خطط الشام - ج ٢

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٢

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٠

ولم يحدث بعد ذلك من الكوائن المهمة شيء يستحق التدوين حتى سنة (٧٠٨) وقد خرج الناصر محمد بن قلاوون من مصر يظهر التوجه إلى الحجاز ، فلما وصل إلى الكرك أمر الأمراء الذين حضروا في خدمته بالمسير إلى الديار المصرية وأعلمهم أنه جعل السفر إلى الحجاز وسيلة إلى المقام بالكرك. وكان سبب ذلك استيلاء سلار وبيبرس الجاشنكير على المملكة واستبدادهما بالأمور ، وتجاوزا الحدّ في الانفراد بالأموال والأمر والنهي ، ولم يتركا له غير الاسم فاشتور الأمراء فيما بينهم واتفقوا على أن تكون السلطنة لبيبرس الجاشنكير ، فجلس على سرير السلطنة على أن يكون سلار مستمرا على نيابتها.

وفي السنة التالية سار جماعة من المماليك على حمية من الديار المصرية مفارقين طاعة بيبرس الجاشنكير الملقب بالملك المظفر ، ووصلوا إلى السلطان بالكرك وأعلموه بما الناس عليه من طاعته ومحبته ، فأعاد السلطان خطبته بالكرك ووصلت إليه مكاتبات عسكر دمشق يستدعونه وأنهم باقون على طاعته ، وكذلك وصلت إليه المكاتبات من حلب ثم جاء من الكرك إلى حمان ، وعاد فرجع إلى الكرك واستمرت العساكر على طاعته وانحلت دولة بيبرس الجاشنكير وجاهره الناس بالخلاف بعد أن ساعفته الأيام ، ولم يهم أنه ستخونه الأقدار ، ولا تظنى أن ما بناه على شفا جرف هار.

ولما تحقق الملك الناصر صدق طاعة العساكر الشامية وبقاءهم على طاعته وولائه عاود المسير الى دمشق فسار إلى البرج الأبيض من أعمال البلقاء ، فأطاعه جند دمشق وجند حماة والساحل ، وطلب نائب السلطنة الأفرم الأمان فأمنه ، ولما تكاملت العساكر الشامية عند السلطان بدمشق سار إلى مصر وبلغ بيبرس الجاشنكير ونائبه ذلك فجردا عسكرا ضخما أقاموا في الصالحية بطريق مصر. ولما وصل السلطان إلى غزة قدم إلى طاعته عسكر مصر أولا فأولا ثم تتابعت الأطلاب والكتائب ، وبويع له بالسلطنة للمرة الثالثة ، ولما تحقق بيبرس الجاشنكير ذلك خلع نفسه من السلطنة وطلب الأمان وأعطاه السلطان صهيون ومئة مملوك ثم قبض عليه وقتل ، وكذلك فعل بسلار. وأكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع.

وفي سنة (٧٠٩) وقعت فتنة في حوران بين اليمنية والقيسية وحشدوا وبلغت

١٤١

المقتلة ألف نفس وكانت بقرب السويداء. وفي سنة (٧١٠) أقام السلطان ملكا على حماة إسماعيل بن علي الملقب بأبي الفداء وهو آخر من بقي من سلالة الملوك الأقدمين في الشام. ولو لا حسن سياسة أبي الفداء ما وصل إلى هذا المنصب لأن الدور أصبح دور المماليك والدخلاء وجميع مواطن النيابة أصبح فيها مماليك السلطان أو مماليك والده أو مماليك مماليك والده ، وجميعهم مرتبون من الأبواب الشريفة. ولم يكن كل ملك أو قيل من هؤلاء الملوك والأقيال حرا بمملكته كما زعم بعضهم ، بل كانوا حتى من تسلسل فيهم الملك في بلدان صغيرة من الشام أشبه بأصحاب إقطاعات لا يزالون في حربهم وسلمت تحت أمر السلطان. وإذا شذّ في الأحايين بعضهم وعدوا على سلطانهم فإنهم لم يخرجوا عن كونهم ولاة أو عمالا خرجوا على السلطان ليس إلا.

الغزوات في الشمال وظهور دعوة جديدة :

وفي سنة (٧١١) قصد قراسنقر كبير الأمراء في حلب أمير العرب مهنا بن عيسى وكان على مسيرة يومين من حلب يستنصره ، وكان في ثمانمائة مملوك على الملك وكان يريد أن يبطش به. فركب مهنا فيمن أطاعه من أهله ، واستنفر من العرب نحو خمسة وعشرين ألفا، وقصدوا حلب وأحرقوا باب قلعتها وتغلبوا عليها ، واستخلصوا منها مال قراسنقر ومن بقي من أهله ولم يتعدوا إلى سوى ذلك ودخلت سنة (٧١٥) فأرسل السلطان محمد بن قلاوون عساكر الشام ومصر إلى ملطية ففتحوها ، وسبب ذلك أن حكومتها كانت تعتدي على أبناء السبيل ومن جاورها من سكان القلاع ، وأن المسلمين كانوا بها يختلطون بالنصارى حتى إنهم زوجوا النصراني بالمسلمة ، وثبت أنهم كانوا يطلعون التتر والأرمن على أخبار المسلمين ، ثم رجع الجيش إلى مرج دابق قرب حلب ، وترددت الرسل إلى صاحب سيس الأرمني في إعادة ما في جنوبي جيحان من البلدان وزيادة القطيعة أي الإتاوة ، فجعلها نحو ألف ألف درهم. وصدر أمر السلطان بأن لا تكون بحماة حماية لدعوة الإسماعيلية أهل مصياف ، بل يتساوون مع رعية حماة في أداء الحقوق والضرائب الديوانية وغير ذلك.

وأغار سليمان بن مهنا بن عيسى بجماعة من التتر والعرب على التراكمين

١٤٢

والعرب النازلين قريب تدمر ونهبهم ووصل في إغارته إلى قرب البيضاء بين القريتين وتدمر وعاد بما غنمه إلى الشرق. وجهز نائب السلطنة (٧١٧) بحلب عدة كثيرة من عسكر حلب وغيرهم من التركمان والعربان والطماعة ما يزيد على عشرة آلاف فارس فساروا إلى آمد ونهبوا أهلها المسلمين والنصارى وبالغوا في النهب الحرام فخلت آمد من أهلها.

وظهر في جبال بلاطنس من عمل اللاذقية رجل من النصيرية وادعى أنه محمد بن الحسن العسكري ثاني عشر الأئمة عند الإمامية ، وقيل : زعم تارة أنه المهدي المنتظر ، وأخرى أنه علي بن أبي طالب ، وطورا أنه محمد المصطفى وأن الأمة كفرة. فتبعه خلق من النصيرية نحو ثلاثة آلاف ، وهجم مدينة جبلة والناس في صلاة الجمعة فنهب أموال أهل جبلة ، وجرد إليه عسكر من طرابلس فلما قاربوه تفرق جمعه وهرب واختفى في تلك الجبال فتتبع وقتل وباد جمعه ولم يعد لهم ذكر ، بعد أن قتل مائة وعشرون رجلا من رجاله.

وفي سنة (٧٢٠) تقدمت مراسيم السلطان بإغارة العساكر على سيس فسار الجند الشامي من الساحل ودمشق وحماة وحلب فنازلوا قلعتها حتى بلغوا السور ، وغنموا منها وأتلفوا الزراعات وساقوا المواشي ونهبوا وخربوا. وسار جمع عظيم من العساكر الشامية والعرب في أثر آل عيسى ، وكانت منازلهم في سلمية ، حتى وصلوا إلى الرحبة فعانة فهرب آل عيسى إلى ما وراء الكبيسات ، وأقام السلطان موضع مهنا محمد بن أبي بكر ، ثم رضي السلطان (٧٢٢) على الأمير فضل بن عيسى وأقره على إمرة العرب موضع محمد بن أبي بكر أمير آل عيسى. وجردت بعض العساكر المصرية والشامية والساحلية إلى سيس ونازلوا اياس فهربت الأرمن منها وأخلوها وألقوا النار فيها فملكها المسلمون ، وخربوا ما قدروا على هدمه وعاد كل عسكر إلى بلده. وهدأت الأحوال في هذه الحقبة ولم يحدث سوى أمور طفيفة مثل قدوم مراكب فرنج جنوية (٧٣٤) إلى بيروت ، قاتلوا أهلها يومين ودخلوا البرج وأخذوا الأعلام السلطانية والمراكب. وكان السلطان يعتقل بعض الخوارج عليه أو من يرى في سيرهم ما يدعو إلى الشبهة ثم يطلقهم وينعم عليهم ، وربما أخر

١٤٣

إهلاك من يخافهم على السلطنة مثل تنكز نائب الشام عشر سنين ثم قتله ، وكان قتل خلقا فارتاحت الناس ، وما كانت أفكار السلطنة موجهة إلا إلى قتال الأرمن ، فكانوا يغزون كل مرة وآخر ما نالهم من غزوة المسلمين غزوة عسكر حلب (٧٣٥) ، وكان الأرمن ملكوا مدينة سيس وطردوا من كان بها من المسلمين فخربوا في أذنة وطرسوس وأحرقوا الزروع واستاقوا المواشي وغنموا وأسروا وما عدم سوى شخص واحد غرق في النهر ، وكان العسكر عشرة آلاف سوى من تبعهم ، فلما علم أهل اياس بذلك أحاطوا بمن عندهم من المسلمين التجار وغيرهم وحبسوهم في خان ثم أحرقوه وقلّ من نجا ، فعلوا ذلك بنحو ألفي رجل من التجار والبغاددة وغيرهم. وبعد مدة سار العسكر من مصر والشام بقيادة ملك الأمراء بحلب علاء الدين ألطنبغا إلى بلاد الأرمن (٧٣٧) ونزلوا على مينا أياس وحاصروها ثلاثة أيام ، ثم قدم رسول الأرمن من دمشق ومعه كتاب نائب الشام بالكف عنهم على أن يسلموا المدن والقلاع التي شرقي نهر جيحان ، فتسلموا ذلك منهم وهو ملك كبير ومدن كثيرة كالمصيصة وكوبرا والهارونية وسرفندكار واياس وباناس ونجيمة والنقير وغير ذلك ، فخرب المسلمون برج اياس الذي في البحر. قال ابن الوردي : وهذا فتح اشتمل على فتوح ، وترك ملك الأرمن جسدا بلا روح.

وفي سنة (٧٤٠) وقع حريق بقيسارية القواسين والكفتين وسوق الخيل من دمشق دام يومين بلياليها فعدم فيها نحو خمسة وثلاثين ألف قوس وعدم الناس أموالا عظيمة منها للتجارة ما مبلغه ألف ألف وستمائة ألف دينار وخربت أماكن كثيرة فوقعت التهمة على بعض كتاب النصارى وأقروا أن اثنين قدما من القسطنطينية ليجاهدا في الملة الإسلامية ومعابدها وقدما نفسيهما على ذلك وأنهما يعلمان صناعة النفط فقتل أحد عشر رجلا وأنكر صاحب مصر على نائب دمشق تنكز قتل النصارى قائلا إن ذلك إغراء لأهل القسطنطينية.

سياسة المماليك مع أكبر عمالهم ووفاة الناصر وتولي المنصور :

كانت حكومة المماليك تكثر من نصب الولاة وعزلهم ولا سيما في دمشق فتولي في كل وقت نائبا جديدا وربما في كل شهر ، ولم تطل مدة واحد من

١٤٤

الولاة كما طالت نيابة تنكز فإن ولايته دامت من سنة (٧١٢) إلى (٧٤٠) قال الكتبي : وهابه الأمراء بدمشق ونواب الشام وأمن الرعايا ، ولم يكن أحد من الأمراء ولا أرباب الجاه يقدر أن يظلم أحدا آدميا أو غيره خوفا من بطشه وشدة إيقاعه. قال : وكان الناس في أيامه آمنين على أموالهم ووظائفهم. وهو صاحب الأبنية العظيمة في دمشق وغيرها من الشام وكان ممن ينشط الزراعة ولما أخذه ملك مصر وقتله في الإسكندرية تأسف عليه أهل دمشق.

وتوفي الناصر محمد بن قلاوون سنة (٧٤١) بعد أن خطب له ببغداد والعراق وديار بكر والموصل والروم ، وضرب الدينار والدرهم هناك باسمه كما يضرب له بالشام ومصر ، وتألم الناس لفقده لأنه أبطل المكوس وأنشأ جوامع ومدارس وكانت أيامه أيام أمن وسكينة ، فتولى الملك بعده ابنه المنصور أبو بكر وكان تسلطن قبل موت والده. وملك الناصر محمد بن قلاوون ثلاث مرات مدتها ثلاث وأربعون سنة وتسعة أشهر وسبعة عشر يوما ، تملك المرة الأولى بعد وفاة أخيه الأشرف سنة كاملة ، والمرة الثانية بعد قتل لاجين ، ومدة ملكه ثانية عشر سنين وستة أشهر واثنا عشر يوما ، والدولة الثالثة أقام بها ثنتين وثلاثين سنة وثلاثة شهور وخمسة أيام ، وكان في الثالثة حاكما متصرفا ليس له منازع يخالف أمره بخلاف المدتين الأوليين. وشأن ابن قلاوون قليل في الملوك ، لأنه ندر من يتخلى عن الملك أو يخلع من الملوك أن يعود إلى دست السلطنة مرة ثانية فكيف بثلاث مرات. ومن غريب ما وقع له أيضا أنه تسلطن ثمانية من أولاده لصلبه ، وهذا مما يعد في باب سعادة آل قلاوون.

وفي سنة (٧٤١) فتح علاء الدين أيدغدي الزراق ومعه عسكر حلب قلعة خندروس من الروم ، وكانت عاصية وبها أرمن وتتر يقطعون الطرقات ، وفي السنة التالية (٧٤٢) بايع المنصور أبو بكر الخليفة الحاكم بأمر الله أبا العباس أحمد بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان وكان قد عهد إليه والده بالخلافة فلم يبايع في حياة الناصر فلما ولي المنصور بايعه بمصر وجلس معه على كرسي الملك وبايعه القضاة وغيرهم ، وكان الخليفة من أولاد العباس يقيم في مصر كعامل كبير محترم من عمال السلطنة ويبايع السلطان عند جلوسه

١٤٥

خلع الملك المنصور ومقتل غير واحد من إخوته الذين خلفوه :

خلع المنصور أبو بكر فاحتج عليه قوصون الناصري ولي نعمة أبيه بحجج ونسب إليه أمورا ، فأخرجه إلى قوص فقتله واليها ، وأقام الملك أخاه الأشرف كجك وهو ابن ثمان سنين. أي إن الخوارج على السلطنة بعد أن سكنوا بحسن سياسة الناصر محمد بن قلاوون مدة بعد خلعه نفسه ومكثه في الكرك حتى رجع إلى السلطنة وقد أطاعه عسكر الشام ومصر ، ثم عادوا يبدون نواجذ الشر ويقتلون ملكهم ، فقتل الملك الجديد ونصب أخوه الصبي ليكون الحكم لقوصون الناصري كما وقع ذلك في أدوار مختلفة ، ثم أرسل قوصون مع قطلبغا الفخري الناصري عسكرا لحصار أحمد بن الملك الناصر بالكرك ، وسار الطنبغا نائب دمشق والحاج أرقطاي نائب طرابلس بإشارة قوصون إلى قتال طشتمر بحلب ، لأن هذا أنكر على قوصون ما اعتمده في حق أخيه المنصور أبي بكر ، ونهب الطنبغا بحلب مال طشتمر وهرب هذا إلى الروم ، واستمال الناصر في الكرك قطلبغا الفخري ، وكان ذهب لقتاله وحاصره أياما فبايعه وبايع للناصر من بقي من عسكر دمشق المتأخرين عن المضي إلى حلب صحبة الطنبغا ، ثم سار الفخري إلى ثنية العقاب وأخذ من مخزن الأيتام بدمشق مالا ولما بلغ الطنبغا ما جرى بدمشق رجع على عقبه فأرسل إليه الفخري لما قرب من دمشق القضاة ، وطلب الكف عن القتال ، فقويت نفس الطنبغا وأبى ذلك ، وطال الأمر على العسكر فلما تقاربوا بعضهم من بعض لحقت ميسرة الطنبغا بالفخري ثم الميمنة ، وبقي الطنبغا وجماعته في قليل من العسكر ، فهرب الطنبغا ومن معه من القواد إلى جهة مصر ، فجهز الفخري وأعلم الناصر بالكرك وقد خطب له بدمشق وغزة والقدس ، فلما وصل ألطنبغا إلى مصر وهو قوي النفس بقوصون تغير أمر قوصون. وكان قد غلب على الأمر لصغر الملك الأشرف ، ثم قبض جماعة الأمراء على قوصون وأرسلوه إلى الإسكندرية وأهلك بها ، وقبضوا على الطنبغا وحبسوه ، وسافر الناصر أحمد من الكرك وعمل أعزية لوالده وأخيه ، وأمر بتسمير والي قوص لقتله المنصور وخلع الأشرف الصغير ، وجلس الناصر على الكرسي هو والخليفة ثم أعدم الطنبغا وغيره ، وتواتر عزل الولاة والنواب بحلب ، جرى كل هذا في مدة يسيرة. وجرى

١٤٦

في هذه السنة (٧٤٢) من تقلبات الملوك والنواب واضطرابهم ما لم يجر في مئات من السنين على رأي ابن الوردي.

ولم يصف جو السلطنة للناصر أحمد في مصر ، وسافر إلى الكرك وحصنها واتخذها مقاما له ، ولما حصل بها وقتل بها طشتمر والفخري قتلة شنيعة (٧٤٣) أنقلب عليه عسكر الشام وهو بالكرك وكاتبوا مصر فخلع الناصر ، وأجلس اخوه الملك الصالح إسماعيل ، واستناب آل ملك وحصر الملك الناصر بالكرك ، واجتمع عليه أخوه الصالح بما أخذه من أموال بيت المال ، وخرج بيبرس الأحمدي من مصر بعسكر لحصار الكرك وكذلك من دمشق ، فحاصروا الناصر بالكرك ووردت المراسيم إلى الأعمال الشامية بتجريد العشران وغيرهم إلى الكرك ، فذهبوا إليها سنة (٧٤٣) ووجدوا في القلعة مع السلطان أحمد خلقا كثيرا ، وقد نصبوا على القلعة في أعلاها خمسة مجانيق ومدافع كثيرة ، وأغار التركمان مرات على سيس فقتلوا ونهبوا وأسروا وشفوا الغليل بما فتكت الأرمن ببلاد قرمان ، وعاد العسكر (٧٤٤) المجهز إلى سيس وما ظفروا بطائل ، وكانوا قد أشرفوا على أخذ أذنة وفيها خلق عظيم وأموال عظيمة وجفال من الأرمن ، فارتشى أقسنقر مقدم عسكر حلب من الأرمن ، وثبط الجيش عن فتحها واحتج بأن السلطان ما رسم بأخذها. وحاصر يلبغا النائب بحلب قراجا بن دلغادر التركماني بجبل عسر إلى جانب جيحان فاعتصم منه بالجبل ، وقتل في العسكر وأسر وجرح ، وما نالوا منه طائلا فكبر قدره بذلك واشتهر اسمه وكانت هذه حركة رديئة من يلبغا ثم أوقع دلغادر بالأرمن وفتح قلعة كابان (٧٤٦) وبعد فتحها قصد النائب بحلب أن يستنيب فيها من جهة السلطان فعتا ابن دلغادر عن ذلك ، فجهزوا عسكرا لهدمها ثم أخذتها الأرمن. وفي سنة (٧٤٥) حوصرت الكرك ونقبت ، وأخذ الناصر أحمد وحمل إلى أخيه الصالح بمصر فكان آخر العهد به ، وفي هذه السنة كانت الوقعة بين أهل البقاع ووادي التيم وقتل من الفريقين خلق كثير ، وأحرق ابن صبح قرية من وادي التيم ، وانقطعت السبل. وتوفي الصالح إسماعيل بن الناصر محمد ابن قلاوون (٧٤٦) وجلس مكانه أخوه الكامل شعبان. وفي سنة (٧٤٧) خرج نائب الشام يلبغا إلى ظاهر دمشق وشق عصا الطاعة وعاضد أمراء مصر حتى

١٤٧

خلع الكامل شعبان وأجلسوا مكانه أخاه المظفر أمير حاج ، وسلموا إليه أخاه الكامل فكان آخر العهد به ، وكان هذا الكامل شعبان سيئ التصرف يولي المناصب غير أهلها بالبذل ، ويعزلهم عن قريب ببذل غيرهم ، وكان يقول عن نفسه أنا ثعبان لا شعبان.

وفي سنة (٧٤٨) سافر ناصر الدين بن المحسني بعسكر من حلب لتسكين فتنة ببلد شيزر بين العرب والأكراد قتل فيها من الأكراد نحو خمسمائة نفس. وفيها عزمت الأرمن على نكبة اياس ، فأوقع بهم أمير اياس محمد بن داود الشيباني ، وقتل من الأرمن خلقا وأسر خلقا ، وأحضرت الرؤوس والأسرى إلى حلب واقتتل سيف الدين بن فضل أمير العرب وأتباعه مع أحمد فياض من الأمراء في جمع عظيم قرب سلمية فانكسر سيف الدين ونهبت أمواله ، وجرى على المعرة وحماة وغيرهما من العرب أصحاب سيف وأحمد فياض من النهب وقطع الطرق ما لا يوصف ، وكانت هذه الحرب ضربة قاضية على بادية حماة فطفق البدو ينهبون القرى ، ويغيرون على حماة والمعرة ففر الفلاحون ودرست القرى. وفي هذه السنة قتل السلطان الملك المظفر أمير حاج بمصر وأقيم مكانه أخوه الناصر حسن ، وكان الملك المظفر قد أهلك أخاه الأشرف كجك وفتك بالأمراء وقتل من أعيانهم نحو أربعين أميرا.

أحداث وكوائن وعصيان ومخامرات :

ومن الأحداث أن نائب الشام يلبغا اليحياوي هرب فتبعه جماعة من عسكر دمشق فتقاتل معهم فقتل. وفي مصر سنة (٧٥٠) دخل جبغا نائب طرابلس مدينة دمشق في جماعة كثيرة ، وكان أرغون شاه نائب الشام مقيما بالقصر الأبلق فدخل عليه الأمير جبغا وهو نائم بين عياله وقبضه ، فلما أصبح الصباح طلب جبغا القضاة والأمراء بدمشق وأخرج لهم مرسوم السلطان بالقبض على أرغون شاه فسكن ما كان بين الناس من الاضطراب ، وظنوا أن ذلك صحيح فسجنه واحتاط على موجوده ، ثم وجدوا أرغون شاه مذبوحا في السجن فشاع بأن ذلك من فعل جبغا فوثب عليه عسكر دمشق وحاربوه فهرب فلم يتبعه أحد من العسكر وخافوا عقبى ذلك ، وكاتب أمراء دمشق

١٤٨

السلطان بما وقع من جبغا فأنكر ما وقع لأرغون شاه ، ورسم لأمراء دمشق أن يحاربوا جبغا فخرج عليه عسكر دمشق قاطبة ، وحاربوه وهو في طرابلس فانكسر وقبضوا عليه وشنقوه. وفي سنة (٧٥٤) قدمت على رواية ابن سباط مراكب الفرنج إلى صيدا فقتلوا طائفة من أهلها وأسروا جماعة وقتل منهم خلق كثير وكسر مركب من مراكبهم ، فوصل الصريخ إلى دمشق ، فاجتمعت العساكر من صفد ودمشق وأسرعوا إلى فك الأسرى ، وأخذوا من ديوان الأسرى ثلاثين ألفا وأعطوا عن كل رأس خمسمائة درهم.

وإن الخلل الذي طرأ على السلطنة بمصر بعد ذهاب عظماء السلاطين من أولاد قلاوون وسرعة قتلهم واستخلاف غيرهم من المماليك ، قد سرى من شرارته شيء كثير في هذه الحقبة من الزمن ، ومسألة اليحياوي مع أرغون شاه مثال منها. ومن أمثلة الخلل في تلك الدولة خروج بيبغا أروس نائب حلب عن الطاعة ، وكذلك بكلمش نائب طرابلس ، وأحمد نائب حماة ، الطنبغا برقاق نائب صفد ، ولم يبق على الطاعة إلا نائب دمشق أرغون الكاملي ، فأرسل يخبر السلطان في مصر بما جرى من النواب ، ثم اضطر نائب الشام إلى الهرب تحت الليل هو ومماليكه وتوجه إلى غزة ، ليعلم السلطان والأمراء بما جرى ، والتف على بيبغا أروس العربان والعشائر مع العساكر الحلبية والشامية وكان معه نحو ستين أميرا لما فتح دمشق واستعرض العساكر بها ثم أرسل إلى نائب قلعة دمشق يطلب منه إطلاق أمير كان مسجونا فيها فاعتذر عن ذلك إلا بمرسوم السلطان ، وحصن القلعة تحصينا عظيما ، وركب عليها المكاحل بالمدافع ، وأرسل يقول لأهل المدينة : لا تفتحوا دكانا ولا سوقا ولا تبيعوا عسكر حلب شيئا ، فلما بلغ بيبغا ذلك اشتد به الغضب ، وأمر عسكره بأن ينهبوا ضياع دمشق والبساتين ويقطعوا الأشجار ، فلما سمعوا هذه المناداة ما أبقوا ممكنا من الأذى والفساد ، فنهبوا حتى النساء والبنات والقماش ، وجرى على أهل دمشق من بيبغا ما لم يجر عليهم من عسكر غازان لما دخل دمشق.

ثم إن سلطان مصر جهز عسكرا عظيما وجعل عليهم من أمراء الطبلخانات

١٤٩

والعشراوات (١) نحو ثمانين أميرا وكان صحبته القضاة الأربعة والخليفة الإمام أحمد الحاكم بأمر الله فأمر بقتال جماعة بيبغا فانهزم هذا ولحق ببلاد التراكمة ، وجيء بجماعته في القيود يرسفون.

وهذا السلطان هو الصالح صلاح الدين صالح وهو العشرون من ملوك الترك وأولادهم، والثامن من أولاد الناصر محمد بن قلاوون. ثم قتل نائب حلب بيبغا ونائب طرابلس بكلمش ونائب حماة أحمد وكانوا هربوا إلى التركمان. وخلع السلطان على أرغون الكاملي واستقر به نائب حلب وجرد أرغون إلى قراجا بن ذي القدر أمير التركمان في مرعش وحواليها ، وذنبه أنه وافق بيبغا أروس على العصيان ، فلما وصل إليه أرغون هرب منه فتبعه إلى أطراف الروم فقبض عليه وأرسله إلى السلطان بمصر فسمره على جمل.

وفي سنة (٧٦٠) توجه بيدمر الخوارزمي نائب حلب إلى سيس وحاصر أهلها فطلبوا منه الأمان فتسلمها وكذلك المصيصة ، وفتح في تلك السنة عدة قلاع ثم رجع إلى حلب. وفي سنة (٧٦٢) أظهر بيدمر الخوارزمي نائب الشام العصيان وملك قلعة دمشق وقتل نائب القلعة وقد وافقه على ذلك جماعة من النواب فاضطرب السلطان بمصر لهذه الأخبار وخرج قاصدا الشام ، ولما بلغ دمشق أرسل له أمانا فقبض عليه وقيده.

وفي سنة (٧٦٥) جاء الفرنج إلى قلعة اياس وحاصروها فخرج إليهم نائب حلب فلما سمعوا به رحلوا عنها ثم قصدوا نحو طرابلس وكانوا ثلاثة ملوك وهم صاحب قبرس وصاحب رودس وصاحب الاسبتار فجاءوا في مائتي مركب حربي إلى طرابلس ، وكان النائب غائبا عنها فطمعوا في أخذها ثم خرج إليهم بعض عسكرها فانكسر عسكر طرابلس ودخل الفرنج المدينة ونهبوا أسواقها وقتلوا بها من المسلمين نحو ألفي إنسان فقاتل الأهلون الفرنج وكسروهم فرحلوا عن طرابلس.

__________________

(١) الطبلخانات : من الرتب العسكرية وظيفتها الضرب بالآلات الموسيقية. وكان عدة من في باب السلطان منهم أربعين أميرا ، وبخدمة كل واحد منهم أربعون مملوكا ، ولهم الطبول الصغار والزمارات والأبواق.

١٥٠

وفي سنة (٧٦٧) عصا على السلطان نائب دمشق بيدمر واجتمع إليه مقدمو البلدان فأرسل السلطان إليه جيشا وبعد حصار شهرين تسلم دمشق وقبض على النائب وقتله. وفي سنة (٧٧١) تشاجر الأمير جبار من آل الفضل ونائب حلب طشتمر المنصوري فخرج هذا بالعساكر الحلبية وقاتل الأمير جبار فقويت العربان على نائب حلب فقتل في المعركة.

مقتل الأشرف شعبان والأحداث بعده :

وفي سنة (٧٧٨) قتل في القاهرة الأشرف شعبان ، قال ابن إياس : وكان من محاسن الزمان في العدل والحلم وكان ملكا هينا لينا محبا للناس منقادا للشريعة محسنا وكانت الدنيا في أيامه هادئة من الفتن والتجاريد إلى الديار الشامية فساد العرب وساس الناس أحسن سياسة. وتولى الملك بعده ابنه الصالح أمير حاج وله من العمر نحو إحدى عشرة سنة وهذا آخر من تولى السلطنة من ذرية بني قلاوون وبه زال الملك عنهم وقد أقامت السلطنة في قلاوون وذريته مائة سنة وثلاث سنين وأشهرا.

وفي سنة (٧٧٦) خرج نائب حلب إلى سيس وفتحها وكانت في أيدي الأرمن. وفي سنة (٧٧٩) خامر جميع نواب الشام وخرجوا عن الطاعة فساقت مصر تجريدة عليهم. وفي سنة ٧٨٠ خرج نائب الشام بيدمر الخوارزمي عن الطاعة وقصد الهرب إلى التركمان ببركه ورجاله فقبضه عسكر دمشق وسجنوه فأرسل سلطان مصر وأخذه منها وسجنه ثم أطلقه بعد ثلاث سنين وأعيد إلى منصبه. وفي سنة (٧٨٠) نازل الفرنج طرابلس في عدة مراكب فالتقاهم يلبغا الناصري فهزمهم ، ثم أمر العسكر أن يتأخروا فطمع فيهم الفرنج وتبعوهم إلى أن أبعدوا عن البحر فرجع عليهم بالعسكر فهزمهم وقتل منهم جمع كبير وقبض على أكثرهم وأقلع من بقي في المراكب. وثار أقبغا عبد الله (٧٨١) وجماعة معه على نائب دمشق وكان قد تجرد مع نائب حلب في عسكر البلدين بسبب التركمان فوقعت بينهم وبين أقبغا ومن معه وقعة فكسرهم نائب الشام وهرب أقبغا إلى نعير أمير عرب الفضل وفي سنة (٧٨٣) نهبت طائفة من التركسان بعد ضياع حلب وعاثوا وأفسدوا وعين لهم الأتابك برقوق في مصر تجريدة

١٥١

وخرج إليهم ثلاثة من الأمراء المقدمين وخمسمائة مملوك فالتقوا مع التركمان وكسروهم وقتلوا منهم جماعة كثيرة ونهبوا أموالهم وطردوهم إلى ملطية.

وفي سنة (٧٨٤) حضر إلى القاهرة رسول صاحب سيس ومعه كتاب يخبر فيه أن الأرمن مات كبيرهم فأمروا عليهم زوجته فحكمت فيهم مدة ثم عزلت نفسها ، فاتفق رأيهم أن يفوضوا أمرهم لصاحب مصر فيختار لهم من يوليه عليهم ، فانتقى لهم ملك مصر أحد الأسارى الأرمن ممن يسكنون ظاهر القاهرة ويبيعون الخمور فأخذوه معهم فملكوه عليهم ، وفي السنة التالية جاءت رسل أصحاب سنجار وقيسارية وتكريت يسألون صاحب مصر أن يكونوا تحت حكمه ويخطبوا باسمه فأجيب سؤلهم وكتب لهم بذلك تقاليد وخلع عليهم. وفي هاتين الواقعتين دليل على أن صاحب مصر والشام في تلك الفترة كان أقوى من جاوره من الملوك خطب وده الأتراك والأكراد والأرمن من مجاوريه.

وفي سنة (٧٨٥) وقعت بين قبلاي نائب الكرك وخاطر أمير العرب بها مقتلة عظيمة فانكسر قبلاي. وفيها نازل الفرنج بيروت في عشرين مركبا فراسلوا نائب الشام فتقاعد عنهم واعتلّ باحتياجه إلى مرسوم السلطان فقام إينال اليوسفي فنادى الغزاة في سبيل الله فنفر معه جماعة فحال بين الفرنج وبين البحر وقتل بعضهم ونزل إليه بقية الفرنج فكسرهم وقبض من مراكبهم ستة عشر مركبا. وكان الفرنج دخلوا صيدا فوجدوا المسلمين قد بدأوا بهم فخبأوا أموالهم وأولادهم بقرية خلف الجبل فوجد الفرنج بعض أمتعتهم فنهبوها وأخذوا ما وجدوا من زيت وصابون وأحرقوا السوق وقصدوا بيروت فتداركهم المسلمون وانكسر الفرنج ثم عادوا إلى مباهلة بيروت فتيقظ لهم أهلها فحاربوهم.

وفي سنة (٧٨٥) وقعت فتنة بين نعير بن مهنا أمير العرب وابن عمه عثمان ابن قارا ، فساعد يلبغا الناصري عثمان فكسر نعير ونهبت أمواله. وفيها سار يلبغا الناصري بالعساكر الحلبية وبعض الشامية إلى جهة التركمان ، فنازلوا أحمد بن رمضان التركماني عند الجسر على الفرات فكسر التركمان وأسر إبراهيم

١٥٢

ابن رمضان وابنه وأبوه ، فوسطهم يلبغا الناصري ، ثم تجمع التركمان وواقعوا الناصري عند أذنة فانكسر العسكر وقلعت عين الناصري وجرح ثم تراجع العسكر ولم يفقد منه إلا العدد اليسير ، فطردوا التركمان إلى أن كسروهم فغدر التركمان بنائب حماة وبيتوه فانهزم ثم ركب يلبغا الناصري فهزمهم.

وفي سنة (٧٨٧) توجه نواب الشام إلى قتال التركمان فانكسر العسكر وفتك فيهم التركمان وقتلوا سودون العلائي نائب حماة وغيره. وكان السلطان أمر نواب الشام بالتوجه إلى قتال سولى بن دلغادر ومن معه من التركمان فوصلوا إلى طيون بين مرعش وابلستين فالتقى بهم سولى فقتل سودون نائب حماة في المعركة وكذا سودون نائب بهسنى فشق ذلك على السلطان ولم يزل يعمل الحيلة حتى دس على سولي من قتله وقتل أخاه.

سلطنة برقوق وحالة المماليك البحرية والشراكسة :

دخل الهرم في دولة الأتراك المصرية وزاد فساد العربان في البلدان ، وخامر غالب النواب في الشام وخرجوا عن الطاعة ، فاجتمع الأتابك برقوق متولي الأمر والقضاة مع الخليفة وسائر الأمراء في مصر فرأوا الحاجة ماسة إلى سلطان كبير تجتمع عليه الكلمة ويسكن الاضطراب فتكلم القضاة الأربعة مع الخليفة في سلطنة الأتابكي برقوق فخلعوا الملك الصالح أمير السلطنة وسلطنوا الأتابك برقوق (٧٨٤) وهو أول ملوك الشراكسة بمصر والشام.

وكانت هذه الدولة التركية الشركسية عجبا في ضعف الإدارة وقيام الخوارج لأن الملك على الأكثر كان ضعيفا ينزله عن عرشه كل من عصا عليه ، واستكثر من المماليك وقدر أن يتسلط على عقول السذج من العربان وأرباب الدعارة والطمع من الناس «والمماليك السلطانية الذين جرت العادة على أنهم يفعلون الأمور المشهورة عنهم من أخذ أموال الناس وهتك حريمها». والقاهرة لا شأن لها بعد أن يتقاتل المتقاتلون على الملك أو يقاتل القواد العصاة ويظفر أحد المتنازعين على السلطنة ، أو الأمير الذي وسد إليه اجتثاث دابر العاصي ، إلا أن تزين أسواقها سبعة أيام أو ثلاثة أيام على الأقل. تفعل ذلك لأقل حادث يحدث حتى ولو قبض جماعة السلطان على أحد صعاليك المماليك ممن خامر

١٥٣

عليه واستتبع أناسا من الغاغة. وكانت دمشق في أيام الأتراك ثم في أيام الشراكسة أخلافهم تزين سبعة أيام لأقل ظفر يقع ، فيفرح السلطان وتدق البشائر. وكان من سلاطين المماليك أهل خير تغلب عليهم الرحمة وحسن السياسة ، وكان ضعفهم آتيا من جماعتهم المماليك لأن لكل أمير منهم جوقة يتفانون في حبه إذا تغلب عليه خصمه سجنهم أو أقصاهم أو نكبهم ، فلا يزالون يعملون على إثارة الخواطر حتى يطلق سراحهم ثم يعودون إلى ما نهوا عنه وهكذا دواليك. والأمة من أجل هذا تخرب ديارها ، وتهلك أبناؤها وتذهب أموالها وعروضها ، حتى يسعد الطالع أحد المتخاصمين فيتغلب على من يريد التغلب عليه. وهناك خليفة في مصر يعتضد به السلاطين يوم الشدائد ، ويبايعهم يوم تنصيبهم ، وربما سجنوه وأقصوه عن أنظار الأمة إذا شعروا بأن هواه مع غيرهم أو يمكن أن يكون كذلك : اتخذوه آلة كما كان خلفاء العباسيين مع المتغلبة من سلاطين السلجوقيين والبويهيين وغيرهم في بغداد.

١٥٤

وقائع تيمور لنك

«من سنة ٧٩٠ الى ٨٠٣»

بداءة تيمور لنك ومناوشة جيشه :

بينا كانت أمور الدولة في الشام ومصر مختلة معتلة ، لا تستقر على حال ، والمتوثبون على السلطنة يكثرون ويقلون بضعف الملك وقوته ، جاء تيمور لنك من الشرق ، بجيوش جرارة لا قبل للمالكين زمام الأمر بدفعها فأصبح الشام بين عدوين داخلي وخارجي ، كما أصبحت في أواسط القرن السابع بين عدوين أحدهما من الشرق وهم التتر والآخر من الغرب وهم الصليبيون. وتيمور هو ابن ترغاي بن أبغاي مؤسس مملكة المغول الثانية ، ومعنى تيمور الحديد واللنك الأعرج أو الكسيح بلغتهم. سمي بذلك لأن راعيا ضربه فيما قيل بسهم في فخذه أدخله به في زمرة العرجان ، وفي رواية أنه أصيب بسهم في الحرب في صباه. ولد تيمور لنك في قرية خواجه أيلغار من أعمال كش من مدن ما وراء النهر سنة (٧٣٧ ه‍ ١٣٣٦ م) ومات في اوترار سنة (٨٠٧ ـ ١٤٠٥) بينا كان ذاهبا لفتح بلاد الخطا في الصين وجيء به إلى سمرقند فدفن فيها.

وكان تيمور لنك يمتّ بقرابة بعيدة إلى آل البيت الملوكي من المغول ذرية جنكيز خان، وذلك من جهات الأمهات لا الآباء ، ورأس أبوه قبيلة برلاس التركية وحكم ولاية كش وقد تيتم صغيرا وسلبه جيرانه إمارته ، فتوسل تيمور إلى أمير كشغر ملك الجغتاي فأنعم عليه بولاية ما وراء نهر جيحون ، ثم نزع يده من يد أمير كشغر وانضم إلى عمه حسين ، ولما ماتت زوجته ، وقيل إنه هو الذي قتلها بيده ، أصبح تيمور في حلّ من أمره وداهم حسينا وتغلب عليه واستولى على بلخ فاصبح ملكا على بلاد الجغتاي كلها ،

١٥٥

ولما استولى على ما وراء النهر وفاق الأقران تزوج بنات الملوك فزادوه في ألقابه كوركان «وهو بلغة المغول الختن» وكان عهد تيمور كله عهد حروب وفظائع يقتل الناس بالألوف وعشرات الألوف ، إذا لم يخضعوا لسلطانه في الحال قال السخاوي : وكان يقرب العلماء والسمراء والشجعان والأشراف وينزلهم منازلهم ولكن من خالف أمره أدنى مخالفة استباح دمه، فكانت هيبته لا تدانى بهذا السبب ، وما أخرب البلاد إلا بذلك ، فإنه كان من أطاعه من أول وهلة أمن ، ومن خالفه أدنى مخالفة وهي ، أنجد تيمور أحد الخانات على اوروس خان ملك قسم من روسيا الجنوبية الشرقية ثم فتح خراسان وهرات وطوريس وقارص وتفليس وشيراز وأصفهان وكشغر ومازندران والعراق بأسره ، وخرّب حفيده محمد بولونيا وروسيا ودخل الهند فنازل مملكة المسلمين حتى غلب عليها وفتح أفغانستان وجلب من الهند إلى مملكته المهندسين والنقاشين. ثم حارب السلطان بايزيد العثماني (٨٠٥) وغلبه. وباستيلائه على إزمير اضطر امبراطور القسطنطينية أن يؤدي إليه الجزية.

هذا الفاتح خرب عاصمتي الشام حلب ودمشق ، وكم خرب من مدن عامرة في آسيا، وكان ملوك أوربا يخافونه وكثيرا ما أرسلوا الوفود لتهنئته بانتصاراته. هذا الرجل الجبار لم يحمل على الشام حملته المشئومة إلا بأسباب أوجدها النواب والأمراء والملوك على الأرجح ، فقد كان ذكر ابن حجر في حوادث سنة (٧٩٨) : أن اطلمش قريب تيمور لنك قبض عليه قرا يوسف التركماني صاحب تبريز وأرسله إلى الظاهر فاعتقله ، فكانت هذه الفعلة أعظم الأسباب في حركة تيمور لنك إلى الديار الشامية. وقال في حوادث سنة (٧٩٩) وصلت كتب من تيمور لنك فعوقت رسله بالشام وأرسلت الكتب التي معهم إلى القاهرة ومضمونها التحريض على إرسال قريبه اطلمش الذي أسره قرا يوسف ، فأمر السلطان اطلمش المذكور أن يكتب إلى قريبه كتابا يعرفه فيه ما هو عليه من الخير والإحسان بالديار المصرية ، وأرسل ذلك السلطان مع أجوبته ومضمونها إذا أطلقت من عندك من جهتي أطلقت من عندي من جهتك والسلام.

فالقائمون بالأمر هم الذين فتحوا لتيمور لنك السبل للغزو فيما بعد ،

١٥٦

غزوة أذلت العزيز وأفقرت الغني وخربت العامر. قال ابن حجر أيضا : لما رجع تيمور لنك إلى الشرق وكان هذا دأبه إذا بلغه عن مملكة كبيرة وملك كبير لا يزال يبالغ في الاستيلاء عليها إلى أن يحصل مقصوده فيتركها بعد أن يخربها ويرجع ، فعل ذلك بالمشرق كله وبالهند وبالشام وبالروم.

أرسلت مصر في سنة (٧٩٠) عسكرا على تيمور لنك في سيواس فانكسر عسكر تيمور لنك وهذه الوقعة من الوقائع الأولى بين تيمور لنك وعسكر الشام.

القتال على الملك

خامر يلبغا الناصري نائب حلب (٧٩١) وخرج عن الطاعة وقتل سودون المظفري نائب حلب قبله ، وأمسك حاجب الحجاب بحلب وجماعة من أمرائها ، وأظهر يلبغا العصيان والتف عليه جماعة كثيرة من مماليك الأشرف شعبان ، وكان من جملة من التف على يلبغا تمربغا الأفضلي المدعو منطاش مملوك الظاهر برقوق ، وعهد سلطان مصر إلى إينال أتابك العساكر بدمشق ليكون نائب حلب وحلّف السلطان الأمراء من الأكابر والأصاغر بأن يكونوا معه على يلبغا الناصري فحلفوا على ذلك جميعهم ، وأرسل إلى يلبغا تجريدة.

وانتشب القتال بين أمراء الغرب التنوخية وبين عشران البر أهل كسروان والأمراء أولاد الأعمى ، وكان التنوخية ميالين إلى الملك الظاهر والكساروة مع أرغون نائب منطاش في بيروت ، فاستظهر أهل كسروان على أمراء الغرب وقتلوا منهم نحو ٩٠ نفرا وأمسكوا جماعة فسمروا بعضهم ووسطوا آخرين وأحرقوا عدة قرى من الغرب وتلقبوا بعشران البر. ثم إن العساكر الظاهرية زحفت على تركمان كسروان وجرت بين الفريقين وقعة في الساحل فقتلوا منهم جماعة كثيرة ، ولما استولى كمشبغا على قلعة حلب عمر أسواق هذه المدينة أحسن عمارة في أسرع وقت وكانت من وقعة غازان خرابا ، فلما انتصر كمشبغا على أعدائه قتل غالب أهل محلة بانقوسا وكانوا زيادة على أربعة آلاف نفس وقتل كبيرهم أحمد بن الحرامي وخربها إلى أن جعلها دكا.

عوامل الخراب قيس ويمن :

ذكر الأسدي أن السبب في خراب الشام في القرن الثامن انتشار الشرور

١٥٧

بين قيس ويمن ووقوع الحرب والقتال بينهم ، والسبب في ذلك تغيير العوائد والتدليس على الملوك والحكام وولاة الأمور ، بالإغراء والتسلط على الفلاحين بالظلم وطلب العاجل ، والعسف في الحكم والميل مع القوي ، وإنهاك الضعيف وعدم رد لهفة الملهوف ، ومع تغيير العوائد وقع التحاسد بينهم فاضطر كثير من أهل الزرع والضرع إلى التمرد والتشرد وتسلطت العربان والعشران (١) وتراكمت الأهواء ووقع التحاسد والإغراء ، فنهبت الأموال وقتلت الرجال وتخلت العشائر وعظمت الفتن بين القبائل ، وجلا أهل الزرع والضرع من الفلاحين عن أراضيهم فأوجب ذلك الخراب في كثير من أرجاء الشام ، وصارت دمنا يشهد لذلك الديوان من أسماء القرى التي صارت مزارع وتسمى بالخراب الداثر ، والموجب لهذا جميعه سوء التدبير مع نقص القوة ونقض سنة العدل ، إلى أن صار الحكم لمقدمي الفلاحين ورؤساء العشران ، وصار الأعيان منهم يظهرون الطاعة للسلطان ويبطنون المخالفة والعصيان ، ويستخرجون الأموال بالظلم والطغيان ، ويرضون ببعضها من له في الدولة سلطة ، وبما يحملونه للأعوان من الهدايا والأموال ، فيسعى لهم ويلبسون التشاريف الملوكية بين يدي الملك والأمير والسلطان ، فيصير كل واحد منهم في بلده وإقليمه إذا عاد إليه ذا قوة وسلطان ، وسطوة وأعوان ، وإقطاعات ونعم وديوان.

قلنا : وهذا الاختلاف الدائم بين قيس ويمن كان يقوى ويضعف بحسب الوازع ، فإذا وفقت الديار إلى حاكم يسوي بينهم ويعدل فيهم تسكن نغمة القيسي واليماني ، وإلا فيتقاتلون ويخربون العمران ويقتلون الإنسان. وكانت هذه النغمة شديدة في أرض دون أخرى من أرض الشام ، فقد كانت في القديم في حمص حتى ضرب المثل بها فقالوا : «أذلّ من قيسي بحمص» وذلك أن حمص كلها لليمن ليس بها من قيس إلا بيت واحد. ثم كانت ترى آثارها في حوران ولبنان وربما انتقلت نغمتها من حوران منذ جلاء كثير من الأسر المسيحية إلى جبل لبنان وبقيت في هذا الجبل إلى القرن الماضي ثم اضمحلت.

__________________

(١) العشران : جمع عشير أطلق في الشام على بعض القبائل التي سكنت في البقاع وجبل لبنان. قال المقريزي : عشير الشام فرقتان قيس ويمن لا يتفقان قط ، وفي كل مرة يثور بعضهم على بعض.

١٥٨

وفي هذه الأثناء ركب عسكر طرابلس على النائب وقتلوا من أمراء طرابلس جماعة ، وركب مماليك نائب حماة مع عسكر حماة وأرادوا قتله فهرب إلى دمشق ، فوقعت الفتنة. ولما تحقق برقوق أن المملكة افتتنت خاف وأمر نائب القلعة بمصر بأن يضيق على الخليفة ويمنعه من الاجتماع بالناس ، وكان مسجونا بالقيد في برج القلعة ، وأصدر أمره بالتضييق على السادة أولاد السلاطين في دور الحرم ، ووصلت التجريدة من مصر إلى دمشق والتقى عسكر مصر مع عسكر يلبغا الناصري فأوقعوا معه بظاهر دمشق واقعة عظيمة حتى جرى الدم بينهم وقتل من الفريقين كثيرون ، فانكسر عسكر السلطان وانتصر عليهم يلبغا ، ثم جيش يلبغا وساق جيشه إلى مصر فالتف أكثر أمراء مصر عليه وقاتل قليلا حتى اضطر السلطان برقوق إلى ترك سرير السلطنة وأعيد الملك الصالح أمير حاج بن الأشرف شعبان سلطانا على مصر والشام ، وأخذ الظاهر برقوق إلى قلعة الكرك فسجن فيها ثم انتدبوا لقتله رجلا فقتل الرجل ، واستولى برقوق على القلعة بعد أن قاسى من المحن أمرا عظيما ، وأتاه مماليكه الذين كانوا بقوص وقتلوا واليها والتحقوا به ، والتف عليه العربان وقصد دمشق فجاءه نائب غزة في خمسة آلاف مقاتل فأوقعوا مع الظاهر برقوق وقعة عظيمة انكسر فيها نائب غزة ، فنهب عسكر برقوق عسكر غزة فتقووا بتلك الغنيمة ، وكان الظاهر كلما مر بقرية يخرج اليه أهلها ويلاقونه ومعهم العلف والضيافة ، ولما بلغ برقوق قرية شقحب خرج إليه عسكر دمشق فتقاتلوا فقتل من أمراء دمشق ستة عشر أميرا ، ومن المماليك نحو خمسين مملوكا ، وقتل من عسكر برقوق نحو ذلك.

وصادف أن خرج عن الطاعة كمشبغا الحموي نائب حلب واستولى أبناء اليوسفي على قلعة صفد وهو من جماعة الظاهر فقويت شوكته ودخل الظاهر برقوق دمشق ، ونزل في الميدان فكبس عليه أهل دمشق وأخرجوه من المدينة إلى ظاهر البلد ، لأن بعض مماليكه عبث ببعض السوقة وأخذ منه شيئا من البضائع بالغصب فاستغاث ذلك السوقي فحضر إليه جماعة وتعصبوا له فاستطال ذلك المملوك وضربهم فرجمه أهل دمشق ، فرمى المماليك على عوام دمشق بالنشاب ، وتكاثرت على المماليك العوام بالحجارة والمقاليع ،

١٥٩

فكسروا المماليك كسرة قوية فركب الظاهر برقوق ومن معه من الأمراء وخرجوا من دمشق إلى قبة يلبغا فدخل العوام إلى الميدان ونهبوا برك برقوق وأغلقت أبواب دمشق ، وكان برقوق أشرف على أخذ قلعة دمشق وراج أمره فتعطل بسبب ذلك.

ثم جرد المنصور أمير حاج عسكرا من مصر وجاء الشام لينزع الملك من برقوق ، فلما وصل العسكر إلى غزة تسحب أكثر عسكر المنصور إلى برقوق لأن هواهم كان معه ، ووقعت بين عسكر المنصور وعسكر الظاهر وقعة شقحب (٧٩٢) فانكسر برقوق كسرة قوية وهرب برقوق في نفر قليل من العسكر وتوارى خلف الجبل الذي تحته الملك المنصور والخليفة والقضاة ، فأتى إليه بعض العرب وأخبره بأن الملك المنصور تحت ذلك الجبل ، وكان على يوم من دمشق فكبس عليهم برقوق بمن معه من العسكر وكانوا نحو أربعين إنسانا فذعر عسكر المنصور وغلت أيديهم عن القتال ، فنزل عليهم برقوق كالباز على الطائر واحتوى على كل ما معهم من البرك والأثقال والقماش والسلاح وخزائن المال ، وتسامع بذلك الناس فجاءوا إليه أفواجا من كل مكان ، وبلغ ذلك منطاش وحضر ومعه عساكر دمشق وغيرهم فوقعت بينهم واقعة أعظم من الواقعة الأولى وقتل بها كثير فانكسر الأتابكي منطاش وعسكر دمشق فولوا هاربين وأقام برقوق بمنزلة شقحب ، ثم إن شخصا من الصالحين يقال له الشيخ شمس الدين الصوفي مشى بين الظاهر برقوق وبين المنصور حاج في أن يخلع هذا نفسه ويسلم الأمر إلى برقوق ، فأجاب المنصور إلى ذلك ، وأحضر الخليفة المتوكل والقضاة الأربعة وخلع نفسه من الملك وأشهدوا عليه بذلك. فبايع الخليفة والقضاة الظاهر برقوق بالسلطنة وذلك بمنزلة شقحب ثم رحل إلى مصر فدخلها بلا منازع ، وكان مماليكه قد وطدوا له الأمن قبل وصوله وخطبوا له على المنابر فعاد واستولى على مصر والشام. وبرقوق هو الذي قرض جيش المماليك البرجية.

الخوارج على ملوك مصر :

وملك منطاش (٧٩٢) مدينة بعلبك والتف عليه جماعة من عسكر دمشق

١٦٠