة فهربت المتاولة من وجهه وأحرق أكثر ضياعهم ، وكان قد أصاب منهم جماعة في جبل الشوك فوق جباع وقتل من المتاولة نحو ثلاثمائة نفس وحرق حارة جباع وقطع الأشجار ، وأحرق قليمي الشقيف وبشارة ، ثم حدث بين جماعة الأمير ملحم الشهابي ووالي دمشق وقائع طفيفة بسبب الظلم الواقع في البقاع على المسافرين في طريق دمشق فقتل أناس من عسكر الفريقين ، ثم وقع الصلح بين أمير لبنان ووالي دمشق على أن يؤدي الأول للثاني نفقة الحملة. وفي سنة (١١٦٥) وقعت فتنة بين المشايخ بني أبي نكد فغضب الأمير ملحم الشهابي عليهم وأرسل فنفاهم من البلاد فنزحوا إلى وادي التيم وهدم منازلهم في دير القمر ثم رضي عنهم. وكانت للسيد أحمد باشا الذي كان واليا في حلب سنة (١١٦٥) الحظوة عند رجال الاستانة قال أبو الفاروق : فعينوه واليا على قونية فسبقه إليها زوربا كورد محمد ، وأثار أفكار أهلها عليه لما عرف به من مظالم ، فحاربوه وهلك أناس في هذا السبيل ، ثم عينته الدولة واليا على حلب فسبقه إليها كورد محمد أيضا ومثل الرواية التي مثلها في قونية فحاصرت حلب لذلك خمسة أشهر. ودامت الحرب فيها مدة وأحرقت البيوت وخربت البساتين وقطعت المياه عن البلدة.

وفي سنة (١١٦٨) توفي محمود الأول بعد سلطنة خمس وعشرين سنة وتولى السلطنة السلطان عثمان الثالث وهو الخامس والعشرون من آل عثمان ولم يعمل

٢٨٥

عملا يذكر اللهم إلا ما كان من تبديل وزرائه والإفراط في هذا التبديل ، وكان يميل إلى الطرب والصفا ويعمر الأبنية في العاصمة وأسس بعض دور الكتب وفي خلال ذلك تولى دمشق وإمارة الحاج حسين باشا مكي ولم يكن شرها في جمع المال ويميل إلى العدل وحسن الرياسة غير أنه كما قال المرادي : كان بطيء الحركة عن شهامة الوزراء ، فبسبب ذلك حصل من الجند الوطني والقبوقول (الحرس) وغيرهما من طوائف الأكراد والعسكر فتن وحروب وحصل للأعيان والرؤساء الضيق العظيم وقامت عليهم الناس.

وفي سنة (١١٧٢) هلك السلطان عثمان بعد أن ملك ثلاث سنين وثمانية أشهر وخلفه مصطفى الثالث فافتتح العهد بالإعلان بتبديل السياسة ولكن كان عهده كما قال مؤرخو الفرنج عهد انهيار المملكة الانهيار التام وسيادة الاشمئزاز على الناس ، ووضع ثقته في وزيره رجب باشا فأحسن وكان رجب ذكيا ومخلصا. وفي سنة (١١٧٤) كان واليا على دمشق عثمان باشا الكرجي وكان يلقب بالصادق ، وسبب هذا اللقب أنه كان من بعض مماليك أسعد باشا العظم وهذا يحبه لنباهته ، ولما قتل أسعد باشا وضبطت الدولة داره وأمواله طلبوا عثمان هذا فأخبرهم بخزائن مولاه ، ثم وجدت قائمة بين تلك الأموال فكانت مطابقة لكلامه فأنعمت عليه الدولة ولقبته بالصادق ، وتولى ولاية دمشق إحدى عشرة سنة (١١٧٤ ـ ١١٨٥) ومما وقع في أيامه ركوبه لحرب محمد الجرّار إلى قلعة صانور ، أرسل إلى الأمير يوسف فبعث بعسكره والتقى به عثمان باشا فعظم أمره عنده وأكرمه ، وأصلح الأمير إسماعيل الشهابي حاكم حاصبيا قلعة بانياس وبنى ما كان قد هدم منها من زمان ابن معن وأقام بها فحاصره عثمان باشا الصادق مدة وجيزة ثم سلمه القلعة ونهب عثمان باشا كل ما كان فيها وأمر بهدمها.

سيرة ظاهر العمر الزيداني وسياسته :

استراحت الدولة من ناحية الشام لوجود وال مخلص لها في دمشق عثمان باشا الكرجي الصادق ، فتركته وشأنه يعمل باسمها ويقاتل أعداءها ، فطالت ولايته على حين تقلبت حلب في مدة حكمه على دمشق إحدى عشرة سنة في أيدي

٢٨٦

عشرة ولاة. وكانت الشام تتمخض في خلال ذلك بظهور رجلين في العقدين الأخيرين من هذا القرن كما تمخضت أواخر النصف الأول منه بظهور آل العظم ، ونعني بهذين الرجلين الشيخ ظاهر العمر الزيداني وأحمد باشا الجزار. وقد اهتمت لعظم شوكتهما الأمة والدولة ، جاء الثاني على أثر الأول فبزه ظلما وعدوانا. ولم يكن قيام أمر الرجل في ذاك العهد يتوقف على نباهة فيه وعلم وسياسة ، بل غاية ما يحتاجه شيء من المعرفة بطبائع من يقوم فيهم ، وتلطف باستمالة قلوب أفراد يعوّل عليهم ، ورأس مال قليل يؤديه ثمن إقطاع أو نفقة الظهور ، ومهارة في البطشة الكبرى الأولى ودهاء وحيلة ، وعندها يزيد كل يوم قوة ، ولا تلبث الدولة أن ترعاه ، والأهلون أن يتفيأوا ظله وحماه.

في أواسط القرن الحادي عشر جاء إلى جهات فلسطين الشمالية من الحجاز رجل يدعى زيدان وله ولد اسمه عمر ولعمر ولدان اسمهما ظاهر وسعد. ظعنوا عن ديارهم لخصومة وقعت بينهم وبين عدو أقوى منهم مراسا ، فجاءوا وضربوا خيمتهم في الأطراف الشمالية من سهل البطوف في أرض يقال لها مسلخيت من عمل نابلس. ولما كانت قرية عرابة أقرب القرى إليهم جاء وجهاء القرية وزاروهم وحيوهم وسألوهم أن يأتوا إلى قريتهم يضربون خيامهم في أرضها لأنهم كانوا على أربعة أميال منها. وكان في قرية سلّامة المعروفة اليوم بخربة سلامة الواقعة على منحدر الوادي المسمى بهذا الاسم شيخ درزي قوي الجانب برجاله الأشداء باسط أجنحة نفوذه على ما جاوره. مر بعرابة ذات يوم ووقع نظره على فتاة أعجبه حسنها وطمع فيها لنفسه. ونزل بيت أحد وجهاء القرية ودعا إليه الزعماء وطلب منهم الفتاة ، فشق على سكان عرابة ذلك خصوصا وهو درزي وهم سنة. وارتبك أهل القرية فسألهم زيدان عن السبب فذكروا له ما وقع فقال لهم : الخطب سهل على أن تعاهدوني أن تعملوا ما أسألكم إياه ولا تبوحوا به فقال : أجيبوا الدرزي إلى ما طلب وعينوا له وقتا يوافيكم فيه لأخذ العروس ، وإذا جاء مع جماعته رحبوا به فإذا استقر بهم المقام خذوا أسلحتهم ثم اتركوهم يهزجون ويرقصون إلى حين الرقاد ، وكل واحد منكم يأخذ واحدا إلى داره ليؤويه ولما رقد الجميع هبّ زيدان وأفنى جماعة الدروز ، ثم أغار هو وجماعته على سلامة مع سكان

٢٨٧

عرابة فبطشوا بمن بقي فيها وخربوها فعظم قدر زيدان وانضم إليه أناس ممن يحبون الغزو والشقاوة ، وألف منهم جيشا يغزو بهم ، فينزل بأرباب العمل الويل والخراب. ثم قتل زيدان بعض رجال المقادحة وكان منهم حاكما طبرية والناصرة ، فأضحى المقادحة بلا زعماء فاحتل أهل عرابة نمرين وغيرها. ورزق ظاهر ستة أولاد ذكور وكفله سكان عرابة لدى والي صيدا فالتزم الجباية ، وكان بعض السنين يتلكأ عن أداء ما تعهد به وأحيانا يؤدي للدولة حقها ، حتى نمت ثروته وأقام في عكا فجعل أخاه سعدا في دير حنا ، وأولاده علي في صفد، وعثمان في شفا عمرو ، وسعيد في الناصرة وجهات مرج ابن عامر ، وصليبي في طبرية، وأحمد في تبنة وجبل عجلون.

كانت جبال بيروت وأعمالها بيد حكامها الأمراء الشهابيين يدفعون الأموال لوالي صيدا المعين من قبل الدولة ، وكانت صور وعملها بيد المتاولة يضمنون أموالها من والي صيدا، وأما جبال عكا وما إليها فكانت بيد مشايخها ومن جملتهم بيت أبي زيدان كانوا يضمنونها من والي صيدا أيضا ، فما زال الأمر كذلك حتى ظهر الشيخ ظاهر العمر فصادق مشايخ المتاولة وتزوج نساء كثيرات فتكاثر بنوه وأقرباؤه حتى بلغوا مقدار خمسمائة نفس ، وعمروا قلعة طبرية وقلعة صفد وغيرهما وبدأوا يسطون على عكا وصور ، وأظهروا الشقاوة وقطع الطرق فضجر منهم والي صيدا واضطر أن يضمن مدينة عكا إلى الشيخ ظاهر العمر ويضمن صور للمشايخ المتاولة ، وابتدأ الشيخ ظاهر العمر يبني في عكا سرايا عظيمة وسورا وأبراجا ويجمع إليه العسكر وانتشرت أعلامه في تلك البقعة وأطاعته مشايخ المتاولة ودخلت عرب البادية تحت حكمه «وكان عادلا في الرعية وسار معهم سيرة مرضية» وساعدته المتاولة في أطراف لبنان فخافه السلطان وأوهمه أنه يجعله نائبه في القدس ويوليه عكا والناصرة وطبرية وصفد وسائر البلدان التي في تلك الأطراف وأنه أمير العرب فصدق وكف عن المحاربة. وذكر شوفيه وايزامبر : أن ظاهر العمر نشط الزراعة وقضى على غزو القبائل المجاورة له من العرب فوفق إلى توطيد الأمن في الأقاليم فكان المسيحيون والمسلمون يهرعون إلى نزول أرضه من جميع أطراف الشام لينعموا فيها بالراحة والتساهل الديني.

٢٨٨

وقال واصفوه : إنه ما زال في ظهور حتى نشبت الحرب بين الدولة العثمانية والدولة الروسية فضعفت الدولة في الأقطار الشامية ، فزاد ظاهر العمر قوة وعدا على والي صيدا وطرده منها وتملكها وأرسل لها حاكما من عنده ، واستمر يحارب الوزراء سبع سنين ولم يدفع مالا للدولة ، وله معهم وقائع انتصر فيها على عساكر الترك وعسكر الدروز والعربان. وفي هذه الأثناء صادق دولة روسيا بمشورة وكيله الخاص إبراهيم الصباغ من أهل عكا ، وكان هذا صاحب عقل وتمييز إلا أنه يحب المال كثيرا ، كما حالف الأمير فخر الدين المعنى الثاني في القرن الماضي أمراء طسقانه.

واستمر الشيخ ظاهر حاكما على عكا نحو أربعين سنة إلى سنة (١١٨٩). والسبب في وقوع الفتن بين الشيخ ظاهر العمر وولاة الأطراف أن عثمان باشا الصادق والي دمشق لما وليها سنة (١١٧٤) وكان شديد المكر كثير الدهاء ، ولى أولاده الاثنين صيدا وطرابلس ، فصار يظلم رعية الشيخ ظاهر العمر ويطلب المال للسلطان ، فبدأت الحرب بينهما فانكسر عثمان باشا وخلت خزائنه فأخذ يلح على الأهالي في طلب المال ، فضج الناس من ظلمه ، وعصاه أهل الرملة وغزة ويافا ولم يطيعوه إلا بعد حروب كثيرة ، فوقعت البغضاء في قلوب إقليم القدس وتمنوا حكم علي بك صاحب مصر عليهم ، وكان هذا قد قوي فأطاعته البلاد المصرية.

وحاول عثمان باشا سنة (١١٨٣) أن يغزو ظاهر العمر بالاتفاق مع أمراء جبل الشوف فأرسل ظاهر يستنجد بوالي مصر علي بك ، وكان هذا عزم على رفع لواء العصيان على الدولة ، وفي قلبه حقد على عثمان باشا ، فهش لاقتراح الشيخ ظاهر لأنه كان يريد امتلاك الأمصار من عريش مصر إلى بغداد ، وكان قد راسل الملكة كاترينا المسكوبية طالبا منها أن تمده بالمراكب والرجال وهو يملكهم المدن البحرية في الشام. ولما وصلت إليه رسالة الشيخ ظاهر جهز له ستة سناجق كبار ورأس عليهم إسماعيل بك وأصحبهم بعشرة آلاف من الغز والعربان والمغاربة وأمرهم أن يكونوا في طاعة الشيخ ظاهر العمر وساروا إلى أراضي المزيريب في حوران ، وكانوا نحو عشرين ألفا ، لقتال عثمان باشا فعدل إسماعيل بك عن الغزاة لما لاقى من تمرد أولاد الظاهر وعشيرته ، فشكا

٢٨٩

الشيخ ظاهر إلى الأمير علي بك ما لقي من إسماعيل بك فابتدأ الأمير علي يجهز العساكر والجنود على نية الخروج لتملك الشام.

وفي هذه السنة قبض الأمير يوسف الشهابي على عدة من مشايخ آل حماده فالتجأوا إلى وزير طرابلس وأتوا بعسكر إلى قرية بزيزا ووقع القتال بينهم في قرية ميون فانكسر عسكر طرابلس وحاصر بعضهم في برج في أسفل القرية ثم سلموا وساروا إلى طرابلس ، وفيها بلغ الباب العالي ما فعله علي بك ، فأمر والي دمشق أن يسير بخمسة وعشرين ألفا لمنع جنود عكا من معاضدة علي بك فسار الوالي بالعساكر ، فوافاه الشيخ ظاهر العمر في ستة آلاف بين جبل النيران وبحيرة طبرية ورده على أعقابه.

حملة أبي الذهب على الشام :

استكثر أمير مصر علي بك (١١٨٤) من جمع طوائف العسكر وأمر بسفر تجريدة إلى الشام وأميرها إسماعيل بك وكان أرسل أحد رجاله فقتل سليطا شيخ عربان غزة هو وإخوته وأولاده ، فذهبت تجريدة من البر وأخرى من البحر ووقعت بين جنده وحكام الشام وأولاد العظم حروب ومناوشات وفي سنة (١١٨٥) أخرج علي بك من مصر تجريدة عظيمة وأميرها محمد بك أبو الذهب في جند كثير من المغاربة والترك والهنود واليمانية والمتاولة ، وسافرت من طريق دمياط في البحر ، فلما وصلوا إلى الديار الشامية حاصروا يافا وضيقوا عليها حتى ملكوها ، ثم توجهوا إلى باقي المدن والقرى وحاربهم النواب والولاة فهزموا وقتلوا وفروا من وجه الجيش المصري ، فاستولى على الممالك الشامية إلى حدود حلب. قال هذا الجبرتي ، وقال غيره : إن محمد بك أبا الذهب لما وصل إلى الشام حضر إليه أولاد ظاهر العمر ومشايخ المتاولة وانضموا إلى عسكره فصار جيشا عظيما ينيف على الستين ألفا ، فسار محمد بك أبو الذهب طالبا دمشق ، وكان عثمان باشا قد رجع من الحج فجمع العساكر لقتاله ، فما لبث عثمان باشا أن انكسر فخيم أبو الذهب حول المدينة قاصدا حصارها ، وأرسل إلى أهلها كتابا يشير فيه إلى ما أتاه عثمان باشا من الظلم وإهانة الحجاج والزوار وظلم المسافرين والتجار ، وأنه يريد أن يطهر هذه

٢٩٠

الأرض منه نصرة للدين وغيرة على المسلمين ، ويذكر ما فعله بعلماء غزة في العام السابق من دفنهم في الأرض أحياء ، وأنه أخذ فتوى المذاهب الأربعة في قتاله ، وصرف الأموال والعساكر ليردوا الظالم ويستردوا المظالم ، فخرج العلماء والعوام من أهل دمشق كافة إلى محمد بك أبي الذهب وطلبوا منه الأمان فأمنهم وأكرمهم ، ودخل المدينة وجلس في دار الوزارة ونادى بالأمان ، وكانت القلعة لم تزل محاصرة فأمر بإطلاق المدافع عليها وطلب المحاصرون الأمان فتسلم القلعة. وتراجع عثمان باشا إلى حمص وجهز العساكر الكثيرة. وابتدأ إسماعيل بك يغير قلب محمد بك أبي الذهب على الشيخ ظاهر العمر فحصل بينهما فتور وخوفه عاقبة التمرد على السلطان فنهض بعساكره ليلا من دمشق وسار طالبا الديار المصرية ، وشاع رحيله من الغد فتعجب الأهلون من ذلك ولم يعلموا السبب فيه ، ورجع أولاد ظاهر العمر والمشايخ والمتاولة كل منهم إلى مكانه وقد تأسفوا على سعيهم.

وفي رواية أن السبب في ترك العسكر المصري بزعامة محمد بك أبي الذهب حصار دمشق أن عثمان باشا واليها لما أشرف على الهلاك بعث إلى قائد المماليك بصرة ثقيلة بالدنانير للرجوع عن محاربته فارتشى منه ، وأمر عسكره بترك المحاصرة وتركوا حصار قلعة دمشق ، فلما رأى ظاهر العمر خيانتهم ، وأنهم قد فارقوه وتركوه وحده عجز عن فتح القلعة فرجع إلى دياره ، فتخلص عثمان باشا وعاد يجهز العساكر بعد مدة قليلة للخروج لمحاربة ظاهر العمر ودخل أراضيه وحاصره في عكا وجدّ في الحصار حتى صعب الحال على الشيخ ، وكاد عثمان باشا يفتح عكا ، فما نجا الشيخ في هذه المرة إلا بمساعدة ولديه ، فقد جمعا العرب وهجما على الترك ليلا فكسروهم وشردوهم فهرب منهم عثمان باشا ، ثم جمع الشيخ ظاهر عساكره وحارب الدروز فغلبهم وتملك قراهم التابعة لعامل صيدا. ولما بلغ السلطان خبر فتوحه وهو مشتغل بحرب روسيا صعب الحال عليه ، فأرسل السلطان إلى الشيخ يعرض عليه الصلح ، وقد عزل عثمان باشا وولديه عن ولاية دمشق وصيدا وطرابلس ، وأما الشيخ ظاهر فقد أضمر في نفسه أن يدخل في طاعته الشام كله وهو يستند في ذلك على مساعدة علي بك أمير مصر.

٢٩١

وذكر المرادي أنه كان مع محمد بك أبي الذهب تسعة ألوية وخمسة من أولاد الظاهر أمير بلدة عكا ومشايخ المتاولة والصفدية ونحو ثمانين مدفعا وأربعون ألف مقاتل ، وعينت الدولة لقتاله والي حلب ووالي كليس ووالي طرابلس فخرجوا مع وزير دمشق بالعساكر الشامية والأجناد ، وصارت المعركة في سهل داريا وفي أقل من ساعة انكسر العسكر الدمشقي وفرهاربا كل من والي كليس ، والي حلب وعساكرهما ، وقتل منهم شرذمة قليلة وثبت كافل دمشق عثمان باشا وولده محمد باشا والعساكر الدمشقية ودام القتال ثلاثة أيام ، وفر أعيان البلد إلى حماة واستولى الفزع على الناس ، وغص الجامع الأموي بأهالي القرى فنزلوا بأهلهم وأمتعتهم ومواشيهم إليه. ولما عاد أبو الذهب عن دمشق رجع عثمان باشا وولده محمد باشا ورئيس «اليرلية» يوسف أغا جبري من جبل الدروز ومعه خمسة آلاف درزي وبعد مدة ضرب عثمان باشا عنق ابن جبري ، لأنه كان السبب في تقوية الدولة المصرية على العساكر الشامية طمعا في قتل عثمان باشا وصيرورته مكانه كافلا بدمشق.

عاد أبو الذهب إلى مصر ورجع إلى دمشق عثمان باشا وحضر إليه الأمير يوسف الشهابي لأنه كان قد أرسل إليه نائبه يوسف أغا جبري يستنجده ، وكان الأمير يوسف قد جمع عسكرا وتجهز للمسير فاتفق قيام أبي الذهب عند ذلك. ولما فرغ بال عثمان باشا وقتل نائبه يوسف أغا جبري رئيس الأنكشارية ونهب أمواله أقام مكانه رجلا من أهل دمشق يقال له عثمان آغا شبيب ، ثم خرج بعسكر عظيم إلى أرض الحولة يريد قتال الشيخ ظاهر العمر والمتاولة الذين كانوا السبب في تلك الفتنة فجمع ظاهر العمر رجاله واجتمعت المتاولة وكبسوا عثمان باشا في الليل فذعرت عساكره وقتل منهم خلق كثير. وهزمهم الشيخ ظاهر وما زال في إثرهم حتى وصلوا إلى بحيرة الحولة فألقى كثير منهم أنفسهم في البحيرة وماتوا غرقا. وهرب عثمان باشا بنفر قليل فاستولى ظاهر العمر والمتاولة على أسبابه. وكتب الشيخ ظاهر إلى الأقاليم الشامية ودخل الناس كافة في طاعته. فخرج علي بك من مصر فالتقاه ظاهر العمر بالإكرام ودخل به إلى عكا فأرسل كتبا منه (١١٨٥) ومن الشيخ ظاهر العمر إلى ملكة المسكوب يسألانها معاضدتهما على الدولة العثمانية ، وأن ترسل

٢٩٢

إليهما المراكب الحربية ليسلماها الديار المصرية. وأقام علي بك ينتظر الجواب وقويت مشايخ المتاولة على الدولة ، وتطاولت على أطراف جبل الشوف ومرج عيون والحولة ، فاتفق الأمير يوسف وخاله الأمير إسماعيل حاكم وادي التيم الأدنى وجمع الأمير يوسف نحو عشرين ألف جندي وسار قاصدا قرية جباع الحلاوى وأحرق إقليم التفاح وحرق جباعا وقطع أشجارها وهدم بنيانها.

وكان عسكر المتاولة المجتمع في النبطية نحو ثلاثة آلاف ، ولما وصل الأمير يوسف الشهابي إلى كفر دمان أحرقها وتوجه إلى النبطية فالتقى بشر ذمة من عسكر المتاولة نحو خمسمائة خيال ووقع بينهم قتال انكسر فيه عسكر الأمير يوسف كسرة هائلة ، ومات كثير من عسكره تعبا وعطشا ومنهم من اختلت عقولهم ، وفقد من عسكره في هذه الوقعة أكثر من ألف وخمسمائة قتيل ، وركب الشيخ كليب نكد من حاصبيا إلى دير القمر وغزا المتاولة في قرية علمان فهزمهم ومنعهم من الحضور إلى إقليم الخرنوب وتلك الأطراف ، وسارت عساكر الدولة مع عسكر الأمير يوسف لحصار مدينة صيدا وأنقاذها من يد ظاهر العمر وكانوا في أكثر من عشرين ألفا معهم المدافع والزنبركات فأقاموا على حصارها سبعة أيام. وجاءت المراكب الروسية إلى عكا التي استنجد بها ظاهر العمر فأرسلها إلى صيدا فأطلقت مدافعها على جيش الدولة وجيش لبنان ، وساق ظاهر العمر عسكره وقدروه بعشرة آلاف جندي والتقى بعسكر لبنان وجيش الدولة في سهل الغازية ، وانتشب القتال فانكسر عسكر الدولة وقتل منه نحو خمسمائة نفس وانقلب راجعا إلى دمشق ، وأما المراكب الروسية فسارت إلى بيروت وملكت جانبا منها وأحرقت بعض الأبراج ، فهربت الشهابية من المدينة وخرج أهلها إلى البر ، ودخلت الفرنج بيروت ونهبت كل ما وجدته فيها ، ثم رحلت إلى عكا بعد أن أعطاها حاكم لبنان (٧٥٠٠) قرش تعويضا ، ثم عادوا وأطلقوا على بيروت ستة آلاف مدفع دفعة واحدة كذا قال المؤرخ ، حتى ظن الناس أن القيامة قامت وسمع صوت المدافع على ما قيل إلى قبة السيار فوق دمشق كالرعد القاصف ، وأحاطوا بالمدينة بحرا مدة أربعة أشهر ليل نهار ، فتضايق المتحاصرون فيها ونفد ما عندهم من الزاد فكانوا يأكلون لحوم

٢٩٣

الخيل والحمير والكلاب ، وهناك اضطر الجزار إلى التسليم وطلب الأمان عن يد ظاهر العمر وتسلم الأمير يوسف بيروت وغرم المسلمين ثلاثمائة ألف قرش وسلمها للسفن المسكوبية. قال أحد المؤرخين : ضرب الروس بيروت ونهبوها في القرن الثامن عشر وكانت فيها بيوت أمراء الجبل ومشايخه ، وكانوا بنوا فيها خانات وقيساريات وكان الفرنسيون يدعونها «باريز الموارنة الصغرى» وكثير من الموارنة كانوا قناصل لفرنسا.

ووقعت في هذه السنة بين الشهابيين والحماديين في العاقورة والقلمون واقعة. وفي سنة ١١٨٦ أخذ سيد أحمد من والي دمشق حكم البقاع فتوجه إلى قب الياس وبنى ما كان هدم فيها من الزلازل وحصنها بالمدافع والرجال. وفي هذه السنة أحرق يوسف الشهابي بعض قرى الضنية لما بلغه من خيانة المشايخ بني رعد حكام الضنية مع المشايخ بني حمادة. وفي سنة ١١٨٧ حمل عثمان باشا والي دمشق في خمسة عشر ألف جندي على الأمير يوسف الشهابي حاكم لبنان في جهات البقاع. وجرت عدة وقائع بين العسكرين وانهزم والي دمشق في الليل تاركا المدافع والذخائر ثم انفصل الفريقان على غير نتيجة.

عهد عبد الحميد الأول وتتمة أخبار أبي الذهب :

هلك أحمد الثالث (١١٨٧) وخلفه ابنه عبد الحميد الأول وفي أيامه استولى العجم على العراق ولم يبلغه الخبر إلا بعد خمس سنين ، وهو السابع والعشرون من آل عثمان ، مضت مدة على رحيل أبي الذهب من الشام وبقي ظاهر العمر بعد اعتصامه بروسيا وكسرته والي دمشق غير مرة واتهام أبي الذهب بالخيانة أمام والي مصر ممتعا بولايته حتى سنة (١١٨٩) ، وفيها سافر أبو الذهب إلى الديار الشامية ـ رواية الجبرتي ـ لمحاربة ظاهر العمر واستخلاص ما بيده من الأقاليم ، وكانت الدولة أذنت له بالمسير إلى ظاهر العمر وخراب أرضه ، فوصل إلى أرجاء غزة وارتجت الديار لوروده ، ولم يقف أحد في وجهه وتحصن أهل يافا بها وكذلك ظاهر العمر تحصن في عكا ، فلما وصل إلى يافا (١١٨٨) حاصرها وضيق على أهلها وامتنعوا هم أيضا عليه وحاربوه من داخل وحاربهم من خارج ، وألقى عليهم المدافع والمكاحل والقنابر عدة أيام وليال ،

٢٩٤

فكانوا يصعدون إلى أعلى السور ويسبون المصريين وأميرهم سبا قبيحا ، فلم يزالوا بالحرب عليها حتى نقبوا أسوارها وهجموا عليها من كل ناحية وملكوها عنوة ونهبوها وقبضوا على أهلها وربطوهم بالحبال والسلاسل وسبوا النساء والصبيان وقتلوا منهم مقتلة عظيمة ، ثم جمعوا الأسرى خارج البلد وأعملوا فيهم السيف وقتلوهم عن آخرهم ولم يميزوا بين المسلم والمسيحي والإسرائيلي والعالم والجاهل والعامي والسوقي ولا بين الظالم والمظلوم. وبنوا من رؤوس القتلى عدة صوامع ووجوهها بارزة تنسف عليها الأتربة والرياح والزوابع ، ثم ارتحل عنها طالبا عكا. ولما بلغ ظاهر العمر ما وقع بيافا اشتد خوفه وخرج من عكا هاربا فوصل إليها أبو الذهب ودخلها من غير مانع ، وأذعنت له باقي المدن ودخلت تحت طاعته وهدم قلعة دير مار يوحنا ودير مار الياس في صفد وقتل رهبانهما.

ويقول جودت : إن أبا الذهب قام من مصر في ستين ألف جندي إلى يافا ، وبعد حصارها خمسين يوما استولى عليها وأعمل السيف في أهلها كبيرهم وصغيرهم ، وأن ظاهر العمر طلب مددا من الأمير يوسف الشهابي حاكم لبنان فأبى أن يمده فلم يسعه إلا الهرب من عكا والتجأ إلى عرب غزة ، ولما حصل أبو الذهب في عكا استولت الدهشة على الناس حتى إن بعض الأسر الكبيرة هاجرت بيروت خوفا وهلعا ، أما الأمير يوسف حاكم لبنان فقدّم هدايا إلى أبي الذهب طيب بها قلبه ، وجاء متسلم صيدا أحمد آغا الدكزلي ملتمسا رضاه مظهرا طاعته ، فأمنه على نفسه ومركزه ، كما جاء مشايخ بني متوال فأكرمهم أبو الذهب ثم استدعى أن يولى أمور مصر والشام فجاءه من السلطنة المنشور بذلك ولكن كان قد قضى نحبه وتفرقت جموعه وعادوا إلى مصر ، فلم تنل الدولة مأربها من ظاهر العمر ولم تستفد الشام سوى أن قتل من أهلها جمهور كبير ولا سيما في حصار يافا. وجرى على أثر هذه الواقعة بين المتاولة والغز الذين في صيدا قتال عظيم فانكسرت المتاولة كسرة هائلة وقتل منهم جماعة.

خاتمة ظاهر العمر وولاة حلب :

قال جودت : لما سمع ظاهر العمر بوفاة أبي الذهب عاد إلى عكا وأخذ

٢٩٥

يطيل أيدي الأذى أكثر من قبل ، فأرسلت عليه الدولة سنة (١١٨٩) قائد البحر حسن باشا الجزائري ، وكتب إلى والي دمشق إذ ذاك محمد باشا العظم وإلى والي صيدا وإلى الجزار أحمد باشا الذي نصب محافظ السواحل الشامية وإلى متصرف القدس ، فبعث قائد البحر أولا يطلب من الظاهر ما في ذمته للدولة من الأموال الأميرية (وهي خراج سبع سنين) فلم يوافق على ذلك مستشار ظاهر العمر إبراهيم الصباغ ، وكان بيده جميع أموال ظاهر العمر ، وقال له : إن الدولة لا يرضيها شيء وأراد سيده على المقاومة ولكن استمال متسلم صيدا عسكر ظاهر العمر وقال لهم : لا يجوز مقاتلة عسكر السلطان فأبوا أن يقاتلوه. فلما علم ظاهر العمر بالأمر فرّ على وجهه لا يلوي على شيء هو وأولاده ، فضبط قائد البحر أمواله وذخائره وجيء بإبراهيم الصباغ فأخذت منه أموال ظاهر العمر ثم قتل. ويقول بعض المؤرخين : إن ما وجد من أموال ظاهر العمر اثنان وثمانون ألف كيس من النقد قال جودت: سبحان الله! بمثل هذا المال والنوال ومتسلم صيدا أحمد آغا الدكزلي يطلب عشر معشاره لإرضاء الدولة فتشح نفس إبراهيم الصباغ فيجلب البلاء على نفسه ويكون سببا لخراب بيت مولاه بيت آل زيدان.

وذكر بعض من استوفوا سيرة ظاهر العمر أنه في أواخر سنة (١١٨٩) حضر قائد البحر حسن باشا الجزائري بالأسطول لأن السلطان عبد الحميد الأول لما عقد الصلح مع الدولة الروسية سنة (١١٨٧) التفت لتنظيم الولايات فوجه قائد البحر إلى حيفا ، وذلك بعد موت أبي الذهب ورجوع العساكر المصرية بمدة قليلة ، وأن مطالب القائد كانت أموال سبع سنين متراكمة ، فادعى الظاهر أن ليس عنده مال وأنه مستعد لحرب قائد البحر لأن عنده بارودا وقذائف وثلاثة مدافع ، فأطلق قائد البحر أربعة أيام النار على عكا ، وكان عدد قنابله ٧٧٥٠ قنبلة ولم يحدث منها ضرر بل هدمت قليلا من المحلات ، وقيل بل سقطت قنبلة على مخزن البارود فاحترق ، فخرج الشيخ ظاهر بعياله فقتله أحد المغاربة في الطريق في محل يسمى الرقايق ، وكان قاتله عبدا من عبيده منذ خمس عشرة سنة فقتله القائد التركي به لخيانته سيده ، وحزوا رأسه وحمل إلى الاستانة ونهب العسكر المدينة ساعتين. وكان قائد السفينة الفرنسية التي جاءت

٢٩٦

لحماية تجار عكا الفرنسيين وحملتهم إلى وطنهم نبه على التجار الفرنسيين بأن كل من عنده وديعة لإبراهيم الصباغ ولكل من يلوذ به ملزم بحسب أوامر السلطان أن يقدمها إلى قائد البحر العثماني فأعطوها وكانت ٣٦ ألف كيس ذهب عدا الجواهر والتحف ، وضبطت حواصله وكانت مشحونة بأصناف البضائع وضبط مبلغ كبير ممن يلوذ بإبراهيم الصباغ الذي أخذ وقتل في الاستانة ، وكذلك أحمد آغا الدكزلي الذي خان مولاه فقد صلبه قائد البحر في صاري المركب ، وسلم قائد البحر ولاية عكا إلى أحمد باشا الجزار ، سلمه عكا وصيدا وما يليهما ، فاحتال الجزار على أولاد ظاهر العمر وأقام الشيخ عثمان الظاهر شيخ المشايخ ويقول مشاقة : إن حسن باشا طلب من ظاهر العمر خمسين ألف قرش تبلغ بأسعار ذاك الوقت خمسة وعشرين ألف ريال فرنسا فأشار أكثر معتمدي الشيخ بالدفع إلا الطبيب التاجر إبراهيم الصباغ فإنه خالف رأي الجماعة ، وقيل : إنه وصل من أموال ظاهر العمر وأولاده وإبراهيم عبود الصباغ إلى خزينة السلطان ثلاثمائة وثمانون ألف كيس تساوي خمسة ملايين ليرة وخمسة وعشرين مليون فرنك خلا ما اختلسه حسن باشا لنفسه.

وفي أوائل (١١٩٠) رجع حسن باشا الجزائري بالأسطول إلى عكا وحضر محمد باشا العظم والي دمشق بعسكره وإبراهيم باشا والي القدس بعسكره ونصبوا معسكراتهم خارج مدينة عكا وطلع معهم أحمد باشا الجزار بعساكره وساروا جميعا مع أمير البحر قاصدين البطش بأولاد ظاهر العمر فأمنوهم وحملهم قائد البحر إلى الاستانة وقتل في الطريق أحدهم واسمه أحمد لأنه طعن فيه جهارا وبقي أحد أولاد الظاهر واسمه الشيخ علي يتنقل في البراري، فبلغ الدولة خبره فأرسلت إلى محمد باشا العظم أن يرسل إليها رأس علي الظاهر أو يقتل هو به ، فأرسل والي دمشق رأس ابن الظاهر مع ثلاثة رؤوس من جماعته وأنكر جماعة أحمد باشا الجزار الرأس المحمول ، وقالوا : إنه ليس رأس الشيخ علي الظاهر فأحضرت الحكومة ولديه الحسن والحسين وكانا في الاستانة وقالت لهما هل تعرفان هذه الرؤوس المقطوعة فلما رأياها بكيا فقيل لهما : ما يبكيكما؟ فأجابا هذا رأس والدنا علي الظاهر وقد عرف من كبر عارضيه لأنه كان يدعى أبو سبعة شنبات ، وبذلك انقضت دولة الظاهر واندثر ذراريها

٢٩٧

وقامت دولة الجزار أحمد باشا الذي ضيق على أولاد الظاهر وذراريه وبعث أحد جواسيسه إلى ابنه علي وقتله في مرج علما الخيط.

والغالب أن الشيخ ظاهر العمر الذي حكم صيدا وعكا ويافا وحيفا والرملة ونابلس وإربد وصفد وجميع المتاولة كانت تحت أمره ، كان إلى السذاجة والفطرة ، استسلم لوكيله إبراهيم الصباغ ، وكان هذا مثلا سائرا في الإمساك وحب المال ، فحاول أن يخلص سيده من دفع خمسة آلاف كيس مع ان لديه أضعاف أضعافها من الذهب ، دع سائر العروض والجواهر ، واغتر ظاهر العمر بقوته الضئيلة فكان في ذلك ذهاب دولته وهلاكه وهلاك وكيله ، ولم يثمر جمع الأموال الثمرة المرجوّة ، ولو قدّر له أن يعمل بما رسمه له السلطان سنة (١١٨٨) من العفو عن جميع ما تقدم من ذنوبه وذنوب غيره على شرط أن يؤدي الخراج لبقي في عزه إن كانت الدولة تريد دوام العز لأحد.

كانت الشكوى قليلة من إدارة ظاهر العمر فإن ما جمعه في أربعين سنة قد جمع غيره من حكام الأقاليم مثله في مدة قليلة. ذكر فولنه أن علي باشا المعروف بجتالجه لي الذي تولى حلب مرتين آخرها سنة (١١٩٣) ، وكان معاصرا للجزار جمع في خمسة عشر شهرا زهاء أربعة ملايين ليرة (الغالب أن الليرة هي الفرنك الطلياني) وأنه سلب جميع أرباب الحرف حتى انتهى سلبه إلى منظفي الغلايين. وقال غيره إن مدينة حلب التزمها ملتزم من الاستانة بثمانمائة كيس أو نحو أربعين ألف جنيه ويعطي الوالي ٨٣٣٠ جنيها في السنة لنفقات الولاية لكنه يكثر ابتزاز الأموال الطائلة من الأكراد والتركمان وسائر السكان ، وقد جمع منهم عبدي باشا الذي كان واليا قبل عهد فولنه ١٦٠ ألف جنيه في سنة واحدة وضرب ضريبة على كل واحد وكل صناعة.

قال بعض من عاصره : وقد فر من حلب غالب تجارها ووجوه الناس ومن له شهرة وسجن الأعيان ، وأن الكوسح خادمه لما خرج إلى قتال التركمان صار يخرب القرى ويسلب أموالها حتى قام أهالي حلب وحاصروه وأخرجوه من البلدة. ونقل في أعلام النبلاء في حوادث سنة (١١٩٤) أن عبدي باشا والي حلب جاء في جيش عظيم إلى كلز لتأديب الأشقياء وأصدر أمره إلى أهل البلدة أن يخرجوا منها أهل العرض والرعايا إلى طرف الباشا ويبقي الأشقياء ، فأجابوه

٢٩٨

بلسان واحد : ليس في بلدتنا أهل عرض أصلا بل كلنا أشقياء ، فزحف الوالي على البلد فحاصرها وفتحها ووقع القتل والنهب في كلز ، وهتكت الأعراض وذبحت الأطفال. وأن الوالي أخذ يسلب أموال الناس في حلب وفي سجونه من الأكابر والمشايخ والاشراف خلا الرعايا وأهل الذمة مقدار عظيم ، وعسكره كثير يرتكب في حلب أنواع الرذائل ، وبلغ من سوء فعل أتباعه أن كسروا غراريف بساتين حلب ودواليبها وأخشاب بيوتها وطياراتها من حدود قرية بابلا (باب الله) إلى قرب بستان الدباغة ، وحرقوها وحرقوا أخشاب قرى البلد بأجمعها ، وسلبوا متاعها ونهبوا مواشيها وتركوها قاعا صفصفا إلا ما حماه الله من القرى البعيدة ، وجاء الوالي الجديد فنبه أن لا يحمل أحد سلاحا وكل من وجد من أهالي المحلات خارجا عن الطريق المستقيم فعلى جيرانه أن يخبروا عنه ليقتله ، ومن شهد جيرانه بحسن حاله فلا سبيل لأحد عليه ، وصار يقتل كل من أخبر بسوء حاله ، وأمر الناس أن يفتحوا دكاكينهم وأرباب القرى أن يتعاطوا زراعتهم وأن ما مضى لا يعاد ، ومن لم يفتح دكانه ينهبها ويشنق صاحبها.

وروي في أخبار الحاج يوسف باشا ابن العظم الذي تولى حلب بعد عبدي باشا أنه صار يأخذ بالمجان مماليك وجواري من أصحابها قهرا ، ويحضر التجار وغيرهم ويكرمهم ويقول لهم : «أنا وزير إقشعوا خاطري ، لا يعلم بها أحد حتى لا يمشيها غيري» وأرسل فطلب من كل بلدا حصانا. وجاء بعده عبدي باشا وسار على أقدام سميه الأول في الظلم والجور على صورة لم يسبق لها مثيل ، وأنشأ يأخذ بدل القرش أربعة ، وصادر القوم وعذبهم وصارت حبوسه ملأى بالناس.

وصف فولنه ظاهر العمر بأنه لم تشهد له الشام مثيلا في الأزمان الغابرة ، وكان داهية باقعة في السياسة حكيما محنكا ولكنه كان طماحا طماعا ، ومن محاسن صفاته أنه لم يكن يحب الاحتيال ويجاهر بما يضمر ولو قاسى من ذلك العنت ، وأنه أحب المسيحيين ورفع شأنهم وعدل في الناس.

وقال من عاصره : حكم الظواهرة البلاد نحو ثمانين سنة وامتد نفوذهم من حدود جبل عامل شمالا إلى أطراف جبال القدس جنوبا ومن البحر

٢٩٩

المتوسط غربا إلى جبل عجلون شرقا ، وكانوا يرجعون في أحكامهم إلى أصول العشائر حسبما توحيه إليهم ضمائرهم ، وقد شادوا في الأقاليم أبنية ضخمة فرم ظاهر العمر بعض ما تمكن من ترميمه مما خربته الحروب الصليبية ورفع سور عكا الداخلي ، وشاد فيها جامع محلة الجرنية وبنى علي في صفد القلعة الباقي شيء من آثارها إلى اليوم ، وبنى صليبي في طبرية السرايا المعروفة اليوم باسم الصقرية نسبة إلى عرب الصقر الذين صال عليهم صليبي واكتسحهم ، وعمر الجامع الواقع جنوب السراي ، ورم عثمان قلعة قرية شفا عمرو وعمرها، وبنى أحمد قلعة تبنة ، وشيد سعد قلعة دير حنا. وهذه القلاع الثلاث لا تزال موجودة ، وعمر في دير حنا الجامع الموجود إلى اليوم وكان بناؤه سنة (١١٤٤) ه.

أولية الجزار :

أخذ الجزار بعد استلام ولاية صيدا سنة (١١٩١) يقوى وتشتد شكيمته خصوصا وقد ولي دمشق مع بقاء عكا عليه ، ثم استقل بولاية عكا وأخذ يغزو متغلبة تلك الأرجاء فوقعت بينه وبين الأمير يوسف الشهابي وقعة سنة (١١٩١) في نقار السعديات بين صيدا وبيروت فلم يسلم من جماعة الشهابي إلا القليل ، وأحرق عسكر الجزار المكاس والجديدة والدكوانة في لبنان وقتل أناسا من أهلها ، ثم وقعت بين عسكر الدولة وعسكر لبنان في المغيثة عدة وقائع انتصرت الدولة فيها على أهل الجبل وقتل منهم قتلى كثيرة وأكثرهم من المتن وداهم عسكر الدولة بني الحرفوش في بعلبك وأحرقت الدولة زحلة. وقوي الجزار بمجيء ستمائة فارس من اللوند وكانت الدولة أمرت بقتل جماعتهم وكانوا ستة عشر ألفا ، فلم يسلم منهم إلا الذين جاءوا الجزار ، ولما عزم على الإقامة في عكا ابتدأ بإصلاح أسوارها وإتقان بنيانها وجعل على كل قرية أن يحضر أهلها جميعا ثلاثة أيام في الأسبوع بالسخرة لأجل العمارة.

وجرت حروب كثيرة بين الشيخ علي بن الشيخ ظاهر العمر وعساكر الجزار حتى قتل على ما سلف ، وكذلك بين الجزار والأمير يوسف الشهابي والتقى مرة في طريق صيدا عسكر الجزار بالنكدية وكانوا يكمنون له فقتل

٣٠٠