خطط الشام - ج ٢

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٢

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٠

المحبي بلاد عمه أي الشوف والغرب والجرد والمتن وكسروان وكان حازم الرأي عاقلا حسن التصرف فلهذا أبقي مدة تزيد على عشرين سنة لم ينغص له فيها عيش إلا مرة واحدة لما قصده ابشير باشا وكان ذلك بإغراء بعض المفسدين وانتصر في تلك الوقعة. وفي خلال ذلك كان درويش الشركسي المعروف بالمجنون واليا على تدمر فكان يغير على العربان وينهبهم ويأسر منهم ويدخل إلى دمشق بالمواكب الحافلة ، ثم ولي لواء عجلون فثار بينه وبين أهلها حروب كثيرة وكسروه.

وروى نعيما (١٠٦٥) عند كلامه على والي حلب ابازه حسن باشا أنه كان من أبناء الجد بلغ المناصب بصور غريبة وهو شقي يميل إلى الفساد والمظالم ، وإذا أريد تسطير ما أتاه من الجور على الرعايا لاستلاب أموالهم اقتضى ذكر مجمله كتابا ضخما. وأن الحكام كانوا يجبون الجباية ضعفين فيأخذون ممن يقضي عليه أداء عشرة آلاف عشرين ألفا ، ومن يغرم الخمسين مئة أو مئات ، ولم يكن لتعديهم غاية ولا لظلمهم حد يقف عنده ، فتهلك القرى والدساكر بمظالم الجند الذين يرسلهم الولاة والقضاة ممن كانوا يبتاعون بالرشاوي مناصبهم فيغضي عنهم الكبراء لأنهم شركاؤهم فكان من يرفعون ظلاماتهم إلى الاستانة لا يجدون أذنا صاغية وربما انعكس الأمر عليهم وصدّق رجالها الوالي الظالم وسفه أحلام المتظلمين فيزيد الظالمون في ظلمهم. قال : وكان الفقراء يرتحلون عن أراضيهم فأصبحت القرى المعمورة والقصبات المشهورة مروجا ينعق فيها غراب الخراب ، وإذا كان من يحاولون الجلاء عن أرضهم أغنياء يسوق الوالي عليهم الأربعمائة والخمسمائة من جنده ينهبهم ويسبيهم اه. ومن الغريب أن يكون حسن أبازه باشا واليا على حلب على عهد صدارة الكوبرلي الذي يقدسه العثمانيون بإدارته ولعلهم يحكمون على الرجل من رجالهم بحسن الإدارة والإصلاح بمجرد بطشه بالعصاة وإجهازه على من لا تروقه أعمالهم أو ينازعونه في سلطانه ، أما تقاضي الجباية مرتين من الرعايا وإلقاء الفتن الدائمة بينهم فليس من المسائل الجوهرية في قائمة أعمالهم! وحسن أبازه باشا ، خرج عن طاعة الدولة في حلب ومات في تلك النواحي وانضم إليه السكبان وخمسمائة جندي كانوا مع نائب دمشق أحمد باشا الطيار فعينت الدولة

٢٦١

لقتاله الوزير مرتضى باشا فتقابل الجيشان وانكسر مرتضى ثم أخذ بالحيلة وقتل هو وأعيان جماعته وتفرق عسكره وكان ذلك سنة (١٠٦٩).

وفي سنة (١٠٧١) قدم واليا على دمشق أحمد باشا كوبرلي ابن الصدر الأعظم محمد باشا وكان في الخامسة والعشرين من عمره. قال المحبي : وكانت الشام مختلة فأصلحها وركب على أولاد معن وبني شهاب فأزالهم عن بلادهم وقمع أهل الفتن. وذكر المؤرخون أن هذا الوالي لما كان بسعسع كاتبه بنو شهاب وعرضوا عليه جانبا من المال فما قبل وسار إلى وادي التيم فهدم سرايات بيت شهاب في حاصبيا وراشيا وبيوت مدبريهم وقطعوا نحو خمسين ألف شجرة من توتهم في مرج عيون والبقاع ، وأعطى ولاية وادي التيم لأولاد علم الدين مع المقدم زين الدين وابن أخيه عبد الله. فزال بذلك حكم الشهابيين عن وادي التيم. وما أسخف هذه الطريقة في التأديب التي هي عبارة عن تخريب العمران. هذا وابن الكوبرلي من خير من ولي الشام ومن رجال الإصلاح والعلم. وأقام ابن الكوبرلي على صيدا باشا وجعلت باشاوية من ذلك الوقت حتى يرفع حكم أولاد العرب وأعطاها علي باشا الدفتردار. ولما بلغه ما صار من والي طرابلس واليمنية من حرق دور بيت أبي اللمع وبيت الخازن وبيت حمادة وقطع أرزاقهم وما وقع من الخراب في وادي علمات وإتلاف حراج مشمش ولحفد وأرض جبيل والبترون وجبة المنيطرة والعاقورة ، ولما بلغه ذلك وأن الرعايا ضاقت به وخربت ديارها أمر بصرف العساكر ورجع إلى الشام ، وعلي باشا هو الذي طلب مالا من ناظر كنيسة مار جرجس في بيروت وإذ لم يقبل النصارى أمر أن تصير الكنيسة جامعا وبنى لها مأذنة وسميت مقام الخضر. وفي سنة (١٠٧١) قدم علي باشا إلى صيدا وهو أول من تولاها من الباشاوات وكانت فتنة عظيمة بينه وبين مشايخ المتاولة فأوقع بالقيسية ونهب إقليمهم فارتحلوا عنه وبعد سنتين نصر الوالي القيسية.

وفي سنة (١٠٧٣) قتلت الدولة منصور بن شهاب أمير وادي التيم والأمير علي ابن عمه لموافقتهما رؤساء جند دمشق في وقعة مرتضى باشا لما ولي نيابة دمشق وقارب أن يدخلها ، فأرسلا جندا من وادي التيم تجمع في دمشق وانضم إلى من قام فيها من رؤساء الأجناد والأوباش والتقوا مرتضى باشا في القطيفة فهرب

٢٦٢

منهم. ولما كتب النصر للدولة نزلت العقوبة بالثائرين وفي مقدمتهم الأمير منصور وأخوه والشهابيون على ما قاله المحبي في وصف إدارتهم وسيرتهم على عهده : «وجورهم بالنسبة إلى أمراء بلاد الشام كالدروز بني معن والرافضة بني الحرفوش وبني سرحان مقصور على أنفسهم من حيث المعتقد فحسب ، ومالهم في القديم والحديث كثرة أذية للمسلمين».

ومن مساوي حكومة الإقطاعات أن صغار أمرائها من الشاميين كانوا يضطرون كل الاضطرار إلى المصانعة فتراهم أبدا مع القوي الذي تدوم سعادته إذا ولت عنه ولووا وجوههم ، وفي هذا السبيل كانوا يقتلون رجالهم بل يقتل أبناء الأسرة الواحدة بعضهم بعضا وتخرب بيوتهم وبيوت شملهم وحاشيتهم. والولاة يشدون مع هذا ويرخون لذاك شأنهم مع كل صاحب سلطة وقوة. وهكذا كانوا في معاملتهم لليمنية والقيسية يقوى تارة هؤلاء وطورا أولئك ، فقد وقعت سنة (١٠٧٥) في الغلغول عند برج بيروت وقعة بين القيسية واليمنية قتل فيها عبد الله بن قائد بيه ابن الصواف وانكسرت اليمنية وانهزموا إلى دمشق. واشتدت الحالة على الشام في هذه السنة بسبب الطاعون المنتشر في أرجائها الذي أقفلت به بيوت كثيرة لموت جميع سكانها حتى إن قاضي حلب ضبط الأموات في حلب فبلغوا ١٤٠ ألفا وكان القحط عم القطر قبل أربع سنين فجيء بالقمح من مصر وبيعت غرارة الحنطة بثمانين قرشا. ولم تفتر الحكومة مع ذلك عن حرق الدور والقرى فقد استنجد (١٠٨٢) بنو حيمور أمراء البقاع بحكومة دمشق فأنجدتهم بعسكر فداسوا وادي التيم وحرقوا دور بني شهاب وقراهم. واشتد ظلم بني حمادة في عمل طرابلس وظلموا الرعايا ، فخربت القرى وكان في خلال ذلك (١٠٨١) واليا في حلب حسين باشا المعروف بصاري حسن يتلطف بالرعايا وينتقم من ذوي الكبر والمناصب. كما أن ظلم والي دمشق ومتسلمه اشتد سنة (١٠٨٣) فأغلقت المدينة مرتين احتجاجا على عمله.

وفي سنة (١٠٨٦ ـ ١٠٨٧) حرقت قرى البترون وفي السنة التالية حرقت قرى جبيل والبترون أيضا وخلت جبيل من سكانها. وفي سنة (١٠٨٧) أمر والي طرابلس بحريق وادي علمات وهي فرحة وعلمات وعشاق وطورزيا والحصون

٢٦٣

واهمج وجاج وقرى جبة المنيطرة وهي كفر جال والمغيرة ولاسا والمنيطرة وأفقا ولما رجع للعسكر جاء مشايخ بيت حمادة وأحرقوا قصوبا وتولا عبد الله وبسبينا وصغار وشبيطن. وفي سنة (١٠٩٠) تولى خليل بن كيوان على صيدا فظلم الرعية كثيرا. وفيها كانت التجريدة على الأمراء آل شهاب من والي صيدا ووالي دمشق وكان النصر للباشاوات. وفي السنة التالية باغت الأمير عمر الحرفوش مع آل حمادة جماعة الأمير فارس شهاب في نيحا قرب الفرزل فقتله وقتل خمسين رجلا من شيوخ وادي التيم ، فجمعت أسرة شهاب العساكر وساروا إلى بعلبك فتداخل الأمير أحمد بن معن بالصلح وجعل جزية على آل الحرفوش كل سنة خمسة آلاف قرش ورأسين من أطايب الخيل. وفي سنة (١٠٩٦) تولى ابن معن صاحب الشوف جميع مقاطعات بيت حمادة فأحرق ايليج ولاسا وأفقا والمغيرة وقطع أملاكهم. وفي سنة (١٠٩٨) لما فر الأمير شديد إلى جبيل نزل إلى العاقورة فأحرق من ضياع بيت المشايخ بيت حمادة نحو أربعين ضيعة وقطع أشجارها.

وكانت مصيبة القطر في هذا الدور واحدة في الظلم ، فكان الوالي في حماة مثلا إذا غضب على رجل يضعه على «الخازوق» ، وإذا غضب على امرأة وضعها في خيش مع شيء من الكلس وألقاها في العاصي ، وأصبح الناس لكثرة المصادرات يكتمون أموالهم ويدفنونها في الأرض لتنجو من المصادرات والسرقات ويتظاهرون بالفقر ، وربما مات أحدهم فجأة ولا يعلم أولاده بدفينته في جدار البيت أو الحائط فيقع المال بعد مدة في يد من تنتقل إليهم الدار. قال المحبي : ولكثرة جور الحكام في حماة على الأهلين في القرن الحادي عشر هاجر أغلب سكانها إلى دمشق.

أما في جهات لبنان الغربي والشرقي فإن الوالي أو المتسلم أو المستبد إذا غضب على رجل أحرق قريته كلها أو عاقبه بقطع شجره ، ولذلك كان من الدعاء على الرجل في لبنان «الله يقطع رزقه» أي أشجاره أو «يخرب زوقه» أي بيته ، والزوق البيت ، وفي سنة (١٠٩٨) ورد الأمر لعلي باشا النكدلي متولي إيالة طرابلس أن يقتصّ من الأمير شديد الحرفوش لتخريبه قرية رأس بعلبك وهدمه حصنها ، فكتب إلى الأمير أحمد بن معن أن يوافيه بالرجال فلجأ

٢٦٤

الأمير شديد إلى المشايخ الحمادية فأحرق علي باشا قرية العاقورة وأربعين قرية من قرى بني حمادة ، ثم نزل عسكر للباشا على عين الباطية فباغته ليلا آل حمادة والحرافشة وقتلوا منهم خمسة وأربعين رجلا وانهزم العسكر.

عهد سليمان الثاني والحكم على الخوارج :

توفي محمد الرابع سنة (١٠٩٩) وتولى السلطان سليمان الثاني والأمور في عهده الطويل لم تتبدل والمرض واحد ، وهو سوء الإدارة وخراب العمران وهلاك المال وهتك الأعراض وقتل الرجال. وتم القرن والشام غرض الرماة تصيبها مطامع الولاة والأمراء وأرباب الإقطاعات والألوية وأهم ما كان فيه مظالم بني سيفا وبني معن وثورة ابن جانبولاذ ، والولاة نسق واحد لأنهم نسخة من عصرهم ، وإذا كانت أحوال القصر السلطاني ومن فيه مختلة كانت الولايات حقيقة بأن تباع فيها الأرواح بيع السماح ، تساوى في ذلك البوادي والحواضر ، والناس في أمر مريج لا يستقرون في بلد ويتنقلون في الأرجاء وإذا اشتد الظلم في مكان هجروه إلى موطن يتوهمونه أقل مظالم ومغارم ، وأنى لهم مكان يسكنون إليه ويأمن فيه سربهم. وإذا امتاز هذا القرن بنبوغ آل الكوبرلي الذين تولوا الصدارة فإن ما أصاب الشام من عنايتهم جزء صغير جدا لا يكاد يشعر به ، وعهد أولئك السلاطين كإبراهيم الفاجر ومصطفى الأبله ينسي عهد محمد الرابع ومراد الرابع.

ولم يؤثر عن هذا القرن أنه أنشئ فيه غير قليل من الجوامع والمعاهد مثل جامع ابشير باشا وخان الوزير بحلب وكان بعض الولاة في القرن الذي قبله يرهقون الرعية ويقيمون شيئا باسم العمران أما هذا القرن فغاية ما يقال فيه أنه تخريب الموجود. وممن حمدت سيرته من الولاة حسين باشا البالجي أمير صفد ثم طرابلس (١٠٠٢) فقد كان من أنصف الحكام على ما قال المؤرخون ، وإذا كتب لأحدهم أن كان على شيء من الأخلاق ينازعه المنازعون على ولايته في الاستانة فلا يتقلد زمامها إلا بمقدار ما يتعرف إلى أهلها ويدرس طبائعهم ويستقري ديارهم ثم يشخص إلى العاصمة ويستبدل غيره به وهكذا دواليك. هذا وأهمّ ما كان من حوادث هذا القرن فتنة ابن جانبولاذ التركماني

٢٦٥

التي زال بها حكم الدولة عن القطر سنتين وذلك من أذنة إلى غزة ولم يطل أمد هذا الاستيلاء كثيرا إذ كانت دعامته القوة الموقتة ، وهو ابن ساعته لم تعدّ له الأسباب بجملتها. أما الأمير فخر الدين بن معن الثاني فإنه كاد يستولي بالفعل على الديار لتنظيم جيشه وتعزيز قلاعه وبسط يده بالعطاء حتى استمال رجال الاستانة أنفسهم ، وعني بإدخال روح التجدد في إمارته ودعي سلطان البركجده الأمير فخر الدين الأول ولو كان لحلفائه دوجات طسقانه إذ ذاك شيء من القوة وأنجدوه بقليل من رجالهم وذخائرهم ، ولو لم يشتغل بال البابا وملك اسبانيا وكبير دوجات فلورنسة بحرب الثلاثين سنة لكانوا أعانوه على نيل أمانيه في الاستقلال خصوصا وهم الذين كانوا يزينون له من قبل الاستيلاء على أنطاكية ، فلو قدّر لهم أن ينجدوه لسهل عليه الاستقلال بالشام من عريشه إلى فراته بعد أن تمت له كل معداته ، والعقل رائده والحزم قائدة ، خصوصا وكان معوّله في قوته على الدروز وهم في هذه الديار على التحقيق منذ القديم من أشجع العناصر التي عرفت بمتانتها ومضائها في الحروب. وكان كثير من مدبريه ورجاله من المسيحيين ولمحبة قومه له ادعته أهل المذاهب الثلاثة في إمارته ، فالموارنة يقولون له كان مارونيا والدروز درزيا والحقيقة أنه مسلم سني ـ خلافا للمحبي والمرادي ـ يحسن السياسة والإدارة وينظر إلى رعيته نظر المساواة ويأخذ لخدمته الكفاة من كل طائفة. فهو بلا مراء مثال الأبطال في عصره ، وكان على أتم الاستعداد للحرب وعلى معرفة بالإدارة وطبائع الأمة ، ولو لم تصرف الدولة العثمانية قوتها كلها في قتاله لعمل في الشام في القرن الحادي عشر ما عمله محمد علي الكبير في مصر في القرن الثالث عشر ولم يكن دونه ذكاء ومضاء ودهاء.

٢٦٦

العهد العثماني

«من سنة ١١٠٠ الى ١٢٠٠»

حال الشام أول القرن الثاني عشر :

تبلج فجر القرن الثاني عشر للهجرة والدولة لا تفكر في غير مصائبها الخارجية ، والمملكة التي كانت تمتد من أسوار فينا إلى جنوب جزيرة العرب ، ومن فارس إلى الغرب الاقصى لا وحدة فيها ، ولا جامعة تجمعها ، وليست متجانسة ولا متماثلة ، تكافحها الثورات الداخلية ، وتساورها الحروب الخارجية فلا تهتم للأولى اهتمامها للثانية ، وتفنى في سلطانها ويستعبدها أرباب الإقطاعات ويستبد بها الجند والولاة ، وسكان هذا القطر كسائر الأقطار العثمانية كأرقاء لا عمل لهم إلا إرضاء شهوات حكامهم من وطنيين وغرباء ، ولم يكن اختلاف العناصر أقل ضررا عليها من اختلاف الطبقات العسكرية (اوجاقات) من الانكشارية واللوند والسكبان والقبوقول ، والنزاع بين هؤلاء الجند وبين رجال الإدارة قائم على ساق وقدم في أغلب السنين ، بل بين كل صنف من من أصنافهم ورؤسائه ، والأرواح في هذه السبيل تباع بالمجان ، فلم يحدث شيء مما يقال له الإصلاح لأن رجال الدولة لم يفكروا فيه حتى يتوسلوا بأسبابه ، وإذا توسلوا فلا يحسنون طرقه ، وقد اعتادوا الأخذ ولم يعتادوا العطاء بتحسين الحالة ، ليزيد الأخذ والعطاء معا.

وندر أن يجيء من الاستانة رجل صالح في أخلاقه ، معروف باستقامته وكبر عقله وسعة معرفته ، يحسن إدارة الناس ويكف الظالم عن ظلمه ، وهل

٢٦٧

يفارق فروق إلا من أكره ، وهناك النعيم والهناء وضروب الشهوات البشرية ، وإذا جاء هذه الديار وال كبير من العمال فلإملاء هميانه على الأكثر بأموال الأمة ليعود إلى العاصمة سريعا، يعيش عيشا طيبا وينعم في قصورها بأمواله وطرائفه ، ويجني في سنة ثروة كبرى تكفيه وأولاده وأحفاده على غابر الدهر.

لم يكن ابن الشام يتبرم بنظام الدولة لزيادة في الجباية ، بل لأن الجباية كانت على غير قاعدة مطردة ، قد تجبى جباية سنتين أو ثلاث في غير أوقاتها في آن واحد ، ولا تراعى في الجبايات أعوام القحوط والجدوب والمصائب ، وإذا ضاقت الحال بأحد العقلاء أو ببعض الجماعات فرفع صوته بالشكوى عدوه خارجيا وقاتلوه وحرّفوا دعوته على ولاة الأمر في الاستانة ، ولبّسوا على العامة في أمره ، حتى يسكتوا نأمته ويزيفوا دعوته ، وإلا فلا يعقل أن يسكت جميع الناس عما ينال الأمة من هذه الطريقة المعوجة في الإدارة ، فالخير في الناس ما انقطع ولن ينقطع ، ومهما بلغ من انحطاط شعب لا يخلو من نبهاء يجاهرون بالحق ، ولو كان في المجاهرة حتفهم أحيانا.

وقد مهر رجال هذا الدور في تزيين الباطل وإلباسه ثوب الحق ، وتقليل عدد الهالكين والشاكين والثائرين والناقمين ، وإذا نشبت ثورة أو حدثت فتنة أو تألف جماعة لمقصد شريف ، وكثيرا ما يصورون العذاب الأليم في صورة نعيم مقيم ، ولا يعرضون على السلطان إلا المسائل الكبرى ، كأن تتقد ثورة في الشام لا يمكن تلافيها إلا بإرسال جيش كبير من آسيا الصغرى ، وتحتاج إلى مال لا بد من استصدار إرادة سنية بأدائه من خراج الولاية الفلانية. وغدا قتل الإنسان وسبى النساء والصبيان وخراب العمران ، من الأمور المألوفة في تلك الأزمان. وفي هذا القرن بدأ الحكام وأرباب المقاطعات ينوعون أسماء الجباية كأن يقولوا الشاشية والبزرية ، لسد عوزهم والقيام بواجب الضمانات الدولية ، وكثير من الفتن كان الداعي اليها تأخر المقطعين عن تأدية ما عليهم من الجباية للدولة في أوقاتها ، فتعدهم عصاة عليها وتسوق عليهم قوة تكون عاقبتها نكالا على صاحب الإقطاع أو المتسلم ، وخرابا على البلاد وأهلها من كل وجه.

٢٦٨

والدولة قلما سعت إلى استئصال شأفة الشر ، وما بحثت في أسبابه قط فتلافتها قبل وقوعها ، وقلما اهتمت للفتن إلا إذا التهب شرارها وخشي منهما على سلطانها ، وندر أن أعدت المستعدين ، ورفعت ظلامة المظلومين ، ولماذا تهتم وكل قطر نشز عليها تضر به بعسكر من أهل القطر الأقرب إليه ، إن لم تستطع ضربه بأبناء بلده أنفسهم ، وإذا خافت من وال أو صاحب إقطاع قوة تسلط عليه خصمه أو جاره ، فالناس أبدا متعادون متشاكسون ، والألفة ارتفعت من بين أهل البلد الواحد فكيف تأتلف العناصر ، وما ذلك إلا لتنفيذ رغائب السلطان الذي لا يرى لمملكته بقاء إلا إذا تباغض الناس وتربص كل فريق بالفريق الآخر الدوائر.

بدأ القرن وعبدون باشا والي صيدا يوغل في مظالمه ، وجعفر باشا والي دمشق ليس دونه في إنشاء المظالم ، أما الأمراء المتغلبة من أبناء الأقاليم فكان أكثرهم من أحفاد الذين سبقوهم في غزة ونابلس وعكار ولبنان ووادي التيم وبعلبك وحوران والكرك وسلمية. قال راشد : إن بعض أعيان دمشق أغراهم المال والإقبال فأرادوا الخروج عن الطاعة ومفارقة الجماعة ، فكادوا لواليهم حمزة باشا وطردوا عسكره إلى خارج دمشق وقاموا بأفعال شنيعة رافعين علم الثورة ، فنقل حمزة باشا إلى إيالة طرابلس وأخذ الأهلون عند رحيله يطالبونه بما كانوا أهدوه إليه من الكراع والبسط وغيرها ونهبوا أتباعه. ثم عين أحمد باشا مكانه فلم يساعده الوقت على التنكيل بهم وخلفه مصطفى باشا مكانه فاضطر أيضا لإلقاء حبلهم على غاربهم. ولما عين كورجى محمد باشا أجريت عليه التنبيهات اللازمة ليطهر الأرض من هؤلاء الأعيان فدعا الوالي تسعة منهم كما دعا العاصين محمد آغا صدقة ومحمد آغا قوشجي وبطش بهم وأرهب غيرهم من الخوارج. هذا ما قاله راشد في هذه الفتنة ، ولم يقل إن والي دمشق ارتشى من الناس وظلمهم حتى ثاروا عليه ، بل قال : إنهم أهدوا إليه أيام ولايته وطالبوه بهداياهم لما رحل عنهم فأبانوا عن صغر نفوسهم ، وهذا مما يظهر ذهنية الدولة في تلك الأيام ، وأن الوالي يجب أن تهدى اليه الخيول والطنافس والأعلاق وربما الدنانير والدراهم من غير نكير. وما ندري كيف تكون الرشوة إن لم تكن هذه الهدايا هي الرشوة بعينها.

٢٦٩

وفي تقرير لأحد قناصل البندقية أن منصب الوالي كان في الاستانة يكلف من ٨٠ إلى ١٠٠ ألف دوكا ومنصب الدفتردار يباع من ٤٠ إلى ٥٠ ألف دوكا ومنصب القاضي يساوي أقل من هذه القيمة ، وكلهم إذا جاءوا البلد الذي عينوا له يسلبون النعمة ويعرقون اللحم ويكسرون العظم.

دور أحمد الثاني وفتن :

توفي سليمان الثاني سنة (١١٠٢) فتولى السلطنة أخوه أحمد الثاني وهو الحادي والعشرون من ملوك آل عثمان والسادس عشر منهم في القسطنطينية. وفي أيامه (١١٠٣) عاقبت الدولة أعيان دمشق على ما بدا منهم في معاملة حمزة باشا على ما تقدم ، وأرسلت حملة على أبناء سرحان حمادة (١١٠٣) النازلين في جبال طرابلس وكان لهم قبائل وعشائر ، فاتفقوا مع أبناء معن حكام صيدا وبيروت ، فصاروا يلتزمون أموال الحكومة ولكن لا يؤدون إليها مطاليبها في آخر السنة ، حتى قلت واردات الدولة فأوعزت إلى محافظ الإيالة المذكورة الوزير علي باشا فجمع ما تيسر له من الأجناد وذهب إلى جبالهم التي امتنعوا فيها فقتل منهم كثيرين وأخذ زعماءهم وجعلهم طعاما لسيوف رجاله ، وطلب أبناء معن الأمان فأجيبوا إليه وتخلصت المقاطعات من تعديهم وظلمهم. ونزع الحكم من آل حمادة وكانوا في بعلبك والهرمل وعكار وجبيل والبترون والضنية والزاوية والجبة وانهزموا على طريق العاقورة فلحقتهم العساكر ومات منهم ومن عيالهم نحو مائة وخمسين نفسا من الثلج ، ولما وصلوا إلى قرية الفرزل أتتهم العساكر وأبادتهم ولو لم يعف عنهم المشايخ الخوازنة ما سلم أحد منهم ، وحرّقت القرى وفتشوا عنهم وقرضوهم على بكرة أبيهم. وتوجه (١١٠٣) الأمير يونس شهاب من وادي التيم ودخل بلاد بشارة بعسكر عظيم فقتل ونهب ثم أرسل والي طرابلس إلى ابن معن يعرض عليه القطائع التي كانت لآل حمادة فلم يقبل وأجاب أنه لا يمكنه إجابة الطلب بسبب خراب الأقاليم ، وأخذ والي طرابلس يتأثر من بقي من بني حماده في السهل والجبل حتى أفناهم واستعان بولاة دمشق وصيدا وحلب وغزة على

٢٧٠

قتال ابن معن فساقوا عليه ثلاثة عشر ألفا فهرب ووسد الأمر إلى الأمير موسى اليمني بن علم الدين.

في سنة (١١٠٥) على رواية راشد رأت الحكومة أن أبناء سرحان حمادة عادوا فنجم ناجم شرورهم ، وأخذوا يتقوون بمعاضدة ابن معن لهم ، فأقامت الدولة الوزير طوسون باشا قائدا عاما عليهم ، فجمع من أطراف سورية ألف مقاتل من العرب والأكراد ثم جمع ما قدر عليه من الجند هو وحكام سورية فالتقى عشرون ألف مقاتل في بعلبك والبقاع ، فلما علم العصاة بذلك أوجسوا خيفة وتأثرهم العسكر فقبضت عليهم وأوردتهم حتفهم وطهرت تلك الأرجاء منهم اه.

وفي سنة (١١٠٦) عينت الدولة متسلما على حماة اسمه سعد بن مزيد فأكثر التعدي والظلم فقام الحمويون وأخرجوه من البلد قهرا ، فذهب إلى المعرة وأرسل شكاية إلى الدولة ينسب فيها التعدي للحمويين ، وأن حسنا الدفتري المشهور بابن قنبق هو مثير الفتنة ، فجاء الأمر بقتله فقتل في داره سنة (١١٠٦). وكأن لسان حال الدولة يقول : أيها الرعايا المستعبدون اخضعوا لعمالي مهما كانت سيرتهم وإلا قاتلتكم ، ومن فتح فاه بالشكوى أنتقم منه بما يستحقه ، فهذه خطتي ، وبالرضى عنها تنالون حظوتي.

دور مصطفى الثاني وانقراض دولة بني معن :

توفي أحمد الثاني سنة (١١٠٦) وكانت مدة حكمه أربع سنين وثمانية أشهر ، فتقلد السلطنة بعده مصطفى الثاني فكتب مصطفى باشا والي صيدا إلى السلطان الجديد يقول : إنه لا يمكن أن يحكم قطر الدروز سوى بيت معن وأظهر استعداد الأمير أحمد بن معن لذلك ودفع مائتي كيس للمطبخ ، فورد العفو لابن معن مع أوامر الولاية على بلده ، وزاد أرسلان باشا والي طرابلس (١١٠٨) في طلب المال فتشتت كثير من الرعايا عن مواطنهم من شدة الغلاء والظلم وركب والي دمشق على حاصبيا وقطع توتها.

٢٧١

توفي أحمد بن معن (١١٠٩) فانقرضت بموته الدولة المعنية لأنه لم يكن له ولد ذكر ، فاجتمع المشايخ من السبع المقاطعات وهي الشوف والمناصف والعرقوب والجرد والمتن والشحار والغرب واختاروا الأمير بشير بن شهاب من أمراء وادي التيم على لبنان ، فتولاها وأحبته الناس وأطاعوه لعدله وكرمه ، وكانت البلاد يومئذ حزبين قيس ويمن والقيسية أكثر وأقوى وكانوا راضين بولاية الأمير بشير ، وأما اليمنية فلم يرتضوا به ولكن لم يمكنهم التظاهر بالتعصب عليه لضعفهم وقلتهم.

وفي سنة (١١١٠) تولى إيالة طرابلس أرسلان باشا وإيالة صيدا أخوه قبلان باشا ، وكان الشيخ مشرف بن علي الصغير حاكم بلاد بشارة قد قتل أناسا من رجال للدولة وقصد العصيان فاستنجد قبلان باشا بالأمير بشير الشهابي ، فجمع الأمير بشير ثمانية آلاف رجل وكبسوا مشرفا في مكان يقال له المزريعة ، فقبض عليه الأمير بشير وعلى أخيه محمد وعلى حسين المرجي وسلمهم إلى الباشا فأمر بشنق حسين المرجي وأعطى الأمير بشيرا إيالة صيدا من صفد إلى جسر المعاملتين ، وآجر قبلان باشا مقاطعة آل علي الصغير للأمير بشير فأقام عليها متسلما الشيخ محمودا أبا هرموش. وفي هذه السنة أطالت عنزة وبنو صخر أيديها على الحجاج ، وكان يعهد إلى هاتين القبيلتين بتسفير الحاج ولهما رواتب مقررة عليه ، وقتل منهما خمسون رجلا في القيود فانتقموا من الحجاج وأخذوا أموالهم وعروضهم ، ودخل محمد باشا أبو قاوق إلى دمشق بصعوبة. وحوادث البادية تتكرر في العقد الواحد مرة أو مرارا فيهلك فيها من العربان وأبناء المدن خلائق وعيش البادية منذ القديم من الغزو ، والدولة لم تفتح لهم موارد ليعيشوا منها ويكفوا أذاهم عن الحاج والتجارة. وتولى سنة (١١١٤) إيالة الشام محمد باشا بيرام قال الناس وظلمه ماديكان وكان حبسه انحلال الحديد الأوطان من غير خيمة وكانت شمس النهار تؤذيهم وبرد الليل أعظم وكان يسمى حبسه المسطاح ولما عزل شكا أهل دمشق إلى الدولة وأنهم نهبوه وقتلوا من جماعته وأخذوا من خزنته أربعة جمال. ولقد أثنى الأجانب على وال من ولاة حلب اسمه يوسف باشا جاء في أوائل المئة السابعة عشرة للميلاد وقالوا إنه كان يحكم بدون أن يظلم ويسلب ، وإن استقامته جلبت الخير والبركة

٢٧٢

وقد جاء حلب في تلك الحقبة واليان اسم أحدهما قائم مقام يوسف باشا تولاها سنة (١١١٢) ثلاث سنين والآخر اسمه طوبال يوسف باشا تولاها سنة (١١٢٥) ولا نعلم أيهما أثنى عليه الفرنج.

***

عهد أحمد الثالث وسياسة الدولة مع من ينكر الظلم ووقعة عين دارة :

وفي سنة (١١١٥) خلع مصطفى الثاني بعد أن حكم ثمان سنين وتسعة أشهر وعشرة أيام ، وتولى السلطان أحمد الثالث وهو الثالث والعشرون من آل عثمان. وفي تاريخ راشد أن محمدا نقيب أشراف القدس تغلب سنة (١١١٨) على الحاكم والوالي وأخذ يبث الفساد في تلك الأرجاء فأرسلت الحكومة ألفي انكشاري وثلاثمائة جبه جي ومئة مدفعي لتقوية مركزها في القدس فوقع بينه وبين عسكر الدولة وقائع كثيرة فركن إلى الفرار واختفى في قلعة طرطوس ، فبلغ واليها أمره فأرسل فقبض عليه وأرسله إلى الاستانة فقتل. وما ندري معنى لقول المؤرخ إن نقيب القدس أخذ يبث الفساد في تلك الأرجاء ، بل نعتقد أن ثورته لرفع فساد العمال وسوء الإدارة ، يعرف ذلك من عرف أن القوم اعتادوا في كتاباتهم الرسمية أن يلقبوا بالمفسدين كل من كانوا من المصلحين ، بيد أنهم مفسدون لأمرهم ، عاملون على نقض أساس مجدهم. كما وقع في هذه السنة أيضا وقد أراد سليمان باشا البلطجي كافل دمشق أخذ قرض من تجارها وإحداث بعض مظالم ، فمنعه أعيان دمشق ومنهم أسعد البكري وعبد الرحمن القاري المحاسني فنفاهم إلى صيدا وعرض للدولة أمورا عنهم لم يأتوها ثم أعيدوا إلى بلدهم واعتذر الوالي عما عزا إليهم.

وفي سنة (١١١٩) توفي الأمير بشير الشهابي وخلفه الأمير حيدر الشهابي فركب في السنة التالية لغزو المتاولة لأن المشايخ بني علي الصغير كانوا أخذوا بعد وفاة الأمير بشير بلاد بشارة من بشير باشا وبقي في يد الأمير حيدر حكم بلاد الشوف وكسروان ، فغزاهم الأمير حيدر وتجمعت المتاولة في قرية النبطية فأوقع بهم هناك وظفر بهم وقتل منهم مقتلة عظيمة ، ورجع إلى موطنه فعظم ذلك على بشير باشا فأرسل يقوي الأمراء اليمنية في الغرب والجرد

٢٧٣

من بني علم الدين وغيرهم. وفي سنة (١١٢١) تعاظم أمر اليمنية في الشوف وتظاهر الأمراء بنو علم الدين بذلك وساعدهم الأمير يونس أرسلان حاكم الشويفات ومال إليهم من القيسية الشيخ محمود أبو هرموش ، ثم وسد الحكم إلى الأمير يوسف علم الدين وأخيه منصور ، وكان زمام ولايتهما بيد الشيخ محمود أبو هرموش فجاروا على القيسية وظلموهم ولم يبقوا لهم منزلة ولا حرمة. وفي هذه السنة أحرق الأمير يوسف مع عسكر الدولة بلدة غزير ونهبها ، وسار والي دمشق إلى جبل عجلون وباغت نابلس وقتل من أهلها مقتلة عظيمة وسبى عسكره نحو سبعمائة امرأة.

وفي سنة (١١٢٢ ه‍ ١٧١١ م) أنفذ الأمير حيدر الشهابي أمرا إلى قيسية الشوف فتجمعوا في رأس المتن ، فلما بلغ اليمنية ذلك أرسلوا إلى بشير باشا والي صيدا فحضر إلى حرج بيروت ، وأرسلوا إلى نصوح باشا والي دمشق فحضر إلى البقاع واجتمع القيسية من الغرب والجرد والشوف إلى عين زحلتا في العرقوب ، ثم انتقلوا إلى عين داره ، وجرى الاتفاق أن تطلع عساكر الدولة المجتمعة في حرج بيروت إلى بيت مري في أول المتن ، وأن يطلع نصوح باشا إلى المغيثة في طرف المتن ، واليمنية إلى حمانا في وسط المتن ، وتمشي الثلاث فرق في يوم واحد على القيسية ، فأجمع رأي القيسية مع الأمير حيدر الشهابي أن يباغتوا اليمنية في الليل في عين دارة ، فباغتوهم وأعملوا فيهم السيف ، وقاتلت اليمنية أشد قتال وما زالوا كذلك حتى ملكت القيسية عين دارة ، وما سلم من اليمنية غير قليل. وفي تلك الليلة قتل خمسة أمراء من بني علم الدين وأمسك الشيخ محمود أبو هرموش وقطع الأمير لسانه وأباهم يديه ، فقويت شوكة القيسيين وعظم أمرهم ، ونزح من كان يمنيا وخربت ديارهم ، وزال ذكر اليمنيين من الشوف وحكم الأمير حيدر وأعطى الذين كانوا معه كل ما كان وعدهم به ، وكثرت المشايخ في أيامه. وتعرف هذه الوقعة بوقعة عين دارة التي قتل فيها جميع الأمراء من آل علم الدين بيد الأمير حيدر الشهابي فانقرضت سلالتهم كما ضعفت شوكة اليمنيين.

٢٧٤

فتن ومظالم مستجدة وظهور آل العظم :

وفي سنة (١١٢٢) ركب نصوح باشا على الكرك وعمل لغما ووضع فيه البارود وأعطاه النار فانهدم جانب من السور فصاح أهلها بالأمان وخرجوا عن القلعة فقتلهم وأسر الأولاد وسبى النساء. وفي سنة (١١٢٣) باغت ناصيف باشا والي دمشق المتن وأسر منها أناسا وسبى النساء والأولاد. وفي سنة (١١٢٤) عهد والي صيدا بولاية بلاد بشارة إلى الأمير قاسم الشهابي حاكم حاصبيا فأنشأ بها مظالم كثيرة.

وفي سنة (١١٢٩) تولى دمشق عبد الله باشا الكمركجى وكان عادلا حكيما لكنه لم تطل مدته أكثر من سنة. وفي سنة (١١٣١) كانت وقعة القرية بين الأمير حيدر الشهابي والمشايخ المتاولة وكانت النصرة للأمير حيدر. وفي سنة (١١٣٣) كانت الفتنة بين مشايخ المتاولة والشيخ ظاهر العمر حاكم صفد وجرى بينهم قتال شديد فانهزم عسكر الصفديين وقتل منهم خلق كثير ، ثم خرج عثمان باشا والي دمشق بالعسكر على صفد وقتل منهم أكثر من ثلاثمائة رجل وقتل البشناق أولاد مشايخ صفد. وفي سنة (١١٣٦) كان الظلم شديدا وكثرت العوانية حتى صارت أرض الشام مشغولة بالظلم في شرورها وكثر الظلم واستلاب الأموال. وثارت (١١٣٧) فتنة بين القبوقول والانكشارية وظلت دمشق ثلاثة أيام مقفلة وقتلت فيها جماعات من القول والرعية وكذلك الحال في حلب. وفي تاريخ العلويين أن الحرب دارت بين الكلبية وبني علي من عشائر النصيرية مدة سبع سنين بدأت سنة (١١٤٠) ثم اتحدت العشائر الكلبية «النراصرة والقراحلة والياشوطية والجهينية وبيت محمد» وهجمت على عشيرة بني علي بالاتفاق وحرقوا قراها وحاصروا قلعة عين الشقاق لما تجمع بنو علي فيها بعد أن هدموا جميع قراها ولم يبق ملجأ لبني علي سوى الحصار ، وداموا على الدفاع في القلعة. ثم دكتها الدولة العثمانية. قال صاحب تاريخ العلويين الذي أورد هذا : لم يكن العلويون يحاربون الأتراك فقط ، بل كانوا يحارب بعضهم بعضا أيضا لأن المنطقة ضيقة والنفوس كثيرة ، وفي عهد الأتراك أصبح الأخ يقتل أخاه ليأكل ما عنده.

وعرف هذا الدور بظهور آل العظم حكاما في الشام ، واختلف الباحثون في أصلهم فمن قائل إنهم أتراك من قونية ، ومن زاعم أنهم عرب من المعرة

٢٧٥

معرة النعمان. تولى دمشق (١١٣٧) إسماعيل باشا العظم وكان من قبل واليا على طرابلس وهو أول من تولى إيالة دمشق من بني العظم ، وقال بعض المؤرخين : إن ناصيف باشا كان واليا على دمشق وقتل في الرملة سنة (١١٣٠) وعلى هذا فيكون هو أول من تولى دمشق من هذه الأسرة. ذكر ابن ميرو أن والد إسماعيل بن إبراهيم العظم كان جنديا سكن معرة النعمان وكان لأهلهما مع التركمان التي ترد إلى جبلها شتاء وقائع جرح في بعضها والد المترجم فتوفي وأعقب المترجم إسماعيل وسليمان وموسى ومحمدا وكلهم أعقب خلا محمدا وكانت ولادة إسماعيل قبل السبعين وألف بالمعرة وبها نشأ ، وتقلبت به الأحوال إلى أن صار حاكما ببلده ثم بحماه ، وأنعمت عليه الدولة بطوخين رتبة روملي ومالكانة حماة وحمص والمعرة وعلى أخيه سليمان ، ومنصب طرابلس عليه وسر عسكر الجردة فبعد عوده من الجردة سنة (١١٣٨) تولى الشام وإمرة الحاج بالوزارة وحج ست سنين وحارب في السنة السادسة عرب حرب بين الحرمين وامتحن سنة (١١٤٣) وحبس بقلعة دمشق واستأصلوا أمواله مع أموال ذويه ثم أفرج عنه وأعقب السيد إبراهيم وأسعد وسعد الدين ومصطفى ومعظمهم تولوا الوزارة.

وفي سنة (١١٤٣) توفي الأمير حيدر الشهابي حاكم لبنان بعد أن حكم ستا وعشرين سنة على رواية المؤرخ الشهابي بالعدل والحلم والكرم وحسن التدبير وخلفه ابنه الأمير ملحم ، والأمير حيدر هو الذي أحيا ذكر القيسية وألقى ابنه الفتنة بين المشايخ فاختلفوا ، وكانت الدولة لا تقدر عليه على بغض أسعد باشا العظم والي صيدا له وسعيه به.

عهد محمود الأول :

تنازل أحمد الثالث عن ملكه باختياره (١١٤٣) بعد أن حكم ثماني وعشرين سنة وتسلطن محمود الأول وهو الرابع والعشرون من آل عثمان والتاسع عشر منهم في القسطنطينية ، وكان السلطان أحمد الثالث غريبا في أطواره يحب الطيور والأزهار ، ويقضي أوقاته في تسلية سراريه بالأفراح

٢٧٦

والزين ، ومع هذا يسجل له الفضل ورجاحة العقل في حسن اختياره صدورا عظاما شرفوا بأعمالهم عهده فلم يكن كبعض أجداده لا يعمل ولا يترك أحدا يعمل.

وفي هذه السنة وقع بين القبوقول والانكشارية الحرب والقتال وأغلقت دمشق أربعة أيام وقتل من الفريقين شرذمة. وقعت بين رجال والي طرابلس عثمان باشا والانكشارية فتنة وضد الانكشارية قتل بها من الفريقين ناس ، ثم تصالح الجندان على أن يلزم الانكشارية حماية الوالي ويعزل قائم مقامه وبعض الضباط ويخرج عسكره من المدينة. وفي سنة (١١٤٤) استأجر الأمير ملحم الشهابي بلاد بشارة وقبض على الشيخ نصار بن علي الصغير وباغت إخوته فهربوا ونهبت الدروز ذاك الإقليم وعاد أولاد الشيخ نصار واستأجروا المقاطعات من الأمير ملحم.

قال الشهابي في حوادث سنة (١١٤٧) انتقل أسعد باشا العظم من صيدا إلى إيالة دمشق وكان واليا عليهما منذ سنة (١١٤٣) وتولى إيالة صيدا أخوه سعد الدين باشا والي طرابلس وتولى طرابلس سليمان باشا العظم وقويت شوكة بني العظم في بلاد العرب وعظمت دولتهم اه. عظمت دولتهم لأنهم أخلصوا في الغالب للدولة كل الإخلاص حتى أمنتهم ووسدت إليهم الأحكام في الشام وتركتهم يعملون ما يشاءون ، وجاء دور وهم حكامها من أقصاها إلى أقصاها ، وقل جدا في هذا القرن من تولى ولاية حلب أو دمشق أو طرابلس أو صيدا أو اللاذقية أو غزة بضع سنين. ومن بني العظم من زاد زمن ولايته على عشر سنين ، فإن إسماعيل باشا العظم تولى دمشق ست سنين (١١٣٧ ـ ـ ١١٤٣) ، وسليمان باشا العظم تولاها خمس سنين للمرة الأولى (١١٤٦ ـ ١١٥١) وثلاث سنين للمرة الثانية (١١٥٤ ـ ١١٥٦) وأسعد باشا العظم تولاها أربع عشرة سنة (١١٥٦ ـ ١١٧٠) وكان تولى صيدا أربع سنين ومحمد باشا تولى دمشق مرتين اثنتي عشرة سنة ، وكان بنو العظم كسائر الأسر القديمة التي تغلبت على بعض أصقاع الشام أمثال بني معن وبني شهاب وبني الحرفوش وبني سيفا وبني طرابيه ومنهم الصالح والطالح وهل هم إلا نموذج من عصرهم ، ولا شك أنهم جمعوا أموالا كثيرة لأن حكوماتهم طالت أيامها والولاية

٢٧٧

بالالتزام ، فكان الوالي منهم كسائر الولاة يرضي الاستانة بمبلغ ويبقى له بعد كل إسراف مبلغ كبير ، وهو المتحكم في الأفراد والجماعات. وقد صادرت الدولة سليمان باشا العظم لما توفي سنة (١١٥٦) وعذب المفوض بذلك أسرته على أبشع وجه ، وكذلك ضبطت أموال ابن أخيه أسعد باشا وأخرجت الدفائن من قصره وكان بعضها مخبوءا في الأرض والجدران والأحواض وبيوت الخلاء وفعلت مثل ذلك بأتباعه ورجاله. قال الشهابي : إن أسعد باشا العظم بنى أبنية عظيمة في دمشق وجمع مالا لا يحصى وسار بالحج مرات فأنعمت عليه الدولة العلية برتبة علامة الرضى وأمرت أن لا يشهر عليه سلاح ولا يقتل ، ثم أرسلت إليه فقتلته في الحمام طمعا بكثرة أمواله وضبطت ماله وأملاكه وقال : إنه كان جليلا عاقلا حسن التدبير مولعا بالخيل الجياد حتى قيل : إنه كان عنده خمسمائة فرس من جياد الخيل لأجل ركوبه.

وذكر الدويهي أن السلطان محمودا أنعم على عبد الرحمن أفندي (١١٦٥) محصل حلب بالولاية فوجه في الحال متسلمه حسن اغا إلى طرابلس فأمن الخواطر ونادى بالأمان وصار الفلاح ينزل إلى طرابلس آمنا على نفسه وأرخص الأسعار ومهد الأمور التي كانت متبلبلة من ظلم بيت العظم ، وكذلك فعلوا بإسماعيل باشا في دمشق وبأخيه سليمان باشا والي صيدا وبياسين بك بن إبراهيم باشا والي اللاذقية من قبل أبيه وأسعد بك بن إسماعيل باشا والي حماة وحسن بك أخي إسماعيل باشا حاكم المعرة هؤلاء جميعا سجنوهم وأخذوا أموالهم للسلطنة وولوا على صيدا أحمد باشا بن عثمان باشا أبو طوق اه. وقال فولنيه الرحالة الفرنسي : إن بني العظم كانوا من أحسن من جاء دمشق من الولاة.

وترجم ابن ميرو أسعد باشا العظم فقال : إنه لما وسدت إليه الدولة مالكانة حماة سار فيها سيرة حسنة وعمر بها خانات وحمامات وبساتين ودورا ليس لذلك كله في البلاد الشامية نظير ، ثم ولي صيدا فاستعفى منها وطلب حماة منصبا بعد أن كانت مالكانة له ولعمه ، فرفعت منه المالكانة ووجهت له منصبا ودخلها سنة أربع وخمسين ومائة وألف ، وبذل الأموال إلى أن جعلها مالكانة له بعناية الوزير الكبير بكر باشا. وفي سنة ست وخمسين تولى دمشق وإمرة الحاج

٢٧٨

لموت عمه سليمان بات الوزير وحج بالحجيج أربع عشرة حجة وعزل عن دمشق وإمرة الحاج بالوزير حسين باشا مكي وولوه حلب ثم عزل عنها ونفي إلى جزيرة كريت ونسبوا له ما وقع بالحجيج وقتل بمدينة أنقره. وقال في ترجمة أسعد باشا أيضا : إنه كان محمودا في ولايته وأهل الشام في زمانه في راحة وأمن وطمأنينة ، وكان صبورا صبر على الأشقياء حتى أخذهم الله على يده ، وآذاه عرب حرب فصبر على أذاهم حتى انتقم الله له منهم عن يد الوزير عبد الله باشا جته جي. وقال جودت في وقائع سنة (١١٩٧) : وفيها توفي والي الشام وأمير الحاج محمد باشا العظم بعد أن أقام في وظيفته اثنتي عشرة سنة ولما كان وزيرا مشهورا من أهل الثروة والغنى عين مباشرون مخصوصون من الاستانة لضبط أمتعته وأمواله. وقد أثنى المرادي على محمد باشا العظم هذا فقال : إن له من المآثر في كل ولاية وليها ولا سيما في دمشق ما يحسن ذكره وأنه رفع المظالم وأنشأ المعالم قال : وبالجملة فهو من أحسن من أدركناه من ولاة دمشق وأكملهم رأيا وتدبيرا.

والغالب أن الدولة كانت مرتاحة البال من ناحية بني العظم في الشام يقاتلون الخوارج عليها ولا تحدثهم أنفسهم بنزع أيديهم من يدها ويدفعون إليها الخراج في أوقاته ولذلك كانت ترعاهم على الجملة في حياتهم وتتركهم يستمتعون بنعمها ، فإذا هلكوا جاءت ووضعت يدها على عروضهم وأموالهم كما هي عادتها ، ولعلها استبطأت أسعد باشا في الولاية فخشيت شره فخنقته. وبالجملة فإن أحوال ذاك العصر يصعب الآن الحكم عليها لقلة من نظر في المؤرخين في الحوادث نظر الاستنتاج الصحيح.

فتن ومشاغب :

رجع إلى سلسلة الحوادث. فقد توفي سنة (١٠٤٨) الأمير محمد فروخ النابلسي وكان من شجعان الدنيا ، تولى حكومة القدس ونابلس فأرهب العربان وكبر صيته وبقي في إمارة الحج ثماني عشرة سنة ، وألقيت رهبته في قلوب العربان وكانوا إذا أرادوا أن يخوفوا أحدا منهم يقولون ها ابن فروخ أقبل

٢٧٩

فتتلوى قوائمه. وفي سنة (١١٥٢) كبس وزير صيدا مقاطعة الشقيف وقتل الشيخ أحمد فارس وأولاده ورفعت القبوقول والأورط من الشام (١١٥٢) لخبث سيرتهم وهاجم (١١٥٦) الأمير ملحم الشهابي إقليم المتاولة ووصل إلى قرية نصار فالتقى بعساكرهم وانتشب بينهم القتال فكسرهم كسرة هائلة وقتل منهم ألفا وستمائة قتيل وقبض منهم أربعة مشايخ ونهب أرضهم وأحرقها ، وباغت والي صيدا ووالي طرابلس ووالي دمشق إمارة الأمير ملحم الشهابي في لبنان لتأخره عن أداء المال السلطاني وأحرقوا إقليم التفاح ومرج بشرة ثم وقع الصلح وأدى ما عليه. وجهز (١١٥٦) سليمان باشا العظم والي دمشق عسكرا على الظاهر عمر الزيداني بعد أن قبض على أخيه مصطفى وشنقه بدمشق ، فلما وصل الوزير إلى قرب عكا لحصارها رشا ظاهر العمر بعض أتباعه فأدخل على سليمان باشا السم في طعامه فمات وجيء به إلى دمشق في أكثر الروايات ، وسليمان باشا هو ابن إبراهيم ولي طرابلس وصار جرداويا لأخيه شقيقه الوزير إسماعيل ثم ولي صيدا ، وبها صارت له الوزارة ثم ولي صيدا ثانية ثم ولي دمشق (١١٤٦) بإمارة الحج وحج خمسا بالحج الشامي ثم ولي مصر وعاد إلى دمشق فوليها سنتين.

وفي سنة (١١٥٧) كانت الموقعة في مرج عيون بين المشايخ المتاولة وأهالي وادي التيم ومعهم دروز جبل الشوف وكانت الكسرة على الدروز وعسكر وادي التيم وقتل منهم نحو ثلثمائة قتيل وحرقت المتاولة جميع قرى مرج عيون.

وفي سنة (١١٥٨) ملك الدالاتية قلعة دمشق فقاتلهم الانكشارية ، وأمر أسعد باشا العظم حاكم دمشق أن يقصدوا سوق ساروجا وأطلقت المدافع فخربت الدور ونهبت دار رئيس الفتنة وخربت ، وجرّت القافية بقية الدور ولم يبق من سوق ساروجا إلا القليل وأعمل اسعد باشا السيف بكل عاص وقتل عسكره أناسا ، وسلبوا الدور وأحرقوا بعضها ، ثم صلب كثيرين وبقيت المشنقة أياما لا تخلو من مصلوب اتهم أنه كان يمالىء أرباب الدعارة على رغائبهم ، وتركت جثثهم أياما أمام السراي تأكلها الكلاب وسلخت رؤوسهم وجعلت أكواما ، وصارت المدافع تطلق بكرة وعشية مدة شهرين ، وكثر العزف بالأبواق وإطلاق السهام النارية في الفضاء.

٢٨٠