خطط الشام - ج ٢

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٢

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٠

وصفد وطرابلس ومن عربان جبل نابلس ونهب عدة ضياع ، وأرسل منطاش شخصا يسمى تمان تمر الأشرفي إلى مدينة حلب ، وكان نائب حلب كمشبغا الحموي قد ثقل أمره على أهل حلب فما صدقوا بهذه الحركة فحاصروا نائب حلب أشد المحاصرة وتعصبوا لمنطاش فنقبوا القلعة من ثلاثة مواضع ، فصار كمشبغا نائب حلب يقاتلهم من داخل النقب على البرج ، واستمروا على ذلك نحو ثلاثة أشهر ، فانتصر كمشبغا نائب حلب على تمان تمر الأشرفي الذي ولاه منطاش على حلب فانكسر تمان تمر وولى هاربا ثم توجه منطاش إلى طرابلس فحاصرها حتى ملكها وهرب من كان بها من الأمراء والنائب وهرب أكثر أهلها إلى دمشق ، ثم حاصر منطاش دمشق فاتفق عوامها على أن يسلموه المدينة ليلا وكانوا يحبونه أكثر من برقوق.

فلما بلغ ذلك أمراء برقوق خرجوا إلى ظاهر دمشق وأوقعوا مع منطاش ومع عوام دمشق واقعة قتل فيها من الفريقين نحو ألف إنسان. ثم رجع عسكر دمشق إلى المدينة وتوجه منطاش إلى عينتاب فالتف عليه جماعة من التركمان ، فحاصر المدينة حصرا شديدا فملكها وهرب نائبها ، فلما دخل الليل جمع نائب عينتاب جماعة من التركمان وكبس منطاش فقتل من عسكره نحو مائتي إنسان وهرب منطاش نحو الفرات ، ثم إن منطاش جمع قوته وخامر على السلطان أكثر التركمان والعربان والتفوا على منطاش (٧٩٣) فتوجه إلى دمشق وحاصرها فخرج إليه نائبها فهرب منطاش إلى جبل يقرب من طرابلس فتبعه نائب دمشق ، فجاء منطاش من وراء ذلك الجبل وجاء إلى دمشق فلم يجد بها أحدا من الأمراء ولا النائب ، ففتح له عوام دمشق بابا فدخل منه إلى المدينة ونهب الأسواق وأخذ أموال التجار والخيول ، والتف عليه جماعة من عسكر دمشق فقويت شوكته.

بلغ السلطان في مصر ما وقع في الشام فقوي عزمه على الخروج إلى منطاش في دمشق، ونادى فيها الأمان لأن أهلها لما خرج الظاهر برقوق من الكرك ودخل مدينتهم رجموه وأخرجوه هائما على وجهه ونهبوا أثقاله وقماشه ، فضج أهل دمشق له بالدعاء ، وسكن ما كان عندهم من الاضطراب ، ولما

١٦١

توجه إلى حلب جاء نعير بن جبار أمير آل فضل ونهب ضياع دمشق ، وكان نعير عاصيا على السلطان وهو من أنصار منطاش وأخرب غالب إقليم دمشق ونهب ضياعها ، فلما بلغ نائب دمشق مجيء نعير خرج إليه وأوقع معه واقعة قوية في قرية الكسوة فانكسر نائب دمشق وقتل من عسكره جماعة. أما منطاش فلما بلغه مجيء السلطان من مصر هرب إلى التركمان.

ولما عاد سلطان مصر إلى عاصمته (٧٩٤) هجم نحو خمسة عشر مملوكا وقيل خمسة أنفس على نائب قلعة دمشق وتوجهوا نحو السجن الذي بها وأخرجوا من كان به من المحابيس من عصبة منطاش وكانوا نحو مئة مملوك ، فقويت شوكتهم بالسجناء وهجموا على نائب القلعة وقتلوه وملكوا القلعة ، فقاتلهم عسكر دمشق وحاصروا من بالقلعة فقتل من عسكر دمشق جماعة ثم هجم العسكر على باب القلعة وأحرقوه ودخلوا إليها وقبضوا على المماليك كلهم ووسطوهم (أي قطعوهم نصفين) تحت باب القلعة وأمسكوا الثائرين فلم يبق منهم إلا من هرب.

وعاد منطاش (٧٩٤) فحاصر حلب مع التركمان فخرج إليه عسكرها وأوقعوا معه واقعة فكسروه ورجع هاربا إلى الفرات ، ثم اتفق منطاش ونعير بن جبار أمير العربان (٧٩٥) بمن معهما من العسكر وحاصروا حماة فخرج إليهم نائبها فأوقع معهم واقعة قوية فانكسر نائب حماة وهرب ، فدخل منطاش ونعير إلى المدينة ونهبوا أسواقها وأخذوا أموال التجار ، فلما بلغ ذلك نائب حلب ركب هو في عساكر حلب وكبس على بلاد نعير ونهب أمواله وأخذ أولاده ونساءه وأحرق بيوته وقتل من عربانه كثيرا ، فأرسل نعير يطلب من نائب حلب أولاده ونساءه الذين أسرهم فأرسل نائب حلب يقول له : ما أطلق لك أولادك ونساءك حتى تسلمنا منطاش. وكان منطاش قد تزوج من بنات نعير واستنسل منهم. فلما رأى نعير أن السلطان ونائب حلب عليه وقد نهبوا أمواله ومواشيه وأسروا أولاده ونساءه ، قصد أن يرضي السلطان بإمساك منطاش حتى يزول ما عنده مما جرى منه في حق السلطان ، فندب نعير إلى منطاش أربعة عبيد قبضوا عليه فلما وقع في أيديهم أخرج من تكته خنجرا شق به بطنه فغشي عليه فحمله العبيد وأتوا به إلى نعير فقيده وأرسله إلى نائب

١٦٢

حلب ثم حمل إلى القاهرة ، وجعل الموكل بحمله يعاقبه ويعصره ويقرره على الأموال التي غصبها فلم يقر بشيء ، ودخل عليه النزع فقطع رأسه ووضعه في علبة وحمله إلى السلطان في مصر ثم أرسل السلطان إلى نعير خلعة وأقره على عادته أمير آل فضل.

قال ابن إياس ، وعنه أخذنا هذه الحوادث : فما صدق الناس بأن فتنة منطاش قد خمدت عنهم حتى استؤنفت لهم فتنة أخرى ، فوردت الأخبار بأن تيمور لنك أخذ تبريز وشيراز ، وركب برقوق إلى الشام وجاءه في حلب قاصد من عند ابن عثمان ومعه مطالعات مضمونها أن يكون هو والظاهر يدا واحدة على دفع تيمور لنك فأجابه الظاهر إلى ذلك ورد له الجواب بما يطيب به خاطره ، ثم حضر إليه قاصد طقتمش خان صاحب بسطام وعلى يده مطالعات تتضمن ما قاله ابن عثمان فأجابه الظاهر كما أجاب ابن عثمان. فلما أقام الظاهر بحلب بلغه أن أعلام عسكر تيمور لنك قد وصلت إلى البيرة. ثم بلغه أن تيمور لنك رجع إلى مملكته ، فلما تحقق ذلك عاد هو إلى مصر. وفي سنة (٧٩٩) أخذ عسكر تيمور لنك مدينة أرزنجان وقتل أهلها ونهب ما فيها ، فلما بلغ سلطان مصر والشام ذلك أرسل إلى نوابه في الشام أن يتوجهوا إلى شاطئ الفرات فخرجوا كلهم وأقاموا هناك ، وكانت أرزنجان من جملة الأصقاع التي خطب بها للملك الظاهر برقوق كما خطب له في تبريز والموصل وماردين وسنجار ودوركي ، وضربت السكة باسمه في هذه الأماكن.

وفي سنة (٨٠١) تحرك ابن عثمان ملك الروم على بلاد السلطان سكان مصر والشام ووصلت طلائعه إلى الابلستين ، وهو قاصد حلب فوقع الاتفاق في مصر على محاربته والخروج عليه ، وأن يؤخذ من أجرة الأملاك شهر واحد يتقوى بها العسكر على دفع العدو ، ثم ظهر أن ابن عثمان وصل إلى ملطية وملكها ولم يشوش على أحد من أهلها وأمر عسكره بأن لا ينهبوا لأحد من الرعية شيئا ، فأقام بملطية أياما ثم رجع إلى مملكته فبطل أمر التجريدة عليه.

وفاة برقوق وسلطنة ابنه الناصر فرج والخوارج على الملك :

وفي سنة (٨٠١) توفي الظاهر برقوق وتولى السلطنة بعده ابنه الناصر فرج

١٦٣

وله من العمر نحو اثنتي عشرة سنة فكانت وفاته من سوء طالع الشام ، كثر طمع القريب والبعيد في اكتساحها. وكان من ذلك الحظ الأكبر لتيمور لنك حتى إنه لما بلغه موت الظاهر برقوق فرح وأعطى من بشره بذلك خمسة عشر ألف دينار ، وتهيأ للمسير إلى الشام فجاء إلى بغداد وأخذها ثانية.

وفي سنة (٨٠٢) خامر نائب الشام وأظهر العصيان وأطلق من كان مسجونا من الأمراء بقلعة دمشق ثم جمع النائب وكان اسمه تنم عسكرا عظيما من الشام وقصد نحو الديار المصرية ووصل أوائل عسكره غزة ، فجيش الملك الناصر فرج وسار إلى الشام ، فلما وصل كان أقبغا اللكاش نائب غزة خرج هو ونائب حماة ونائب صفد إلى قتال الملك فدهش النواب ، فكان أول من دخل تحت طاعته نائب حماة ثم نائب صفد. فلما رأى عسكر الشام دخول النواب تحت طاعة السلطان ـ وكان مع تنم نائب الشام نواب طرابلس وحلب وحماة وصفد وكثير من العربان وظن نفسه أنه أصبح سلطانا ـ خامر الجميع على تنم نائب الشام وتوجهوا إليه في غزة فملك السلطان غزة وبلغ ذلك نائب دمشق فخرج منها هو وبقية الأمراء وأتوا إلى الرملة فصار السلطان في غزة وهم في الرملة ، فراسلهم السلطان في الصلح فأبوا فتلاقى العسكران على مكان يسمى الحبتين فكان بينهم وقعة عظيمة كسر بها تنم وأمسك واحتاطوا على بركه ودوابه ، وقبض الناصر فرج على جملة من الأمراء الذين خامروا عليه وفيدهم وحبسهم في قلعة دمشق. ودخلها في موكب عظيم وقدامه تنم نائب دمشق. وهو مقيد راكب على كديش أبلق ومعه عشرة من أمراء دمشق وهم في قيود فحبسهم في القلعة ، ثم قتل وخنق عدة أمراء منهم.

الحرب الأولى مع تيمور لنك :

وفي هذه السنة انكسرت طليعة جيش تيمور لنك في وقعة صاحب بغداد القان أحمد بن أويس وقرا يوسف أمير التركمان ، فلما انكسر التتر أتوا ملطية وكانوا نحو سبعة آلاف إنسان فأرسلوا إلى نائب حلب يقولون له عين لنا مكانا ننزله ، فلما سمع نائب حلب بذلك ركب هو ونائب حماة فتوجهوا إلى عسكر تيمور لنك فأوقعوا معهم وقعة عظيمة فانكسر نائب حماة وقتل من عسكر

١٦٤

حلب جماعة فأمر السلطان نواب دمشق وصفد وطرابلس بأن يجمعوا العساكر ويتوجهوا إلى حلب يقيمون بها ، فأرسل تيمور لنك إلى دمرداش نائب حلب يعده بأن يبقيه على نيابته بشرط أن يمسك سودون نائب الشام ، فأطلع دمرداش على ذلك سودون فوثب على الرسول فضرب عنقه ، فلما بلغ ذلك تيمور لنك نازل حلب ، ولكن تيمور لنك إذا تظاهر الشراكسة بالقوة أمامه يعرف ما تندمج عليه نفوسهم وتصل إليه قرائحهم ، وإذا انكسر له فيلق صغير لم يكن إلا على أتم المعرفة بما عند من يريد فتح ديارهم ، وكان له جواسيس في جميع البلاد التي ملكها والتي لم يملكها ، فكانوا ينهون إليه الحوادث الكائنة على جليتها ويكاتبونه بجميع ما يروم ، فلا يتوجه إلى جهة إلا وهو على بصيرة من أمرها ، وبلغ من دهائه أنه كان إذا أراد قصد جهة جمع أكابر الدولة وتشاوروا إلى أن يقع الرأي على التوجه في الوقت الفلاني إلى الجهة الفلانية ، فيكاتب جواسيس تلك الجهات فتأخذ الجهة المعينة حذرها ويأمن غيرها ، فإذا ضربوا النفير وأصبحوا سائرين ذات الشمال عرّج بهم ذات اليمين، فإلى أن يصل الخبر الثاني يكون دهم هو الجهة التي يريد وأهلها غافلون.

وذكر ابن حجر أنه كان ابتداء حركة تيمور لنك إلى البلاد الشامية في سنة اثنتين وثمانمائة. وأصل ذلك أن أحمد بن أويس صاحب بغداد ساءت سيرته وقتل جماعة من الأمراء وعسف على الباقين ، فوثبوا عليه فأخرجوه منها ، وكاتبوا نائب تيمور لنك بشيراز أن يتسلمها فتسلمها ، وهرب أحمد إلى قرا يوسف التركماني بالموصل فسار معه إلى بغداد فالتقى به أهل بغداد فكسروه ، واستمر هو وقرا يوسف منهزمين إلى قرب حلب ، وقيل بل غلب على بغداد وجلس على تخت الملك ، ثم صار صحبة قرا يوسف فوصلا جميعا إلى أطراف حلب وسألا أن يطالع السلطان بأمرهما فكاتب أحمد بن أويس يستأذن في زيارته مصر ، فأجيب بتفويض الأمر إلى النائب فخشي دمرداش نائب حلب أن يقصد هو وقرا يوسف حلب فسار نائب حلب ومعه طائفة قليلة منهم نائب حماة ليكبس أحمد بن أويس بزعمه ، فكانت الغلبة لأحمد فانكسر دمرداش وقتل من عسكره جماعة ، ورجع منهزما وأسر نائب حماة وفدي بستمائة ألف درهم ، ثم جمع نعير والنائب ببهنسي جماعة والتقوا مع أحمد بن أويس

١٦٥

فكسروه واستلبوا منه سيفا يقال له سيف الخلافة وصحفا وأثاثا كثيرة. فوصلت الأخبار الى القاهرة فسكن الحال بعد أن كان أمر السلطان بتجريد العساكر لما بلغه هزيمة دمرداش وأرسل بريديا إلى الشام بالتجهيز الى حلب.

تيمور لنك على أبواب حلب :

وصل تيمور لنك بعد فتح عينتاب إلى الباب وبزاعا بالقرب من حلب وأرسل إلى نائب حلب قاصدا ومعه المكاتبات من تيمور لنك فيها عبارة خشنة لنائب حلب. وذكر ابن حجر أن كتاب تيمور لنك إلى نائب حلب جاء فيه : إنا وصلنا في العام الماضي إلى البلاد الحلبية لأخذ القصاص ممن قتل رسلنا بالرحبة ثم بلغنا موته يعني الظاهر ، وبلغنا أمر الهند وما هم عليه من الفساد فتوجهنا إليهم فأظفرنا الله تعالى بهم ، ثم رجعنا إلى الكرج فأظفرنا الله بهم ، ثم بلغنا قلة أدب هذا الصبي ابن عثمان فأردنا عرك أذنه فشغلنا بسيواس وغيرها من بلاده ما بلغكم ، ونحن نرسل الكتب إلى مصر فلا يعود جوابها فنعلمهم أن يرسلوا قريبنا أطلمش وإن لم يفعلوا فدماء المسلمين في أعناقهم والسلام.

حنق نائب حلب وأمر بضرب أعناق قصاد تيمور لنك ، فاضطربت عند ذلك أحوال مدينة حلب وحصنوا سورها بالمدافع والمكاحل والمقاتلين ، وقد ارتكب نائب حلب خطأ فاحشا بقتل الرسول ، ظانا وجماعته من الحلبيين أن لهم قوة تقاوم قوة تيمور لنك. قال بعض المؤرخين : لما كان أهل حلب وصاحبها يتشاورون في دفع عادية تيمور عنهم قال نائب طرابلس : إننا نطير إلى الآفاق أجنحة البطائق إلى الأعراب والأكراد والتراكمة فيتسلطون عليه من الجوانب. وفي ذلك دليل آخر على جهل أمراء الشام بقوة تيمور لنك وعجزهم عن كشف أخبار جيوشه وتقدير مبلغ قوته. وذكر بعض المؤرخين أن عسكر تيمور لنك كان لما أسر سلطان العثمانيين أربعمائة ألف فارس وستمائة ألف راجل وقيل : إن ديوان تيمور اشتمل على ثماني مائة ألف مقاتل.

لما بلغ تيمور لنك ما فعله الحلبيون بقصاده زحف إلى قرية حيلان وأحاط بمدينة حلب ونهب ما حولها من الضياع فخرج عساكر حلب وسائر النواب

١٦٦

بعساكرهم ، وخرج لقتال تيمور حتى النساء والصبيان من أهل حلب ، وأوقعوا مع تيمور فكان بينهم ساعة تشيب منها النواصي ، وقد دهمتهم عساكر تيمور كأمواج البحر المتلاطمة، فلم تثبت معهم عساكر حلب وولوا على أعقابهم مدبرين إلى المدينة ، وقد داست حوافر الخيل أجساد العامة ، وكان احتمى بالمزارات والمساجد الجم الغفير من النساء والأطفال ، فدخل التتر إليهم وأسروهم وقرنوهم بالحبال وأسرفوا في قتل النساء والرجال ، وصارت الأبكار تفتض في المساجد وآباؤهن يشاهدونهن ، ولم يرعوا حرمة الجوامع وأصبحت كالمجزرة من القتلى واستمر ذلك أربعة أيام.

وفي كنوز الذهب أن جيش تيمور لنك لما دخل إلى حلب نهب وأحرق وسبى وقتل وصاروا يأخذون المرأة ومعها ولدها الصغير على يدها فيلقونه من يدها ويفعلون بها ما لا يليق ذكره ، فلجأ النساء عند ذلك إلى جامعها ظنا منهن أن هذا يقيهن من أيدي الكفرة وصارت المرأة تطلي وجهها بطين أو بشيء حتى لا ترى بشرتها من حسنها ، فيأتي عدو إلله إليها ويغسل وجهها ويجامعها في الجامع. قال : وحكى بعض من حضر الوقائع بأن تيمور عرض الأسرى من ديار الشام ونواحيها فكانوا ثلاثمائة ألف أسير وستين ألف أسير.

رأى دمرداش نائب حلب عين الغلب فنزل من القلعة هو وبقية النواب ، وأخذوا في رقابهم مناديل وتوجهوا إلى تيمور لنك يطلبون منه الأمان ؛ فلما مثلوا بين يديه خلع عليهم أقبية مخمل أحمر وألبسهم تيجانا مذهبة ، وقال لهم : أنتم صرتم نوابي ، ثم أرسل معهم جماعة من أمرائه يتسلمون القلعة ، وكان فيها من الأموال والذخائر والحلي والسلاح ما تعجب الفاتح من كثرته ، حتى أخبر بعض أخصائه أنه قال : ما كنت أظن أن في الدنيا قلعة فيها هذه الذخائر ، فاستنزلوا ما كان بها وهم في قيود وغدر بهم بعد أن أمنهم ، وأخذ جميع ما كان فيها من الأموال والمتاع ثم خرب القلعة وأحرق المدينة. واستمر مقيما على حلب نحو شهر ، وعسكره ينهبون القرى التي حول المدينة ويقطعون الأشجار التي بها ويهدمون البيوت، وقد أسرفوا في القتل ونهب الأموال ، وصارت الأرجل لا تطأ إلا على جثة إنسان لكثرة القتلى ، حتى قيل : إنه بنى من رؤوس القتلى عشرة مآذن ، دور كل مئذنة نحو عشرين ذراعا، وصعودها

١٦٧

في الهواء مثل ذلك ، وجعلوا الوجوه فيها بارزة تسفو عليها الرياح ، وتركوا أجساد القتلى في الفلاة تنهشها الكلاب والوحوش. فكان عدة من قتل في هذه الواقعة من أهل حلب من صغار وكبار ونساء ورجال نحوا من عشرين ألف إنسان ، عدا من هلك من الناس تحت أرجل الخيول عند اقتحام أبواب المدينة وقت الهزيمة وهلك من الجوع والعطش أكثر من ذلك ـ هذا ما قاله ابن تغري بردي وابن حجر وابن إياس. وقال ابن حجر : إن أعظم الأسباب في خذلان العسكر الإسلامي ما كان دمرداش نائب حلب اعتمده من إلقاء الفتنة بين التركمان والعرب حتى أعانه بعض التركمان على أموال نعير فنهبها فغضب نعير من ذلك وسار قبل حضور تيمور لنك فلم يحضر الوقعة أحد من العرب. وقال بعضهم : إن دمرداش كان باطن تيمور لكثرة ما كان تيمور لنك خدعه ومناه.

تيمور لنك على حماة وسلمية وحمص :

ووصل تيمور لنك إلى حماة وسلمية فأرسل جماعة من عسكره إلى نحو طرابلس فتاهوا عن الطريق فدخلوا في واد بين جبلين فوثب عليهم جماعة من عربان جبل نابلس فقتلوا منهم جماعة كثيرة بالنشاب والحجارة فولوا مدبرين. وذكروا أن ابن رمضان أمير التركمان جمع عساكره وجاء حلب بعد رحيل تيمور لنك وطرد من بها من عساكره بحلب. وفعل تيمور لنك بأهل حماة كما فعل بأهل حلب من القتل والنهب وأحرق معظمها ، ولم تطل يده إلى حمص فوهبها كما قال لخالد بن الوليد. قال ابن حجر : وذكر بعض من يوثق به أنه قرأ في الحائط القبلي بالجامع الأموي النوري بحماة منقوشا على رخامة بالفارسي ما نصه : إن الله يسر لنا فتح البلاد والممالك حتى انتهى استخلاصنا إلى بغداد ، فحاورنا سلطان مصر والشام فراسلناه لتتم المودة فقتلوا رسلنا ، فظفرت طائفة من التركمان بجماعة من أصلنا فسجنوهم ، فتوجهنا لاستخلاص قريبنا من أيدي مخالفينا واتفق في ذلك نزولنا بحماة في العشرين من شهر ربيع الآخرة.

تيمور لنك على دمشق :

وجاء تيمور لنك دمشق فنزل عند سفح جبل الثلج (الشيخ) في قطنا وإقليم البلان

١٦٨

ميسنون وقوي عزمه على فتح دمشق لما بلغه أن الملك فرّ منها إلى مصر ، فأرسل تيمور لنك إلى نائب دمشق رسولا من قبله فقتله قبل أن يسمع كلامه. جرى في ذلك على ما جرى عليه نائب حلب فزاد تيمور لنك حنقا. ومن الغريب أن نائبي حلب ودمشق لم يقدرا قوة تيمور لنك حق قدرها وهي منهما على قيد غلوة وظنا أنهما باعتصامهما في قلعتي المدينة، وبالقليل ممن عندهما من العسكر وأحداث البلدين يستطيعان أن يتغلبا على جيوش تيمور لنك المؤلفة كما قال عربشاه : من رجال توران ، وأبطال إيران ، ونمور تركستان ، وفهود بلخشان ، وصقور الدشت والخطا ، ونسور المغول وكواسر الجتا ، وأفاعي خجند ، وثعابين أبدكان ، وهوام خوارزم ، وجوارح جرجان ، وعقبان صغانيان ، وضواري حصار شادمان ، وفوارس فارس ، وأسود خراسان ، وضباع الجبل ، وليوث مازندران ، وسباع الجبال وتماسيح رستمدار وطالقان ، وأهل قبائل خوز وكرمان ، وطلس أرباب طيالس أصبهان ، وذئاب الري وغزنة وهمدان ، وأفيال الهند والسند وملتان ، وكباش ولايات اللور وتيران ، وشواهق الغور ، وعقارب شهرزور ، وحشرات عسكر مكرم وجندي سابور.

قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم

طاروا إليه زرافات ووحدانا

مع ما أضيف إليهم من أعيار الخدم ، وفواعل التراكمة والأوباش والحشم ، وكلاب النهاب من رعاع العرب وهمج العجم ، وحثالة عباد الإنسان ، وأنجاس مجوس الأمم ، ما لا يكتنفه ديوان ، ولا يحيط به دفتر حسبان اه.

غلطة ارتكبها نائب دمشق المغرور بقوة سلطانه ومن معه من المتعصبة والمتلصصة وأرباب الدعارة من الشطار والأحداث الأغيار ، قضت على أعظم مدينة في الأرض كانت في غابر الأيام. كان بين أهل دمشق وبين عسكر تيمور لنك في أول يوم واقعة فقتل من عسكر تيمور لنك نحو ألفي إنسان ، فأرسل يطلب من أعيان دمشق رجلا من عقلائهم ، يمشي بينه وبين أهل دمشق في الصلح ، فلما أتى قاصد تيمور لنك بهذه الرسالة اشتور أهل دمشق فيمن يرسلونه فوقع الاختيار أن يرسلوا القاضي تقي الدين بن مفلح الحنبلي ، فإنه كان إنسانا طلق اللسان يعرف بالتركي وباللسان العجمي ، فأرخوه من أعلى السور بسرياق ضخم ، ومعه خمسة أنفس من أعيان دمشق ، فغاب عند

١٦٩

تيمور لنك ساعة ثم رجع من عنده فأخبر بأن تيمور لنك تلطف معه في القول وقال له : هذه بلد فيها الأنبياء وقد أعتقها لهم. وشرح من محاسن تيمور لنك شيئا كثيرا وجعل يخذل أهل الشام عن قتاله ويرغبهم في طاعته ، فصار أهل البلد فرقتين فرقة ترى ما رآه ابن مفلح وفرقة ترى محاربته ، وكان أكثر أهل البلد يرون مخالفة ابن مفلح ، ثم غلب رأيه ورأي أصحابه، فقصد أن يفتح باب النصر فمنعه من ذلك نائب قلعة دمشق وقال لهم : إن فعلتم ذلك أحرقت البلدة جميعها ، ولكن نائب القلعة لما رأى عين الغلب سلم إليهم القلعة بعد ستة وعشرين يوما قال : ثم قبض تيمور لنك على ابن مفلح وأصحابه وأودعهم في الحديد.

وصف أفعال تيمور لنك في دمشق :

ذكر ابن تغري بردي أنه لما قدم الخبر على أهل دمشق بأخذ حلب نودي في الناس بالرحيل من ظاهرها إلى داخل المدينة والاستعداد لقتال العدو ، فأخذوا في ذلك فقدم عليهم المنهزمون من حماة فعظم خوف أهلها ، وهموا بالجلاء فمنعوا من ذلك ، ونودي من سافر نهب فعاد إليها من كل خرج منها ، وحصنت دمشق ونصبت المجانيق على قلعتها ونصبت المكاحل على أسوارها واستعدوا للقتال ، ثم نزل تيمور لنك بعساكره على قطنا ، فملأت الأرض كثرة ، وركب طائفة منهم لكشف الخبر فوجدوا السلطان والأمراء قد تهيأوا للقتال ، وصفت العساكر السلطانية فبرز إليهم التمرية وصدموهم صدمة هائلة ، وثبت كل من العسكريين ساعة فكانت بينهم وقعة انكسرت فيها ميسرة السلطان ، وانهزم العسكر الغزاوي وغيرهم إلى ناحية حوران وجرح جماعة ، وحمل تيمور لنك بنفسه حملة عظيمة شديدة ليأخذ دمشق ، فدفعته ميمنة السلطان بأسنان الرماح حتى أعادوه إلى موقفه ، ونزل كل من العسكرين بمعسكره وبعث تيمور لنك إلى السلطان في طلب الصلح وإرسال أطلمش أحد أصحابه إليه وأنه هو أيضا يبعث من عنده من الأمراء المقبوض عليهم في واقعة حلب. ثم هرب الملك لأنه بلغه أنهم يسلطنون غيره في مصر فارا بجماعته.

وكان اجتمع في دمشق خلائق كثيرة من الحلبيين والحمويين والحمصيين وأهل القرى ممن خرج جافلا من تيمور ، ما عدا العساكر الدمشقيين الذين

١٧٠

تخلفوا في دمشق ولما أصبحوا وقد فقدوا السلطان والأمراء والنائب غلقوا أبواب المدينة ، وركبوا الأسوار ونادوا بالجهاد ، فتهيأ أهل دمشق للقتال وزحف عليهم تيمور لنك بعساكره فقاتل الدمشقيون من أعلى السور أشد قتال ، وردوهم عن السور والخندق ، وأسروا منهم جماعة ممن اقتحم باب دمشق ، وأخذوا من خيولهم عدة كبيرة وقتلوا منهم نحو الألف وأدخلوا رؤوسهم إلى المدينة ، ولما أعيا تيمور أمرهم جعل يخادعهم فأرسل يريد الصلح.

وطلب تيمور الطقزات أي التسعة الأصناف من المأكول والمشروب والملبوس وغيره وهذه كانت عادته في كل بلد يفتحه صلحا. فأجابه الدمشقيون إلى ما طلب بإقناع ابن مفلح لهم ، وتقرر أن يجبي تيمور من دمشق ألف ألف دينار ففرض على الناس فقاموا به من غير مشقة لكثرة أموالهم ، فلم يرض تيمور وقال : إن المطلوب بحساب له عشرة آلاف ألف دينار أو ألف تومان والتومان عشرة آلاف دينار من الذهب. قال ابن حجر : واستقر الصلح على ألف ألف دينار فتوزعت على أهل البلد ثم رجع تيمور فتسخطها وقال : إنه طلب ألف تومان فنزل بالناس باستخراج هذا منهم ثانيا بلاء عظيم ، ولما أخذه ابن مفلح وحمله إلى تيمور قال هذا لابن مفلح وأصحابه : هذا المال لحسابنا إنما هو ثلاثة آلاف دينار وقد بقي عليكم سبعة آلاف دينار (؟) وظهر لي أنكم عجزتم ، ثم سلمت أموال المصريين وكراعهم وسلاحهم وأموال الذين هربوا من دمشق ، ولما كمل ذلك ألزمهم أن يخرجوا إليه جميع ما في البلد من السلاح فأخرجوه ، فلما فرغ من ذلك ، قبض على ابن مفلح ورفقته وألزمهم أن يكتبو له جميع خطط دمشق وحاراتها وسككها ، فكتبوا ذلك ودفعوه إليه ، ففرقه على أمرائه وقسم البلد بينهم فساروا إليها بمماليكهم وحواشيهم ، ونزل كل أمير في قسمه وطلب من فيه وطالبهم بالأموال فحينئذ حلّ بأهل دمشق من البلاء ما لا يوصف ، وجرى عليهم من أنواع العذاب وهتك الأعراض شيء تقشعر منه الجلود ، واستمر هذا البلاء تسعة عشر يوما فهلك في هذه المدة بدمشق بالعقوبة والجوع خلق لا يعلم عددهم ، ثم أمر أمراءه فدخلوا دمشق ومعهم سيوف مسلولة مشهورة وهم مشاة ، فنهبوا ما قدروا عليه من آلات الدور وغيرها ، وسبوا نساء دمشق بأجمعهن ، وساقوا الأولاد والرجال

١٧١

وتركوا من الصغار من عمره خمس سنين فما دونها ، وساقوا الجميع مربوطين في الحبال ، ثم طرحوا النار في المنازل والدور والمساجد ، وكان يوما عاصف الريح فعم الحريق جميع البلد حتى كاد لهيب النار أن يرتفع إلى السحاب ، وعملت النار في البلد ثلاثة أيام بلياليها ، ثم رحل تيمور عنها بعد أن أقام ثمانين يوما وقد احترقت كلها وسقطت سقوف جامع بني أمية من الحريق وزالت أبوابه وتقطر رخامه ولم يبق غير جدره قائمة ، وذهبت مساجد دمشق ودورها وقياسرها وحماماتها وصارت أطلالا بالية ورسوما خالية ولم يبق بها إلا أطفال. قال ابن تغري بردي : ولقد ترك المصريون دمشق أكلة لتيمور ، وكانت يوم ذاك أحسن مدن الدنيا وأعمرها.

قال بهاء الدين البهائي يرثي دمشق المظلومة ويصف ما حلّ بها من التتر في سنة ثلاث وثمانمائة ويذكر حلب وحماة :

لهفي على تلك البروج وحسنها

حفت بهن طوارق الحدثان

لهفي على وادي دمشق ولطفه

وتبدل الغزلان بالثيران

وشكا الحريق فؤادها لما رأت

نور المنازل أبدلت بدخان

جناتها في الماء منها أضرمت

فعجبت للجنات في النيران

كانت معاصم نهرها فضية

والآن صرن كذائب العقيان

ما ذاك إلا تركهم ولجت بها

فتخضبت منها بأحمر قان

كرهت جداولها حوافر خيلهم

فتسابقت هربا كخيل رهان

خافت خدود الأرض من أفعالهم

فتلثمت بعوارض الريحان

لو عاينت عيناك جامع تنكز

والبركتين بحسنها الفتان

وتعطش المرجين من أورادها

وتهدم المحراب والإيوان

لأتت جفونك بالدموع ملونا

دمعا حكى اللولو على المرجان

قطرات جفن ترجمت عن حرقتي

فكأنهن قلائد العقيان

أبني أمية أين يمن وليدكم

والمغل تفتل في ذرى الأركان

شربوا الخمور بصحنه حتى انتشوا

ألقوا عرابدهم على النسوان

١٧٢

ومنها :

لهفي على كتب العلوم ودرسها

صارت معانيها بغير بيان

أعروسنا لك أسوة بحماتنا

في ذا المصاب فأنتما أختان

غابت بدور الحسن عن هالاتها

فاستبدلت من عزها بهوان

ناحت نواعير الرياض لفقدهم

فكأنها الأفلاك في الدوران

حزني على الشهباء قبل حماتنا

هو أول وهي المحل الثاني

لا تدّعي الأحزان يا شقراءنا

السبق للشهباء في الأحزان

رتعت كلاب المغل في غزلانها

وتحكمت في الحور والولدان

لهفي عليك منازلا ومنازها

ومقام فردوس وباب جنان

ثم رجع ورثي دمشق فقال :

لم أدر من أبكي وأندب حسرة

للقصر للشرفين للميدان

للجبهة الغراء أم خلخالها

للمزّة الفيحا أم اللوّان

الخراب الأعظم وأخلاق تيمور ونجاة فلسطين منه :

وعلى ما منيت به دمشق من قتل سكانها وسبي نسائها وأولادها ، وإحراق مصانعها وبيوتها ، واستخراج أموالها وطرائفها ، أصابتها من تيمور مصيبة لا تقل عن تلك في إرجاعها القهقرى وإضعافها إضعافا لا يجبر كسره في قرون وإليك ما قاله ابن عربشاه في تفصيل هذا الهول العظيم : وبينا كان رجال يحاصرون قلعة دمشق أخذ هو يتطلب الأفاضل وأصحاب الحرف والصنائع ، واستمر نهب عسكر تيمور لدمشق ثلاثة أيام ، وارتحل وجماعته وقد أخذ من نفائس الأموال فوق طاقتهم ، فجعلوا يطرحون ذلك في الدروب والمنازل ، وذلك لكثرة الخمل وقلة الحوامل ، وأصبحت القفار والبراري ، والجبال والصحاري ، من الأمتعة والأقمشة، كأنها سوق الدهشة ، وكأن الأرض فتحت خزائنها ، وأظهرت من المعادن والفلزات كامنها ، وأخذ تيمور كل ماهر في فن من الفنون بارع من النساجين والخياطين والحجارين والنجارين والاقباعية والبياطرة والخيمية والنقاشين والقواسين والبازدارية وبالجملة أهل أي فن كان ، وأخذ جملة من العلماء والأعيان والنبلاء ، وكذلك كل أمير من أمرائه

١٧٣

وزعيم من زعمائه ، وأخذ من الفقهاء والعلماء ، وحفاظ القرآن والفضلاء ، وأهل الحرف والصناعات ، والعبيد والنساء والصبيان والبنات ، ما لا يسعه الضبط.

ولما رحل تيمور عن دمشق ، وقد أصبحت أطلالا لا مال ولا رجال ولا مساكن ولا حيوان ، صار من بقي فيها من عسكر السلطان ومن أهلها يجتمعون ويترافقون ، ويخرجون من دمشق إلى الديار المصرية فيخرج عليهم العربان والعشير ، وينهبون ما معهم ويعرونهم ولم يتركوا لهم غير اللباس في وسطهم ، فجرى عليهم من العربان والعشير ما لم يجر عليهم من عسكر تيمور ، فذهبت حرمة المملكة ولم يبق للسلطان قيمة ولا للترك حرمة ، فعزم السلطان الناصر على العود إلى دمشق ، ثم بلغه أن تيمور رحل عن دمشق وهو مريض فعدل عن حملته ، وأرسل تيمور إلى صاحب مصر سودون نقيب قلعة دمشق يعتذر له مما قد جرى ، ويطلب قريبه الذي كان أسر في أيام الظاهر برقوق ، وأنه إذا أطلقه يطلق ما عنده من الأسرى ، فأطلقه وكساه السلطان وأحسن إليه ، فلما وصلوا إلى تيمور أكرمهم وقبل مراسيم السلطان وتفارش وبكى واعتذر مما وقر منه وقال هذا كان مقدرا.

رحل تيمور عن دمشق ولم يتعدها إلى فلسطين ، وكان علماء القدس انتدبوا رجلا وجهزوه بمفاتيح الصخرة إلى تيمور لما بلغهم أخذه دمشق فلما كان بالطريق بلغه رجوعه فرجع.

وكانت أكثر المدن الصغرى في أواسط الشام قد خضعت وصافت بحكم الطبيعة ومنها طرابلس أحضر له منها مال وقد اجتاح بعلبك ونهبها ، ولما وصل الجبول في عودته لم يدخلها وأمر بتخريبها وإحراقها ، وحرق حلب مرة ثانية وهدم أبراج القلعة وأسوار المدينة والمساجد والجوامع والمدارس ، وقتل وأسر كل من وجدهم في طريقه ، وأخذ من كان في قلعة حلب من المعتقلين خلا القضاة فأطلق موسى الأنصاري وعمر بن العديم وجماعة معهما ، وأخذ بقيتهم فمنهم من هرب من الطريق ، ومنهم من وصل معه. قفل تيمور راجعا بعد أن أذاق الشام كأس الذل والحمام ، وربما إذا جمعت جملة تخريباته لا يتأتى وقوع مثلها في مئات من الأعوام عملها بجيشه الجرار في عشرات من الأيام وقال : إن ما فعله كان مقدرا فكأنه شعر بعظم تبعته على عادة الفاتحين السفاكين ، بيد أنه كان مغرى

١٧٤

بغزو المسلمين والتخلي عن غيرهم ، صنع ذلك في الروم والهند وغيرهما ، ولكن ما فعله لم يكن كله عن غير علم بل أخذ بما يؤخذ به كل من تفانى في الوصول إلى غرض ، ويستحيل بعد أن فتحت عليه الأقاليم وفتح ثلث آسيا تقريبا بالقهر والسيف وجعل جيشه مؤلفا كالجيش العثماني من جميع العناصر التي كانت تحت حكمه أن لا يكون على شيء من العلم وبعد النظر. وكان يصحب معه في رحلاته زمرة من العلماء المحققين.

ولو قدّر للدولة أن يكون فيها سلطان يحسن الانتفاع بالقوة ، ويحالف ابن عثمان صاحب الروم وغيره من أمراء الشرق الذين فاوضوا ملك مصر والشام في أمر تيمور قبل انهيال جمهرة جيوشه على ديارهم ونظموا قواهم واستعملوا اللين تارة والشدة أخرى ، ولم يفتحوا للفاتح العظيم بابا من أبواب الحجج التي يحجهم بها في عرف السياسة والفتح ، لأمنت هذه الديار عادية تيمور أو لكان اكتفى بمعاهدة تضمن له بعض الغرامات فرحل بسلام ، لأن تيمور يعرف بأن مملكته أوسع مجالا يتيسر بقاؤها لآله لقربها من مهد عصبيته ودار ملكه.

بيد أنه لم يكن في مصر ولا الشام على ذاك العهد رجل سياسي بعيد النظر والغور في السياسة كالظاهر برقوق والظاهر بيبرس مثلا فكان ما كان لأن الديار أصبحت بلا راع يرعاها ، وغدا الحكم لمماليك الطبقة الثانية من عماله ، ولمن يتحمسون لأول وهلة ثم يقودون أمتهم بجهلهم إلى الخراب ، والغالب أن السبب في رجوع تيمور انتشار الجراد حتى أكل الناس أولادهم فأصبح من المتعذر عليه بعد ذلك تموين جيشه العظيم ، وبهذا الرأي قال ابن حجر فذكر أن رحيل تيمور إنما كان لضيق العيش على من معه فخشي أن يهلكوا جوعا. وقيل : إن تيمور أراد أن يفتح مصر فأرسل جماعة من قواده يكشفون له الطرق فلما عادوا قصوا عليه ما رأوه وهو ساكت حتى أتوا على حديثهم فقال لهم : إن مصر لا تفتح من البر بل تحتاج إلى أسطول لتفتح من البحر ولذلك صرف النظر عن فتحها ، وهكذا نجت مدن الجنوب في الشام من تخريبه وكذلك مصر وما إليها من بلاد إفريقية وسلمت الدولة الشركسية.

١٧٥

عهد المماليك الاخير

«من سنة ٨٠٣ الى ٩٢٢»

البلاد بعد الفتنة التيمورية ومخامرة العمال :

خرجت حلب وحماة ودمشق خصوصا من بين مدن الشام بعد فتنة تيمور كالهيكل من العظم لا لحم ولا دم ، وأصيبت بنقص في الأنفس وخراب في العمران ، يبكي لها كل من عرف ما كانت عليه من السعادة قبل تلك الحقبة المشؤومة ، ولم يقيض للقطر سلطان عاقل قوي يداوي جراحاتها وينهض بها نهضة تنسيها آلامها. ولما رحل تيمور عن دمشق نصب صاحب مصر المقر السيفي تغري بردي في نيابة دمشق ورسم له أن يخرج إلى الشام من يومه ليعمر ما أفسده تيمور في دمشق ، ونصب نوابا آخرين على نيابات الشام ممن كانوا في أسر تيمور فأطلقهم ، مثل نواب الكرك وطرابلس وحماة وبعلبك وصفد وغيرهم ، وأمرهم أن يعمروا البلاد المخربة. وهيهات أن يعمر في قرن ما خربه تيمور في ثلاثة أشهر.

وبعد حين رجم أهل دمشق (٨٠٤) نائب. الشام تغري بردي وأرادوا قتله فهرب إلى نائب حلب ، فلما بلغ سلطان مصر ذلك أرسل تقليدا إلى أقبغا الجمالي بنيابة الشام. وخامر أمير غزة وخرج عن الطاعة واسمه صرق ، فقتل في المعركة ، وخرج أيضا عن طاعة نائب طرابلس شيخ المحمودي. وخرج دمرداش نائب حلب إلى الأمير دقماق المحمدي الذي خلفه في نيابتها وأوقع معه واقعة قوية فانكسر دمرداش.

وفي سنة (٨٠٦) نازل الفرنج طرابلس فأقاموا عليها ثلاثة أيام فبلغ ذلك نائب الشام فنهض إليهم مسرعا فانهزموا فأوقع بهم وكان ذلك مبدأ سعادته.

١٧٦

ثم توجه الفرنج إلى بيروت وكانوا في نحو من أربعين مركبا فواقعهم دمرداش ومن معه من الجند والمطوعة وقتل بعض الناس من الفريقين وجرح الكثير ، وكان نائب الشام ببعلبك فجاءه الخبر فتوجه من وقته وأرسل إلى العسكر يستنجد به ومضى على طريق صعبة إلى أن وصل إلى طرابلس ثم توجه من فوره إلى بيروت فوجدهم قد نهبوا ما فيها وأحرقوها وكان أهلها قد هربوا إلى الجبال إلا المقاتلة منهم ، فوقع بين الفريقين مقتلة عظيمة فأمر النائب بإحراق قتلى الفرنج ، ثم توجه إلى صيدا ومعه العساكر فوجدهم في القتال مع أهلها ولم يتقدمه أحد بل كان معه عشرة أنفس ، فحمل على الفرنج فكسرهم وفروا في مراكبهم راجعين إلى ناحية بيروت ثم نزلوا لأخذ الماء فتبعهم بعض أصحاب النائب فغلبوه على الماء وأخذوا حاجتهم وتوجهوا إلى جهة طرابلس.

ودامت الفوضى في القطر حتى خامر النواب إلا قليلا في الشام (٨٠٦) وأصبح الناس فرقتين فرقة مع الملك الناصر وفرقة عليه إلى أن خلع سنة (٨٠٨) وفي سنة (٨٠٦) أوقع نائب الشام بعرب آل فضل وكان كبيرهم علي بن فضل قد قسم الشام سنة ثلاث وثماني مائة فطمع أن يفعل ذلك هذه السنة ، فقبض عليه النائب ونهب بيوته ، ووقع بين نعير أمير عرب آل فضل وبين حجا بن سالم الدوكاري وقعة عظيمة قتل فيها ابن سالم وانكسر عسكره وغلب نعير وأرسل برأس ابن سالم إلى القاهرة. وكان عسكر ابن سالم طاف في أعمال حلب كعزاز وغيرها وأفسد فيها الفساد الفاحش ، وكان وقع بينه وبين نعير قتال بين جعبر وابلستين واستمرا أياما إلى أن قتل ابن سالم. وقع بين دمرداش والتركمان وقعة عظيمة فانكسر دمرداش. وفي أيام الناصر فرج نصب نوروز الحافظي على دمشق وجكم العوضي نائبا على حلب ، فلما توجها إلى عملهما أظهر كل منهما العصيان والمخامرة على السلطان فتسلطن جكم العوضي بحلب وقبل الأمراء الأرض بين يديه وتلقب بالملك العادل ووضع يده على البلاد الحلبية وكتب إلى نواب الشامات فأطاعوه إلا القليل منهم ، وأخرج أوقاف الناس وجعلها إقطاعات وفرقها مثالات على عسكر حلب وصار يحكم من الشام الى الفرات فانتزعت يد الناصر من الديار الشامية والحلبية وصار حكمه لا يجاوز غزة.

١٧٧

وفارق جكم حلب (٨٠٧) فثار بها عدة من أمرائها ورفعوا لواء السلطان بالقلعة فاجتمع إليهم العسكر وتحالفوا على طاعة السلطان ، وقام بتدبير أمور حلب الأمير يونس الحافظي وامتدت أيدي عرب ابن نعير والتركمان إلى معاملة حلب فقسموها ولم يدعوا لأحد من الأمراء والأجناد شيئا. ومدحه المؤرخون بأنه كان يتحرى العدل ويحب الإنصاف ، ولا يتمكن أحد معه من الفساد.

وفي سنة (٨٠٧) حاصر دمرداش نائب حلب أنطاكية وبها فارس ابن صاحب الباز التركماني فأقام مدة ولم يظفر بها بطائل وكان جكم مع فارس فتوجه جكم بعده إلى طرابلس فغلب عليها ثم توجه إلى حلب فنازلها وبها دمرداش فالتقيا وجرى بينهما قتال فانكسر دمرداش وخرج من حلب فركب البحر إلى القاهرة ، وملكها جكم ثانية ثم خرج إلى جهة البيرة وغزا التركمان وأسر منهم جما كبيرا. والتف نوروز الحافظي على شيخ المحمودي نائب طرابلس وأظهرا العصيان والتف عليهما جماعة من النواب وصاروا يأكلون الأقاليم الشامية والحلبية من غزة إلى الفرات وليس بيد الملك الناصر سوى مصر. وخربت صفد وأعمالها خرابا شنيعا وذلك لأن شيخا المحمودي ومن معه من النواب والتركمان حاصروها مدة لأن واليها بكتمر جلق لم يوافقهم على رغائبهم من جهة سلطان مصر. وخرج نعير بن مهنا الحياري البدوي (٨٠٨) على أعمال دمشق فأخرج يلبغا العساكر وتواقعوا بالقرب من قرية عذراء خارج دمشق فانهزمت عساكر الشام وأمراء غرب بيروت واستولت العرب على دمشق وزادوا في الجور والضرب. واستولى التركمان على كثير من العمالات بقيادة رأسهم اياس ووصلوا إلى حماة فغلبوا عليها ثم ردوا عنها.

وقائع التركمان مع الناشزين على السلطان :

وفي سنة (٨٠٨) كانت الوقعة العظمى بين جكم نائب حلب والتركمان ورئيسهم فارس ويدعى إياس بن صاحب الباز صاحب أنطاكية وغيرها ، وكان قد غلب على أكثر الأصقاع الشمالية ودخل حماة وملكها ، وعسكره يزيد على ثلاثة آلاف فارس غير الرجالة فواقعه جكم بمن معه فكسره كسرة فاحشة ، وعظم قدر جكم بذلك وطار صيته ، ووقع رعبه في قلوب التركمان

١٧٨

وغيرهم ، ثم إنه واقع نعيرا ومن معه من العرب فكسره ، ثم توجه جكم إلى أنطاكية وأوقع بالتركمان فسألوه الأمان وأن يمكنهم من الخروج إلى الجبال مواطنهم القديمة ويسلموا إليه جميع القلاع التي بأيديهم ، فتقرر الحال على ذلك وأرسل إلى كل قلعة واحدا من جهته ودخل إلى حلب مؤيدا منصورا ، فسلم فارس بن صاحب الباز لغازي بن أوزر التركماني وكان بينهما عداوة فقتله وقتل ولده وجملة من جماعته. وكان قد استولى على معظم معاملة حلب ومعاملة طرابلس فصار في حكمه أنطاكية والقصير والشغر وبغراس وحارم وصهيون واللاذقية وجبلة وغير ذلك ، فلما أحيط به تسلم جكم الكور ورجعت معاملة كل بلد على ما كانت أولا.

وبرز جكم إلى دمشق فالتقى مع ابن صاحب الباز وجمعهم من التركمان فكسرهم كسرة ثانية وضرب أعناق كثير منهم صبرا وقتل نعيرا وأرسل برأسه إلى القاهرة ، واستعد نائب الشام لقتاله ، ووصل دمرداش توقيع بنيابة حلب عوضا عن جكم من القاهرة ، فتجهز صحبة نائب الشام ثم وصل إليهم المعجل بن نعير طالبا ثأر أبيه وكذلك ابن صاحب الباز طالبا ثأر أبيه وأخيه ، وكان معهم من العرب والتركمان خلق كثير ، ووصل توقيع المعجل بن نعير بإمرة أبيه ووصل نائب الشام ومن معه إلى حمص وكاتبوا جكم في الصلح ووقعت الواقعة بينهم فانكسر عسكر دمشق ، ووصل إليها شيخ ودمرداش منهزمين ، وكانت الواقعة في الرستن ثم رحل نائب دمشق إلى مصر ، ودخل جكم إلى عاصمة الشام وبالغ في الزجر عن الظلم ، وعاقب على شرب الخمر فأفحش ، حتى لم يتظاهر بها أحد ، وكانت قد فشت بين الناس.

ذكر هذا ابن حجر ، وقال في وفيات سنة (٨٠٨) : إن فارسا صاحب الباز التركماني كان أبوه من أمراء التركمان فلما وقعت الفتنة اللنكية جمع ولده هذا فاستولى على أنطاكية ثم قوي أمره فاستولى على القصير ثم وقع بينه وبين دمرداش في سنة ست وثماني مائة فانكسر دمرداش ، وكان جكم مع فارس ثم رجع عنه ، فاستولى فارس على البلاد كلها وعظم شأنه ، واستولى على صهيون وغيرها من عمل طرابلس ، وصارت نواب حلب كالمحصورين معه لما استولى على أعمالهم ، فلما ولي جكم ولاية حلب تجرد له وواقعة فهزمه ونهب ما معه

١٧٩

واستمر جكم وراءه إلى أن حاصره بأنطاكية سنة ثمان وثماني مائة ، ولم تزل الحروب بينهما إلى أن طلب فارس الأمان فأمنه ونزل إليه وسلمه لغازي بن أوزر ، وكان عدوه فقتله وقتل معه ابنه وجماعة منهم ، واستنقذ جكم الأقاليم كلها من أيدي صاحب الباز وهي أنطاكية والقصير والشغر وحارم وغيرها وانكسرت بقتل فارس شوكة التركمان.

وفي سنة (٨٠٩) بعث شيخ إلى نابلس جيشا قبضوا على عبد الرحمن ابن المهتار وأحضروه له إلى صفد فقتل بحضرته ، وكان قد عصى بأخرة على الناصر ، واتفق شيخ ونوروز فأرسله إلى نابلس فصادر أهلها وبالغ في ظلمهم فكانت تلك عاقبته. ووقعت وقعة بين شيخ والحمزاوي عند حلبين فقتل في المعركة أناس من الأمراء وقبض على الحمزاوي. واستولى تمربغا المشطوب على حلب وذلك أنه لما هرب من الوقعة التي كانت بين جكم وبين قرابلك جاء مع طائفة من المغل إلى جهة حلب فوجد ابن دلغادر قد جمع التركمان وحاصرها فأوقع بهم وكسرهم ودخل البلد وعصت عليه القلعة. ولما بلغهم قتل جكم سلموها فاستولى على ما بها من الحواصل وعلى ما بحلب أيضا من الخيول والمماليك المخلفة عن جكم. ثم قدم الملك الناصر من مصر فانهزمت العرب ودخل السلطان دمشق وبنى ما كان هدم. وفي سنة (٨٠٩) ثارت طائفة من المماليك ومعهم عامة حلب على شركس المصارع.

وهكذا كثرت الفتن في الشام في العقد الأول من القرن التاسع وكلما قوي أمير قتل رجال الأمير الذي كان قبله ، وشأن الظلم في الرعايا عجيب ، والمصادرات قائمة على ساق وقدم ، وبالجملة فقد كانت الدولة التي تولت أمر مصر والشام على حالة سيئة وكثير من ملوكها لم يتم لهم في الملك أشهر معدودة ، وناهيك بهذا التبدل قال ابن تغري بردي : وكثرت المصادرات بدمشق وغيرها في أيام هذه الفتن (٨١٠) وأخرجت الأوقاف عن أربابها وخربت بلاد كثيرة بمصر والشام ، لكثرة التجاريد وسرعة انتقال الأمراء من إقطاع إلى إقطاع. وقال ابن حجر : وفيها كملت عمارة قلعة دمشق وكان ابتداؤها في العام الماضي وصرف على عمارتها مال كثير جدا ، وظلم بسببه أكثر الخلق من الشاميين وغيرهم. وبسط نوروز يده في المصادرات بدمشق

١٨٠