خطط الشام - ج ٢

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٢

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٠

صورة محضر في خلع الأشرف جان بلاط من السلطنة وبايعوا طومان باي من غير خليفة وتلقب بالملك العادل أبي النصر وأحضر له شعار الملك فأفيض عليه. فلما تم أمره عين لأتابكية مصر قصروه نائب الشام وعين لنيابة الشام دولات باي نائب حلب وعين لنيابة حلب أركماس بن ولي الدين وهكذا عين سائر نواب الشام وخطب باسمه على منابر دمشق. ثم ذهب إلى مصر مع من أطمعهم بالمناصب من الأمراء وكان تقدم إلى من في مصر من الأمراء فخلع عليهم ونصبهم قبل حضوره وتسلطن فيها.

وفي سنة (٩٠٨) حدثت فتنة بالشاغور بدمشق حرقت فيها المحلة وقتل أناس وضرب النائب على أهل دمشق مالا لأجل مشاة تخرج معه إلى حلب تجريدة لقتال الخارجي حيدر الصوفي وذلك مع وقوف حال الناس من الظلم وكثرته ـ قاله ابن طولون وزاد أن ورد المرسوم الشريف من مصر بأن يرمي على كل سكرة دراهم ليستفاد بها على إزالة ضرر العرب بالحجاز قال : وهذه رمية أخرى غير الرمية التي أخذت بحجة حيدر الصوفي.

وفي سنة (٩٠٩) جهز ابن حنش مقدم البقاع خمسة آلاف مقاتل على عبد الساتر ابن بشارة في قرية شيحين فقتل من جماعة ابن حنش نحو مائتين.

ومن الأحداث في هذه الأيام تجهيز نائب دمشق العسكر على جوان بك الفرنجي الدوادار سنة (٩١٠) إلى البقاع فقتل الدوادار عند جسر كامد اللوز وقتل معه نحو ثلاثمائة شخص وكانت الوقعة بينهم وبين فخر الدين بن معن أمير الشوف. قال ابن طولون : في حوادث هذه السنة : اتفق رأي المباشرين أن تعرض المشاة من كل حارة بدمشق وكذلك الجند إرهابا للعدو فعرض عليهم غوغاء ميدان الحصا والقبيبات بالميدان الأخضر وازداد طغيان زعرهم (أحداثهم) وعلموا عجز أرباب الدولة ثم قام بالشاغور أزعرهم أبو طاقية وجمع زعر الغوغاء وما حولها من القرى وزعربقية حارات دمشق وأخذوا من أموال الناس شيئا كثيرا وأعاره الأمير أركماس شيئا كثيرا من آلة الحرب ثم خرجوا أطلابا أطلابا بترتيب يعجز عنه أرباب الدولة حتى عرضوا بالميدان الأخضر فاستقل الترك بأنفسهم ولم يعد لهم حرمة ثم ركب متسلم دمشق ودار بهم حول

٢٠١

المدينة وبين يديه مناد وينادي بالأمان وترك حمل السلاح. وكثرت بعد سنة (٩١١) الرميات والغرامات على حارات دمشق فهاج الناس وصعد أهل القبيبات إلى مأذنة الجامع الأموي وكبروا على المتسلم حتى أفرج عن المحبوسين. واشتد الجور سنة (٩١٦) في لبنان فهجر أكثر الناس مواطنهم إلى البلدان البعيدة ومن اللبنانيين من هاجر إلى قبرس ، ثم عادوا منها بعد ثلاث سنين للضيق العظيم الذي حصل فيها بسبب الجراد وكثرة الضرائب التي فرضها الحكام على الرعية.

القضاء على مملكة ذي القدرية وطبيعة دولتي المماليك البحرية والبرجية :

وأهم ما وقع من الحوادث التي عجلت في سقوط الشام بعد ذلك في أيدي العثمانيين استيلاء السلطان سليم سنة (٩٢١) على مملكة ذي القدرية التركمانية وكانت عاصمتها مرعش تارة و (البستان) تارة أخرى ، واستولت على بهسنى وملاطية وخربوت ، قامت هذه الدولة سنة (٧٨٠) وتولاها عشرة أمراء أولهم زين الدين قره جه وآخرهم علاء الدولة بن سليمان الذي قتله سنان باشا وأخاه وبعض أولاده في المعركة واستولى على ديارهم باسم سلطان العثمانيين ، فبذلك سقطت الأنحاء الشمالية من الشام في يد عدوة الدولة الشركسية، وكان أمراء ذي القدرية يغزون الشام حتى استولوا على مملكة حماة فردهم الظاهر برقوق. ومنها ذهب سلطان مصر إلى دمشق سنة (٩٢٢) فنثر على رأسه بعض تجار الفرنج ذهبا وفضة ، وفرش برسباي تحت حافر فرسه الشقق الحرير وخرج إلى المصطبة التي يقال لها مصطبة القابون ورسم لبعض حجاب دمشق بعمارتها وأقام بها تسعة أيام. وكان ذلك الذهب المنثور شؤما على السلطان ومملكته انتثر بعدها سلك ملكه.

هذه أهم الأحداث التي حدثت قبيل دخول العثمانيين إلى الشام وخروجها من ملوك الشراكسة بعد أن ملكوها بسلطنة الأتابك برقوق (١٣٩) سنة وكان المماليك البحرية ملكوها منذ سنة (٦٥١) ه والاختلاف لا يكاد يذكر بين روح دولة المماليك البحرية ودولة الشراكسة فكلتاهما أعجميتان ، ولكن القائمين بهما لا يخرجون في التخاطب والتكاتب والأصول عن اللغة العربية

٢٠٢

والشريعة الإسلامية ، وقد كان من تينك الدولتين المماليك والأتراك والشراكسة رجال عظام مثل بيبرس وقلاوون وابنه وبيبرس الجاشنكير وقايتباي وبرسباي ولكن جاء بعدهم ملوك ممخرقون وصبيان آل إليهم الأمر فأفسدوه أو من كفلوهم فلم يحسنوا كفالتهم من رجال الدولة. وقد وفقت هذه الدولة أي المماليك البحرية والبرجية لإخراج بقايا الصليبيين من الساحل فنجحت في التنكيل بهم حتى دثرت بقاياهم ، ولكنها لم تقو على إنقاذ الشام من غارات التتر والمغول فقاست منهما ألوان العذاب والخراب.

وكان سلطان مصر والشام متى دهم الشام مداهم يعتصم بمصر وينعم ويلذّ في قصوره، ويكتفي بإرسال تجريدة قد تكون ضعيفة ، أو يصدر أمره لنائب حلب أن ينجد دمشق ولنائب دمشق أن ينجد حلب مثلا ، ولا يخرج الأعداء من هذه الديار إلا إذا أرادوا ، وأتوا على الناطق والصامت وألحقوا العامر منها بالغامر ، وباتت أمور السلطنة ألعوبة في كثير من الأدوار بأيدي ضعاف الأحلام من أسرة ذاك المملوك فتهيأت السبل لقيام دولة أخرى وهي الدولة العثمانية.

أما قانصوه الغوري آخر ملوك الشراكسة الذين حكموا الشام ، ومن حكمه انتقلت إلى العثمانيين ، فلم يكن بالذي ترجح حسناته على سيئاته ، بذل جهده لدفع عادية العثمانيين فلم يفلح وطال عهده نحو ست عشرة سنة فكانت أيامه فتنا وغوائل ومخاوف ، حتى قضى الله في دولته بأمره ، واستطال عليها سلطان أقوى.

ولقد رأينا في دولة المماليك البحرية والبرجية أو التركية أو الشركسية عجائب القوة وعجائب الضعف ، رأينا منهم أغلب الذي طالت أيامه يعمل كل نافع للقطرين ، ورأينا الملك المأمون منهم يتولى الملك أشهرا ولا يسجل له الفوضى وسوء الإدارة ، وقليل ممن لم تطل أيامهم من هؤلاء الملوك الصعاليك من جمع في نفسه أدوات السياسية والإدارة ، وكان النواب في هذه الحقبة كما يفهم من ابن طولون إذا ظفر نائب دمشق أو أحد قواده ببعض الناشزين عن الطاعة من العربان تزين دمشق سبعة أيام على غلاء النفط وسوء حالة البلاد وكانت نفقة أحد النواب بدمشق أي واليها كل يوم ألف دينار. وقال في

٢٠٣

حوادث سنة (٩٠٩) أمر النائب بإنهاء النائب والنداء بصيام ثلاثة أيام والتوبة والخروج الى الصحراء وزيارة المزارات لينقطع الوباء قال الشافعي المولوي ابن الفرفور : قد كثر الظلم فلو أبطلتموه كان حسنا. فلم يسهل على النائب ذلك وأسمعه ما يكره.

٢٠٤

الدولة العثمانية

«من سنة ٩٢٢ ه‍ إلى ١٠٠٠ ه‍»

حالة الشام قبيل الفتح العثماني :

كانت الشام أخت مصر في آخر الدولة الشركسية تقاسمها شقاءها شق الأبلمة ، فيستبد المتغلبة من المماليك بالأحكام بحسب ضعف صاحب مصر وقوته ، والصالح في نوابها وملوكها قليل. ولم يسعد القطران بعد فتنة تيمور لنك بسلطان عادل يطول عهده ليعرف مواقع الضعف فيسد خللها ، ويزيح بحسن الإدارة عللها. وشغل ملوك الشراكسة بالتجاريد على حسن الطويل وشاه سوار وابن عثمان من الملوك في شمالي المملكة وشرقها يجردونها فيجردون بها الرجال والأموال ، وقد خرج الناس بعد وقائع الصليبيين والمغول وما أعقبها من الأوبئة والزلازل والمجاعات أعرى من مغزل ، وأزمنت الفوضى في أرجائها فساءت حالتها الاقتصادية والاجتماعية.

أحسّ أكثر الناس بما عرض للدولة من الضعف فأخذوا يتطلعون إلى الدولة العثمانية، وكانت إلى الشام ومصر أقرب الدول الإسلامية الكبرى ، هذا والدولة العثمانية إذ ذاك في إبان شبابها ، وقد وقرت في النفوس منذ أسس بنيانها السلطان عثمان التركماني سنة (٦٩٩) على أنقاض دولة السلجوقيين ، ولا سيما بما قام به محمد الثاني فاتح القسطنطينية من الغزوات والفتوحات ، وتوفق له من فتح عاصمة الروم البيزنطيين بعد أن حاول كثير من ملوك العرب وغيرهم ذلك فلم يفلحوا لبعدها عن مواطن قواتهم ، ولقوة سلطان القسطنطينية في تلك العصور ، والأمور مرهونة بأوقاتها.

٢٠٥

هذا والناس لا فرق عندهم إذا استولى عليهم الترك الأعاجم ، وقد حكمهم أجناس من المماليك زمنا طويلا ما داموا كلهم غرباء يستعبدونهم وينالهم من ضعفهم ضعف ، ومن قوتهم بعض راحة وسعادة ، ولا فرق في الإسلام بين عربي وأعجمي في الحقوق والواجبات ، وأقصى ما يتطلبه الناس سلطان عادل عاقل في الجملة ، وكانت الأمة تفنى بأسرها في سلطانها خلال القرون الوسطى.

مقاتل الغوري ومقدمات الفتح :

كان السلطان قانصوه الغوري آخر من ملكوا الشام من الشراكسة على شيء من الدهاء ، أعدّ للأيام عدتها وأدرك ما يحيق بمملكته من خطر ابن عثمان ، ولكن ما ينفع التدبير إذا كانت المعنويات في حكومته مريضة ضئيلة ، والقوى في جيشه غير موحدة ، وداء الهرم قد استحكم منه ومن دولته. كان في الثمانين من عمره يوم صحت نية السلطان سليم العثماني ، رجل الإرادة القوية والجيش الجرار ، على أخذ الشام ومصر ، والقضاء على دولة المماليك. وكان الغوري على رواية كامل باشا لا يعرف على من يعتمد عليه من رجاله وأمرائه غريب الأطوار في ذاته ، فكان ذلك من دواعي خروج الأمر عنه ووقوع الخلل في جيشه ، وكان يعتقد بعلم الجفر ، وقد ذكر أحد أدعياء هذا العلم أن الشر يأتيه من رجل ببدأ اسمه بحرف السين ، فصار يتطير من كل من يبدأ اسمه بذلك الحرف ، ومنهم سيباي كافل الشام.

ترجم للغوري أحد من عاصروه من الفرنج بقوله : «إنه من مماليك الغور في أفغانستان ، كان حاجب الحجاب في حلب سنة (٨٩٣ ه‍ ١٤٩٠ م) ورأس محكمة عسكرية ووفق إلى قمع ثورة فأبان فيها عن كفاءة ، وكان وزيرا لما حنق المماليك على طومان باي واختاره للملك ، فتردد كثيرا في قبوله لأنه كان تجاوز الستين من عمره وأخذ مكوسا وضرائب من كل إنسان حتى من البوابين وضرب نقودا زائفة أضرب بالتجارة الداخلية والخارجية ، فاستلزم عمله حنق الناس وانتقاد من عاصروه فعجل بخراب المالية وذلك لوضعه رسوما فاحشة على البضائع ، وعلى البضائع التي تمر بأرضه واستعمل جزءا من هذه الضرائب

٢٠٦

في إقامة القلاع ولا سيما في حلب وأنشأ طرقا وآبارا في الحجاز. وكانت المكوس التي تجبى في المواني ورسوم البضائع الصادرة من الهند إلى أوروبا من طريق مصر آتية من عدن وجدة والسويس وإسكندرية ، أو من طريق الشام ذاهبة من البصرة وحلب من أهم واردات المملكة. وتفاديا من أداء هذه الرسوم الفادحة حرص البرتقاليون على أن يكشفوا طريقا في البحر إلى الهند على يد ملاحهم فاسكو دي غاما وكتب لهم النزول إلى شاطئ الهند وبعثوا إلى أوروبا توا بسفنهم النقالة الكبرى عن طريق رأس الرجاء الصالح ، فتحاموا أداء المكوس الفاحشة التي كانت تؤخذ في المواني المصرية عن البضائع التي ينقلونها وعن نفقات النقل في البر فاستفاد البرتقاليون من ذلك ، ولم يسع الغوري أن يسكت عما يلحق المسلمين من مظالم البرتقاليين فحارب الأسطول البرتقالي غير مرة في بحري الهند والأحمر ونال منهم ونالوا منه قليلا. قال : وساءت حالة الغوري حتى لم يستطع أن يدفع رواتب المماليك في أوقاتها بحيث فقدت حكومته كل معاونة قوية ، وكانت سياسته الخارجية تعسة لأنه اضطر أن يحالف عدوه اللدود إسماعيل شاه خوفا من السلطان سليم العثماني ولم يخف ذلك عن السلطان سليم عرفه بواسطة جواسيسه اه.

وبينا كان قانصوه الغوري يغوص في أحلامه وأوهامه ، كان سليم الأول وهو التاسع من آل عثمان الملقب بياوز أي الشديد الجبار يجيش الجيوش ويعدّ الزحوف ويستجد السلاح ، فبدأ بقتل الشيعة في تخوم الأناضول وكانوا أربعين ألفا ، ثم زحف سنة (٩٢٠) على الشاه إسماعيل الصفوي صاحب شروان وأذربايجان وتبريز والعراق العجمي وفارس وكرمان وديار بكر وبغداد وباكو ودربند وخراسان وانتصر في وقعة جالديران المشهورة ، وانهزم عسكر الشاه إسماعيل شر هزيمة وجرح الشاه في المعركة وفتح السلطان سليم ديار بكر والأقاليم الكردية ، فهب قانصوه الغوري من مصر لإنجاده فيما قيل والأرجح أنه هبّ للدفاع عن مملكته. وكان نائب سلطان مصر على البيرة رجلا اسمه علاء الدولة بن سليمان (وهو صاحب مرعش والبستان) فلما اجتاز السلطان سليم بالبيرة يريد قصد الشاه الصفوي أمر علاء الدولة أهل مرعش أن لا يبيعوا شيئا لعسكر سليم ، فهلك كثير من رجالهم ودوابهم جوعا ، فشق ذلك على

٢٠٧

السلطان وشكا ما وقع له إلى الغوري فقال : إن علاء الدولة لم يصدر عن أمره وأنه عاص عليه وأنه إذا قتله يكون له شاكرا ، وكتب الغوري إلى علاء الدولة يحمله على متابعة عمله ، فأحس سليم بأن الغوري يكيد له وزاد علاء الدولة بأن سرق بعض أحمال من ذخائر عسكر سليم ، فلما عاد هذا من غزاته قتل علاء الدولة وأولاده وأرسل رؤوسهم إلى الغوري. بمعنى أن سنان باشا استولى سنة (٩٢١) باسم السلطان سليم على مملكة ذي القدرية التي كانت في مرعش والبستان وملطية وبهسنى وخربوت وما إليها ، وكانت الدولة العثمانية جعلت حكومة أبناء رمضان التركمانية التي نشأت سنة (٧٨٠) في جهات أذنة وطرسوس وسيس تحت ظلها ، وكانت علائق أمرائها الثلاثة الأول مع دولة المماليك الشركسية أصحاب الشام ومصر مسترخية ، ففتحت السبل والمنافذ إلى الشام وصارت الجيوش العثمانية تأمن على مقدمتها وعلى خط رجعتها.

ولما أضعف السلطان سليم مملكة كبرى وهي مملكة الصفوي ، وقضى على مملكة صغرى وهي مملكة ذي القدرية ، طمحت نفسه إلى فتح الشام ومصر ونزعهما من دولة المماليك ليضمهما إلى مملكته فتدخل في طور العظمة وتكون ممالك في مملكة ، وكان أبوه وجده من قبله يقاتلان بعض حاميات الشام يتعرفان بذلك مبلغ قوة المماليك ، ويدفعان أمراء الأطراف أمثال أمراء ذي القدرية وغيرهم إلى مجاذبة ملوك الشراكسة حبل السلطة على التخوم. وكان أولئك الأمراء كثيرا ما يسيرون مع المماليك سيرة الصغير مع الكبير ، لعلمهم بأن إثارة العثمانيين لهم على المماليك لا لخيرهم بل لينتقموا بهم ثم ينتقموا منهم ويضعفوهم ويضعفوا بهم.

صلات العثمانيين مع المماليك ووقعة مرج دابق :

وذكر مؤرخو الترك أن الصلات السياسية بين ملوك الشراكسة أصحاب مصر والشام وبين سلاطين آل عثمان كانت مسترخية منذ عهد محمد الفاتح ، ولما سمت همة السلطان سليم إلى فتح الشام ومصر (٩٢٢) أرسل جيشا إلى ديار بكر يورّي بأنه يريد قصد إيران ، ولأدنى سبب أخذ الجيش يتوجه صوب الجنوب ، فبعث قانصوه الغوري بعض رجاله يتوسطه في الصلح فقتل

٢٠٨

السلطان سليم رجال السفير وأراد أن يقتل السفير نفسه فوقع وزيره على قدميه وشفع فيه ، وقال له : إن ذلك مخالف لحقوق الدول فالسفراء لا يقتلون ، فاكتفى السلطان بحلق شعر السفير ولحيته ، وأركبه على حمار أعرج أجرب إلى صاحبه الغوري جزاء ما قدمت يداه فيما يقال من امتهان الغوري رسل السلطان العثماني.

وترددت الرسل بين السلطانين في مرج دابق أولا ، وكان ابن عثمان فوض إلى رسله أن يتظاهروا بطلب سيدهم للصلح ليثني بذلك عزم الغوري عن القتال ، وقد أحضر سلطان العثمانيين فتاوى من علماء مملكته يجيزون له قتل الشاه إسماعيل الصفوي ، وأرسل يقول للغوري : أنت والدي وأسألك الدعاء لكن لا تدخل بيني وبين الصفوي ـ بينا الأمر على ذلك وقد خلع الغوري على قصاد ابن عثمان الخلع السنية ، وأرسل إليه ابن عثمان يطلب منه سكرا وحلوى وأرسل له منها مائة قنطار في علب كبار عدا الهدايا والتحف ، هجم سلطان العثمانيين على ملك الشراكسة وكسره شر كسرة في وقعة دامت من طلوع الشمس إلى ما بعد الظهر ، فقتل من عسكر ابن عثمان ومن عسكر الغوري خلق كثير ، فلما تحقق الغوري أنه غلب أصابه للحال فالج أبطل شقه وأرخى حنكه ، واستعد للركوب فمشى خطوتين وانقلب عن الفرس إلى الأرض وفاضت روحه من شدة قهره ، وأكثر المؤرخين على أنه لم تظهر جثته في المعركة. ويقول بعض مؤرخي الترك : إن جاويشا من الجيش العثماني أمر بأن يبحث عن جثة قانصوه الغوري فقطع رأسه وقدمه إلى السلطان سليم ، فامتعض منه السلطان وأمر أن يضرب عنقه لتزلفه إلى مولاه بقطع رأس الملك المقتول ، ولو لا أن الوزراء توسطوا له لما صرف السلطان النظر عن قتل الجاويش مكتفيا بعزله.

وذكروا أن الغوري قد خانه لأول الأمر ثلاثة عشر ألفا من جيشه ، وامتنعوا عن الحرب عند الصدمة الأولى وأبوا قتال الأتراك ، ومن الأمراء الذين كانوا موالسين على الغوري وضلعهم مع السلطان سليم خير بك نائب حلب وجان بردي الغزالي نائب حماة ، فإن السلطان سليما كان فاوضهما

٢٠٩

سرا ليولهما الشام ومصر على ما قيل إذا ساعداه على فتح هذا القطر ، فلما انهزمت ميمنة الغوري وقتل الأتابكي سودون العجمي وملك الأمراء سيباي نائب الشام ، انهزم جانب كبير من العسكر وانهزم خير بك وهرب فانكسرت الميسرة وكان ابن معن وأمراء الساحل صحبة خير بك والغزالي فقال الأمير ابن معن لمن معه من رجاله وقومه : دعونا ننفرد لننظر لمن تكون النصرة فنقاتل معه. ولما اضطرمت نار الحرب فرّ الغزالي وخير بك إلى ناحية عسكر السلطان سليم بمن معهم من أمراء الديار الشامية وبقي الغوري بعسكر المصريين أي عسكر الشام والمغول عليهم من أمرائها من الشراكسة والوطنيين قد استمالهم السلطان فقاتلوا في صفوفه بدلا من أن يقاتلوه ، ونائب الشام سيباي الذي كان يتطير منه الغوري لأن اسمه يبدأ بحرف السين قد هلك دونه في المعركة يدافع عن ملك سيده لا كما كان هذا يتوهم.

قوة الغالب والمغلوب :

اختلف تقدير المؤرخين لقوة العثمانيين والمماليك فأغلبهم على أن ابن عثمان كان في أربعين ألف مقاتل مجهزين بمدافع حسنة ، وروى نامق كمال أن العثمانيين كانوا في ثمانين ألفا وثمانمائة مدفع ، وأن الغوري كان في خمسين ألفا لا مدافع لهم. وذكر الغزي أن الغوري أتى من حلب إلى دابق في ثلاثين ألفا وقال ابن طولون : إن السلطان سليما وصل إلى دمشق في عساكر عظيمة لم تر العين مثلها يقال : إن عدتها مائة ألف وثلاثون ألفا. وذكر بعض المؤرخين أن السلطان سليما أمر أن تعد القتلى من الفريقين في مرج دابق فكان قتلى الشراكسة ألف نفس وقتلى الروم أي الترك أربعة آلاف. وكان فقدان المدافع من جيش الغوري وخيانة ربع جيشه وعدم ثقته بأحد من دواعي القضاء عليه وعلى سلطانه ، وأهم ذلك خيانة بعض قواده وامتناع الأمراء عن الدفاع في صفوفه أو يظهر لهم الغالب!

قويت نفس السلطان سليم بما أصاب جماعته من الانتصار الباهر ، وما قتل من رجال الغوري ، ثم تحول من مرج دابق ودخل حلب من غير ممانع ، ونزل في الميدان الذي كان السلطان الغوري نزله ، وانتشر خبر الهزيمة وقتل

٢١٠

الغوري في أنحاء الشام ، فوثب الناس بعضهم على بعض ونهبوا الزروع وأخذوا الأموال ، واضطربت العمّال أيما اضطراب ، ونهبت حارة السمرة بدمشق وقتلوا جماعة وأخذوا أموالهم ، وكذلك فعلوا بتجار الفرنج ونهبوا أموالهم ، وكانت فتنة هائلة ونهبوا بيوت أعيان دمشق من القضاة والتجار ، فخرج غالب الصدور منها بسبب ذلك وبسبب فتنة ابن عثمان وفساد الأحوال بمصر والشام وتوجه أمراء الغوري وعسكره المهزوم إلى حلب ، فوثب عليهم أهل حلب قاطبة ، وقتلوا جماعة من العسكر ونهبوا سلاحهم وخيولهم وأثقالهم ، ووضعوا أيديهم على ودائعهم التي كانت بحلب ، وجرى عليهم من أهل حلب ما لم يجر عليهم من عسكر ابن عثمان كما قال ابن إياس. وكان بين أهل حلب والمماليك السلطانية إحن منذ توجهوا قبل خروج السلطان من القاهرة إلى حلب فنزلوا في بيوت أهلها واغتصبوا نساءهم وأولادهم، وآذوا الحلبيين كل الإيذاء ، فما صدق أهل حلب أن وقعت لهم هذه الكسرة حتى يأخذوا بثأرهم.

وعلى الجملة فإن ما نال السكان أواخر حكم المماليك مما عجل بالقضاء على الدولة المالكة وفتح القلوب للسلطان سليم الأول ، وخدمه كثير من أهل الشأن قبل مجيئه فكانوا يوافونه بالأخبار تترى عن مقاتل الغوري ومواطن الضعف من دولته ، وقد بدأوا يتجسسون للعثمانيين منذ أواخر القرن الماضي فكان ذلك من العوامل القوية في الفتّ في عضد الجيش الشركسي وإمالة القوة إلى الجيش التركي ففتحت الشام في وقعة واحدة ولم يبك على دولة المماليك إلا من كانوا باسمها يتمتعون بالخيرات وينالون مظاهرها ويسلبون نعمة الأمة.

دخول السلطان سليم حلب ودمشق :

وافى السلطان سليم مدينة حلب فاستقبله أهلها بالمصاحف والأعلام يجهرون بالتسبيح والتكبير ويقرأون «وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى» وطلبوا منه الأمان فأمنهم وأنعم عليهم ثم أخذ يجمع مالا من التجار سماه «مال الأمان» ورأى خلفاء أرباب الطرق الصوفية فسأل عنهم وهم يحملون أعلامهم ويرحلون إلى دمشق وأشار عليه خير بك بأن يقتلهم وكانوا نحو ألف نفس ، واستسلم

٢١١

نائب قلعة حلب فأرسل السلطان إليه شخصا من جماعته أعور أعرج وفي يده دبوس خشب ليقول بلسان الحال إنه أخذ حلب بأضعف جنده. وطلع السلطان سليم إلى القلعة فرأى فيها ما أدهشه من مال وسلاح وتحف وكان بها على رواية ابن إياس نحو مائة ألف ألف دينار وثمانمائة ألف دينار. وقال مؤرخو الترك : إنه كان فيها مليون دوكا. ورأى السلطان سليم من أنواع الأسلحة والزينة ما جمعه الغوري من وجوه الظلم والجور والتحف التي أخرجها من الخزائن من ذخائر الملوك السالفين من عهد ملوك الترك حكام مصر والشام الأيوبيين وذلك عدا ما كان في بيوت الأمراء وغيرهم من رجال الدولة. ووجه ابن عثمان الجيش إلى مرعش ففتحها وملك معها ثلاث عشرة قلعة من مملكة الغوري وأحرز ما فيها من مال وسلاح. وذكروا أن العثمانيين عثروا في خيمة الغوري في مرج دابق على مئتي قنطار من الفضة ومئة قنطار من الذهب وفي رواية أن هذه الخزينة كان فيها ما قيمته مليون ليرة وقيل : إنه وجد في قلعة حلب ثلاثمائة ألف ثوب كامل.

وأقام السلطان العثماني في حلب ثمانية عشر يوما وبايعه أهلها بحضور واليها خير بك ، وتوجه إليه أمير المؤمنين المتوكل على الله العباسي ، وكان جاء مع الغوري من مصر ومعه القضاة الثلاثة فأجلس السلطان الخليفة وجلس بين يديه وخلع عليه وأنعم عليه بمال ورده إلى حلب ، ووكل به أن لا يهرب أي إنه أسره بأسلوب لطيف ، وصلى الجمعة في الجامع الكبير فأطلق الخطيب على السلطان العثماني لقب خادم الحرمين الشريفين فكان ذلك كما قال راسم فأل خير بأن السلطان سليما سيكون صاحب دولة إسلامية كبرى. قال : وكان خيره باي (خير بك) أحد أمراء الغوري استأمن السلطان العثماني لما تقهقر جيش مصر فأنقذ نفسه. وولى السلطان على حلب قراجا باشا. وسار في جيشه إلى حماة وحمص ففتحت له أبوابهما ، وبايعه أهلهما على الطاعة كما بايعه أهل طرابلس والقدس. وجاء السلطان دمشق فاستقبله أهلها ورضوا به ملكا عليهم ، فكأنه بدخوله دمشق عاج ببعض بلاده القديمة. قال ابن طولون : «وفي يوم الخميس الثامن والعشرين شعبان (٩٢٢) وصل متسلم ملك الروم (الأتراك) إلى القابون الفوقاني واسمه مصلح ميزان ، ثم وجه من يكشفون له هل يسلم أهل دمشق أم يقاتلون ،

٢١٢

وقد كانت اتفقت أكابرها ومشايخ الحارات على تسليمها فسلموها. وفي يوم الجمعة التاسع والعشرين منه دخل نائب دمشق الجديد من قبل ملك الروم واسمه يونس باشا ، وخطب في هذا اليوم في الجامع الأموي المولوي ابن فرفور باسم ملك الروم وكذلك في سائر الجوامع ، ثم تتابع دخول العسكر ، وفي يوم السبت مستهل رمضان منها وصل ملك الروم إلى المصطبة السلطانية بأرض برزة في عساكر عظيمة يقال : إن عددها مائة ألف وثلاثون ألفا وعزل عن نيابة دمشق يونس باشا وولى مكانه أحمد بن يخشي. وفي يوم الإثنين العشرين من ذي القعدة وهو خامس شهر كانون الأول ورابع الأربعينيات الشتوية سافر ملك الروم من دمشق إلى مصر لأخذها من يد الشراكسة.

مقابلة أمراء البلاد سلطانهم الجديد وتغير الأحكام :

قابل الأمراء السلطان سليما ومنهم الأمير فخر الدين المعنى الأول أمير الشوف فخطب أمامه بالنيابة عن أمراء البر خطبة جميلة استمالت بها قلب الفاتح ، فأحسن إليه وخلع عليه وسماه سلطان البر وأفضل عليه وعلى رفاقه من الأمراء مثل الأمير جمال الدين الأرسلاني اليمني الذي جعله واليا على بلاد الغرب والأمير عساف التركماني أمير بلاد كسروان وبلاد جبيل ، وأمرهم أن يحسنوا السياسة لقومهم وأن يسعوا بكل ما يؤول إلى عمران بلادهم ، وقدمت إليه الناس من كل جانب إلا الأمراء التنوخيين القيسيين فإنهم لم يأتوا لأنهم كانوا من حزب الدولة الشركسية. وقال كامل باشا : إن أمير العرب ناصر الدين (ابن الحنش) وكان عهد إليه الدفاع عن دمشق من قبل الشراكسة قبل بالصلح الذي اقترحه عليه خيرباي وخضع للسلطان سليم ، فنزل هذا في القصر الأبلق فجاءه محافظو قلاع سورية وأمراء العرب والدروز يعرضون الطاعة له. ويقول ابن إياس : إن الأمير ناصر الدين بن الحنش ، أمير عربان حماة لما بلغه أن ابن عثمان أرسل طلائع عسكره وقد وصلت إلى القابون بالقرب من دمشق ، لقيهم ابن الحنش وحصل بينه وبين عسكر ابن عثمان مقتلة عظيمة وقتل منهم جماعة وأطلق عليهم الماء من أنهر دمشق حتى صار كل من دخل في تلك المياه بفرسه يوحل فلا يقدر على الخلاص فهلك من عسكر ابن عثمان جماعة كثيرة.

٢١٣

ولما استقرت الحال بالشام ضرب السلطان سليم المكوس على الناس وعلى الأحكام الشرعية فتعطلت الحدود. قال الغزي : ولما بلغ الإمام علي بن محمد المقدسي أن العثمانيين ضربوا الجزية حتى على المومسات تنخع الدم من كبده وتمنى الموت ، للقهر الذي أصابه وللغيرة على دين الإسلام وتغير الأحكام وقال في دخول السلطان سليم دمشق هذه الأبيات:

ليت شعري من على الشام دعا

بدعاء خالص قد سمعا

فكساه ظلمة مع وحشة

فهي تبكينا ونبكيها معا

قد دعا من مسه الضر من ال

ظلم والجور اللذين اجتمعا

فعلا الحجب دعا فانبعثت

غارة الله بما قد وقعا

فأصاب الشام ما حل بها

سنة الله التي قد أبدعا

هذا ما رواه مؤرخ ذاك العصر ، وربما وكان فيما بلغه مبالغة نشأت من تعصب للدولة الشركسية أو رجاء أخفق ، وكان يظن أنه يتم على يد ابن عثمان من إقامة الحدود ورفع المظالم شيء كثير في مدة قصيرة ، وما خلت دولة مهما بلغ من سخفها وسخف القائمين بها من أنصار لها على الحق والباطل ، وكثير من الأمور إذا نظرت إليها من وجهها راقتك ، وإذا ملت إلى الوجه القبيح أحصيت عليها بعض العيوب.

السلطان في دمشق وفي الطريق لفتح مصر :

جهز السلطان سليم جيشه في دمشق وقضى فصل الشتاء فيها يعمر بعض المباني. وقال صولاق زاده : إن السلطان سليما كان مدة إقامته في دمشق يختلف في الأوقات الخمسة إلى الشيخ محمد بلخشي في جوار جامع بني أمية وإن السلطان سليما لما كان يعتقد بالاستمداد من أرواح الأنبياء العظام الطاهرة ، وأرباب المقامات الشريفة لم يغفل هذا المقصد مدة إقامته في دمشق ، ولما رأى قبر العارف بالله محيي الدين بن عربي قد تداعى وخربت تربته أمر بتعميره على ما يجب ، وأنشأ بجواره جامعا على أجمل طرز ، وعمر زاوية بقربه ، ووقف على ذلك عدة قرى ومزارع. وقال أيضا : إن السلطان سليما صرف الأمراء

٢١٤

والجند فأخذوا دستورا إلى مواطنهم ليقضوا فيها فصل الشتاء بعد أن استراح اثني عشر يوما في المصطبة.

وذكر ابن طولون أن النائب بدمشق ابن يخشي نادى في ٢ ذي الحجة (٩٢٢) بالأمان والاطمئنان ، وأن لا ظلم ولا عدوان ، ولا يحمل أحد سلاحا ، وأن لا يتكلم أحد فيما لا يعنيه.

سار السلطان عن طريق البر إلى غزة فعصت عليه ففتحها حربا ، والتقى جيش العثمانيين مع جيش المصريين في خان يونس بين غزة والعريش ، فشتت الجيش العثماني الجيش المصري ، ثم عصت غزة والرملة فقمع ثائر الغزاة فيها ، وكانت الوقعة المهمة بين عسكر مصر وعسكر ابن عثمان على الشريعة بالقرب من بيسان اندحر فيها المصريون وقاد جندهم الغزالي. قال ابن طولون : وفي ١٦ ذي الحجة (٩٢٢) التقى سنان باشا الوزير الأعظم لملك الروم مع جان بردي الغزالي وكسر الغزالي فدقت البشائر بقلعة دمشق وسيب بها نفط كثير ثم نادى النائب بالزينة واستمرت مدة أسبوع.

ذهب السلطان سليم في جيشه إلى مصر وقتل الملك الذي كان بايع له المصريون بعد هلاك السلطان الغوري واسمه طومان باي ، ففتح القطر المصري على أيسر سبب. قال ابن طولون : ولما وردت البشائر بفتح مصر زينت دمشق سبعة أيام ودارت مبشرو الأروام على بيوت الأكابر والحارات بالطبول والنايات ثم أتبعوها بزينة سبعة أيام لما ورد الخبر بأن السلطان سليما أفنى الشراكسة وعاد السلطان عن طريق البر إلى الشام بعد تغيبه ثمانية أشهر ودخل دمشق (١١ رجب ٩٢٣) وفي يوم ٢٢ منه طلبت العساكر النزول في البيوت فهجموا على النساء وتضرر الخلق بذلك ضررا زائدا وتحقق أن السلطان عزم على الإقامة بدمشق فغلت الأسعار وعند ذلك شرع بعمارة تربة ابن عربي وصرف عليها عشرة آلاف دينار. ومن غريب التوفيق أن السلطان سليما كان أعد في ذهابه إلى مصر خمسين ألف جمل لحمل المياه في الصحراء التي تفصل الشام عن مصر فأمطرت السماء مطرا غزيرا أغنى جيشه عن ماء الروايا ، وسهل عليه قطع صحراء التيه.

وبينا كان السلطان سليم سائرا إلى مصر تأخر من جماعته في الرملة ، أناسا

٢١٥

فشاع الخبر أن أهل المدينة قتلوهم ، وبلغ ذلك السلطان فأمر بقتل أهل البلد فقتلوا عن آخرهم ولم يبق فيها ديار ولا نافخ نار. ويقول القرماني : إن السلطان أمر بقتل عامة أهل الرملة عند عودته من مصر وقد بلغه الثقات أن أهلها قتلوا من كان عندهم من العسكر المجروحين. وقال ابن إياس : إن الغزالي لما تلاقى مع سنان باشا على الشريعة أشيع في غزة أن الغزالي قد انتصر على عسكر ابن عثمان وقتل سنان باشا وعسكر ابن عثمان ، فبادر علي باي دوادار نائب غزة وأجناده فنهبوا وطاق العثمانيين وأحرقوا خيامهم وقتلوا ممن كان في الوطاق والمدينة من العثمانية نحو أربعمائة إنسان ما بين شيوخ وصبيان وممن كان بها مريضا ، فلما ظهر أن الكسرة على عسكر مصر وقتل من قتل من الأمراء رجع سنان باشا إلى غزة فوجد من كان بها قد قتل ونهب الوطاق ، فجمع أهل غزة قاطبة وقال لهم : من فعل ذلك بنا؟ قالوا : علي باي دوادار نائب غزة ، وأجناده فنهبوا وطاق العثمانيين وأحرقوا خيامهم وقتلوا ممن كان في الوطاق والمدينة من العثمانية نحو أربعمائة إنسان ما بين شيوخ وصبيان وممن كان بها مريضا ، فلما ظهر أن الكسرة على عسكر مصر وقتل من قتل من الأمراء رجع سنان باشا إلى غزة فوجد من كان بها قد قتل ونهب الوطاق ، فجمع أهل غزة قاطبة وقال لهم : من فعل ذلك بنا؟ قالوا : علي باي دوادار نائب غزة ، وأجناد غزة ، ولم نفعل نحن شيئا من ذلك ، فأمر سنان باشا بكبس بيوت غزة فوجدوا فيها قماش العثمانية وخيولهم وخيامهم فقال لهم سنان باشا : نحن لما دخلنا غزة هل شوشنا على أحد منكم قالوا : لا. فقال لهم : كيف فعلتم بعسكرنا ذلك ، فلم يأتوا بجواب ولا عذر ولا حجة فعند ذلك أمر عسكره أن يلعبوا فيهم بالسيف فقتلوا منهم كثيرين وراح الصالح بالطالح.

ونصب السلطان واليا على مصر خير باي نائب حلب ، وواليا على دمشق جان بردي الغزالي نائب حماة ، وأضاف إلى هذا القدس وغزة وصفد والكرك ، وأما حمص وطرابلس والمدن البحرية فجعلها بأيدي عماله من الأتراك ، وبقي الحال على ذلك مدة طويلة. وكانت ولاية دمشق تمتد من المعرة إلى عريش مصر على ذلك مدة طويلة. وكانت ولاية دمشق تمتد من المعرة إلى عريش مصر على مال معين قدره مائتا ألف دينار وثلاثون ألف دينار. قال شمس الدين سامي : إن جانبردي الغزالي كان قائدا عاما للجيش الذي أرسله طومانباي لقتال السلطان سليم فغلب في الوقعة التي جرت في غزة وفرّ ثم رأى أن يستأمن السلطان سليما ويخدمه ، فأعانه على قهر طومانباي وفتح مصر ثم كان سببا لقتل طومانباي. ومكافأة لخدمته نصبه السلطان واليا على دمشق ، أما حلب فقد نصب عليها قره جه أحمد باشا ودام فيها واليا ثلاث عشرة سنة لغنائه وكفايته في خدمة دولته.

٢١٦

فتوق وغارات وتأذي السكان :

ولما مهد السلطان سليم الديار الشامية والمصرية عصى عليه محمد بن الحنش المتغلب على صيدا والبقاعين وشيخ الأعراب (٩٢٤) ثم هرب واتهم الأمير زين الدين والأمير قرقماز والأمير علم الدين سليمان أنهم من حزبه فقبض عليهم الغزالي وبعث برأس ابن الحنش ورأس ابن الحرفوش إلى السلطان سليم في حلب وأطلق سراح هؤلاء المعتقلين ، وكان ابن الحنش كثير العصيان على نواب حلب وعلى سلاطين مصر. ولما ملك ابن عثمان دمشق امتنع من مقابلته ، ثم اضطربت أحوال جبل نابلس وصار العربان ينهبون الضياع التي حول حاضرتها ويقتلون أهلها. وفي مدة إقامة السلطان سليم في حلب لدن عودته من فتح دمشق ومصر قتل بعض أشرار حارة بانقوسا ، ولما بلغه أن الشاه إسماعيل الصفوي يريد أن يهاجم حلب أخذ يطيب خاطر الحلبيين ورفع عنهم ما كان أثقل كواهلهم به من الضرائب والمكوس وأنشأ يعنى بتحصين حلب.

ومن أعمال الغزالي استيلاء العربان (٩٢٥) على الحاج الشامي فخرج إليهم ومعه نائب غزة ونائب الكرك ، فاقتتل مع العربان وقتل منهم جماعة وغنم أموالهم. وفي السنة التالية أتى الفرنج إلى ساحل بيروت وحاصروا من بها فكسروهم وملكوا بيروت وظلوا فيها ثلاثة أيام ، فلما بلغ نائب الشام ذلك عين دواداره (١) ومعه الجمّ الكثير من العساكر فتوجهوا إلى بيروت واقتتلوا مع الفرنج. وكان بين الفريقين واقعة قتل فيها كثير منهم وأسر ثلاثمائة إنسان منهم وغنموا منهم أشياء كثيرة من سلاح وقماش ، وقيل : أسروا جماعة من أولاد الملوك الفرنج وملكوا ثلاثة من كبار مراكبهم. ويقول ابن طولون : إنه قتل من المسلمين مئة ومن الفرنج أربعمائة جاءوا في زي الأروام وجيء برؤوس الإفرنج إلى دمشق (٩٢٦).

__________________

(١) الدوادار : حامل الدواة ويطلق في عهد المماليك على أشخاص يوصلون كتب السلطان ويقدمون إليه السفراء وغيرهم ممن يتمثلون أمام الملك.

٢١٧

وفي ذهاب السلطان إلى مصر وعودته إلى الشام قاسى الشاميون من اعتداء جنده كثيرا ، فقطع الأجناد الأشجار ورعوا الزروع وأخرجوا أهلها من بيوتهم في كل بلد واحتلوا وتعدوا على أعراض الناس ، فتضرر الناس بذلك وعرفوا أنهم أخطأوا في نفض أيديهم من أيدي الشراكسة لأول ما بدا لهم من قوة العثمانيين ، وخاب رجاؤهم في أن تغيير الدول قد يكون منه رحمة ، خابت الظنون لما جاء دور العمليات وغلط في الحساب من كانوا يتوقعون من الدولة الجديدة كل الخير وأن الحظ يحظهم متى خفقت أعلامها عليهم ، وكانوا يرقبون طلعة العثمانيين منذ سنين رقبة هلال العيد ، للاستمتاع بحكمهم الرشيد وعهدهم السعيد ، ولطالما ساء فأل من يهتمون للأمر الجديد ، ويفتحون له قلوبهم وصدورهم بادئ الرأي مع علمهم أحيانا بتهورهم ، وأي فشل أعظم لمن كانوا يطلعون الدولة الخالفة على عورات الدولة السالفة ، حبا بأن يكون لهم شيء من الراحة والهناء إذا تغيرت الدولة.

محاسن السلطان سليم ومساويه ومهلكه :

صرف السلطان سليم سنة وشهرا في فتح الشام ومصر وهلك بعد مغادرته القطرين بنحو ثلاث سنين (٩٢٦) وقد بالغ مؤرخو الترك في وصف فضائله خصوصا من كتبوا بلسان الرسميات. وكثيرا ما يكون في الروايات الرسمية نظر كبير إذا وضعت على محك النقد التاريخي. وكان مؤرخو العرب أقرب إلى الثقة في وصف هذا الفاتح الذي هو بلا مراء نابغة العثمانيين أو من نوابغهم بعد محمد الفاتح. ترجمه النجم الغزى في الكواكب السائرة بقوله : كان السلطان سليم سلطانا قهارا ، وملكا جبارا ، قوي البطش ، كثير السفك ، شديد التوجه إلى أهل النجدة والبأس ، عظيم التجسس عن أخبار الملوك والناس ، وربما غير لباسه وتجسس ليلا ونهارا ، وكان شديد اليقظة والتحفظ ، يحب مطالعة التواريخ وأخبار الملوك ، وله نظم بالفارسية والرومية (التركية) والعربية.

ومما قال ابن إياس فيه : إنه لم يجلس بقلعة الجبل (بمصر) على سرير الملك جلوسا عاما ، ولا رآه أحد ، ولا أنصف مظلوما من ظالم ، بل كان مشغوفا

٢١٨

بلذته وسكره ، وإقامته في المقياس بين الصبيان المرد ، ويجعل الحكم لوزرائه بما يختارونه ، فكان ابن عثمان لا يظهر إلا عند سفك دماء الشراكسة ، وما كان له أمان ، وكلامه ناقض ومنقوض ، لا يثبت على قول واحد كقول الملوك وعادتهم في أفعالهم. وقال أيضا : إن السلطان سليما قتل يونس باشا الصدر الأعظم وكان مقربا جدا عنده ولكن ابن عثمان ليس له صاحب ولا صديق ولا أمان منه لأحد من وزرائه ولا من عسكره ومن طبعه الرهج (الشغب والفتنة) والخفة ، ويحب سفك الدماء ولو كان لولده ، ويقال : إنه قتل أباه وإخوته ، لأجل مملكة الروم ، وآخر الأمر إنه قتل يونس باشا لكونه صار له عليه يد قديمة.

وفي الواقع أن السلطان سليما قتل وزيره حسن باشا في رحيله إلى مصر لأن هذا لاحظ أن في قطع الصحراء هلاك الجيش فضرب السلطان عنقه ، ولما غادر السلطان مصر وألف جمل تحمل أمامه منها إلى الاستانة ما غنمه من الذهب والفضة قتل وزيره الآخر يونس باشا في صحراء قطبة والسبب في ذلك أن السلطان اقترب من الصدر الأعظم وهو سائر معه وقال له : أرأيت كيف مصر الآن وراءنا وغدا نبلغ غزة. فلم يتمالك الصدر أن أجاب السلطان : نعم ولكن أي ثمرة حصلت من هذا التعب والمشقة ، إن لم يكن هلاك نصف الجيش السلطاني في الحروب ووسط الرمال ، وبقيت حكومة مصر بعد هذا في أيدي الخونة. فلما قال الصدر ذلك استشاط السلطان غضبا فضرب عنق الوزير في الحال ودفن في الخان الذي كان أنشأه بين مصر والشام يونس بن عبد الله التركي الدوادار بالقرب من غزة ، فدفن يونس باشا في خان سميه يونس الدوادار ، وعهد السلطان بالصدارة إلى بيري باشا.

وقال الشرقاوي : إن خير بك لما دفع إلى السلطان سليم مفاتيح مصر ردها عليه وولاه عليها إلى أن يموت فشاوره على أن أبناء الشراكسة يريدون الدخول في جملة الأجناد فأجازه بذلك ، وشاوره في إبقاء أوقاف الشراكسة وهي نحو عشرة قراريط من أرض مصر فأجازه بإبقائها على ما كانت عليه ، فتشوش وزيره وقال : فني مالنا وعساكرنا ، وتبقى لهم أوقافهم يستعينون علينا بها ، فقال السلطان سليم : أين الجلاد وكانت إحدى رجليه في الركاب فضرب عنق

٢١٩

الوزير ووضع رجله الثانية في الركاب. وقال : عاهدناهم على أنهم إن مكنونا من بلادهم أبقيناهم عليها وجعلناهم أمراءها ، فهل يجوز لنا أن نخون العهد ونغدر؟ وإذا أدخلنا أبناءهم في جندنا فهم أولاد مسلمين ويغارون على ديارهم ، وأما أراضيهم فأصلها ملك القائمين ومنهم من وقف معهم من قامت ذريته عليه من بعده ، فهل يجوز أن ننازع الملاك في أملاكهم؟ وأنا أزلت الوزير كراهة أن يغير عليّ اعتقادي بتكرار كلامه اه.

كان القتل عند السلطان سليم أسهل أمر وألطفه ، وكان شديدا جدا على وزرائه قتل منهم سبعة لأسباب تافهة. وقال القرماني : إنه خنق إخوته وغيرهم من أهل بيته وعددهم سبعة عشر نفرا وذلك حين توليه الملك وجرى عند الأتراك في حكم الأمثال قولهم : من أراد الموت فليكن وزيرا للسلطان سليم ، لأن لقب وزير كان شهادة على الموت العاجل. وقال صولاق زاده : في عصر سليم كان الوزراء أبدا عرضة للتنحية ثم للقتل بعد شهر من تنصيبهم ، ولذلك اعتادوا أن يحملوا معهم صكوك وصاياهم ، وكلما كانوا يخرجون من مجلس السلطان يعتقدون أنهم عادوا إلى الحياة بعد الموت. وقد وصفه فوسكولو المؤرخ البندقي بأنه أقسى البشر قلبا لا يحلم بغير الفتوح والحرب اه. ولم يكن السلطان سليم يراعي من جميع رجاله إلا المفتي الأعظم زنبيللي علي أفندي ، وكان هذا قوالا بالحق وكثيرا ما كان يرده عن مظالمه ، ويحول بينه وبين إزهاق النفوس بلا حق ، وقد أنقذ بعمله من القتل مئات من البشر ، وهذا المفتي العظيم تولى مشيخة الإسلام ستا وعشرين سنة على عهد ثلاثة سلاطين وهم با يزيد الثاني وسليم الأول وسليمان الأول :

لم يطل عهد هذا الفاتح الجبار أكثر من ثماني سنين وثمانية أشهر ، ولم يعمل في الشام إلا أن أقرّ القديم على قدمه في أسلوب الأحكام ، وغنم ما تيسر من ثروة المماليك والأغنياء، وزاد في الضرائب والمكوس ، ونصب حكاما ممن استأمنوا إليه أو خانوا الدولة الأولى وتقربوا إليه منذ دخل حلب ووضع قيد الأسر للخليفة أمير المؤمنين المتوكل على الله آخر خلفاء بني العباس بمصر ، وأخذه معه لما انصرف إلى الاستانة ، ثم ألقى الاختلاف بينه وبين أولاد عمه أبي بكر وأحمد. وقال ابن إياس : إن السلطان سليما تغير خاطره على الخليفة

٢٢٠