خطط الشام - ج ٢

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٢

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٠

فبالغ في ذلك حتى إن بعض التجار كانوا يترحمون على تيمور وفرض على جميع الجهات مثليها ، وتناول حتى الخانات والحمامات وأرباب المعايش حتى انقطعت الأسباب وتعطلت الأرزاق.

ونازل التركمان حلب (٨١٠) فحصرها علي بك بن خليل بن قراجا بن دلغادر ومعه عدة من أمراء التركمان وعدة من أمراء العرب ونازلوها أياما وقاتلهم العوام ومن بها ، وكان بها يومئذ تمربغا المشطوب فدخلوا ولم يظفروا بطائل ، وكان لعلي بك ولد محبوس بقلعة حلب فصانع أهل حلب أباه بإرساله مكرما فما أفاد ذلك وجد في الحصار ونازل المعجل بن نعير حماة وحاصرها ونهب علي بك ومن معه القرى التي حول حلب وجدوا في الحصار ، وبالغ أهلها بالذب عن أنفسهم واشتدوا للقتال وهان عليهم الأمر خشية على أموالهم وحريمهم بحيث أنهم كانوا كل يوم لا يرجعون إلا وقد أنكوا في التركمان نكاية كبيرة ، وأوقع نوروز بالمعجل ومن معه من العرب على حماة وكسرهم.

وجرت في هذه السنة وقعة في وادي عقيبة من كروم بعلبك بين أنصار السلطان وبعض أمراء المماليك الفارين من القاهرة فكاثرهم نوروز وقتل منهم وحملت رؤوسهم إلى مصر. وتصافى شيخ ونوروز بعد الخلاف وتوجها بعسكرهما إلى إقليم ابن بشارة ونهبوه وهرب ابن بشارة. وقصد تمربغا المشطوب نائب حلب النزول على التركمان فبيتوه وكسروه ورجع منهزما ، ونهب نوروز للعرب إبلا كثيرة فكبسوا عليها واستنقذوها وحاصر شاهين دويدار شيخ صهيون فغلب عليها فضربت البشائر بدمشق.

وجاء الأمير شيخ والأمير نوروز من غزة في عساكر كثيفة (٨١١) فلما سمع الناصر بذلك خرج هو والأمراء على الهجن فتلاقى العسكران على السعيدية وكان بينهما واقعة عظيمة فانكسر الناصر ورجع إلى القاهرة وهو مهزوم ، فتبعه شيخ ونوروز ودخلا إلى القاهرة، ثم قوي حال الناصر على شيخ ونوروز فكسرهما فرجعا إلى الشام مهزومين ، وقتل في هذه الحركة جماعة كثيرة من الأمراء والمماليك. وفيها تعين نوروز لنيابة الشام ثم تنحى عنها ، وأرسل السلطان تقليدا إلى شيخ بنيابة الشام وتقليدا إلى دمرداش بنيابة حلب ، ثم عين نوروز إلى القدس بطالا ، ثم كتب إلى دمرداش نائب حلب بالحضور إلى مصر ورسم

١٨١

لشيخ بنيابة طرابلس مع نيابة حلب وخامر شيخ بعد ذلك على السلطان فجرد إليه ورجع على غير طائل.

ثم إن نوروز قصد صفد ليحاصرها فقدم عليه الخبر بحركة شيخ إلى دمشق وكان قد جمع من التركمان والعرب جمعا وسار من حلب فرجع نوروز فسبقه إلى دمشق ، فتراسل شيخ ونوروز في الكف عن القتال ولم ينتظم لهما أمر ، وصمم شيخ على أخذ دمشق وباتا على أن يباكرا القتال فأمر شيخ بإيقاد النيران في معسكره واستكثر من ذلك ، ورحل جريدة إلى سعسع فنزلها ، وأصبح نوروز فعرف برحيله وسار نوروز إلى سعسع فلقي بها شيخا وهو في نفر قليل نحو الألف فالتقيا فانكسر نوروز ويقال : إنه كان معه أربعة آلاف نفس ولم يكن مع شيخ سوى ثلاثمائة نفس ، وركب شيخ أقفيتهم ودخل دمشق ثم رحل إلى ملطية وأرسل شيخ عسكرا ورحل نوروز إلى حلب لمحاصرتها ثم لحق عسكر شيخ بالتركمان بأنطاكية وأوقعوا بهم واستنقذوها منهم.

وألزم النائب أهل دمشق بعمارة مساكنهم والأوقاف التي داخل البلد وضرب فلوسا جددا ثم نودي عليها كل مائة وأربعين بدرهم. وكتب الناصر إلى الشام بإسقاط ما على الناس من البواقي من سنة ثمان وتسعين إلى سنة ثنتي عشرة وفي السنة التالية ألزم الناس في دمشق بعمارة ما خرب من المدارس. وفيها توجه الدويدار إلى البقاع للاستعداد لبرديك لما طرق الشام ، فوصلت كشافة برديك إلى عقبة سحورا ثم نزل هو شقحب ، فتأهب من بالقلعة بدمشق وخرج العسكر مع سودون وحمل هو على عسكر برديك فكسرهم ثم انهزم برديك على خان ذي النون ورجع إلى صفد. واشتد الحصار على نوروز ودمرداش بحماة فقتل بينهما أكثر من كان معهما من التركمان وانضم أكثر التركمان إلى شيخ ووصل إليه المعجل بن نعير نجدة له بمن معه من العرب فخيم بظاهر حماة ، فوقع القتال بين الطائفتين واشتد الخطب على النوروزية فمالوا إلى الخداع والحيلة ولم يكن لهم عادة بالقتال يوم الجمعة فبينما الشيخية مطمئنين هجم النوروزية عليهم وقت صلاة الجمعة فاقتتلوا إلى قبيل العصر فكانت الكسرة على النوروزية وتفرق أكثر العساكر عن نوروز ولحق كثير منهم بشيخ ، وكتب إلى دمشق فدقت بشائره وزينوا البلد وكبس أصحاب نوروز

١٨٢

المعجل بن نعير ليلا فأنجده شيخ وكتب دمرداش إلى الناصر يستنجده ويحثه على المجيء إلى الشام وإلا خرجت عنه كلها فإنه لم يبق بيده منها إلا غزة وصفد وحماة وكل من بها من جهته في أسوإ حال.

قال ابن حجر في حوادث سنة (٨١٣) : إنه وصل الفرنج الذين استأذنوا الناصر في العام الماضي لما دخل القدس أن يجددوا عمارة بيت لحم فوصلوا إلى يافا ومعهم عجل وصناع وأخشاب فأخرجوا المرسوم فاستدعوا الصناع للعمل بالأجرة فأتاهم عدة وشرعوا في إزاحة ما بطرقهم من الأدغال ووسعوا الطريق بحيث تسع عشرة أفراس ولم تكن تسع غير فارس وأحضروا معهم دهنا إذا وضعوه على الصخر سهل قطعها ، فلما رجع الناصر إلى دمشق عرفه نصحاؤه بسوء القالة في ذلك فكتب إلى أرغون كاشف الرملة بمنعهم من ذلك والقبض عليهم وعلى من معهم من الصناع والآلات والسلاح والجمال والدهن فختم على مخازنهم وحملهم ومعهم ما رسم به الناصر.

وفي سنة (٨١٤) ارتفع الطاعون عن دمشق وما حولها وأحصي من مات من أهل دمشق خاصة فكانوا نحوا من خمسين ألفا وخلت عدة من القرى وبقيت الزروع قائمة لا تجد من يحصدها.

الملك السكير وقتله :

وبقي أمر الشام متقلقلا لأن ملك مصر على هذه الصورة من السخافة والضعف وهو شارب الليل والنهار تصدر الأعمال عنه مختلة كلها ، فقطع شيخ المحمودي ونوروز الحافظي اسم الناصر من الخطبة بدمشق وأعمالها ، ونفرت قلوب المماليك من الناصر وصار منهم جماعة (٨١٤) يتسحبون تحت الليل ويتوجهون إلى نوروز الحافظي وشيخ المحمودي ، يأتون الشام من العقبة إلى غزة فتسحب من العسكر نحو الثلث ، فقويت شوكة الحافظي والمحمودي والتف عليهما سائر النواب في الشام وغالب عسكر مصر وكثير من العشير وعربان نابلس ، واجتمع عندهما من الأمراء ما يزيد على أربعة وعشرين أميرا. ولما تحقق الناصر ذلك جرد عليهم جيشا فكانوا يتوجهون في كل يوم من بلد إلى بلد والناصر خلفهم ليلا ونهارا فأتعب العسكر وانقطع

١٨٣

منهم جماعة من شدة السوق والتعب. ووصل الناصر إلى اللجون (٨١٥) فتلاقى والنواب بعد العصر وكان الناصر قد اصطبح وهو لا يعي من شدة السكر فأراد الكبس على النواب في تلك الساعة فمنعه الأمراء فأبى ، فلما رأوا ذلك تسحبوا من عنده مع عسكره فلم يبق معه إلا القليل من العسكر فكبس على النواب فانكسر الناصر وهرب بمن بقي معه من العسكر إلى نحو دمشق ، واستولى شيخ ونوروز على أثقاله وخزائن المال وانتصرا عليه.

فلما دخل شيخ ونوروز إلى دمشق طلعا إلى دار السعادة واجتمع هناك الأمراء وأحضروا القضاة الأربعة ورسموا بأن يكتبوا محضرا بأفعال الناصر بأنه سفاك للدماء مدمن للخمر فكتبوا محضرا بذلك وشهد فيه جماعة كثيرة من أعيان الناس ، ثم خلعوا الناصر من السلطنة واشتوروا فيمن يولونه فقال نوروز لشيخ : لا أنا ولا أنت نتسلطن. ولكن اجعلوا الخليفة العباسي هذا هو السلطان ، ويكون الأمير شيخ أتابك العساكر ومدبر المملكة في مصر ، ويكون الأمير نوروز نائب الشام ويحكم في الديار الشامية من غزة إلى الفرات ، يولي من يختار ويعزل من يختار ، فتراضوا على هذا وحلف جميع الأمراء وتعاهد شيخ ونوروز ثم سلطنوا الخليفة واستمر نوروز الحافظي نائب الشام.

وأما ما كان من أمر الناصر فرج بعد الكسرة التي وقعت له على اللجون فإنه ولى منهزما إلى نحو دمشق ، وأرسل إلى شيخ يطلب منه الأمان ، وكان نوروز صهر الناصر زوج أخته ، فلو طلب منه الأمان أولا لما أصابه شيء ولكن قصد شيخا فأرسل إليه من قيده وأحضره إلى السجن بقلعة دمشق ، ثم إنهم أثبتوا عليه الكفر كما قيل ودخل عليه بعد أيام جماعة من الفداوية وقتلوه بالخناجر وهو بالبرج بقلعة دمشق ، وألقوه على مزبلة خارج البلد وهو عريان مكشوف الرأس ، ليس عليه غير اللباس في وسطه ، وصار الناس يأتون إليه أفواجا ينظرون إليه ، ولو أمكن مماليك أبيه أن يحرقوه لفعلوا به ذلك مما قاسوه منه فأقام على ذلك ثلاثة أيام ثم دفنوه «وكانت الدنيا على أيامه حائلة وحقوق الناس ضائعة ، وقد خرب غالب البلاد الشامية في أيامه من تيمور لنك ومن عصيان النواب وخربت أوقاف الناس في الشام ، وكم قتل من أبطال ويتم من أطفال ، وجرت في أيامه أمور شتى يطول شرحها» قال المقريزي :

١٨٤

لم تزل أيام الناصر كلها كثيرة الفتن والشرور والغلاء والوباء. طرق الشام تيمور فخربها كلها وحرقها وعمل بالقتل والنهب والأسر حتى فقد منها جميع أنواع الحيوانات وتمزق أهلها في أقطار الأرض ، ثم دهمها بعد رحيله عنها جراد لم يترك بها خضراء ، فاشتد الغلاء على من تراجع إليها من أهلها وشنع موتهم واستمرت بها مع ذلك الفتن.

الخليفة السلطان وسلطنة شيخ :

عهد الأمراء الذين قضوا على سلطان الناصر بالسلطنة إلى الخليفة العباسي وكان المسكين أشبه بعامل مخترم من عمال الشراكسة لا عصبية له ولا جيش ، والغالب أن العهد بالسلطنة إليه كان دسيسة سياسية من الأميرين نوروز وشيخ يوم قال الأول للثاني وهما يتفاوضان فيمن يوسدان إليه السلطنة : «لا أنا ولا أنت نتسلطن» فاستولى شيخ على ملك مصر بالفعل وإليه قيادة الجند ، واستولى نوروز على الشام يحكم فيها حكم الملك ، وبقي الأمر على ذلك إلى سنة (٨١٦) وقد بلغ نوروز الحافظي أمير الشام أن المؤيد شيخ خلع الخليفة العباسي في مصر وتسلطن عوضه ، فعزّ عليه ذلك ولم يقبل الأرض للملك المؤيد شيخ وأظهر العصيان واستمر نوروز يخطب باسم الخليفة العباسي على منابر دمشق وأعمالها ولم يخطب باسم المؤيد شيخ ولا ضرب باسمه سكة ، واستمر مستأثرا بملك الشام من غزة إلى الفرات.

وفي سنة ست عشرة وثمانمائة ظهر الخارجي الذي ادعى أنه السفياني قال ابن العماد : وهو رجل عجلوني يسمى عثمان بن ثقالة اشتغل بالفقه قليلا في دمشق ، ثم رجع إلى الجيدور ودعا إلى نفسه فأجابه بعض الناس فأقطع الإقطاعات ونادى أن مغلّ هذه السنة مسامحة ولا يؤخذ من أهل الزراعة بعد هذه السنة التي سومح بها سوى العشر ، فاجتمع عليه خلق كثير من عرب وعشير وترك ، وعمل له ألوية خضراء وسار إلى وادي الياس وبث كتبه في النواحي بحث الناس على الانضمام إليه فارسهم وراجلهم مهاجرين إلى الله ورسوله ليقاتلوا في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا ، فثار عليه غانم الغزاوي وجهز إليه طائفة وطرقوه بجامع عجلون فقاتلهم فقبضوا عليه وعلى ثلاثة من أصحابه

١٨٥

فاعتقل الأربعة وكتب إلى المؤيد بخبره فأرسلهم إلى قلعة صرخد.

وفي سنة (٨١٧) خرج المؤيد شيخ من مصر في العساكر قاصدا إلى دمشق للقضاء على نوروز. وكان قد حصن دمشق وركب على سورها المدافع من كل جانب ، فحاصره المؤيد شيخ حصارا طويلا ونصب حول دمشق عدة مجانيق حتى غلب نوروز وسلم نفسه إلى شيخ فقطع رأسه ، وكان نوروز مهابا شديد البأس سفاكا للدماء ، ما كان في عسكر إلا انهزم ولا ضبط أنه ظفر في وقعة قط ، وهو الذي عمر قلعة دمشق بعد تيمور لنك. ومهد المؤيد شيخ الديار الشامية وعزل من عزل وولى من ولى ، وخلع على قانباي المحمدي واستقر به نائب الشام وخلع على إينال الصصلاني واستقر به نائب حلب ، وخلع على سودون بن عبد الرحمن واستقر به نائب طرابلس ، وخلع على جاني بك البجاسي واستقر به نائب حماة ، ولم يلبث هؤلاء النواب (٨١٨) أن خامروا على الملك المؤيد شيخ وخرجوا عن الطاعة ، فجرد إليهم المؤيد ثانيا ، وخرج إليهم بنفسه وأوقع معهم فانتصر عليهم ، وقبض على قانباي المحمدي نائب الشام وقطع رأسه ، ثم قبض على إينال الصصلاني وقتله على صدر أبيه ثم قتل الأب بعد ذلك ، ثم ولى جماعة من الأمراء نوابا غير هؤلاء ورجع إلى الديار المصرية ، فلم يقم سوى مدة يسيرة حتى خامر النواب أيضا فجرد إليهم ثالث مرة وخرج بنفسه فلما بلغ النواب مجيئه هربوا من وجهه وتوجهوا إلى قرا يوسف أمير التركمان فنصب الملك المؤيد نوابا غيرهم ممن يثق بهم ، ومهد الأقاليم الدمشقية والحلبية وقطع شأفة النواب الذين عصوا سلطانه ، ومن الأحداث في هذا الدور دخول قرا يوسف التركماني من العراق إلى حلب (٨٢١) في نحو ألف فارس فجفل من كان خارج مدينة حلب بأجمعهم ، واضطرب من بداخل سور حلب وألقوا بأنفسهم من السور ولم تسكن الحالة إلا بعد رحيله.

هلاك المؤيد شيخ وسلطنة ابنه في القماط :

هلك الملك المؤيد شيخ سنة (٨٢٤) وكان ملكا جليلا كفؤا للسلطنة وافر العقل مقداما في الحرب عارفا بمكايدها وحيلها وقت التقاء الجيوش

١٨٦

حتى ضرب به المثل فكان يقال : نعوذ بالله من ثبات شيخ ومن حطمة نوروز الحافظي. هذه رواية ابن إياس بيد أن المقريزي يقول : إنه حدث في أيام هذا الملك أكبر خراب مصر والشام لكثرة ما كان يثيره من الشرور والفتن أيام نيابته بطرابلس ودمشق ، ثم ما أفسده في أيام ملكه من كثرة المظالم ونهب البلاد وتسليط أتباعه على الناس ، يسومونهم الذلة ويأخذون ما قدروا عليه من غير وازع ولا عقل ولا ناه من دين. وتولى بعد الملك المؤيد شيخ ابنه المظفر أبو السعادات أحمد وهو في القماط فخامر نائب دمشق جقمق الأرغوني ونائب حلب يشبك المؤيدي وكذلك بقية النواب في الشام ، وكان الأتابكي ألطنبغا القرشي لما توجه في العسكر المصري أوقع معهم بمن معه من الأمراء فهربوا إلى نحو صرخد ، ثم إن الأتابكي ألطنبغا جمع العربان والعشير ورجع إلى دمشق وأوقع مع نائب الشام جقمق فانكسر جقمق، فملك الأتابكي دمشق وقلعتها ، فلما بلغه وفاة الملك المؤيد وسلطنة ابنه أظهر العصيان وأقام بدمشق وحصنها ونصب على سورها المكاحل بالمدافع ، والتف عليه العربان والعشير ، وبلغ الأمراء بمصر ذلك فخعلوا على ططر واستقروا به أتابك العسكر عوضا عن ألطنبغا القرشي. ثم اتفق الحال على أن الأتابكي ططر يأخذ السلطان معه في محفة ويتوجه هو والعسكر إلى دمشق بسبب ألطنبغا القرشي والنواب ، فخرج ططر من القاهرة وصحبته المظفر أحمد في محفة والمرضعة معه ، وكانت أمه خوند سعادات صحبة ابنها في المحفة لما خرج إلى الشام لتأمن عليه من القتل ، فدخل المظفر إلى دمشق وألقى الرعب في قلب ألطنبغا وجقمق فحضر ألطنبغا وفي رقبته منديل فقبل الأرض قدام الملك المظفر وهو في المحفة ، فلما وقعت عليه عين الأتابكي ططر قبض عليه وسجنه بقلعة دمشق ، ثم قبض على جقمق وأمر بخنق جقمق وألطنبغا ، ثم قبض على جماعة من النواب وقتل منهم البجاسي نائب دمشق ، وقبض على أربعين أميرا من الأمراء المؤيدية وعلى جماعة من المماليك المؤيدية. ثم خلع المظفر أحمد من السلطنة وتسلطن عوضه بدمشق وخطب باسمه على المنابر وكان معه الخليفة المعتضد بالله داود ، فكان مثل ططر في هذه الحيلة مثل أكثر عمال هذه السلطنة الشركسية متى اشتد ساعدهم استأثروا بالملك والسلطان.

١٨٧

وفاة ططر وسلطنة ابنه ثم تولي الأشرف برسباي :

هلك ططر بعد أن ملك ثلاثة أشهر وأياما وخلفه في السلطنة ابنه الصالح محمد وله من العمر نحو من إحدى عشرة سنة وجعل جاني بك الصوفي أتابكه ومدير مملكته ، فعز ذلك على بقية الأمراء فوثب برسباي وقيده وسجنه فاجتمعت الكلمة على برسباي وصار صاحب الحل والعقد فتعصب له جماعة من الأمراء وخلعوا الصالح وسلطنوا برسباي (٨٢٥) فكانت مدة سلطنة الصالح ثلاثة أشهر وأربعة عشر يوما. وخلع برسباي على المقر السيفي جاني بك البجاسي واستقر به نائب الشام واستقامت أحواله في السلطنة.

وفي سنة (٨٣٦) سار الأشرف برسباي في حملة من مصر قيل أنه غرّم عليها خمسمائة ألف دينار وقصد الشام وسار منها إلى آمد فحاصرها وكانت لابن قرابلك فلم ينل منها طائلا ، فمشى بعض الأمراء بالصلح على أن لا يتعدى على بلاد السلطان فحلف صاحب آمد على ذلك. ولما عاد الجيش المصري عاد صاحبها إلى العصيان قال ابن إياس : والملك الأشرف هو آخر من جرد من الملوك وخرج بنفسه إلى البلاد الشامية.

توفي الأشرف برسباي سنة (٨٤١) وقد ساس الملك ونالته السعادة ودانت له البلاد وأهلها وخدمته السعود حتى مات ، وفتحت في أيامه أقاليم كثيرة استرجعت من أيدي الباغين من غير قتال ، وفتحت قبرس وأسر ملكها. قال المقريزي : وكانت أيامه أيام هدوء وسكون إلا أنه كان له في الشح والبخل والطمع مع الجبن والحذر وسوء الظن ومقت الرعية وكثرة التلون وسرعة التقلب في الأمور وقلة الثبات أخبار لم نسمع بمثلها ، وشمل مصر والشام في أيامه الخراب وقلت الأموال بها وافتقر الناس ، وساءت سيرة الحكام والولاة مع بلوغ آماله وقهر أعاديه وقتلهم بيد غيره. وقد عقد برسباي معاهدة مع فرسان رودس وقهر صاحب مملكة ذي القدرية وكان الذي يثير عليه الفتن في الشام شاه رخ بن تيمور لنك لأن سفراءه أهينوا في مصر كما أهين تجاره في جدة ، وأبى عليه صاحب مصر أن يكسو الكعبة المشرفة. وقال ابن إياس : إن الملك الأشرف كان منقادا إلى الشريعة ، وكانت معاملته أحسن المعاملات من أجود الذهب والفضة ولا سيما

١٨٨

الأشرفية البرسبيهية فإنها من خالص الذهب ، وكان عنده معرفة بأحوال السلطنة كفؤا للملك، كثير البر والصدقات ، وله معروف وآثار ، لكنه كان عنده طمع زائد في تحصيل الأموال محبا لجمعها من المباشرين وغيرهم قال : وكان من خيار ملوك الشراكسة.

وكان تولي رجل عظيم مثل برسباي زمام السلطنة بعد سخافة فرج وابنه الطفل وسخافة ططر وابنه من أجمل الموافقات. أعاد إلى السلطنة عزها الذي أولاها إياه مؤسسها برقوق. وبرسباي لا يقلّ عنه تدبيرا وحنكة وربما امتاز عنه بأمور.

الملك العزيز يوسف والملك الظاهر جقمق :

تولى الملك بعد الأشرف برسباي ابنه يوسف وسمي الملك العزيز وله من العمر أربع عشرة سنة وجعل الأتابكي جمقمق العلائي نظام المملكة ثم خلع (٨٤٢) وجعل جقمق سلطانا ولم يملك العزيز سوى ثلاثة أشهر وخمسة أيام. وفي سنة (٨٣٧) ندب السلطان العساكر إلى قتال الأرمن فملكوا مدينة أياس. وفي سنة (٨٤٣) خرج إينال الجكمي نائب دمشق عن الطاعة وأظهر العصيان على السلطان وكذلك تغري برمش نائب حلب فعين السلطان لهما تجريدة من مصر ، وخلع على المقر السيفي أقبغا التمرازي واستقر به نائب دمشق عوضا عن إينال الجكمي ، وخلع على المقر السيفي يشبك السودوني واستقر به أتابك العساكر عوضا عن أقبغا التمرازي فأوقعا مع النائبين العاصيين وأسراهما وقطعا رأسيهما وأرسلاهما إلى القاهرة.

وفي سنة (٨٥٥) طرق صور زهاء عشرين مركبا للفرنج ونهبوا من بها فأدركهم ابن بشارة مقدم العشير وقاتلهم قتالا شديدا حتى أزاحهم عن البلد بعد أن قتل من الفريقين جماعة وأمسك من الفرنج جماعة وقطع رؤوسهم. وفي سنة (٨٥٦) ركب طوغان نائب الكرك بمماليكه فكبس بعض عرب الطاعة وقاتلهم حتى ظفر بجماعة منهم فأسرف في قتلهم ثم نزل بمكان هناك فكثر عليه جماعة منهم فقاتلهم ثانيا فكسروه وقتلوه أسوأ قتلة. وهدأ القطر من الفتن والتجاريد على عهد الظاهر جقمق المتوفي سنة (٨٥٧) وكانت مدة سلطنته

١٨٩

بالديار المصرية والبلاد الشامية وما مع ذلك أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وكان ملكا جليلا دينا خيرا متواضعا كريما وفعل الخير وقد كانت علائقه حسنة مع سلطان العثمانيين وملوك آسيا الصغرى.

المنصور والأشرف والمؤيد والظاهر خشقدم والظاهر بلباي والأشرف قايتباي :

وخلف الظاهر جقمق المنصور فخر الدين عثمان فخلع بعد ثلاثة وأربعين يوما وتسلطن بعده الأشرف إينال العلائي وكانت أيامه أيام لهو وانشراح وقيل : إنه لم يسفك دما بغير وجه شرعي فعد ذاك من النوادر وتوفي سنة (٨٦٥) وخلفه المؤيد أحمد وكان حسن السياسة بصيرا بمصالح الرعية قمع مماليك أبيه عما كانوا يفعلونه من الأفعال الشنيعة إلا أن مدته لم تطل سوى أربعة أشهر وثلاثة أيام ، وخلفه الظاهر خشقدم وكان أهل الدولة يريدون سلطنة جانم نائب الشام ، فلما أبطأ عليهم سلطنوا الظاهر خشقدم (٨٦٥) يقول ابن إياس : إن الملك الناصر أبي سيف الدين خشقدم الناصري المؤيدي هو الثامن والثلاثون من ملوك الترك وأول ملوك الروم بمصر إن لم يكن أيبك التركماني من الروم ولا لاجين من الروم فخشقدم أول ملوك الروم بمصر وأصله رومي الجنس.

وسار جانم إلى مصر فأرجعه الملك الجديد إلى الشام ، ولما بلغها أرسل السلطان إلى نائب قلعة الشام مراسيم بأن يقبض على جانم نائب الشام فرمى عليه بالمدافع وهو جالس في دار السعادة فهرب إلى الرها ، واستمر في هياج وعصيان وأرسل عليه سلطان مصر تجريدة بقيادة جاني بك وعين المقر السيفي تنم المؤيدي نائب الشام.

وفي سنة (٨٧٢) تحرك شاه سوار صاحب مملكة ذي القدرية على حلب فرسم خشقدم للأمير برديك الجمقدار نائب حلب أن يخرج إليه فخرج ، ثم التف عليه وأظهر العصيان على السلطان وقصدا التوجه إلى الشام ، فأرسل سلطان مصر عليهما تجريدة وانهزم الجند الذين أرسلتهم مصر لقتال شاه سوار ودخلوا حلب وهم في أسوإ حال ، ثم أرسل السلطان تجريدة أخرى فهزمها سوار أيضا ، فاحتال عليهم حتى أدخلهم في مواضع ضيقة بين أشجار فخرج عليهم السواد الأعظم من التركمان بالقسي والنشاب والسيوف والأطبار فقتلوا من العسكر عددا كبيرا

١٩٠

وقتل من مشايخ جبل نابلس وعربانه والعشير والتركمان والغلمان عدد كبير وأشرف سوار أن يأخذ حلب ثم خمدت نائرته. توفي الظاهر خشقدم ، وملكه نحو ست سنين ونصف ، وخلفه الظاهر بلباي وخلع بعد سلطنة ستة وخمسين يوما وبه زالت الدولة المؤيدية ، وخلفه الأتابكي تمربغا ودامت سلطنته ثمانية وخمسين يوما وخلفه الملك الأشرف قايتباي.

مصائب القطر الطبيعية ثم السياسية :

بعد أن نجت الشام من فتن التتر وتيمور خاصة ، ووقائع الصليبيين وويلاتها عاودتها الأوبئة والمجاعات والزلازل فزلزلت حلب مرات سنة (٨٠٦) فخرب كثير من معابدها ومساجدها وكانت كثيرة جدا ، وفي سنة (٨٢٠) كان بحلب غلاء عقبه طاعون مات فيه سبعون ألفا وخلا البلد من السكان ، وفي سنة (٨٦٣) وقع الطاعون بحلب فأربى من هلك فيها وفي ضواحيها على مائتي ألف إنسان ، وفي سنة (٨٧٤) اشتد الغلاء والفناء بحلب وكانت الحال في القطر كله على ذلك فجارت عليه الطبيعة وكانت من قبل يجور عليها أمراؤها. وقال الدويهي في حوادث سنة (٨٧٥) : ومن أخبار هذا العصر يستدل على أنه في دولة المقدمين وأحكامهم العادلة توفرت الراحة لأهل لبنان وكثرت عندهم المدارس والكنائس.

وبينا كانت الشام تدافع الخارجين على المماليك أو تشترك معهم أحيانا وقد غضب عليها جبار الأرض وجبار السماء ، ظهر لها بل لدولة المماليك الشركسية في مصر والشام عدوان لدودان أو حكومتان مسلمتان نجت من شر الأولى ووقعت في شر الثانية ونعني بهما دولة حسن الطويل ودولة ابن عثمان. ودولة حسن الطويل هي المعروفة بدولة الحمل الأبيض (آق قيونلي). استولى حسن الطويل على ديار بكر سنة (٨٧١) وقتل جهانشاه ومرزا حاكم دولة الحمل الأسود (قره قيونلي) وأبا سعيد حفيد تيمور فأصبح ملك العراقيين العربي والعجمي وفارس وكرمان ، وأنشأ دولة كبرى جعل تبريز عاصمتها. أما دولة ابن عثمان في الروم أي الأناضول فقد قويت على ذاك العهد ولا سيما بعد أن غلب السلطان محمد الثاني حسنا الطويل (أوزون حسن) سنة (٨٧٧).

١٩١

في سنة (٨٧٢) أرسل سلطان مصر والشام عسكرا على شاه سوار فانكسر كسرة شنيعة وقتل وجرح كثير من أمراء المماليك ونهب أثقال الأمراء والعسكر قاطبة وعاد الذي سلم إلى حلب في أسوإ حال ، وقد قوي أمر سوار وتوجه إلى عينتاب وحاصر قلعتها ثم قوي عسكر سوار بما نهبه من عسكر الشام ومصر وكان جيشا جرارا فقوي عزمه على مداهمة حلب ، فجرد سلطان مصر تجريدة ثانية فكسرها عسكر سوار وفي هذه السنين كثر تبديل نواب حلب وفي شبه هذا قال ابن الوردي :

هذي أمور عظام

من بعضها القلب ذائب

ما حال قطر يليه

في كل شهرين نائب

وفي سنة (٨٧٥) تحرك حسن الطويل لأخذ الديار الحلبية وأظهر العداوة لسلطان الشام ومصر وقد طمع في عسكر مصر لما رأى من هزيمتهم وهزيمة الشاميين مرتين أمام شاه سوار ، واستظهر عليهم فثار السلطان لهذا الخبر وقصد أن يخرج إلى حلب بنفسه خصوصا لما بلغه أن سوارا استولى على سيس وقلعتها ، وأرسل السلطان إلى شاه سوار الأمير يشبك الدوادار الكبير وفوض إليه أمور البلاد الشامية والحلبية وغيرها وجعل له التصرف في جميع النواب والأمراء ما خلا نائب حلب ونائب دمشق ، ففلّ يشبك عسكر شاه سوار على نهر جيحان ، وقتل منهم جمهور كبير ، وأرسل سوار يطلب الصلح من الأمير يشبك وأن يكون نائبا عن السلطان في قلعة درنده وأنه يرسل ولده بمفاتيح القلعة فما وافق السلطان إلا أن يحضر سوار بنفسه ويقابل السلطان ، ثم قبض عليه في قلعة زمنوطو وحمل إلى مصر فقتله سلطان مصر هو وإخوته وأقاربه.

وخمدت فتنة سوار كأنها لم تكن بعد ما ذهبت فيها أموال وأرواح وقتل جماعة كثيرة من الأمراء وكسر الأمراء ثلاث مرات ونهب بركهم ، وانتهكت حرمة سلطان مصر عند ملوك الشرق وغيرهم ، حتى إن الفلاحين طمعوا في الترك و «تبهدلوا» عندهم بسبب ما جرى عليهم من سوار ، وكادت تخرج المملكة عن الشراكسة ، وقد أشرف سوار على أخذ حلب وخطب له وفي سنة (٨٧٧) جمع حسن الطويل ملك العراقيين جندا جرارا وزحف

١٩٢

على الشام واستولى في طريقه على كخيا وكركر فانتدب ملك مصر لأمير يشبك الدوادار لقتاله كما كان انتدب لقتال سوار في السنة الفائتة. وقبض نائب حلب (٨٧٧) على بعض رجال حسن الطويل في حلب وجماعة آخرين نسبوا إلى المواطأة معه وكانوا يكاتبونه بأخبار المملكة ، فأمر نائب حلب بصلبهم ، وأرسل الأمير يشبك نائب حلب جيشا إلى البيرة لقتال الطويل فخذل عسكره بعدما عدوا الفرات وطرقوا الأصقاع الحلبية من أطرافها ، وتلاشى أمر حسن الطويل فأرسل يكاتب الفرنج ليعينوه على قتال عسكر مصر ، وأرسل ابن عثمان ملك الترك قاصده إلى الأمير يشبك بأن يكون عونا على قتال حسن الطويل وكان هذا استعان بالفرنج ليقاتلوا صاحب مصر والشام وصاحب الروم ابن عثمان بحرا وهو يقاتلهم برا ولكنه عاد في سنة (٨٧٩) يرسل إلى سلطان مصر معتذرا عما كان منه حتى عفا السلطان عما بدر منه. وفي سنة (٨٨٠) صدرت من برهان الدين النابلسي وكيل السلطان قايتباي قبائح عظيمة بأهل دمشق فرجموه ورموا عليه السهام وأحرقوا داره وأرادوا قتله ، فركب نائب قلعة دمشق وتلطف بالعوام حتى سكنت هذه الفتنة قليلا ، وقد كادت أن تخرب دمشق في هذه الحركة بسبب ظلم النابلسي وكان قد طغى على الناس وتجبر.

وكان النابلسي يخرب البلاد الشامية بنفسه وبولده أحمد وقد قال ابن عربشاه في كتابه إيضاح الظلم والعدوان ، في تاريخ النابلسي الخارجي الخوان ؛ ووصف مظالم ابنه بما تقشعر منه الأبدان : وكان طالع النابلسي أحمد الخراب ، صادر أهل طرابلس وهتك ستر نائبها وصادر كثيرين في دمشق ، وأراد أن يعرج على حلب فمنعه صاحبها من إتيان ما عمل في دمشق. أما ابنه فاحتكر الأقوات وطفف الكيل وغش الحبوب وأدار باسمه الطواحين والأفران وتسبب في الجزية على المدارس وأنقص معاليم الطلبة وجمع من الأموال ما لا يحصيه العد ، وكثر تظلم الناس من ظلمه حتى أرسل ملك مصر قاصدا حاسبه على الأموال فظهر اختلاسه فنكل به ، وأقام الناس عليه الشكاوي كما نكل بأبيه في مصر لما أتى من المساوئ هناك ، وقبض عليهما في وقت واحد.

وذهب نائب حلب تمرباي في العسكر إلى التركمان وانكسر عسكر

١٩٣

حلب كسرة عظيمة ، وفيها بعث ابن حسن الطويل يستنجد بنائب حلب على أبيه فجهز نائب حلب معه جندا فقاتلوا عسكر الطويل فانكسر عسكر حلب وقتل منهم جماعة.

وفي سنة (٨٨٣) خرج سيف بن نعير الغاوي وقرابته عن الطاعة فقاتله نائب حماة فكسر النائب وقتل من عسكره كثير ، ثم خرج إليه نائب حلب وأوقع معه ففر منه فتبعه ، وقد اضطربت أحوال حماة بسبب ذلك.

مات حسن الطويل ملك العراقين (٨٨٣) وكان انقراض دولة بني أيوب على يده ، وتحرش بابن عثمان ملك الروم يأخذ من ملكه شيئا فما قدر عليه ، ثم تحرش بسلطان مصر وجرى له مع الأشرف قايتباي أمور وكان الأشرف يخشى من سطوته لأنه كان ملكا جليلا عاقلا سائسا كثير الحيل والخداع. وفي سنة (٨٨٥) كبس عمرو بن غانم في جماعة من العرب محمد بن أيوب نائب القدس بأريحاء الغور وحصلت فتنة قتل فيها جماعة.

وقعة مشؤومة وأحداث :

كانت سنة (٨٨٥) من أشأم السنين على دولة الأشرف قايتباي فإن يشبك الدوادار كان قد ندب أيضا من مصر لقتال سيف أمير آل فضل ، فسار ومعه جيش من مصر في صحبته نواب دمشق وحلب وطرابلس وحماة مع العسكر الشامي والمصري وغيرهم من العساكر فتوجه إلى الرها واجتمع معه نحو عشرة آلاف رجل ، وكان المتولي أمر الرها شخص يقال له بابندر أحد نواب يعقوب بك بن حسن الطويل ، فحصر يشبك مدينة الرها وكان يريد بعد أخذها أن يسير لفتح العراق فعاد عليه بابندر وكسر جيشه وأسره مع النواب الذين في جملته وشتت شمل جيشه وأخذ يشبك وقتله وقتل من أمراء الشام عددا كبيرا وكذلك من العسكر حتى كانت حوافر الخيل لا تطأ إلا على جثث القتلى. قال ابن إياس : وكانت هذه الكسرة على عسكر مصر من الوقائع الغريبة وكانت مصيبة عظيمة هائلة. وكان يشبك باغيا على بابندر فإنه قصد محاربته من غير سبب ولا موجب لذلك فكان كما قيل :

من لاعب الثعبان في وكره

يوما فلا يأمن من لسعته

١٩٤

اضطربت الشام ومصر من غزوة عسكر يعقوب بن حسن الطويل حلب ودمشق ، فإن النواب قاطبة كانوا في أسره وسحق جيش سلطان مصر والشام ، فأعد السلطان له جيشا آخر قال ابن إياس : ولو لا فعله ذلك لخرجت من يده غالب جهات حلب. وثار عامة حلب بمحمد بن الصوا نائب قلعة حلب بسبب مظالم أحدثها فقتلوه وقتلوا حاجب الحجاب بحلب. وفي سنة (٨٧٨) وقعت فتنة بين طائفة الدارية وطائفة الأكراد بالقدس فحصل بينهما تشاجر فقتل من الفريقين ناس واستنفر كل من الطائفتين من ينتصر لها من العشير ، فدخلوا المدينة ونهبوا ما فيها إلا القليل وخربت أماكن وكان الأمر عظيما.

أول مناوشة مع الأتراك العثمانيين :

وفي سنة (٨٨٩) قتل كثير من أمراء حلب والشام في الوقعة التي جرت بين المصريين والتركمان ، وفيها خرج نائب حلب وتقاتل مع علي دولات أخي سوار وأمده ابن عثمان بجمع كثير من عساكره ووقعت بينهما وقعة انهزم فيها العسكر الحلبي وقتل نائب حلب وجماعة من العسكر الحلبي والمصري. وكانت هذه الوقعة أول فتنة تحرش فيها ابن عثمان بملك الشام ومصر. ولما حصلت هذه الكسرة لعسكر حلب ركب تمراز هو وأزدمر والعسكر المصري وتوجهوا إلى علي دولات فقاتلوه فانكسر هو وعسكره وعسكر ابن عثمان ونهبوا جميع بركهم وأخذوا سناجق ابن عثمان ودخلوا بها إلى حلب وهي منكسة واستمرت الفتن يومئذ بين السلطان وابن عثمان.

وفي سنة (٨٩٠) استولى جند ابن عثمان على قلعة كولك من حلب وفي السنين التالية استولى على سيس وطرسوس وغيرهما وطمع في الاستيلاء على عمالات من الشام فأخذت حكومة مصر ترسل بالتجريدة إثر التجريدة فساءت حال الشام وخربت الأصقاع الشمالية منها. ولكن الجند المصري أو جيش المماليك الشركسي وقع له مصاف سنة (٨٩١) في أرض حلب مع عسكر ابن عثمان وانتصر عليه وقتل منهم جماعة كثيرة قدروهم بأربعين ألفا وأسر أحمد بك هرسك قائد جند ابن عثمان ومن أجل أمرائه وصفدوا عدة من أمرائه في الحديد. قال ابن طولون : إنه شاع

١٩٥

أن بايزيد بن عثمان أرسل إلى أهل دمشق نحو ثلاثين اتفاقية من النصارى ووضع عنهم جزية ثلاث سنين لقتال أهلها ، وكل إشاعة من هذا القبيل كانت تفتح السبيل لنائب دمشق فيجمع من أهلها مالا فإذا صحت استعان بها والغالب أنها لا تصح. وفي هذه الأثناء (٨٩٢) فحش أمر خضر بك نائب القدس وتزايد ظلمه وسفكه الدماء وأخذ أموال الناس. وفي سنة (٨٩٣) استقر الأمير دقماق في نظر الحرمين ونيابة القدس والخليل ببدل عشرة آلاف دينار للخزائن الشريفة غير ما تكلفه لأركان الدولة قال ابن أبي عذيبة : وكان ذلك من أقبح الأمور وأبشعها فإن ناظر الحرمين ناصر الدين بن النشاشيبي كان من أهل الخير والصلاح فأبدل بظالم فاجر.

وفي سنة (٨٩٣) استولى عسكر ابن عثمان على قلعة اياس من غير قتال وبعث ستين مركبا من البحر مشحونة بالسلاح والعسكر إلى جهة باب الملك ليقاطع بها على العسكر المصري فما تم له ما أراد. واستخلص جيش السلطان باب الملك من ابن عثمان فجاءت العاصفة وغرقت غالب المراكب ومن طلع إلى البر من العسكر العثماني قتله العسكر المصري. قال ابن إياس : وكانت لهم النصرة على الجنود العثمانية وكانت على غير القياس.

ووقعت (٨٩٣) معركة بين عسكر مصر وعسكر ابن عثمان في أطراف الولاية الحلبية قتل فيها من الفريقين ألف وانهزم العثمانيون ، وشرع العسكر المصري في حصار الجند العثماني في أذنة ، ودام حصارها ثلاثة أشهر قتل فيها من الفريقين خلق حتى استولى عليها عسكر المماليك ، ثم رجع في السنة التالية فطمع عسكر ابن عثمان في أخذ الديار الحلبية فأرسل سلطان مصر تجريدة لحفظ مدينة حلب ثم جرد تجاريد أخرى على ابن عثمان. قال ابن إياس : وطال الأمر بين السلطان وبين ابن عثمان في أمر هذه الفتن فزحف العسكر المصري والعسكر الشامي على أطراف مملكة ابن عثمان ووصلوا إلى قيسارية وأحرقوها وفتكوا بأهلها وكذلك فعلوا في كثير من عمالاته.

وفي سنة (٨٩٤) كان الفناء العظيم والغلاء الشديد في الديار المصرية والشامية ومات خلق لا يحصى ، واشتد ظلم نائب القدس على من اتهم بالتقصير في المهم الشريف ببلاد الروم ، وقبض على بني إسماعيل مشايخ جبل نابلس ، ومن الناس

١٩٦

من تسحب وقبض على من يكون منسوبا إليه من أقاربه وأصحابه وجيرانه وباع بعض بناتهم بيع الرقيق وتفاحش الأمر. وفي سنة (٨٩٦) حدثت في حلب فتنة كبيرة بين نائبها وجماعة من أهلها فقتل سبعة عشر من مماليك النائب وخمسون من أهل حلب ثم أحرق جماعة من حاشية النائب بالنار ، وكادت حلب أن تخرب عن آخرها فأخمد هذه الفتنة قانصوه الغوري حاجب الحجاب بحلب ، وضاق الأمر بالناس لأن المماليك أو سلاطينهم كانوا كلما أرادوا إرسال تجريدة على عدو لهم يضربون الضرائب الفاحشة على الناس ويسلبون أموال التجار والمساتير.

وفي سنة (٨٩٧) اشتد الوباء بالقدس ودمشق وحلب وبلغ عدد الهالكين بدمشق كل يوم ثلاثة آلاف وبحلب في كل يوم ألفا وخمسمائة وبغزة في كل يوم أربعمائة. وبالرملة مئة. وفي سنة (٨٩٨) ثارت فتنة كبيرة بدمشق ورجم أهلها قانصوه اليحياوي. وفي سنة (٨٩٩) تغلب العربان على الكرك والشوبك وحدثت فتن هائلة. وكان في سنة (٩٠٠) وقعة بين أهل داريا وغوطة دمشق فخرج العسكر وقتل ما يربو على مئة قتيل ، وتوفي نائب دمشق وخلت من الحكام وكثر النهب والفسق ووقع الاختلاف بين القيسية واليمنية ، ولما بلغ السلطان قانصوه خرج بالعساكر المصرية فالتقى الجمعان عند جب يوسف فكانت الهزيمة على المصريين.

وفاة الأشرف قايتباي وتولي ابنه ناصر الدين محمد :

توفي الأشرف قايتباي المحمودي سنة (٩٠١) وخليفة الوقت بمصر الإمام المتوكل على الله أبو العز عبد العزيز العباسي. وكانت مدة سلطنة الأشرف بالديار المصرية والبلاد الشامية تسعا وعشرين سنة وأربعة أشهر وأحد عشر يوما وهو الحادي والأربعون من ملوك الترك وأولادهم في العد ، والخامس عشر من ملوك الشراكسة وأولادهم بالديار المصرية ، وكان كفؤا للسلطنة وافر العقل سديد الرأي ، عارفا بأحوال المملكة يضع الأشياء في محلها ، ولم يكن عجولا في الأمور ، بطيء العزل لأرباب الوظائف يتروى في الأمور قبل وقوعها ، وكان لا يخرج إقطاع أحد من الجند إلا بحكم وفاته ، ولا من أبناء الناس المقطعين إلا

١٩٧

بحكم وفاته. قال ابن إياس بعد إيراد ما تقدم : ولكنه كان محبا لجمع الأموال ناظرا لما في أيدي الناس ، ولو لا ذلك لكان يعد من خيار ملوك الشراكسة على الإطلاق ، ولكنه. كان معذورا في ذلك ، تحرك عليه في أيام سلطنته شاه سوار وحسن الطويل وابن عثمان وغيرهم من ملوك الشرق وجرد عليهم تجاريد وهو ثابت على سرير ملكه ولم يتزحزح ، حتى قيل ضبط ما صرفه على نفقات التجاريد التي جردها في أيام سلطنته إلى أن مات فكانت نحوا من سبعة آلاف ألف دينار وخمسة وستين ألف دينار خارجا عما كان ينفقه عند عودهم من التجاريد. وهذا من العجائب التي لم يسمع بمثلها. وكان قايتباي أعظم ملك في المماليك البرجية وكان في الخارج أعظم ملك في الإسلام ، قال فيه سوبرنهايم في معلمة الإسلام بأنه كان محتاجا لعمارته وحملاته إلى مواد كثيرة وتحلل في المالية لم يستطع جباية الخراج إلا بالقوة، وقد انتقده المؤرخون انتقادا شديدا ونرى أن ما عمله من الواجب عليه وأنه أمر مفهوم بذاته في مملكته ليهيء الأسباب اللازمة للدفاع عنها ، وقد أدى قلة النظام في الجباية إلى خراب مملكة المماليك من أجل هذا كان السلطان مضطرا إلى استعمال الشدة في جباية الأموال.

وكان مغرما بشراء المماليك حتى قيل لو لا الطواعين التي وقعت في أيامه لكان تكامل عنده ثمانية آلاف مملوك. وكان مولعا بالبنيان الفاخر خلف آثارا كثيرة في أرجاء مملكته ، وصادر اليهود والنصارى مرتين في أيامه ، وخلفه ابنه ناصر الدين محمد ، وبدأت أمارات الضعف في أعصاب المملكة لصغر سنه وكان أبوه لا يريد سلطنته بعده ، ولكن عاجله النزع فعمل الأمراء من عند أنفسهم ، وكان الفساد مستشريا في مصر منذ تولى ، وكثيرا ما كان السلطان يتخوف على نفسه من الأمراء فيحضر لهم المصحف العثماني ويحلفهم وقد حلفهم أربع مرات وكانت أيمانهم كاذبة فاجرة.

وكان هذا الضعف ينال الشام منه قسط عظيم حتى خرب ولا سيما شماله لكثرة غارة الأعداء. قال ابن طولون في حوادث سنة (٩٠٦) وقفت حال الناس وقطعت الطرق من كثرة العرب المفارجة وبني رام خارج دمشق وأطرافها وكثر الظلم والاختلاف والناس مرتقبون الفتن. وفي هذه السنة وقع قتال بين الأمير علي الشهابي في جماعة من وادي التيم ورجال الشوف وبين الأمير بكر

١٩٨

الشهابي عمه في مرج الشميسة فنال ابن الأخ من عمه وقتله بيده مع ثلاثين من أصحابه وسار إلى حاصبيا فالتقاه بقية الأهلين والأمراء وساس الرعية أحسن سياسة.

الملوك المتأخرون وآخرهم الغوري :

توفي الناصر محمد وكانت مدة سلطنته نحوا من سنتين وثلاثة أشهر وتسعة عشر يوما وكانت أيامه كلها فتنا وشرورا وكان في ذاته سيء التدبير. وتسلطن بعده الملك الظاهر قانصوه ولم تطل مدته أكثر من سنة وثمانية أشهر وثلاثة عشر يوما ، وكان ملكا مسلوب الإرادة مع الأمراء وتسلطن بعده الأشرف جان بلاط بن يشبك وكانت مدة سلطنته ستة أشهر وسمي بالملك العادل طومان باي من قانصوه أبي النصر الأشرفي قايتباي وفي سنة (٩٠٦) تولى السلطنة الأشرف قانصوه الغوري.

وفي سنة (٩٠٣) عصا اقبردي الدوادار وذهب إلى الشام فاستولى على غزة ، ثم جاء دمشق وحاصرها فلم يقدر عليها فنهب الضياع التي حولها وخرب غالبها وحاصر حماة وأخذ منها أموالا لها صورة وحاصر حلب شهرين وأحرق من قراها ، وكان إينال السلحدار يومئذ نائب حلب وكان من عصبة أقبردي ، فقصد أن يسلمه المدينة فرجمه الحلبيون وطردوه من بلدهم وحصنوها بالمدافع على الأسوار ، ثم هرب أقبردي إلى علي دولات بعد أن جرد السلطان حملة عليه. وفي هذه السنة زحف ابن عثمان على الشام وأرسل إلى نائب حلب يقول له : اعزل ابن طرغل فأجابه إلى ما طلب ، وكثر تبديل النواب وساءت الحال وبطلت التجارة بين مصر والشام. ولما بلغ عسكر ابن عثمان رجوع العسكر المصري طمع في أخذ الديار الحلبية فأرسل سلطان مصر تجريدة لحفظ حلب ، ثم تفاوض صاحب الروم وصاحب مصر والشام في الصلح وحمل ابن عثمان إلى صاحب مصر مع قاصد مفاتيح القلاع التي كان ابن عثمان قد استولى عليها ، فسلمها إلى السلطان في القاهرة. وفي سنة (٩٠٤) أغار كرتباي الشركسي نائب دمشق على عرب هتيم بأرض الزرقاء وكان كرتباي على رواية الغزي حسن السيرة بالنسبة إلى غيره من الأمراء. وجرى الصلح بين الأمراء المصريين

١٩٩

وبين أقبردي الدوادار ، وكانوا انتدبوا لقتاله فوجه عليه السلطان نيابة طرابلس بعد أن ساءت الحال بفتنته.

وفي سنة (٩٠٥) خرج قصروه نائب الشام عن الطاعة وأظهر العصيان واستولى على قلعة دمشق وأموالها وطرابلس وقلعتها ، وكان السلطان حاول أن يولي قصروه الشام فاختفى السلطان في الفتنة وخلفه في الملك الأشرف أبو النصر جان بلاط ، فلما تسلطن السلطان أرسل إلى قصروه في الشام بالبشارة فلم يزدد إلا عصيانا. وفي هذه السنة ولي نيابة الشام قانصوه المحمدي فأتى إلى البقاع فهرب منه مقدمها ابن حنش ، وجرت بينهما أمور. ثم وقعت الفتنة بين أهل دمشق ونائبها فأحرق حي الشاغور وجرت بينهم غوائل ثم وقع الصلح عن يد ابن الكسيح شيخ الإسلام بدمشق.

وفي سنة (٩٠٧) هجم العربان على أطراف دمشق ونهبوا مغلا كثيرا وخربت بلدان ، ذكر هذا ابن طولون.

سلطنة طومان باي :

وانتدب السلطان أحد المقدمين إلى الكرك لقتال بني لام واجتمع السلطان بالأمراء وتشاوروا في أمر قاصروه نائب الشام فأشاروا عليه بأن يرسل قاصدا ، وكان قصروه قد استولى على غزة وأعمالها والقدس وغير ذلك من النواحي ، فعزم السلطان على إرسال تجريدة لنائب الشام ، وكان دولات باي نائب حلب معه في شق عصا الطاعة ، ولكن لم تنفع التجريدة وأعلن طومان باي سلطنته بالشام وتلقب بالملك العادل ، وكان العسكر المصري نزل بسعسع بالقرب من دمشق فركب قصروه نائب الشام في نفر قليل من عسكره وأظهر أنه طائع فاطمأن له العساكر ، وكان غالب الأمراء من ندمائه ، ولما حضر إليهم دخل معهم إلى دمشق واجتمعوا في القصر الأبلق ، ثم ثارت فتنة بالقلعة ، وأمر قصروه وطومان باي بالقبض على جماعة من الأمراء وسجنهم.

وحضر إلى دمشق دولات باي بن أركماس نائب حلب الشهير بآخي العادل وتعصب لطومان باي وتكلم في سلطنته فأحضر قضاة الشام وكتب

٢٠٠