خطط الشام - ج ٢

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٢

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٠

فامتثل هذا أمره ، وانقطعت أحكام السلطنة عن هذه الديار نحو سنتين ، وكان ابن سيفا بعد أن غلبه ابن جانبولاذ على دمشق ونهب ولايته التجأ إلى أحمد بن طرباي الحارثي أمير لواء اللجون. قال القرماني : إن ابن جانبولاذ لما ولي حلب جمع كل شقي من القبائل والعشائر ، ليأخذ ثأره من جماعة الإنكشارية فالتقوه في مدينة حماة ومعهم محمد باشا الطواشي نائب دمشق وعامة الجيوش من الكماة ، فانهزم عسكر الدولة واستمر ابن جانبولاذ في أثرهم إلى حدود دمشق فاستقبله الأمير فخر الدين بن معن بمن معه من الدروز وطائفة السكمانية ، ثم التقى ابن جانبولاذ مع العساكر الشامية فاستولى على أموالهم.

ولما حدث ما حدث من الفتن والغوائل عهد السلطان إلى مراد باشا أن يعيد الشام إلى حكم الدولة لأنه ثبت أنه خرج عن حكمه ، فجاء في عشرين ألف فارس وعشرين ألف راجل وقيل في أكثر من ذلك ، فبرز إليه ابن جانبولاذ في أربعين ألفا فغلب ابن جانبولاذ وهرب إلى الاستانة وأقنع السلطان بحسن حاله ، وجاء مراد باشا بعد أن كسر ابن جانبولاذ في سهل الروج قرب المعرة وقتل من جماعته أحد وعشرين ألفا وتسلم قلعتها بالأمان ، وبالغ في قطع شأفة الأشقياء والسكبانية. وكان علي باشا جانبولاذ لما انكسر مع مراد باشا حصن قلعة حلب ورفع إليها عياله وأسبابه وولى عليها أطلي طوماش باشا وأمره بحفظها لمدة ثلاثة أشهر ريثما يرجع إليه بالنجدة من سلطان العجم ، ثم تجهز للسفر وحال خروجه من أراضي حلب وصل مراد باشا الوزير ومعه أحمد باشا حافظ الشام ويوسف باشا سيفا وشددوا الحصار على حلب وافتتحوها ، ووعد أطلي طوماش بالنيابة على حلب فاطمأن وسلم القلعة ثم قبض عليه وقتله وضبط القلعة ، وباع عيال علي باشا جانبولاذ بيد الدلال فبيعت والدته بثلاثين قرشا ، ثم وقعت المناداة على المحافظين فقتلوهم في أماكن مختلفة وأتوا برؤوسهم إلى الوزير ولم ينج منهم إلا القليل ، وكان الرجل يقتل العشرة منهم ، ومهد الوزير أمور حلب وخدمته أمراء العرب. وقالوا : إن الأمير فخر الدين فرّ إلى البادية في جماعة الدروز والعربان بعد تلك الوقائع لأنه أعان الخوارج على السلطنة. وللقيم محفوظ الدمشقي مرتجلا

٢٤١

ومؤرخا واقعة دخول السكبانية مع ابن جانبولاذ إلى دمشق في أوائل سنة ست عشرة بعد الألف نقلها في التذكرة الكمالية.

دخل الشام جيوش

كجمال قد رغوا

كل كردي غبي

بهم الناس لغوا

ودروز ولئام

لمقال ما صغوا

نهبوا الشام وآذوا

وعلى الناس بغوا

نهبوها في جمادى

أفحشوا أرخ طغوا

(١٠١٦)

ولم تقتصر فتنة ابن جانبولاذ على دمشق وحلب بل تناولت بعلبك والبقاع وطرابلس وغيرها. قال النجم الغزي : إن كافلي الشام وطرابلس دخلا على أهل حماة وحمص وأمرا أهلهما بإخلاء المدينتين وكان ابن جانبولاذ في أثرهما ، فدخل هو وعساكره حماة وحمص ونهبوهما ونهبوا قراهما ، واتفق كيوان رئيس سرية دمشق مع ابن معن على العصيان وعلى مساعدة ابن جانبولاذ ، فذهبا إليه واجتمعا به في الجون بالقرب من نهر البارد ، فاستولوا على حماة وحمص وعكار وجبلة واللاذقية والحصن وطرابلس وغزير وبيروت ، ثم اجتمع ابن جانبولاذ وابن معن وكيوان وحاصروا دمشق على ما تقدم قال : وكان الأمر مهولا واجتمع أكثر الناس بدمشق. وقال ابن المقار في حوادث (١٠١٦) : إنه ظهرت طائفة من الخوارج يقال لهم السيمانية أظهروا في الأرض أنواع الفساد ، وحدث بين أمراء الشام حروب وفتن عظيمة عم فيها النهب وخربت أكثر البلاد.

ومن الأحداث في تلك الأيام ما رواه مؤرخو لبنان في حوادث سنة (١٠١٦) من أن الجند المشتى «قيشلق» السلطاني تفرق على البلدان من حلب إلى الشوف ، وكان عدده نحو أربع كرات والكرة مئة ألف. كذا قالوا وكانت الناس في ضيق عظيم من الغلاء ومن الضرائب التي كانت على الضياع والأديار. ووقع في زمن تولية كوجك سنان باشا دمشق وكان يتولاها سنة (١٠١٧) أن فرقة من عرب آل جبار المعروفين بأولاد أبي ريشة نفروا من العراق فوصلوا إلى تدمر ، وانضم إليهم قوم من طائفة السكبانية المنهزمين من وقعة علي بن

٢٤٢

جانبولاذ. فعاثوا في تلك الديار وقطعوا الطريق ، ولما ورد من حلب العسكر المصري الذي كان قد طلب لقتال كبير السكبانية محمد بن قلندر والأسود سعيد ، التقى جيش السلطان مع جيش البغاة فغلب عسكر السلطان وهرب منهم جمع ، ومن جملة الهاربين الجماعة المذكورون وكانوا نحو أربعمائة سكباني ، فلما انضموا إلى العرب المذكورين كان السكبان يضربون بالبندق والعرب يضربون بالرماح والسيوف ، وأخذوا قلعة القسطل وقلعة القطيفة ونهبوا المعصرة وقتلوا من بها من الرجال والنساء. فلما بالغوا بالقتل والنهب والغارة والعدوان قصدهم سنان باشا ومعه العسكر الدمشقي ، وانضم إليهم عرب المفارجة وكبيرهم عمرو بن جبير فأدركوا العرب والسّكبان في نواحي قلعة القطرانة ، فقتلوا من السكبان نحو ثلاثمائة رجل وقبضوا على آخرين ودخلوا بهم إلى دمشق على متون الجمال وعلى كتف كل واحد منهم خشبة طويلة وهي وتد (خازوق) وفي اليوم الثاني أتلفوهم وفرقوا أجسادهم على أحياء دمشق.

الأمير فخر الدين المعني وآل شهاب وفتن :

تخوفت الدولة من الأمير فخر الدين المعني الثاني لتحصينه القلاع وامتداد سلطته في أصقاع الشام ، فأرسلت عليه في سنة (١٠٢٠) الحافظ أحمد باشا كافل دمشق وكافل حلب وكافل ديار بكر وكافل طرابلس وأمراء الأكراد في جيوشهم ونحو النصف من الفرسان في جيش مؤلف من ثلاثين ألفا ، وحاصر ابن معن تسعة أشهر فلم يقدر أن يأخذ قلعة من القلاع ، فلما أعيته الحيلة أرسل رجلا من جماعته لمن في القلاع يقول : أنا مالي عندكم غرض بل إن للوزير الأعظم شأنا مع الأمير فقولوا له أن ينزل إلى خيامنا وعليه أمان الله ونأخذ منه دراهم للسلطان وللوزير ونقرّه في أماكنه فقالوا : الأمير ذهب في المركب إلى ديار الفرنج فلما تحقق ذلك رضي بنزول أم فخر الدين فقالت : نحن ما ضبطنا بلدا بغير اسم السلطان ، ولا انكسر عندنا مال ، فعند ذلك أعطت السلطان مائة ألف قرش وأعطت الوزير خمسين ألفا والحافظ أحمد باشا مثلها وانفصل الأمر على ذلك.

هرب الأمير فخر الدين إلى إيطاليا تاركا الحكم في لبنان وما إليه لابنه

٢٤٣

الأمير علي وأقام فيها خمس سنين وشهرين تعرف خلالها إلى ملوك طسقانه من أسرة ميديسيس المشهورة في فلورنسة ، وأطلع على طرف من المدنية الأوروبية ثم عاد إلى وطنه بعد مهلك خصمه والي دمشق فاستلم زمام الأحكام ولا سيما المسائل الحربية ، بقوة أعظم وتدبير أحكم ، مستصحبا معه كثيرا من المهندسين لبناء القلاع وعمل الذخائر الحربية ، وكان ابنه الحاكم في الظاهر وهو الحاكم في الحقيقة ، وأخذ يحصن كوره ويكثر الصلات الحسنة مع الفرنج ولا سيما مع الطليان ، وعقد معاهدة دفاعية هجومية مع أصحاب طسقانه كأنه ملك مستقل ، فخافت الدولة منه وكانت تعده من قبل عاصيا قوي الشكيمة، وأخذت تحاذره وتنظر إليه نظرها لعاص عارف بمقاتلها ، وأنه لا بد له يوما أن يستقل عنها ببلاد الشام ، إذ بلغ أتباعه نحو مائة ألف من الدروز والسكبان ولم يستول فقط على الشوف وجبل عاملة بل تعداهما إلى عجلون والجولان وحوران وتدمر والحصن والمرقب وسلمية ، وسرى حكمه من صفد إلى أنطاكية وملك نحو ثلاثين حصنا مثل صفد ونيحا وشقيف تيرون وعجلون وقب الياس وبعلبك والمرقب والبترون.

وفي سنة (١٠٢١) خرج أحمد باشا بالعساكر من دمشق إلى وادي التيم ونزل في خان حاصبيا وهرب بيت شهاب أصحاب وادي التيم منها فهدم دورهم وأتلف أملاكهم ونهب حاصبيا (١٠٢٢) وفي سنة (١٠٢٣) خرج الحافظ أحمد باشا من دمشق إلى قب الياس واجتمع إليه حكام صفد وصيدا وبيروت وغزة وحماة وعشائرهم وأمراء الغرب وبعلبك ووادي التيم ، فوقع بين أهل الجرد والغرب والمتن وأهل الشوف قتال بقرب نهر الباروك انكسر فيه أهل الغرب والجرد والمتن وعسكر الدولة كسرة عظيمة ، فأحرق أحمد باشا قصر بيت معن في دير القمر وكان رئيسهم إذ ذاك الأمير يونس كما أحرق قرية عبيه. ثم جرت وقعة بين جماعته وجماعة من حزب المعنيين على قلعة الشقيف فانكسر جماعة أحمد باشا وقتل منهم نحو خمسمائة قتيل وأكثرهم من السكبان وكان عسكر الدولة نيفا وعشرين ألفا ثم امتنع (١٠٢٤) يوسف أغا من أن يتسلم حصن الشقيف وحصن ارنون إلى أن يخرج منهما بنو معن أولاد العرب ويتصرف بهما الأتراك تمام التصرف ، فشق ذلك على الأمير يونس وأخذ في

٢٤٤

هدمهما ، ولما انتهى الخبر إلى الوزير فرح جدا وأمر بخرابهما ، ولبث المسلمون في تخريبهما أربعين يوما. وجرت (١٠٢٥) وقائع بين أولاد ابن معن وأصحاب المقاطعات في لبنان وحرق الشوف والجرد والغرب والمتن وهلك كثيرون وكانت النصرة للقيسية خربت بيت معن ، وكان بنو تنوخ أمراء الغرب منذ سنة (٥٤٢) يميلون إلى بني معن ، فلما حاربتهم الدولة انتهز علي بن علم الدين اليمني والي الشوف الفرصة وقبض على أعيان المعنيين وقتلهم واستصفى أموالهم ، ثم سار إلى قرية عبيه فدعاه الأمراء التنوخيون إلى مأدبة في سرايتهم فاغتالهم وقتلهم كلهم صغارا وكبارا فانقرض التنوخيون بموتهم.

عهد مصطفى الأول وعثمان الثاني :

في سنة (١٠٢٦) توفي أحمد الأول وخلفه مصطفى الأول المعروف بالأبله فخلع بعد ثلاثة أشهر وخلفه عثمان الثاني ولم يجر في أيامه ما يستحق أن يدون في الشام اللهم إلا ما كان من حرب بين ابن معن وابن سيفا (١٠٢٨) فخرب ابن معن قرية عكار وسرايا بيت سيفا في طرابلس وخرب هذه كما خرب قلعة جبيل. ثم عاد مصطفى الأول سنة (١٠٣١) فتولى الملك أربعة عشر شهرا وخلع بعدها. إذ لم يعد في الإمكان ستر نقصه الذي كان يتولاه العلماء ليحكموا باسمه فأبرزوه في صورة ولي من الأولياء وما هو إلا أبله من البلهاء. فزادت الدولة خلال هذه الحقبة تغاضيا عن الشام حتى قويت شوكة المتغلبين وأرباب النفوذ في المدن والقرى والسهول والجبال ، وأصبح القطر بلا راع خصوصا بعد الضعف الذي ظهر من الدولة في العقد الثاني من هذا القرن في فتنة ابن جانبولاذ وحصار حصون ابن معن ، وتجلى لأذكياء المتغلبة موقف الدولة معهم ، فأصبحوا يزدادون في إرهاق الرعية. والولاة ليسوا دونهم في العنت والتخريب والقتل والنهب.

وكان نائب حلب محمد باشا (١٠٣١) ظلوما غشوما أخذ أموالا كثيرة من كل قرية من غير سبب ، وقضى أن لاتباع البضائع كلها إلا لمن عينه من جماعته ثم تباع من أحد السوقة بعد ذلك ، فكان ظلمه مزدوجا على المدني والقروي ، وفي هذه السنة خرب صاحب الشرطة جميع قرى القنيطرة

٢٤٥

وفي السنة التالية (١٠٣٢) خرب الأمير فخر الدين بن معن كرك نوح وسرعين نكاية ببني الحرفوش.

عداء على الفرنج وفتن داخلية :

وبينا كان ابن معن يهيء السبل للفرنج حتى تزيد متاجرهم مع أهل الساحل ويكثر سوادهم في مدنها ولا سيما في موانيها ، ويرخص لهم بتأسيس قنصليات ويدخل المبشرين إلى لبنان ، ارتكب ابن سيفا حاكم طرابلس سنة (١٠٣٢) أمرا عظيما نفر الفرنج من غشيان المواني لاستبضاع القطن والحبوب ، وذلك أنه ضبط مركبين فرنساويين كان معهما ثمانون ألف قرش لابتياع بضائع ، فأرسل ابن سيفا وأمسك ولدين صغيرين من المركبين وعلمهما أن يقولا : إن المركبين للقرصان ، وإنهما أخذا في طريقهما مركب تجارة للمسلمين ، وزعم أنه وجد في المركبين أسبابا لمداخلة المسلمين ، ولم يكن ذلك صحيحا ولكنه جعل ذلك طريقا لضبط جميع ما في المركبين من البضائع والأموال ، وأمسك جميع من فيهما من التجار والنوتية وقتلهم جميعا. وبعد ذلك باع المركبين بثلاثة آلاف قرش. قال الشهابي : ومن حين حدوث هذه الفعلة لم يدخل ميناء طرابلس من تجار الفرنج أحد ، وتوجه أناس من الفرنج إلى الباب العالي للشكوى على ابن سيفا ، ولكن لكثرة عزل الوزراء لم يلتفت أحد إليهم وراحت على من راح.

ومن الفتن الأهلية ما حدث سنة (١٠٣٢) من دخول أحمد الشهابي وحسن الطويل بلاد عجلون ومقابلة أهل القرى لهما وتجمع أهالي نابلس وعربها ، وحرقت من القرى فارا والخزبة وحلاوى وكانت من أكبر قرى عجلون ، وحرق الأمير علي الشهابي قرية سرعين في البقاع وجميع قرى بعلبك وتحصن أهل بعلبك في القلعة. وجرت فتنة بين عساكر دمشق والأمير يونس الحرفوش ـ وكان هذا ظالما متجاهرا بالظلم ـ وكرد حمزة سنة (١٠٣٣) فاغتنم الانكشارية الفرصة وأغاروا على المستضعفين من الأهلين وتعاقب تغيير الولاة وانحاز بعض الخوارج إليهم ونقل الناس أمتعتهم وأثقالهم من خارج مدينة دمشق إلى داخلها مرارا ، وحارب العسكر الدمشقي أولاد الحرفوش لإخراجهم من بعلبك.

٢٤٦

وكان كيوان أحد كبراء الأجناد في دمشق خلال هذه المدة ينزع إلى التعدي ولا شكيمة ترد جماحه ، ولا وازع يكف من غربه ، فأخذ الناس بالتهمة وتطاول إلى أخذ أملاكهم حتى استولى على أكثر بساتين الربوة والمزة من ضواحي دمشق وضم بعضها إلى بعض ، وكان إذا أخذ حصته من مكان احتال على الشركاء فيه حتى يأخذ حصصهم طوعا أو كرها ، وكان نواب محكمة الباب وأعيان شهودها يساعدونه على عدوانه حتى أهلك الحرث والنسل. وذكر الغزى أن كيوان الطاغية أعيا أهل دمشق ظلما وفتنة ، وكانت بداية كيوان نهاية أويس ثم تجاوز عنه بمراتب ، فطمع هو وقائد الصالحية أولا في أملاك الفلاحين ، واستخلاص ما ملكوه بالشراء أو بالمغارسة ، فكان يعمل الحيلة لأحدهم حتى يوقعه في مخالب صاحب الشحنة ولو بالتهمة والاستتباع. وقد اقترف يوسف السقا من الأجناد الدمشقيين ضروب المظالم ، وصادر الناس في أموالهم وعقارهم ، وقبض على غالب أعيان دمشق وشيوخها وهرب بعضهم ، واغتصب من تجارها المشاهير وبعض أهلها الضعفاء مالا جزيلا أناف على مائتي ألف دينار ومن التحف والأقمشة ما لا يحصى. ومثل هذه الشؤون كانت تجري على مشهد من الولاة ويتغاضون عنها لأنها قد تكون بإيعازهم وهم لا محالة شركاء أولئك الزعماء.

حملات على الأمير فخر الدين المعني وغيره :

أدركت الدولة أن خطر فخر الدين المعنى على حياتها في هذه الديار زاد عن سنة (١٠٢٠) وأنه تأصلت أحكامه بعد عودته من إيطاليا ، وما كانت في حملتها الأولى والثانية لتغضي عن تخريب الأقاليم إلا اضطرارا ، فساق هذه المرة مصطفى باشا والي دمشق (١٠٣٣) جيشا على فخر الدين فاستظهر هذا بالأمير محمد الشهابي حاكم وادي التيم كما استظهر حاكم الشام بابن سيفا حاكم طرابلس وابن الحرفوش صاحب بعلبك فهلك جمهور من عسكر دمشق قدر بمائتي قتيل ولم يقتل سوى رجال قلائل من جماعة ابن معن ، وكانت الوقعة في عين الجر (عنجر). وقبض جماعة ابن معن على والي دمشق فجاء الأمير فخر الدين وقبل ذيله ، وقيل شفع بالوالي علماء دمشق

٢٤٧

وكبراؤها لدى ابن معن ، ورجع عسكر دمشق مفلولين وفي رواية أنهم خامروا على الوالي وأطلق الأمير فخر الدين والي دمشق مكرما ، فعاد إلى الفيحاء ينتقم ممن كان السبب في غزو ابن معن. وهذه الوقعة زادت في مكانة أمير لبنان في نظر الدولة والأمة ، ودلت على أنه كان مع قوته عاقلا بعيد النظر ، وأنها عاجزة عن أخذه إلا بتجهيز جيش عظيم لأنها حاولت غير مرة ذلك فرجعت بالخيبة خصوصا وقد عملت محالفته لكوسموس الثاني كبير دوجات طسقانه ، وأن فخر الدين لما استظهر بأسطول فرديناند الطسقاني استولى على ساحل الشام وغلب جيش الدولة غير مرة.

وفي سنة (١٠٣٣) أيضا جلس جماعة الوالي بدمشق على الطرق ومعهم الريش يضعونه على رأس كل من يرونه وينادون عليه «مستاهل لم يقدر أن يرفعها من شدة الخوف» قال المقار : فلما كملوا أرسلوهم إلى اليمن فقتلوا كلهم هناك. ومعنى ذلك أن الدولة كانت تريد تجنيد أناس لترسلهم من الشام إلى اليمن فلم تر أظرف ولا أعدل من هذه الطريقة في التجنيد. وفي سنة (١٠٣٨) عين والي دمشق شرذمة من العسكر لمنازلة بني شهاب في وادي تيم الله بن ثعلبة فنهبوا قراهم وأحرقوها.

وقد وزعت الدولة عسكرها على كور الشام ليشتي فيها سنة (١٠٤١) وكان جيشا كبيرا فخص دمشق منهم أثنا عشر ألف جندي ما عدا أتباعهم ، وكان مأكلهم ومشربهم من أهل دمشق وأقاموا بها أربعة أشهر ، فلما عزموا على السفر أخذوا ترحيلة من أهل دمشق خمسين قرشا من كل دار فاضطرب أهل دمشق اضطرابا عظيما. وقال أبو بكر العمري من قصيدة وصف بها سنة «القشلق» :

قوم من الأتراك عاثوا بها

على خيول ضمّر سبق

من جهة الشرق لقد أقبلوا

والشر قد يأتي من المشرق

في رقعة الشام غدت خيلهم

وذلت الأرخاخ للبيدق

أجلوا أهالي الدور عن دورهم

بالسيف والدبوس والبندق

واتخذوها مسكنا دونهم

بالفرش من خز واستبرق

وحملوهم كلفا أعجزت

غنيهم جهدا فكيف الفقير

٢٤٨

قال المحبي : أن القشلق من عسكر السلطان مراد بن أحمد كانوا عينوا لمحاربة شاه عباس فدهمهم الشتاءدون الوصول إلى خطة العجم فأمروا أن يشتّوا في دمشق وأطرافها من القرى وضيقوا على الناس أمر المعيشة وبالغوا في التعدي ونهب أموال الناس.

وفي سنة (١٠٤٣) جاء السردار الأعظم محمد باشا إلى حلب يحمل مرسوما سلطانيا بقتل نوغاي باشا لأنه تهامل في قتل من يجب قتلهم من الأشقياء واكتفى منهم بمصادرة أموالهم ، فقتل وأرسل رأسه بلحيته البيضاء إلى جانب السلطنة. قال نعيما : وهذا الوزير ممن سبقت لهم خدم جلى للدين والدولة وهو من أقدر الوزراء. وفي هذه السنة تجمع نحو خمسمائة من أرباب الفساد من الانكشارية وثاروا بوالي حلب فقتل منهم خمسون وجرح كثيرون ، ثم جاء رؤساؤهم معتذرين للوالي بما صدر من أوباشهم فتأثر جميع النافخين في بوق الفتنة وقتل الجرحى والهاربين منهم فسكنت الثائرة. وفي هذه السنة خرجت عساكر من دمشق وباغتوا أمير وادي التيم فنهبوها وأحرقوا قراها وباغت صاحبها العسكر الدمشقي فظفر بهم ورجعوا عن أقليمه.

القضاء على الأمير فخر الدين المعني :

في سنة (١٠٤٣) قويت كلمة فخر الدين بن معن الثاني وكانت الدولة منذ ثلاث وعشرين سنة تنظر إليه نظر الخارج عن طاعتها ، وحاولت غير مرة أخذه فلم تستطع لأنه كان بجيشه أقوى من الجيوش التي تساق عليه ، وأرضه حصينة بطبيعتها وحصونه كثيرة ممتنعة ، ولو لا أن الدولة مرتبكة بغوائل خارجية لضمت قوى كثيرة من قوتها وأخذته أخذ عزيز مقتدر ، فلما استراح بالها من مشاكلها أرسلت عليه جيشا من الأناضول بقيادة أحمد باشا الأرناؤدي كافل دمشق فانتصر عليه الأمير فخر الدين في وقعتين قرب صفد ، ثم انتصر عليه القائد العثماني في وادي التيم وقتل ابنه عليا وتوفي أخوه متأثرا من جراحاته ، وكانت أرسلت الدولة عليه أسطولا من البحر فغلب على أكثر سواحله وعاون بنو سيفا وأصحاب الأحزاب بعسكر وافر الجيوش العثمانية ومشوا مقابل المراكب على طريق البرفتشتت المعنيون ،

٢٤٩

وكانت الدولة تحاذر من معاونة أسطول البنادقة أو الطسقانيين له ، ولجأ الأمير إلى شقيف تيرون فضاقت نفسه وفي رواية أنه هام على وجهه في الجبال سنة ودل جماعته عليه ، ثم عمد إلى مغارة في جزين فاضطر أن يسلم نفسه إلى الوزير العثماني فدخل به إلى دمشق بموكب حافل وهو مقيد على الفرس خلفه ، ثم حمل إلى الاستانة فقابله السلطان مقابلة لا بأس بها ولامه على أفعاله فقدم أعذاره ، واحتج بأنه جمع الرجال لأمور مختصة بالوزراء والنواب وما قتل غير العصاة على السلطنة ، وأن القلاع التي استولى عليها وفتحها كانت بيد العصاة وسلمها للسلطنة فاقتنع السلطان من كلامه وعفا عنه ولكنه أبقاه مخفورا. ولما قام حفيده الأمير ملحم وكسر جيش والي دمشق ونهب صور وبيروت وعكا صدر أمر السلطان بقطع رأس الأمير فخر الدين وخنق ابنه الأكبر.

وذكر الشهابي أن الأمير علي بن علم الدين اليمني الذي وسد إليه حكم لبنان بعد أسر الأمير فخر الدين قد ضبط جميع أرزاق بيت معن وقبض على تابعيهم وقتل بعضهم ، ثم باغت الأمراء بيت تنوخ وكانوا في الحمام في السراي التي تحت القرية فقتلهم وردم البرج على أولادهم الصغار ، ولم يترك من بني تنوخ ذكرا يخلفهم ، ولما بلغ ذلك الأمير ملحم بن معن جمع من كان معه من القيسية وركب على اليمنية فقتل منهم كثيرا وقدر من قتل من الفريقين بنحو أربعمائة نفس ، وانهزم الأمير علي بن علم الدين إلى دمشق وخرج منها بعسكر نحو خمسمائة رجل وعند ما وصل تحت قب الياس نزل سعيد أحمد أبو عذرا إلى مقاتلتهم برجال العرقوب في نحو أربعمائة رجل ، فأخلت له الدولة الخيام حتى دخل بالرجال ثم أطبقوا عليه فما سلم منهم إلا القليل ، فرجع الأمير ملحم واختبأ في الشوف وتجددت عند ذلك الشكايات على الأمير فخر الدين وعندها أمر السلطان بقتله. قال المرادي : إن أملاك الأمير فخر الدين وهبها السلطان مراد إلى أحمد باشا الكوجك ، وكان عمر التكية خارج باب الله بالقرب من مسجد القدم بدمشق فوقف عليها ذلك من متعلقاته في بعلبك وصيدا وريشيا وحاصبيا وكانت أملاكا لفخر الدين.

وبهلاك الأمير فخر الدين وضعف سلطة الأمراء المعنيين استراح الأمراء المجاورون أمثال بني سيفا في طرابلس والأمير أحمد بن طرباي الحارثي أمير

٢٥٠

اللجون في نابلس ، وقد وقعت بين هذا وبين الأمير فخر الدين حروب كثيرة ، وكان ابن معن توجه لقتاله ثلاث مرات ورحل ابن طرباي إلى الرملة وكان في كل مرة يكسر عسكر ابن معن ويدحره ، وأشهر وقعاته معه وقعة يافا وكان هو وحسن باشا حاكم غزة محمد بن فروخ أمير نابلس فقتل من جماعة ابن معن مقتلة عظيمة وغنم غنيمة وافرة. وحارب مرة بدو الساحل على نهر العوجا وبدد جموعهم ولكن أهل كورة حارثة في جينين حاصروه في قلعة هذه المدينة وأخرجوه منها.

هلك فخر الدين بن معن الثاني بعد أن كاد يستولي على أكثر الأقاليم بأخذه أملاك بني سيفا وبني الحرفوش في طرابلس وبعلبك ، وقد كان واسع الصدر بعيد الغور والنظر متسامحا يسير مع المدنية سير تعقل ، وأخذ في آخر أمره يعمر في بيروت حديقة للوحوش تقليدا لملوك إيطاليا ، وعمر قلعة صرخد وقلعة شميميس وقلعة فوق أنطاكية وجهزها بالعساكر. فشكته حكومة حلب للباب العالي. قال المحبي : إن ابن معن بلغ مبلغا لم يبق وراءه إلا دعوى السلطنة. وعلل البوريني سبب أخذ الدولة له أنه أخذ يحصن قلعة الشقيف عدة أعوام وأخذ لواء صفد ، فعظم شأنه وارتفع مكانه وبعد صيته ، وكثرت أمواله لأنه تصرف في أرض ما خطر في بال أحد من الأمراء التصرف فيها ، وكان ملك كفر كنّه وعكا والساحل وصفد وبلاد ابن بشارة والشقيف وبيروت وصيدا وو جبل كسروان وجبة المنيطرة وجبيل وأنطلياس والبترون والجرد والغرب والمتن والشوف والمقيطع والشحار والبقاع وبعلبك وصور المعشوقة ، وحصن قلعة الشقيف وجددها وشحنها بالأرزاق الكثيرة وجعل بها من آلات الحصار شيئا كثيرا واستمر في ذلك التحصين نحو عشرة أعوام فتفطن له الأمراء والوزراء.

وقال نعيما : إن قلاع الشقيف وبانياس ودير القمر كانت محصنة في عهد ابن معن فصعب استيلاء الجند العثماني عليها لما عصى على الدولة ، وإن من قتلوا في برهة قليلة من عصاة الدروز بلغ نحو ثلاثة آلاف وأحرقت بيوتهم وقراهم ، وإن عهده وما بعده في الجبل مضى مع الدولة تارة في حرب وطورا في سلم وصلح اه. ومن الحصون التي رممها وأنشأها قلعة قب الياس وبانياس وبرج الكشاف في بيروت وبرج البحصاص في طرابلس ورأس بعلبك واللبوة وحدث

٢٥١

بعلبك والصلت وحيفا ونوله وسمر جبيل وطرابلس وصافيتا والمرقب وحصن الأكراد.

وكانت له في باب قوة الإرادة آيات منها أنه لما حدث اختلاف بينه وبين بيت سيفا أصحاب طرابلس ، أتى بنو سيفا وأحرقوا ونهبوا الشوف فأقسم كما قيل هكذا : «وحق زمزم والنبي المختار لعمرك (لأعمرك) يا دير بحجر عكار». وهكذا كان فإنه لما فاز على بني سيفا وحاصر قلعة الحصن وأخذها وهدمها ، جعل الجمال بالألوف تجلب الحجارة من عكار إلى دير القمر وبنى الدور القديمة في الدير ووزع في جدرانها من حجارة عكار الصفراء.

كان ابن معن يجمع إلى الحسنات سيئات فمن حسناته أنه كان يميل إلى عمران إماراته ويتسامح مع الأجانب حتى تكثر صلات الشاميين بهم للتجارة ، وكان عنده على الدوام عشرة آلاف جندي تحت السلاح ويستطيع أن يجند مثلها وقيل : إنه كان يستطيع أن يجند أربعين ألفا. وقد سئل لما كان في إيطاليا كم يقدر أن يجهز من العسكر فقال : كنت أجمع نيفا وعشرين ألفا ما عدا الذين يتأخرون في البلاد للمحافظة ، وكان يفضل على الأدباء والعلماء وكذلك كان يفعل خصومه بنو سيفا. أما سيئاته فكان مفرطا بأخذ الأموال من الناس ولا سيما بعد أن زار إيطاليا وتعلم منها البذخ حتى اشمأزت منه رعيته ، وقد بلغت جبايته تسعمائة ألف ليرة يعطي الدولة نحو ثلثها ويتمتع بالباقي. وكان نزوعا إلى العلى محافظا على صلواته مع الجماعة وعلى عاداته الإسلامية حتى في إيطاليا ، وبنى جامعا ومأذنة في البلدة التي نزلها ، ولما كان في الغرب عرض عليه ملك اسبانيا أن يدين بالنصرانية ويتولى مملكة أعظم من مملكته فاعتذر بلطف. ذكر هذا مؤرخه الخالدي إلا أن «المعلمة الإسلامية» تقول : إن الأمير فخر الدين لما فر إلى ليفورنا (١٠٢٢) واستقبله كوسموس الثاني الدوق العظيم باحتفال حافل لم يتحقق الأمل الذي كان عقده من العودة في الحال بجيش معاون من المسيحيين للقضاء على السلطة التركية في الشام. وعبثا حاول أن يظهر أن الدروز من نسل مسيحي اسمه الكونت دي درو وأنه هو أيضا من أبناء كودفري دي بوليون من أمراء الصليبيين. ولم يوفق أن يحمل المسيحيين على إعلان حرب صليبية جديدة. وربما كانت قواه إذا قيست بقوى ابن سيفا صاحب طرابلس

٢٥٢

متكافئة لأن الدولة كانت تعضد ابن سيفا سرا حتى لا يتعاظم نفوذ ابن معن ، ولكن شتان بين الرجلين في الغناء وبعد النظر.

فتن في الساحل :

وفي سنة (١٠٤٤) حارب الأمير عساف بن يوسف سيفا الأمير علي بن عساف وأحرق بلاد جبيل والمنيطرة وقتل من جماعة عساف كثيرون ، وكثرت الحكام والأحزاب في لبنان وظلموا الرعايا وأخذوا المال الأميري مرتين ، وقبضوا على رؤساء القرى وشددوا عليهم ليخبروا عن أرزاق بيت معن وبيت الخازن ، وفي السنة التالية باغت الأمير علي بن سيفا قرية أميون وأحرقها ، فجمع خاله الأمير عساف الرجال ودارت الحرب بينهما في أرض عرقة فانكسرت جماعة الأمير علي ، ثم أعاد هذا الكرة على خاله في عناز من بلاد الحصن فظفر به الأمير عساف وقتل من جماعته مقتلة كبيرة واشتد الضيق بالناس.

وفي سنة (١٠٤٦) قصد أحمد الشمالي اغا الانكشارية مقاتلة الأمير علي بن علم الدين لتأخره في أداء المال السلطاني ومعه متولي صفد وبيروت وطرابلس فانهزم قدامهم ، ورحل معه يمنية الغرب والجرد والمتن والشحار والشويفات بعيالهم ومواشيهم وكانوا نحو سبعة آلاف نفس فدخلوا كسروان ، وانهزم من قدامهم القيسية وكسروهم في مرحاتا ، ثم طردوهم من كسروان فساروا إلى عكار وسار عسكر الدولة على طريق الساحل ودخلوا طرابلس وخرجوا إلى نهر البارد فانهزموا من أمامهم ولحقوهم بأرض الجون فكسروهم وسبوا حريمهم وأخذوا مواشيهم ، ثم إن طروبه البدوي تداخل بالصلح بين الأمير عساف وابن أخته علي فرجع ابن علم الدين إلى بيروت. ولما حدث ذلك الاختلال في الساحل ظهر الأمير ملحم بن معن وحكم الشوف ، وجمع بيت الحرفوش سكمانهم وعربانهم لاسترجاع بعلبك فخرج إليهم نائب دمشق بعسكره ووقع بينهم الحرب فظفر النائب ببيت الحرفوش وقتل منهم مقتلة عظيمة. أي إن الحال لم تستتب في لبنان بهلاك الأمير فخر الدين المعني ، وقد جرت شؤون كثيرة من خراب وقتل وئشنق في السنين التي أعقبت قتله حتى آخر عهد مراد الرابع.

٢٥٣

وكان الوالي بدمشق سنة (١٠٤٦) درويش محمد باشا الشركسي ففتك بأهلها وتجاوز في ظلمهم الحد وفي آخر أيام (١٠٤٧) اجتمع العامة على القاضي واشتكوا من الظلم وبالغوا في التوسل ، فلما بلغه ركب وكان مخيما في الوادي الأخضر بدمشق وأتى مغضبا وسفك دم بعضهم ثم عزل وصار أمير الأمراء بطرابلس. وهذه القاعدة مما كانت تسير عليه الدولة في نقل الولاة فمن ترتضيه ويوافق مصلحتها تنقله إلى مكان آخر إذا قامت عليه الشكايات مهما عظمت وثبتت لديها ، كأن الولاية الأخرى ليست من ملكها ولا يهمها أمر أهلها ، وأن الوالي بمجرد نقله يغير أخلاقه.

إبراهيم الأول وسفاهته :

توفي مراد الرابع سنة (١٠٤٩) بعد أن حكم سبع عشرة سنة وكان من الشدة على جانب عظيم منهمكا في شهواته ولذاته ، قيل إنه قتل مائة ألف إنسان منهم خمسة وعشرون ألفا بنفسه وأمام عينيه ولكنه أمن على حدود الولايات الشرقية باستيلائه على بغداد ، وهو الذي قضى على فخر الدين المعني الثاني ، ولو لا ذلك لاستقل هذا بالشام وربما امتد حكمه إلى أبعد من ذلك من الأقطار والممالك ، ولم ترتح هذه الديار بعد مراد الرابع ، كما أنها لم ترتح على عهده فخلفه السلطان إبراهيم وكان خالعا ماجنا فسدت المملكة في أيامه بأخلاقها ومشخصاتها ، وكان أبدا في شاغل عن الأمة إلا بما كان من تحقيق شهواته ، وكان غريبا فيها. وقد عقد مراد بك في تاريخه «أبو الفاروق» فصلا في سلطنة النساء استغرق جزءا برمته نلخصه هنا ليتبين للقارئ كيف يكون حال مملكة سلطانها سخيف ضعيف.

ومما ذكر فيه استرسال السلطان أحمد في الشهوات حتى قضى في الثامنة والعشرين شهيد الغواني والكؤوس ، أما السلطان إبراهيم هذا فهو أعظم زير ابتلي بحب النساء حتى كان كل أسبوع يبني ببكر ويجرى له عرس وتقام الأفراح في قصره ، وكان كلما سمع هو أو والدته «كوسم والدة» أو أحد حاشيته وحملة غاشيته ووزراؤه وعماله بغانية حسناء يقدمونها لسلطانهم ، حتى عجز سلطان عن ملامسة النساء لكثرة إفراطه فجاء «جنجي خواجه» وكتب نسخ

٢٥٤

الأدوية والعقاقير النافعة في القوة حتى أصبحت المملكة تفاخر بأن سلطانها يستطيع أن يقترب من أربع وعشرين بكرا في الأربع والعشرين ساعة! وأصبح القول الفصل في القصر السلطاني للجواري والسراري ، وكان على نسبة اشتداد أعصاب السلطان يضعف عقله وهو لا عمل له إلا الأفراح والنساء والغناء والخلاعة ودخول الحمام واقتناء الجواري والحلي والزهور والأموال والطرائف ، وإصدار والأوامر بقتل الأنفس بمعنى وبلا معنى ، وأخذ يستريح إلى رؤية المناظر الفظيعة من القتل شأن قياصرة رومية في أواخر أيامهم.

وكان تقرر جعل النساء الرسميات أربعا ثم أبلغت والدة السلطان عددهن إلى ثمان نساء ، لأن نسل بني عثمان كاد ينقرض ، وأحبت كوسم والده تكثير نسلهم على هذه الصورة ، ولكل واحدة من تلك الجواري من الخدم والخادمات والوصيفات والندماء والنديمات والخازنات والملبسات عشرات وربما مئات ، تجبى وارادت الولايات العظيمة لتعطى إلى المقربين والمقربات ، والوظائف تباع بيع السلع بالمزاد ولا سيما على عهد الأغوات بكتاش اغا ومراد اغا ومصلح الدين اغا وأمثالهم ، ولم يبق أحد لا يرتشي من الصدر الأعظم فنازلا ، لأن السلطان يطلب من كل عامل عنده جعلا يليق بشأنه سلطانه ، حتى تعدت الحال في طلب الأموال إلى كبار التجار في الاستانة ، وأخذ رجال القصر ونساؤه يسلبون من الأمة ما يقدرون عليه ، واضطر كثير من التجار إلى الاختفاء وإغلاق حوانيتهم تخلصا من مطالب جماعة السلطان ، ولا تسل عن رواج سوق الحليّ والجواهر والعربات المرصعة والطسوت المحلاة والنعال المزينة بالأحجاز الكريمة والإسراف في استعمال الذهب واللؤلؤ والزبرجد وسائر المعادن النفيسة في الآنية والزينة والنقش فإنه مما لا تتصوره العقول.

وكانت واردات لواء (سنجاق) تعطى من قبل نفقة لنساء القصر فأصبحت أيالة الشام على طولها وعرضها يخصص ريعها وجبايتها للمرأة السابعة بحسب الأصول الحديثة على العهد الإبراهيمي. ولم يرض النساء أن تجبى لهن الأموال الولاة وبكوات الألوية ، بل كنّ يعين جباة من قبلهن يجبون باسمهن ريع الولاية أو اللواء. وقد كان الذي عهدت إليه جباية واردات الشام محمد اغا الذي اشتهر فيما بعد في التاريخ العثماني باسم محمد باشا الكوبرلي الكبير ،

٢٥٥

وهو ممن حالوا بتدبيرهم دون سقوط الدولة العثمانية. قال أبو الفاروق : ولا غرو فقد توجد الدرة النفيسة بين الكناسات والقمامات.

ولم يكتف السلطان بما كان يقدم له من النساء بل كان يطوف العاصمة وضواحيها ، فإذا رأى من أعجبته وتردد وليها في إرسالها يلقى جزاءه في الحال ، وبلغ السلطان مرة أن امرأة ايبشر مصطفى باشا في جهات سيواس على غاية من الجمال ، فأرسل إلى واردار علي باشا ثلاثين ألف ليرة ليبعث إليه بزوجة مصطفى باشا فنفر علي باشا من اقتراح سلطانه وأجاب بالرفض ، فقرر السلطان إهلاكه ، ولكن علي باشا رفع راية العصيان وجعل عالي الأناضول سافلها ، وقرر السلطان أن يأتي بزوجة ايبشر مصطفى باشا ويعريها ويجعلها في أحد الشوارع المهمة بين عمودين يربط إليهما رجلاها ويداها ويطلق للعامة والعسكر أن يلمسوها حتى تموت ، فلم يقنع السلطان أصحابه بالرجوع عن هذا العمل البشع إلا بعد اللتيا والتي.

وقرر هذا السلطان الأخرق يوما أن يقتل النصارى بأسرهم في مملكته فاحتال عليه شيخ الإسلام قائلا : إن في قتلهم نقص واردات السلطنة ، وإن مئتي ألف إنسان إذا قتلوا في العاصمة تخف الجباية لا محالة ، وبهذا استرجعوا من هذا المعتوه الفاجر إرادته المختلة وهكذا حتى خلع وقتل سنة (١٠٥٨) بعد سلطنة ثمان سنين وتسعة أشهر. وقد قتل عدة من رجاله وقتل الصدر الأعظم مرة لأنه بعث في طلبه لتدارك حطب للقصر فقال له الوزير : إن هذا الطلب ليس من الأمور المهمة التي يفكر فيها من يفكر في أمور السلطنة فمثّل به في الحال ولم يجرأ بعدها على تولي الصدارة إلا من كان على جانب من الرياء والنفاق ليرضي السلطان.

وذكر مؤرخو الترك أن سلطان زاده محمد باشا الذي تولى الصدارة على عهد السلطان إبراهيم ثلاث سنين خرب خلالها في جسم الدولة ما لا يقع مثله في ثلاثة قرون ، وبلغ من ريائه مع سلطانه ما لم يوفق إليه أحد ، وجاءه أمر من السلطان ذات يوم يقول فيه : إن الخزينة نضبت أموالها ولا بد أن يسترجع ما أهداه أجداده السلاطين إلى حرمي مكة والمدينة من المجوهرات ليسد العجز فقال الصدر الأعظم على دهائه وريائه وهو يقرأ هذه الإرادة السلطانية :

٢٥٦

لقد سقطت الدولة إلى هذه الحالة بفيلق من الجواري الناقصات من بنات الروس وبولونيا والمجر وفرنسا.

ومما ذكروه في باب إسراف ذاك الدور أنه كان عند دفتردار محمد باشا ٤٧ طاهيا و ٧ رؤساء طهاة ولكل طاه خدامه وخيامه وأشياؤه وبغاله وجماله حاضرة على الدوام وفي بيت مؤنته من الأواني المرصعة والمذهبة والمفضضة وغيرها ما يبلغ مجموع ثمنه ثروة كبرى. وهكذا أسرف السلطان ورجاله في كل شيء وفسدت الأخلاق ولا من يجسر أن يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر حتى قال أبو الفاروق : إن معظم كبراء الأمة ومن كان لهم علاقة بقصر السلطان إبراهيم كانوا يتقربون إليه بتقديم الأبكار الحسان فرأوا القيادة والدياثة أحسن شافع لهم عنده للترقي والاغتناء.

فإذا كان على هذا النحو حال دار الملك وحال قدوة رجال الأمة فيها ، فما الحال بالولايات ولا سيما البعيدة كهذا القطر ، وكان ولاته كولاة غيره من جماعة القصر ينصب أكثرهم بشفاعة النساء والقوادين والقوادات. على هذا المثال كان أغوات القصر الأغبياء ينصبون الولاة ولا يتركون لهم مجالا ليقفوا على حال البلد الذي يقضي عليهم إدارته ، بل يبدلونهم بغيرهم بعد مدة وجيزة ويبعثون بآخر من هذا الطراز. كل ذلك من مقتضيات الجهل والطمع والشفاعة ، فاقتضى أن يكون الوالي من صنائع بعض العظيمات أو العظماء ، وكثيرا ما يكون ما جمعه من المال في ولايته داعيا إلى توجيه النظر اليه فيقتل لتصادر أمواله ، ولطالما كان قتل العمال مما يروق السلطان لأنه يقبض على أكثر موجودهم ، وكم من مرة كانت امرأة أحدهم أو قصره البديع في المضيق في فروق سببا في الغضب عليه والحسد له ، حتى يورده الوزير الأكبر أو غيره حتفه ليتمتع بعده بزوجته أو ليسكن قصره أو ينال غير ذلك.

وذكر أبو الفاروق عند كلامه على مصطفى سلطان وكيف تجرد في قصره عن العالم وحصر وكده في شهواته أن آل عثمان من القديم تفردوا بغلبة شهواتهم عليهم ، وقد وقع عارض لمراد الثالث فأخذ أهل القصر السلطاني يتعلمون أدوية الباه من الشرق والغرب وهو يسيء استعمالها.

٢٥٧

فتنة وال أخرق في حلب :

ومن الأحداث في أيام السلطان إبراهيم فتنة ثار وقدها بين الانكشارية ورؤسائهم في حلب ، كان السبب فيها أن الانكشارية طلبوا من رؤسائهم أن يعطوهم غروشا بدلا من الأقجات ، وطلبوا عزل وكيل رئيسهم وكاتبه ، فقتل منهم جملة ، ثم وقعت بينهم وبين رجال الصدر الأعظم فتنة قتل فيها نحو خمسين رجلا من الطرفين وانتهت القضية بقتل آغتهم ووكيله وكاتبه. ومنها ما رواه نعيما في حوادث سنة (١٠٥٤) قال : إنه كان في بر حلب رجل اسمه الأمير عساف يتولى إمارة البادية ، وقد أخذ يسلب أرباب القرى أموالهم وسلط أشقياء العربان عليهم ، فأنشأوا يقطعون السابلة حتى عم شرهم وصعب استئصال شأفتهم ، فدبر والي حلب إبراهيم باشا تدبيرا أخرق وذلك بأن دعاه إلى مأدبة ليغتاله في خلالها ، وعلم الوالي أن الرجل لا يوافي حلب فارتأى أن يأدب المأدبة على خمس ساعات من المدينة ، فخرج الوالي في جنده وخرج عامة أهل البلد لابسين أحسن بزة ، راكبين الخيول المطهمة ، حتى وافوا محل الضيافة التي أقامها الوالي لأمير البر ، وكان الوالي أوعز إلى جنده أن يطلقوا النار على الأمير عند ما يقترب منه لتقبيل الركاب على العادة فأتمروا بأمره ، ولكن الأمير كان يلبس ثلاث دروع فلم يؤثر فيه سلاحهم وركب فرسه من ساعته ، وكان معه زهاء ستة آلاف فارس مدججين بالرماح ، فحملوا على جند الوالي حملة منكرة وقتلوا منهم جماعة ، وأحاطوا بالأهالي فسلبوهم ثيابهم وخيولهم ، ولم يكونوا أقل من خمسة آلاف وقد جرح أكثرهم ، ورجع الوالي إلى حلب لم يظفر بمبتغاه فأثرت هذه الحادثة ، وأخذ الأمير عساف يعادي الدولة العثمانية علنا وطمعت البادية فأخذوا يطيلون أيدي اعتدائهم أكثر من قبل فاضطرت الدولة إلى تنحية واليها الفاسد الرأي السيء التدبير ، وبذل الوالي اللاحق وجماعته أنواع اللطف مع الأمير عساف حتى أعادوه إلى حظيرة الطاعة للسلطنة في الجملة ، وطفق يهادي عمال السلطنة بالخيول ويرسل إلى الحكومة جزءا من الجباية. وما كان يألفه بعض العمال من إعطاء الأمان للخوارج أو غيرهم ثم اغتيالهم في مائدة أو إدخال السم عليهم أو صلبهم علنا قد أدى إلى رفع ثقة الناس من عهودهم ومواثيقهم. وغلطة

٢٥٨

واحدة ارتكبها والي حلب الأحمق أدت إلى ما أدت إليه من الفساد والبلبلة. قال الشهابي في حوادث (١٠٥٤) أنه عزل محمد باشا الأرناؤوط عن إيالة طرابلس وتولاها حسن باشا وكانت الناس لكثرة المظالم تبيع كل ثلاثة شنابل قمح بقرش ، ثم أعيد إلى طرابلس محمد باشا الأرناؤوط وأجرى المظالم على الرعايا حتى خربت قرى كثيرة ورحل أهلها.

محمد الرابع وصدارة كوبرلي :

بويع محمد الرابع بالسلطنة سنة (١٠٥٨) بعد السلطان إبراهيم فطال عهده إلى سنة (١٠٩٩) أي إحدى وأربعين سنة ، وإذ كان طفلا عهدت والدته ، بعد تغيير كثير من الصدور ، بالصدارة العظمى إلى رجل عاقل من رجال الدولة وهو محمد باشا كوبرلي وكان أميا إلا أنه أتي بأعمال وطدت دعائم الملك بعد تزعزعه في عهد السلطان السابق بسلطة النساء ، واشترط في تولي الصدارة أن يكون حرا في عمله لا ينازعه منازع ، ولا تقبل فيه وشاية ولا يعين للمناصب إلا من يريد ، وقتل ستة وثلاثين ألف إنسان حتى ألقى الرهبة في النفوس ، وأمن قيام الخوارج والنزاع إلى الثورة من الزعماء وأرباب الدعارة والجند والعصاة ، وخلفه ابنه أحمد باشا كوبرلي الذي كان حاكم دمشق وقاتل الدروز وانتصر عليهم. وكان على غاية من العلم والعمل. ثم خلفه في الصدارة قره مصطفى باشا فأخرج الصدارة عن طورها لأنه كان جماعا للمال له وعنده ألوف من الخيل وكلاب الصيد والبزاة و ١٥٠٠ حصان و ١٥٠٠ سرية و ٧٠٠ خصي.

وخلفه مصطفى زاده من أسرة كوبرلي أيضا وكان من المضاء والشجاعة وحسن الإدارة والاستقامة على جانب عظيم ، واشتد على المزورين والمرتشين وقضاة السوء وملأ خزانة الدولة بأموال اللصوص. وكان يقتل من يتناول التبغ من قبل ، فجعل تجارته حرة على أن توضع عليه رسوم فاحشة ، وقضى أن لا يؤخذ من الرعايا مسلمين كانوا أم مسيحيين غير المقرر من الجزى والخراج ، وقسم المكلفين إلى ثلاثة أقسام يدفع الأول منهم دوكا واحدة ، والثاني دوكا اثنين ، والثالث أربع دوكات ، وهذا هو النظام الجديد الذي بقي بعد هذا الوزير

٢٥٩

زمنا ، وخلفه صدر آخر كان ابن أخت الكوبرلي الأول اسمه حسين عموجه زاده وكان على قدم أجداده بعد نظر وحسن إدارة ، فصح في هذه الأسرة ما قاله أحد مؤرخي الفرنجة من أن الوزير الأول منهم لقب بالكبير أو القاسي والثاني بالسياسي والثالث بالصالح والرابع بالحكيم. ولكن تأثيرات هؤلاء العظماء من الصدور لم تكن إلا في الشام لبعد المسافة عن العاصمة ، ولأن طريق الالتزام في جباية الأموال كانت سقيمة تدعو إلى إضعاف المملكة ، ولأن الوالي كانت له لا مركزية واسعة يعمل بقريحته على الأغلب.

وفي تاريخ فلسطين أن حكومة سورية في القرن الثامن عشر كانت حكومة لا مركزية أي إقطاعات أو حكومة أمراء ومشايخ يقوم كل منهم بحكم منطقته. فكان مشايخ أبو غوش أو البراغثة يحكمون بني مالك وبني حسن وبني زيد وبني مرة وبني سالم ، فإذا اختلف اثنان كانا يتقاضيان عند الشيخ ويقبلان حكمه لا محالة ، ومن خالف العادات أو أخلّ بتقاليدهم يسجن في سجنهم ، وكان الشيخ أو الأمير يحبي الضرائب ويقدم المقطوع عليه للوالي ويأخذ الزيادة ، وإذا حدثت فتنة أو خيف من وقوعها كان يطلب الوالي المعاونة من أمراء منطقته فيخرجون بأنفسهم ومن ورائهم رجالهم وفرسانهم. وكثيرا ما كان يستبد هؤلاء المشايخ بالفلاحين ابتغاء مرضاة الأمراء والولاة فأدى هذا النظام إلى انتشار الفوضى واختلال الأمن وسبب للحكومة خسرانا كبيرا في الأموال والرجال.

ولقد حاول السلطان محمد الرابع لما كبر وترعرع أن يقتل شقيقيه سليمان وأحمد فمنعته والدته من قتلهما وحال بينه وبين القتل المفتي الأعظم ، موردا له كلام الله مخوفا له من عذابه ، وبذلك انقضى دور قتل أبناء ملوك آل عثمان وتسلطن شقيقا محمد الرابع بعده. ووقعت في سلطنة أحمد الرابع في الشام كوائن كثيرة منها الوقعة التي حدثت سنة (١٦٠٠) م في وادي القرن من عمل لبنان الشرقي ، وذلك أن ابن علم الدين أغرى ابشير باشا والي إيالة الشام بالزحف على ابن معن حاكم لبنان فالتقت عساكر الشام والمعنية عند وادي القرن وكانت الدائرة على عسكر الشام. ويقول مؤرخو الترك : بل كانت على عسكر ابن معن وكان اسم ابن معن الأمير ملحم ولي كما قال

٢٦٠