خطط الشام - ج ٢

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٢

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٠

المتوكل على الله وأرسله إلى مكان عسر يقال له الست أبراج والمظنون أنه كان هناك آخر العهد به فقتله وأشاع بين الملإ أنه مات ، ولا يستكثر ذلك من ملك قتل أباه لأجل الملك فضلا عن إخوته وآله. ويقول «نامق كمال» : إن الخليفة العباسي قد تخلى لال عثمان عن حقه في الخلافة في جامع أياصوفيا علنا. وفي رواية أن الخليفة بقي إلى زمن السلطان سليمان وأنه أطلق من سجنه ووسع عليه وقال بعضهم : إنه أذن له بالسفر إلى مصر فسافر اليها ومات بها.

وروى المؤرخون أن السلطان سليما كان يريد أن يعمل عملا نافعا للأمة بأسرها. كان ينوي أن يجعل اللغة العربية لغة الدولة الرسمية بدلا من التركية فعاجلته المنية قبل إتمام هذا العمل الجليل. والغالب أنه نشأ له هذا الفكر يوم افتتح مصر والشام وخطب له في الحرمين الشريفين فسمي فاتح ممالك العرب ، فرأى أن العرب في مملكته أصبحوا قوة لا يستهان بها ، وأن الترك هم عنصر الدولة الأصلي لا يشق عليهم أن يستعربوا دع سائر العناصر من البشناق والأرناءوط والكرد واللاز والشركس والكرج. ولو وفق السلطان سليم إلى إنفاذ هذه الأمنية لخلصت الدولة العثمانية في القرون التالية من مشاكل عظيمة ، ودخلت في جملة العرب عناصر كثيرة مهمة ، ولزاد انتشار اللغة العربية فأصبحت الاستانة موطنا لها كما كانت بغداد ودمشق والقاهرة وقرطبة وغرناطة.

خارجي خان أولا وثانيا :

أصبحت الشام بالفتح العثماني آمنة عزوات الشمال والشرق والجنوب ، وصارت بين أملاك الدولة الفاتحة فأمنت من هذه الوجهة ولكن أصبح أعداؤها في داخلها ومن أهل دولتها. فتحت الشام ومصر في وقعتين مهمتين وما عداهما فمناوشات لا يؤبه لها. فلما رحلت القوة وخلا الجولجان بردي الغزالي نائب دمشق حدثته نفسه بالخروج عن الطاعة وصعب على طبعه إلا أن يخون سيده الثاني كما خان سيده الأول :

ومن يتعود عادة ينجذب لها

على الكره منه والعوائد أملك

ففاوض بعض أمراء لبنان والعربان فوعدوه أن يمالئوه على عمله ، ودعا لنفسه بالسلطنة في دمشق وبايعه الناس على ذلك طوعا أو كرها ، ووافقه على

٢٢١

عصيانه الأعراب والمماليك ولقب نفسه بالملك الأشرف صاحب الفتوحات ، وزينت له دمشق ثلاثة أيام وأوقدت له الشموع على الدكاكين ، وقبل له الأمراء الأرض وقد جمع العسكر الكثير ، وخطب باسمه على منابر دمشق وضربت السكة باسمه على الذهب والفضة. وأرسل إلى أمير الأمراء بمصر ليقوم معه لنزع حكم العثمانيين عن مصر والشام فنمّ عليه للسلطان ، فقام الغزالي وحده مدفوعا بتنشيط زعانف السكان والمماليك والعربان والأكراد أتباع كل ناعق ، وكثر الملتفون عليه حتى تسحب المماليك إليه من مصر وكثروا سواده. وذكروا أن من اجتمع عليه من الجند كان خمسة عشر ألفا من المماليك والتركمان وثمانية آلاف ممن يضربون البنادق.

ولما بلغ قراجه باشا والي حلب موت السلطان سليم كان بعسكره في حيلان فرجع إلى حلب وحصنها واستخدم خلقا كل إنسان بثلاثمائة درهم ، وأنفق عليهم من مال السلطان شهرين ، وأعطى الانكشارية كل واحد ألفين والاصباهية كل واحد ألفا زيادة على الراتب ، وخرج إلى قرية سرمين وقرية داريخ ونهبهما ، فخرج اليه أمير شيزر من جهة الغزالي فأخذ منه جميع المكسب وغنم منه جماعة وجهز رؤوسهم إلى دمشق ، ودخل نائب حلب إليها مكسورا ووصل عسكر الغزالي إلى الأنصاري وخرج إليه عسكر حلب. فأرسلت الدولة على الغزالي فرهاد باشا في ثمانية آلاف انكشاري عدا من انضم إليه من قوى الأناضول وكان معهم ثمانية عشر مدفعا كبيرا.

سار الغزالي إلى حلب ليستولي عليها فحاصرها مدة ولم يقدر عليها لصدق أهلها في قتاله ، وداهمه الجيش العثماني بما أتاه من المدد فانكسر ، وجاء إلى حماة فتبعه العسكر العثماني واقتتلوا معه فهرب منهم ، وقصد التوجه إلى دمشق وخرّب في طريقه قناطر الرستن على العاصي فتبعوه فكانت بين الفريقين معركة دارت خارج دمشق قتل فيها نحو عشرة آلاف إنسان وقيل أكثر من ذلك ، بينهم عربان ومماليك وجماعة من عوام دمشق وفيهم أطفال وصغار من أهل الضياع وغيرهم ممن حضر القتال. قال ابن إياس : وكانت هذه الوقعة تقرب من وقعة تيمور لنك لما ملك الشام وجرى منه ما جرى من قتل ونهب وسبي وحرق ضياع وما أبقوا في ذلك ممكنا. وليس الخبر كالعيان.

٢٢٢

ثم نودي في دمشق بالأمان سنة (٩٢٧) وقد خرب نحو ثلثها من ضياع وحارات وأسواق وبيوت ، وأصاب حلب وحماة وحمص من خراب القرى وهلاك الأنفس وذهاب الأموال شيء كثير.

كان الغزالي لما جاء دمشق مهزوما من الجيش العثماني قتل خمسة آلاف انكشاري جعلهم السلطان سليم حامية عند ما فتحها ، وذلك مخافة أن يلتحقوا بجيش فرهاد باشا فأولم لهم وليمة وقتلهم على بكرة أبيهم شر قتلة. ثم دارت الدائرة عليه وتشتت جيشه فقتله خازن أمواله وجاء برأسه إلى القائد التركي ، فذهب ودولته الموهومة لم ينل الشام منه إلا الضغط والشدة بعدها.

قال المقار : إن الغزالي استولى على دمشق وطرابلس وحمص وحماة وحلب وخطب له بالجامع الأموي بأنه سلطان الحرمين الشريفين ولقب بالأشرف ، وأن الدولة أرسلت عليه جيشا من ثلاثين ألفا وأربعة آلاف انكشاري ومعهم مائة وثمانون عربة ، فالتقى عسكره وعسكرها عند قرية الدوير ، وتواصل العسكر الرومي وركب السلطان من المصطبة ببقية عسكره فما كان لحظة حتى انكسر وقطع رأسه ، ثم تلاحق العسكر الرومي ببقية العسكر الهاربين إلى الصالحية ونواحي دمشق وارتجف الناس رجفة عظيمة وقتل من شباب الصالحية نحو الخمسين ومن كل حارة نحو المائة وكذا من القرى ، وقيل : إن عدد القتلى ٧٠٧٠ ، وهجم العسكر على الصالحية والأحياء والقرى ، فكسروا الأبواب وحواصلها وبيوتها ودكاكينها وغير ذلك وآذوا النساء فضلا عن الرجال فلم يحترموا صوفيا ولا فقيها ولا كبيرا ، وكانت النساء قد اجتمعن بجامع الحنابلة ومدرسة أبي عمر وغيرهما فهجموا عليهن وعروهن وأخذوا بعض نساء وجوار وعبيد وصبيان ، وجهز الباشا رأس الغزالي ومعه نحو ألف أذن من المقتولين إلى السلطان سليمان. وبعد هذه الوقعة اقتسم العثمانيون نيابات الشام فجعل إياس باشا في دمشق ، وفرحات بك في طرابلس ، وقره موسى في غزة. أما فرهاد باشا فاتح الشام ثانية ومنقذها من الغزالي فقد ضج الناس من شدته وبأسه وتمثيله بالبريء والمجرم على السواء.

٢٢٣

طبيعة الدولة العثمانية :

بقي أرباب المقاطعات في الدولة العثمانية كما كانوا في دولة المماليك. يضمنون الخراج مقابل أموال يتعهدون بها ، ويعرقون اللحم والعظم بعد ذلك لحسابهم ، مثل أمير عرب الشام مدلج بن ظاهر بن آل جبار وكانت منازل قومه في سلمية وعانة والحديثة ، والأمير فخر الدين المعني الأول حاكم الشوف ، وجمال الدين الأرسلاني حاكم الغرب ، وبني شهاب في وادي التيم ، وبني الحرفوش في بعلبك ، وبني ساعد أمراء البر وحوران وعجلون وغيرهم في غيرها ، وكلهم أشبه بأمراء صغار يخضعون الخضوع التام لحكام المدن ، والمقتدر منهم الذي كان على صلات حسنة مع الوالي التركي القريب من عمله ، ومن يجعل له وكيلا يرجع إليه في أعماله في دار السلطنة ، وإذا غضب الوالي على الأمير المتغلب يرسل عليه جيشا من الانكشارية كما فعل والي دمشق سنة (٩٣٠) مع أمير الشوف ، فيخرّب العسكر قراه ويستصفي أمواله ويأسر أهله ورجاله ويسبي نساءه ، فعلوا ذلك مرات في لبنان والبقاع وبعلبك ووادي التيم وغيرها ، وينشأ هذا الغضب من تأخرهم عن تأدية الخراج ، أما المظالم التي تنزل بالناس فحدث ما شئت أن تحدث عنها.

كان من قواعد الدولة العثمانية إذا فتحت مصرا أن تولي أمورها الكبرى لولاتها وقضاتها والصغرى لأبناء البلد المفتوح ، وتلقي حبلها على غاربها لا تهتم لتنظيمها اهتمامها لفتح أراض جديدة ، وإذ كان الولاة يبتاعون مناصبهم على الأغلب بالمزاد في دار الملك ، كان المزايدون في الأكثر من الساقطين في أخلاقهم ، لا يتأخرون عن ارتكاب كل محرم ليسلبوا الرعية ما أمكن فيملأوا خزائنهم وخزائن من حملوهم على رقاب الأمة. وساعد على إيغال العمال في الفساد قلة المواصلات ، وبعد دار السلطنة عن أكثر الولايات ، فبين دمشق والاستانة مثلا ١١٠٠ كيلومترا و ٣٨٦ ساعة ، وإن قدّر لأرباب الظلامات فوصلوا العاصمة رغم هذه المصاعب لبث شكواهم إلى السلطان ، كان بعض أصحاب الشأن يحولون دون ذلك ، فكانت الشام كله يستأثر بها وال أو واليان يحكمان فيها بحسب مزاجهما بدون مراقب إلا من ذمتهما ، فإذا

٢٢٤

كانا ممن تجردا منها فهناك البؤس والنحس ، وضياع الحقوق وفساد النظام.

قال جودت في تاريخه : إن الدولة العلية لما انتقلت من دور البداوة إلى دور الحضارة لم يتخذ رجالها الأسباب اللازمة لهذا الانتقال ، وحصروا أوقاتهم في حظوظ أنفسهم وشهواتهم ، يقيمون في العاصمة القصور الفخمة ، ويفرشونها بأنواع الأثاث والرياش مما لا يتناسب مع رواتبهم فاضطروا إلى الارتشاء وبيع المناصب بالمال وتلزم الأقاليم وإقطاعها بالأثمان الفاحشة، فضاق ذرع الأهلين ، واضطر كثير من أهل الذمة أن يهجروا الأرض العثمانية إلى الخارج ، وترك غيرهم القرى وجاء الاستانة فرارا من الظلم فلم يبق مكان في الاستانة ، وتلاصقت الدور وتضايقت أنفاس الناس وكثر الحريق والأوبئة ، وصعب تدارك ما يلزم هذه المدينة الضخمة من الحبوب فأصبحت الحكومة تأتي بها من القاصية ، والتجارة ليست من شأن الحكومة اه.

من أمثال الترك السمكة تفسد من رأسها ، وحقيقة أن فساد الولايات كان ينبعث من العاصمة أيام كان يقبض فيها على زمام الأحكام غالبا جهلاء ظلام وصموا بسلب الناس بكل حيلة ، حتى ينعموا بما يجمعون في قصورهم ومصايفهم على ضفاف الخليج والمضيق في فروق. وإذا صادفت العناية أن تولى الصدارة رجال عظام على شيء من حسن الإدارة وقوة الإرادة ، فإن رئاسة النظار كثيرا ما تولاها في السلطنة العثمانية الندماء والسخفاء بل الطباخون والطهالون والمزينون والبساتنة وغيرهم من المقربين من نساء القصر الملوكي ، أو الزنوج الخصيان الذين كانوا يولون ويعزلون كما يشاؤون ويشاء ضيق عقولهم.

ولا عجب في حكومة هذا شأن نصب الرئيس فيها إذا كان الوزراء والعمال على هذا النحو ، فلطالما ولي المشيخة الإسلامية في الترك أغبياء أدنياء في منشئهم ومسلكهم ممن ليس لهم من العلم الديني إلا قشوره وشارة أهله وعلى نسبة وسائط بعضهم وكثرة ما يعرف من المقربين من السلاطين كان ارتقاء أحدهم إلى المناصب العليا ، وهذه الطبقة لا تقرب إلا من كانوا على شاكلتها من الجهل والفساد. ومثل هؤلاء الرجال إذا كان لهم قوة يستندون

٢٢٥

إليها وهي جيش الانكشارية فهناك الخراب بلفظه ومعناه. فإن هذا الجيش الذي قدم للدولة لأول أمره خدمات جلى وفتحت به الفتوحات عاد فمحق باختلاله واعتدائه على الرعايا كل حسنة سلفت له.

ولئن خلف السلطان سليما ابنه السلطان سليمان القانوني وهو العاشر من ملوك آل عثمان سنة (٩٢٦) وكان على جانب من العقل وحب القانون ، إلا أن الشام أصبحت في أيامه الطويلة التي دامت ٤٨ سنة في معزل لأن السلطان مشغول بفتوحاته حارب اثنتي عشرة مرة وخرج في أكثرها ظافرا ، فلا يهمه كأكثر أجداده وأحفاده من كل ما يفتح إلا أن تضرب السكة وتقام الخطبة باسمه وتجبى الجبايات ولا يتأخر الولاة عن إنفاذها إلى دار الملك، فكانت الشام جزءا صغيرا بالنسبة لضخامة ملكه ، فلم ينلها منه شيء من العدل والإشراف ينسيها ما لاقته في القرن السالف من التقلقل والانحلال.

وكان السلطان سليمان بطاشا كأبيه ولكن لم يشتهر شهرته ، هاج مرة أهل حلب في أوائل حكمه وقتلوا في الجامع القاضي والمفتي فصدرت إرادته السنية بقتل جميع أهل حلب لو لا أن كان في الصدارة إذ ذاك رجل عاقل اسمه إبراهيم باشا ، فألغى هذا الأمر البربري واكتفى بقتل زعماء الثورة. وإبراهيم باشا كان على جانب من الأخلاق الحسنة والذكاء تولى الصدارة من سنة (٩٢٩ ـ ٩٤٢) اي ١٧ سنة وقام بإصلاحات مهمة ثم قتله السلطان وندم على قتله ، ولا عجب إذا استسهل سليمان القتل فقد قتل ابنه الأكبر مصطفى وحفيده وابنه با يزيد وأولاده الخمسة على أفظع صورة.

كوائن داخلية وأمراء المقاطعات :

ومن الأحداث في الشام بعد فتنة الغزالي ما وقع في سنة (٩٢٧) من ثورة جماعة من عربان دمشق على النائب اياس باشا ، خرج إليهم فانكسر وجرح ورد إلى دمشق وهو مكسور وقتل من عساكر دمشق كثير ومن عربان نابلس أيضا ، وكانت فتنة بدمشق. وفي سنة (٩٢٨) كان مقتل حسن وحسين أولاد الأمير عساف في بيروت ، وذلك لما كان من الاختلاف بينهما وبين أخيهما الأمير قائدبيه على الحكم فتوسط بينهما حتى طلبا الصلح ونزلا على أخيهما قائد بيه

٢٢٦

فغدر بهما وقتلهما فحكم قائد بيه جبل كسروان حتى مات سنة (٩٣٠) وخلفه الأمير منصور ابن أخي الأمير حسن وامتد حكمه إلى عكار. وكانت طرابلس بيد النواب يستأجرها محمد أغا شعيب من أهل عرقة ويستأجر الأمير منصور جبيل والبترون وجبة بشرة والكورة والزاوية والضنية. وفي سنة (٩٣٠) جهز والي دمشق خرم باشا حملة لقتال الدروز في الشوف فانتصر عليهم وأحرق قرية الباروك وثلاثا وأربعين قرية ، وأرسل إلى دمشق أربعة أحمال من رؤوسهم فعلقت على القلعة ورجع ومعه مجلدات من كتب الدروز ، ثم أرسل أربعة أحمال من رؤوسهم وأحرق نحو ثلاثين قرية ونهب قرية البرج وسبى نحو ٣٦٠ من النساء والأطفال وغنم ما لا يحصى من البقر والجمال والغنم وغير ذلك.

وفي سنة (٩٣٥) وقع قتال بين أولاد شعيب وأولاد سيفا أمير التركمان وقتل علي الشعيبي في عرقة وتولى أولاد سيفا عكار ، ثم قتلوا محمد آغا شعيب حاكم طرابلس قدام القاضي فأعطاهم القاضي فتوى بأنهم أبرياء من دمه وأنه هو ألزمهم بذلك. وفي سنة (٩٤٠) وقعت فتنة أهلية في العاقورة وجبة المنيطرة في لبنان نشأت من خصام بين مالك اليمني وهاشم العجمي من مشايخ العاقورة ، وكثرت الدسائس بين بني الحرفوش أمراء بعلبك وآل سيفا حكام طرابلس ، وأخذ أبناء العم يقتلون أولاد عمهم للاستئثار بالإمارة ، وخربت بعض تلك الديار ومن القرى ما نزح سكانه عنه. قال الشهابي : وكبر قدر بني حبيش عند ابن سيفا وصاروا متصرفين في تدبير حكمه وبقيت العاقورة خرابا سبع سنين لم يقطن فيها أحد. ثم إن القيسية سكنوا في طرابلس واستحصل اليمنية أمرا من نائب دمشق ورجعوا فبنوا العاقورة ثانية وفي سنة (٩٥١) توفي الأمير فخر الدين بن عثمان بن معن الذي حكم من حدود يافا إلى طرابلس وبنى بنايات وقلاعا عظيمة واستراح الناس في حكمه وأطاعته العرب وخلفه ولده الأمير قرقماز ، وبعد وفاة فخر الدين امتد حكم الأمير منصور بن عساف من نهر الكلب ببيروت إلى حدود حمص وحماة وقوي بماله ورجاله.

٢٢٧

مهلك السلطان سليمان وتولي سليم السكّير :

توفي سليمان القانوني سنة (٩٧٤) ولا شأن للشام في عهده إلا أن تظهر شعورها بأخبار انتصاراته وغاراته ، وفتح قلاعه ومعاقله التي كان يملأها بجند الانكشارية ولكي يكون له جيش دائم على استعداد للحرب كل ساعة كان يقتضي له من النفقات الباهظة ما تنوء به قوة الرعايا ، وكان أهل الإسلام يودون بعد تكبير رقعة الملك في آسيا أن تصح إرادة الدولة على فتح فارس وقد بدت أمارات الهرم فيها فتتصل بالهند ، وذلك خير من أن تفتح المجر وتحارب امبراطور ألمانيا وتؤلب عليها دول أوربا. ذكر ضيا باشا أن الأتراك بددوا شملهم في الحروب والقلاع والأرجاء البعيدة وجعلوا أنفسهم في أوربا وراء سور من المرابطين يقلي علمهم وتربيتهم يوما فيوما ، وفيه أمم من الخرواتيين والبلغار والروم لم تختر ملة الإسلام ، وفي آسيا العرب والأكراد والزيدية والشيعة نشأوا وكبروا ببذر الفساد الذي بذره الشاه إسماعيل ، فكان الأولون خصماء للإسلام والآخرون خصوم الأتراك ، كانت مناداتهم بنصر السلطان من الألسن لا من القلوب اه.

خلف السلطان سليمان ابنه سليم الثاني ، وهذا لم يذكر اسمه في الشام إلا على منابرها فقط لأنه كان شريبا خميرا حتى لقب بسليم السكير وله من أعمال الخلاعة ما يخجل منه ، ولم يخرج من الاستانة للغزاة ، وهو أول ملك من آل عثمان تخلى عن الحرب بنفسه ، ومات على سريره في قصره ، على حين كان أجداده يموتون في الحرب وفي طريق الغزو والفتح. وفي أيام سليم الثاني فتحت قبرس وكانت للبنادقة وهلك وأسر من أهلها نحو ثلاثمائة ألف إنسان في بعض الروايات.

هلك سليم الثاني سنة (٩٨٢) بعد أن حكم ثماني سنين وستة أشهر وخنقوا أولاده الخمسة يوم دفنه على ما جرت بذلك عوائدهم القبيحة. وفي أيامه جاء أمثال محمد الباشا الصقللي من الصدور العظام ، الذي تدارك بعمله الدولة من السقوط بما قام به من الإصلاحات ، وأهمها إثخانه في العصاة وأرباب الدعارة ، وجاء غيره من الرجال الذين يعدهم الأتراك من العظام. ولكن الشام لم تر

٢٢٨

طلعة هذا الملك كما أنها لم تشهد من والده من قبل شيئا من خطط الإصلاح ولا من القوانين النافعة ، ولا شاهدتهم أو وكلاءهم يشرفون على الشام ليرفعوا الضيم عن أهله ، وفي عهده (٩٨٠) وزع القشلق (أي العساكر المشتية) على الشام ونهب عسكر الدولة لبنان وما إليه وسلبوا سائمته وأسرفوا في الظلم ، حتى كادت الناس تسأل الموت لنفوسها ، وأقفرت في لبنان قرى كثيرة وفي الدر المنظوم أنه قتل من الموارنة في تلك المعمعة نحو ثلاثين ألفا (كذا) عدا الذين قتلوا في ليماسول في جزيرة قبرس حين حاصرها الأتراك وفتحت سنة (٩٧٨).

عهد السلطان مراد الثالث وحملات على أرباب الدعارة :

وفي سنة (٩٨٢) تولى الملك مراد الثالث فقتل إخوته الأربعة وكانت همته مصروفة إلى توسيع حدود مملكته أيضا وفي أيامه (٩٩١) وجه عسكرا إلى لبنان لحرب الموارنة للشكاوى التي قدمت إليه من طائفة الروم في سواحل طرابلس بأنهم أخربوا تلك الكور. وفي سنة (٩٩٣) ولى السلطان خسرو باشا إيالة الشام وجاء دمشق وتخاصم مع محمد علي باشا الوند الوالي السابق مدة شهر ، ثم استقرت الحال على تولية علي باشا وانفصل خسرو باشا ، وكانت مدة ولايته سبعة أشهر فعزل ثم خلفه جامورجى محمد باشا وبقي في الولاية أربعة أشهر ثم خلفه علي باشا مرة ثانية وبقي واليا أربعة أشهر. وفيها سرقت الخزينة السلطانية في جون عكار في طريقها من مصر إلى الاستانة فوجهت الدولة إبراهيم باشا وضربت على أيدي المعتدين ، وسار جعفر باشا حاكم طرابلس وأحرق إقليم عكار ، وتقدمت الشكايات من حاكم طرابلس على الأمير محمد بن عساف وعلى أمراء الدروز بأنهم هم الذين سلبوا الخزينة ، فسار إليهم إبراهيم باشا ولما وصل إلى عين صوفر حضر إليه عقال الدروز فغدر بهم وقتل منهم نحو ستمائة رجل. ويقول كامل باشا : إن إبراهيم باشا لما جاء من مصر إلى الشام كان في عشرين ألف جندي ودعا أمراء الدروز إلى المعسكر فأبى ابن معن أن يجيب الدعوة لأن والي دمشق مصطفى باشا كان استدعى أباه وغدر به وقتله فأقسم هو ألا يجيب دعوة أحد من رجال العثمانيين ، فأحرق الجيش العثماني ٢٤ قرية من قرى ابن معن وقتل الدروز القائد أويس باشا مع خمسمائة

٢٢٩

من جنده ، وطلب إبراهيم باشا ترحيله فأرسل اليه ابن معن مئة ألف دوكا و ٤٨٠ بندقية وخيلا وأشياء ثمينة ، ولما تسلمها الوزير العثماني أمر بإحراق ١٩ قرية من قرى ابن معن وأعدم ثلاثمائة من رجاله ، وفي خلال ذلك كان الأسطول العثماني أخرج إلى صيدا أربعة آلاف جندي وضرب الساحل وأخذ ثلاثة آلاف أسير. قال البوريني : إن إبراهيم باشا لما خرج من مصر خرج بأموال عظيمة وتحف كثيرة منها أنه جعل للسلطان مراد تختا من الذهب مرصعا بالجواهر العظيمة ورجع ومعه عساكر مصر ، وجمع عساكر الشام وحاكمها إذ ذاك أويس باشا وكبس جبل الشوف فقتل ونهب وحرق وأخذ منهم أموالا جمة وحاصرهم محاصرة عظيمة حتى إن أميرهم قرقماز بن معن مات قهرا.

وفي سنة (٩٤٤) أراد جماعة من أقارب الأمير علي الحرفوش صاحب بعلبك أن ينزعوا حكومتها من يد أبي علي الشهير بالأقرع بن قنبر لأنه من غير أولاد الأمراء ، وحكومة بعلبك متوارثة لبني الحرفوش ، فعرف ابن الأقرع ما دبّر له فجاءه ألفا رجل جمعهم بنو حرفوش من كسروان والشوف وعين دارة وأرادوه على أن يخرج بعياله وبمن يلوذ به حيث شاء فأبى إلا قتالهم ، واستنجد بالأمير قرقماز بن الفريخ أمير البقاع وبغيره من التركمان والعرب فولى الدروز هاربين فتبعهم أهل بعلبك يقتلونهم ، وقتلوا منهم ألفا وثمانين قتيلا ولم يقتل من جماعته سوى شخص واحد. قال البوريني : وكان أصلح له ولجماعته طعاما قبل المعركة فقاتل أعداءه ورجع والطعام لم يبرد وأرسلت الرؤوس لدمشق لتعرض فيها. ثم قتل علي بن الحرفوش ابن الأقرع وندم على قتله ، وأخذت الدولة بعد ذلك الأمير ابن الحرفوش إلى دمشق بالأمان وقتلته وقتلت معه عسافا الكذاب الذي ادعى انه ابن طرباي أمير اللجون.

بنو عساف وبنو سيفا وابن فريخ وخراب البلاد :

وفي سنة (٩٩٩) جمع الأمير محمد بن عساف الرجال وسار لطرد يوسف باشا بن سيفا من عكار ، فلما بلغ يوسف باشا ذلك جمع رجاله وكمن له في العقبة بين البترون والمسيلحة وقتله هناك ، ولم يكن له ولد فانقطع نسله ، وكان لبني

٢٣٠

عساف في كسروان ٢٣٢ سنة فانقرضت دولتهم تلك السنة. ذكر المؤرخون في حوادث سنة (٩٩٩) أن منصور بن فريخ أعيد إلى لواء صفد وأعطى قرقماز لواء نابلس وصاحبه الدالي على لواء عجلون ، وذلك بالتزام مال لجهة السلطنة قدره ثمان كرات كل كرة مائة ألف دينار غير ما ينوبها من الكلف. وقد خرب ابن فريخ هذا كورا كثيرة وقتل خلقا ، وكان في أول أمره بدويا من خدام ابن الحنش فترقى به الحال إلى أن التزم مالا عظيما على لوائي صفد ونابلس وإمارة الحج وعمر عمارات عظيمة بالبقاع بقرية قب الياس ، وشرع في عمارة دار عظيمة خارج دمشق واستعمل فيها العملة بالسخرة ، وقد خنق في قلعة دمشق لظلمه وتخريبه العمالات التي استولى عليها خصوصا البقاع وصفد ونابلس.

وفي سنة (١٠٠٠) أمر قاضي دمشق مصطفى بن سنان بقيام النواب من المحاكم وإغلاق أبوابها فأغلقت أسواق البلد كلها ، وسبب ذلك أن الدفتردار محمودا ارتشى من ابن الأقرع بخمسة عشر ألف دينار وولاه على بعلبك بدل ابن الحرفوش فأدى ذلك إلى خراب بعلبك ظاهرها وباطنها ، ورحل أكثر أهلها حتى تعطلت الأحكام الشرعية بها وعتا بها ابن الأقرع وأتباعه وصادر الناس مصادرة ليوفي بها المال الذي التزم به للسلطنة.

وكان المكس في هذه الحقبة حتى على الخمور والخمارات يتقاضاه كل من كان باشا دمشق يلتزمه صاحب الشحنة وهو من كبراء الانكشارية بمال كبير يدفعه للباشا ويحرق الأخضرين في جبايته ، وكان من الولاة في ذلك الدور في الشام الصالح والطالح مثل سليمان بن قباد باشا الذي تولى نيابة القدس وقطع دابر المفسدين ثم تولى محافظة دمشق (٩٩٠) وكان ينوع العذاب للسراق وقطاع الطريق.

ومنهم من خلفوا آثارا مثل خسرو باشا وعادلي محمد باشا وبهرام باشا من ولاة حلب فإنهم بنوا مدارس وجوامع فخمة في الشهباء ومنهم لالا مصطفى باشا الذي ولي دمشق سنة (٩٨١) خمس سنين وقد مدحه ابن بدير والمقار ووصفه هذا بأنه صاحب الخيرات والحسنات وأنه عمر تحت القلعة بدمشق الخان والحمام اللذين لا نظير لهما وأثنى أيضا على مراد باشا الذي

٢٣١

تولى دمشق سنة (٩٧٦) وعمر جامعا في السويقة المحروقة وهو صاحب خيرات وحسنات أيضا.

وأثنى المؤرخون على أحمد بن الأمير قانصوه الغزاوي الساعدي الذي تولى إمارة عجلون وما والاها من كور الكرك والشوبك بعد وفاة أبيه ، وباشر الإمارة في هاتيك النواحي في زمن سلطنة مراد بن السلطان سليم وقالوا : إنه كان قليل الأذى للرعايا وهو من قوم لهم قدم في الإمارة في هاتيك الديار ، كانوا في زمن الشراكسة أمراءها وكان من أجداده محمد بن ساعد أميرا في جبل عجلون. ومنهم درويش باشا نائب دمشق وصاحب الجامع المنسوب اليه وخان الحرير (٩٨٧) ومن ظلمتهم والي حلب حسين باشا المتوفى (٩٤٩) كان كثير القتل سفاكا للدماء على صورة قبيحة من تكسير الأطراف والإحراق بالنار والمحرق حي وغير ذلك ، متناولا للرشى لا نفع له سوى مضرة اللصوص ، ومن سفاكيهم العظام سنان باشا فاتح اليمن وصاحب الجامع المنسوب اليه بدمشق وقد ذكر ابن المقار جريدة مخلفاته التي أرسلت إلى الاستانة بعد موته فإذا هي تساوي بضعة ملايين من الدنانير. وقد قال مؤرخو الترك : إن الخيرات التي قام بها سنان باشا في ممالك مختلفة من جوامع ومدارس وتكايا وخانات تقدر نفقاتها بمليوني ليرة ذهب بسكة زماننا ، وإن ما عمره من المعاهد والمباني الفخمة في الأقطار التي نزلها تناهز المئة. لا جرم أنه من العتاة الطغاة الذين يجيزون خراب الولايات ليعمروا جيوبهم وخزائنهم ، وأعمالهم الخيرية قد تأتي بالعرض أو لحب الشهرة. وأقبح بصدقة أو عمل خير يكون أصل ما أنفق عليه من قتل الأنفس والمال الحرام.

حالة البلاد في الحكم العثماني :

حكم الشام في هذه الحقبة من الزمن أي مدة ٧٨ سنة أربعة من ملوك آل عثمان وهم سليم الأول وسليمان القانوني وسليم الثاني ومراد الثالث ، وظلت روح الدولة في هذه الديار لم تتغير. ولئن جاء فيهم واضع القوانين المدعو بالقانوني السلطان سليمان وطال عهده على ما لم يقع له مثال في تاريخ هذه الدولة ، فإن الشام كانت حاله بعد الفتح العثماني تنتقل من سيء إلى أسوأ ، والوالي أو

٢٣٢

الولاة في هذه الديار يكونون على الأغلب ممن لا ذمم لهم ولا قدرة إلا على جلب المغانم لأنفسهم ، وإزهاق الأرواح في ذاك العصر من الأمور الهينة التي لا تستغرب.

بعد الفتح العثماني واندحار المماليك في مرج دابق والضرب على أيدي العصاة في فلسطين ، كان الرجاء معقودا أن تخلد الشام إلى الراحة ويرفرف عليها طير السعد ، فزادت المكوس والضرائب على وجه قاس ، وكثر فساد جيش الدولة من الانكشارية والسباهية ، فكان يأتي على الأخضر واليابس في المدن والقرى ، خصوصا إذا جاء البلاد منهم فوق حاميتها كتائب أخرى لتشتي فيها ، وهناك يزيد الاعتداء على البيوت والأعراض والأموال. وربما تخطفوا النساء والأولاد في الأزقة رابعة النهار ، وفي أول حكم السلطان سليمان أي بعد أربع سنين من الفتح كان ما كان من عصيان الغزالي فهلك كثير من الأبرياء في دمشق وحلب ، وارتكب الوزير فرهاد باشا لتسكين الفتنة والضرب على يد الثائر من الشدة ما عج بالشكوى منه كل إنسان.

ويمكن حصر مصائب هذا الدور في أمور ثلاثة : ظلم الوالي ويكون في الغالب عاتيا مرتشيا ، وظلم الجند في حلهم وترحالهم ، وشقاء الديار بصغار الأمراء من أهلها ، في الجبال والسهول ، وكبار أرباب النفوذ في المدن. وهذه الطبقة تطورت تطورا جديدا في عهد العثمانيين فكانت من أكبر الأسباب في فساد البلاد ، ولو صلحت وسلمت من ظلم بعضها بعضا لما استطاع الوالي التركي والقاضي التركي والقائد التركي أن يعملوا مباشرة في هذا القطر عملا مضرا. وأهمّ من هذا وذاك أن الدولة العثمانية على عهد عزها لم تفكر إلا في الفتوح ، وفي حرب من يجاورها من صغار الأمراء والملوك ، حتى إذا كانت أيام إدبارها وهي تبدأ من أواخر سلطنة سليمان القانوني ، كانت همتها مصروفة إلى قمع الفتن الأهلية ، ورد عادية أعدائها عن مملكتها الواسعة.

إن ابن الشام لا يهتم كثيرا إذا بلغت جيوش الدولة العثمانية أواسط أوربا في فتوحها وفتحت بودابست وأشرفت على فينا ، وإذا فتح سليمان زهاء ثلاثمائة حصن وقلعة ، وأصبح اسمه في الغرب مضرب الأمثال في الرهبة ، فكانت بعض الأمهات يخوفن أبناءهن باسمه إذا أردنهم على الرقود والكف عن البكاء ،

٢٣٣

ولا يهتم ابن الشام أيضا إذا كثرت الخيرات على العاصمة بما يصرف فيها من أموال المغانم والمغارم ، ما دامت طرق الجباية عنده منهكة لقواه ، وما دام الولاة يسفون لأخذ المكوس لأنفسهم من الحانات ومن المسكرات ، وما دامت الضرائب تستوفى حتى من المغنيات والمومسات ، وما دامت المناصب الكبيرة دع الصغيرة يتوصل إليها بطرق دنيئة على سبيل الضمان والإيجار ، وما دام الأمن مختل النظام وأهل البادية ولصوص الأعراب على عاداتهم في السلب والنهب ، ومن المتعذر أن ينتصف المظلوم من الظالم ، وأن تعمل الدولة في باب العمران جزءا مما تأتي في تخريبه.

وضع السلطان سليمان قوانينه وما ندري إذا كانت وصلت إلى هذه الديار ، وهب أنها انتهت إليها فهي في السجلات محفوظة ، لم يطبق منها إلا ما لا ينفع العلم به ولا يضر الجهل بمضامينه. وما دام القانون السماوي الذي عملت الشام به منذ الفتح الإسلامي غير نافذ على ما يجب ، فما الحال بقانون يعمله رجال قد يغيرون من الغد اجتهادهم وهو يتعذر تطبيقه وإنفاذه؟ بدأت الدولة منذ دور سليمان بالرسميات وأخذت تلقي الشغب بين العلماء ، وذلك برتب اخترعتها لهم وجرايات أدرتها عليهم ، فزادت لأجل هذه النفقات الضرائب والخراج على الأمة وكثر التنافس بينهم ، وقلّ القوالون بالحق من رجال العلم ، وأنشأ معظمهم يدلسون ويوالسون ويمتدحون السلطان مهما ضل وغوى ، وسهل بعد ربط العلماء بروابط الرتب والرواتب أن يستصدر السلاطين كما قال ضيا باشا فتاوى بقتل الأبرياء ممن تغضب عليهم الدولة ، وكان الذين يقتلون كل سنة على هذه الصورة عددا من الناس لا يستهان به وفيهم العاقل والدراكة ، وكل من في قتله راحة للدولة أو مصلحة يتوهمها السلطان وبعض الزبانية الطغاة من ولاته ، وقد تعاقب على دمشق خلال القرن العاشر أي مدة ٧٨ سنة خمسة وأربعون واليا وعلى حلب سبعة عشر ، ولم يحس الناس بتبدل نافع في حكم العثمانيين من عهد المماليك حتى بعد ثمانية عقود من السنين.

٢٣٤

العهد العثماني

«من سنة ١٠٠٠ الى ١١٠٠»

عهد محمد الثالث وأمراء الإقطاعات وفتن :

دخل القرن الجديد والشام تسير من بؤس إلى بؤس ، وتعاقب تبدل الولاة عليها والسعيد منهم من كان يحول عليه الحول ، وأكثرهم يقيمون فيها أشهرا ثم يصرفون ويستبدل غيرهم بهم ، ومنهم من كان يقيم أياما ومنهم سبعة أيام ومنهم ثلاثة ، وتعاقب على دمشق خلال هذا القرن واحد وثمانون واليا وعلى حلب تسعة وأربعون واليا ، فكان الوالي لا يتمكن من الإصلاح إن أراده وقلبه متعلق أبدا بثبات منصبه ، والغالب أنه لا يتوفر على غير جمع المال بالطرق المنوعة ليوفي ما عليه من المقرر لجماعة الاستانة من الأموال ، وكان الولاة يبتاعون الولاية ابتياعا والمزايد الأكبر هو الذي توسد إليه قال راسم في تاريخه : أمر السلطان مراد أن يكتب إلى أحمد باشا كوجك والي الشام بأن يدفع إلى السلحدار باشا عشرين ألف ليرة ويبقى في منصبه فاضطر الوالي أن يؤدي المبلغ.

ومن أهم أدوات التخريب في هذا القرن خروج جند الانكشارية عن حد الاعتدال وكثرة اعتدائهم على الرعية ، يستطيلون على أموالها وأعراضها ويثلمون شرفها ويذلون أعزتها ، وهم القوة القاهرة وأذاهم لاحق بالكبير والصغير. وكثيرا ما حاول الولاة أن يخففوا من غلوائهم ليستأثروا بالقوة دونهم أو يرفعوا عن عاتق الأمة التعسة بعض شرورهم ، فيسفر قتالهم عن زيادة إيصال الشرور إلى الناس على ما يأتي تفصيله في هذا الفصل المغموسة حوادثه بالدماء.

٢٣٥

كان المتغلبون على أكثر البر في أوائل القرن ، الأمير شديد بن الأمير أحمد حاكم العرب من آل جبار وكان كلقبه واسمه ظالما جبارا عنيدا. قال كاتب جلبي : وما زال آل عثمان يعطون لواء سلمية لأمراء العرب وأمراؤهم هم عرب آل جبار وهم قبيلتان آل حمد وآل محمد يمتد حكمهم الى أرجاء حلب والرقة. وكان قرقماز المعني في لبنان ، وأحمد بن رضوان في غزة بعد قانصوه أمير عجلون وما والاها من الكرك ، والأمراء بنو الحرفوش في بعلبك ، والأمراء بنو شهاب في وادي التيم ، وأحمد بن طرباي أمير اللجون في نابلس ، ومنصور بن فريخ البدوي على البقاع تغلب عليه بعد ابن الحنش وحكم نابلس وصفد وعجلون وانحاز إليه جماعة من جند دمشق ، وأخاف الدروز ثم شن الغارة وقتل منهم مقتلة عظيمة ، وقد خرب العمران وقتل الخلق حتى أخذه وزير دمشق وقتله في سنة (١٠٠٢) وذهب على حصار قلعة الشقيف النفوس والأموال ، حاصرها والي دمشق ونازل قلعتي الشقيف وبانياس ، وبلية القلاع كبلية المدن غرض لهجمات المهاجمين فقد أخذ المحارزة قلاع القدموس والعليقة والمينقة مرارا ، وكان الإسماعيليون يستردونها بعد مدة ، وفي سنة ألف تقريبا هجم الإسماعيليون على القدموس عند ما كان العلويون مشغولين بالعبادة في يوم الغدير وقتلوا من المشايخ ثمانين شخصا عدا العوام وتملكوا القدموس (قاله في تاريخ العلويين).

وفي سنة (١٠٠٣) توفي مراد الثالث وخلفه ابنه محمد الثالث فقتل يوم جلوسه تسعة عشر أخا له وعشر جوار حاملات من أبيه ثم ابنين له ، وكان مع ذلك على رواية المحبي صالحا عابدا ساعيا في إقامة الشعائر الدينية وأوصافه كلها حسنة وهو مظفر في وقائعه عالي الهمة. ولم ينل الشام شيء من تدين محمد الثالث ، وطالبت الحكومة الأهلين بأموال سنتين فلقوا شدة وعنتا.

ذكر المقدسي في حوادث سنة (١٠٠٤) أنه جاء ساع من الباب العالي يأمر بأن يجتمع العلماء والصلحاء والمشايخ والفقراء وأولاد المكاتب في الجامع الأموي ، ويقرأوا القرآن ويدعوا لعساكر الإسلام بالنصر ، وما أعجبها من قضية جمع فيها بين ظلم المذكورين وطلب الدعاء منهم ، فليت شعري بأي لسان يدعون وقد اشتهر أنهم يطالبون الرعايا بعوارض سنتين جديدة وعتيقة وطالبوا

٢٣٦

اليهود بمال عظيم اه وقال أيضا في حوادث سنة (١٠٠٥). إنه استقر في دمشق كيوان منشئ الظلم بالشام قائدا بباب صاحب الشحنة ، فشرع يصادر ويسلب ، وكثرت القتلى في أزقة دمشق ، وكان الإنسان يمشي فلا يسمع إلا من يقول غرموني أربعين قرشا ومن يقول سبعين قرشا وثلاثين وعشرين وأكثر وأقل. واصطلم الناس من كثرة الظلم وبقي من يخشى الفضيحة يحمل الجزية إلى كيوان المذكور قبل أن يرسل إليه. هذا ما كان يجري في عاصمة الشام على مرأى ومسمع من القريب والغريب ، فما بالك بما كان يجري في الأقاليم التي تقل فيها المراقبة وتضعف المقاومة ، فقد تهيأ لأخبارها هنا من دونها أو بعضها حتى وصلت إلينا، وهناك ضاعت أخبارها لقلة المدونين.

وظهر في أيام أحمد مطاف باشا كافل حلب (١٠٠٥ ـ ١٠٠٨) فساد كثير من العربان في أنحاء حلب فأرسل عليهم ابنه درويش بك فاقتتلوا فانهزم عسكر حلب وكانوا ألف فارس وأخذ عرار أمير العرب يتبعهم ويقتل منهم ويغير عليهم.

وفي سنة (١٠٠٧) كانت الواقعة في نهر الكلب بين ابن معن وابن سيفا فانكسر ابن سيفا وتشتتت جيوشه ، وتولى فخر الدين المعني كسروان وبيروت. واستولى يوسف باشا سيفا على جهات طرابلس لما أهلك رؤساء عصاة ابن جانبولاذ التركماني ، واستقل بها وأخرج بواسطة عسكر السكبان جند الانشكارية من عمالته ونكل بهم وصار له بذلك نفوذ وسلطان.

وقال نعيما في حوادث سنة (١٠٠٨) : إن عسكر الانكشارية في دمشق جاءوا حلب بحجة جباية أموال الدولة ، وتسلطوا على فقرائها وعملتها وتجاوزوا الحدود في الاعتداء، وأساءوا استعمال سلطانهم في الرعية ، فقطع والي حلب رأس سبعة عشر رجلا منهم ، ودام الشقاق بين الأهالي والانكشارية مدة طويلة أدى إلى سفك دماء كثيرة بغير حق اه. ومن ذلك اعتداء خداويردي قائد حلب على الناس وفتكه ونهبه وتعديه حتى ضجر منه أهاليها وحكامها ، حين قامت الحرب بينه وبين نصوح باشا ، وبينه وبين ابن جانبولاذ ، وكان هو وأحفاده قد عاثوا في الأرض فسادا ومنه نشأ طغيان العسكر الشامي.

ومن فتن هذه الأيام خروج عبد الحليم اليازجي رأس جماعة درويش

٢٣٧

الرومي حاكم صفد ، وإرسال خسرو باشا نائب الشام عسكرا إلى درويش ليسلم الولاية إلى آخر ، فقاتل اليازجي عن مخدومه بالسيف فأخذ درويش إلى دمشق وصلب بأمر السلطان. أما اليازجي وجماعة درويش فساروا على ساحل البحر إلى طرابلس ثم إلى جانب حلب ودخلوا مدينة كلز فتنبه لهم نائب حلب وأرسل جيشا لمحاربتهم ، فقتلوا من أصحاب اليازجي مقتلة عظيمة ، وخرج بمن بقي معه من أصحابه المفلولين ، وما زال يحارب جيوش السلطنة في الأناضول حتى هلك سنة (١٠١٠).

وفي سنة (١٠١١) باغت الأمير يونس بن الحرفوش جبة بشري ، فلما بلغ ذلك يوسف باشا سيفا جمع السكبان الذين عنده وهاجم مدينة بعلبك فاجتمع ببيت الحرفوش في القلعة ، ونهب بنو سيفا بعلبك وحاصروا قلعة حدث بعلبك خمسين يوما وملكوها ثم نادوا بالأمان. وفي سنة (١٠١٤) كانت وقعة جونيه بين يوسف باشا سيفا والأمير فخر الدين المعنى فانكسر عسكر سيفا.

عهد أحمد الأول وفتنة ابن جانبولاذ وغيرها :

في سنة (١٠١٢) توفي محمد الثالث وخلفه أحمد الأول ولم يتغير شيء في الشام وغاية الأمر أن الخوارج في أيام السلطان الجديد اشتدت شوكتهم فنال الأمة منهم كل حيف ، ودخل القطر في هرج ومرج. وفي أيامه ظهرت الخوارج في جهات حلب وما زالت الأمور في تخبط حتى خرج جانبولاذ وادعى السلطنة واضطربت الأحوال على ما سيجيء. قال القرماني: وفي أيام هذا السلطان قام الطغاة والبغاة ، وانمحت من الوجود أمهات الأمصار وشملها البوار ، أما القرى والقصبات والرساتيق والمزدرعات فأكثر من أن تحصر.

وقال العرضي : كانوا يرسلون من قديم الزمان في دولة بني عثمان شرذمة من عساكر دمشق وعليهم شوربجي بحوالات أموال السلطنة فيحصل لهم الانتفاع ويخدمون عند الدفتردار وفي دار الوكالة وفي باب القنصل الفرنجي وفي كل مدة يرسلون غيرهم وعليهم شوربجي ، حتى قطن بحلب أعداد كثيرة منهم واتسعت أموالهم وكبر جاههم ، واستولوا على أغلب قرى السلطنة يعطون مال السلطان عن القرية ويأخذون من أهلها أضعافا مضاعفة ،

٢٣٨

وتبقى أهل القرية جميعا خدمة لهم وجميع ما يجمعونه لغيرهم لا لأنفسهم.

ومن الكوائن أن خارجيا من السكبانية اسمه رستم جاء إلى كلز ومعه من البغاة أجناد كثيرة ، وكان ضابط كلز عزيز كتخدا من جماعة حسين باشا بن جانبولاذ أمير الأمراء بحلب، فبعث واستنجد بعسكر حلب ومنهم العسكر الجديد فخرجوا لنصرته ، فتقابلت الأجناد وقامت بينهم سوق الحرب والضرب فانتصر رستم على عسكر كلز وحلب وقتل عزيز كتخدا وقتل من العسكرين كثير وولوا منهزمين فنهب الخارجي كلز وصادر أعيان القرى.

ولما ولي نصوح باشا نيابة حلب ـ وكان متغلبا في حكمه عسوفا قوي النفس شديد البأس كما قال المحبي ـ كان لجند دمشق أي الانكشارية الغلبة والعتو يذهب منهم كل سنة طائفة إلى حلب وينصب عليهم قائد من كبارهم وكان بعض عظماء الجند قد تقووا في حلب وفتكوا وجاروا خصوصا طواغيتهم خداويردي وكنعان الكبير وحمزة الكردي وأمثالهم ، حتى رهبهم أهلها وصاهرتهم كبراؤها ، واستولوا على أكثر قراها ، فلما رأى نصوح باشا ما فعلوه حتى قلّت أموال السلطنة ، وصارت أهالي القرى كالأرقاء أجلاهم عن الأقاليم ووقعت بينه وبينهم فتنة بل فتن ، وعجز عن إخراجهم فاستعان بحسين بن جانبولاذ فبعث هذا ابن أخيه الأمير علي بعسكر عظيم ، فاستولى نصوح باشا على قلعة حلب ووضع متاريس تحتها واستعد للقتال ، فأخذ العسكر الدمشقي باب بانقوسا وجمعوا جموعهم ، وهم لا يعلمون أن حسين باشا جانبولاذ بعث عسكره ، ودخل الأمير علي في اليوم التالي بالعساكر المتكاثفة فتبعهم نصوح باشا والأمير علي إلى قرية كفر طاب فوقع بينهم حرب فانهزم الدمشقيون بعدما قتل منهم جم غفير. ثم خرج نصوح باشا في عسكره إلى كلز فقابل حسين باشا بعسكره والتقت الفئتان فانكسر نصوح باشا وقتل أكثر عسكره ودخل حلب منهزما وأخذ في جمع الأجناد وبذل الأموال لتكثير العدد والأعتاد. وبينا هو على ذلك جاء الأمر بأن حسين باشا عين كافلا للممالك الحلبية وعزل نصوح باشا ، فلبس نصوح باشا جلد النمر ، وامتنع من تسليم حلب لحسين باشا ، وأقبلت بعد أسبوع عساكر الوالي الجديد حسين باشا إلى قرية حيلان فاستقبلهم نصوح باشا بالحرب فانكسر أيضا ،

٢٣٩

ونزل حسين باشا بعساكره في أحياء حلب خارج السور وأغلق نصوح باشا أبواب المدينة وسدها بالأحجار ، وفتح باب قنسرين وحرسه ، وقطع حسين باشا الماء عن حلب ومنع الميرة والطعام عن المدينة ، ونصب نصوح باشا المتاريس على الأسوار وصف عسكره عليها مع المكاحل ، وقامت بين الواليين حرب شعواء ، وأخذ حسين باشا في حفر الخنادق والاحتيال على أخذ البلدة ، وأنشأ نصوح باشا يحفر السراديب ، وعم الحلبيين البلاء من المبيت على الأسوار وحفر السراديب ، ومصادرة الفقراء والأغنياء كل يوم وليلة لطعام عسكر السكبان وعلوفاتهم ، وأغلقت الدكاكين وتعطلت الصناعات ، وحرقت الأخشاب للطعام والقهوة ، واشتد غلاء الحاجيات وعدم قوت الحيوان والإنسان واستمر الحصار نحو أربعة أشهر وأياما ، ثم تصالح نصوح باشا وحسين باشا فخرج الأول واستولى حسين باشا على الديار الحلبية ، وشحنها بالسكبان وصادر الأغنياء والفقراء لأجل علوفة السكبان.

ولما قتل حسين باشا خرج ابن أخيه علي عن طاعة السلطنة ، وجمع جمعا عظيما من السكبانية حتى صار عنده منهم ما يزيد على عشرة آلاف ، ومنع المال المرتب عليه ، وقتل ونهب في تلك الأطراف ، إلى أن تعهد ابن سيفا صاحب عكار للسلطنة بإزالة الأمير علي عن حلب فجمع له الجند من دمشق وطرابلس والتقى بابن جانبولاذ (جانبلاط) قرب حماة فكانت الغلبة على ابن سيفا ، فاستولى ابن جانبولاذ على مخيمه ومخيم عسكر دمشق واستولى ابن جانبولاذ على طرابلس ، واستخرج الأموال من أهلها وأخذ دفائن كثيرة لهم ، و

لم يستطع فتح قلعتها ، ثم سار مع حليفه ابن معن وكان هو وابن شهاب وابن الحرفوش خرب بعلبك وأحرق قراها ، وخرب ابن جانبولاذ البقاع ووصل إلى دمشق ، واقتتل ابن جانبولاذ مع العسكر الدمشقي فانفل العسكر الدمشقي وأرضوا ابن جانبولاذ بمال حتى فرج عن دمشق ، واستمر النهب في أطرافها ثلاثة أيام ، ثم سار إلى حلب وجاءته الرسل من السلطنة تقبح عليه فعله في دمشق ، فكان تارة ينكر فعلته ، وطورا يحيل الأمر على عسكر دمشق ، ويشرع بسد الطرق ويقتل من يعرف أنه سائر إلى أطراف السلطنة لإبلاغ ما صدر منه ، حتى أخاف الخلق ونفذ حكمه من أدنة إلى نواحي غزة ، وصاهر ابن سيفا

٢٤٠