خطط الشام - ج ٢

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ٢

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٠

وقال مؤرخو لبنان : إن الكسروانيين والجرديين نزلوا من الجبال لنجدة الفرنج في طرابلس وقتلوا من عسكر السلطان خلقا كثيرا فبرز الأمر من حسام الدين باستئصالهم. ومن ذلك الوقت خربت كسروان والذين سلموا من أهلها تشتتوا في كل صقع. قالوا : ومن جملة أوامر حسام الدين إلى أمراء غرب بيروت التنوخيين إذا توجهوا إلى كسروان وجرده بجموعهما، أن كل من سبى امرأة منهم كانت له جارية ، أو صبيا كان له مملوكا ، ومن أحضر منهم رأس رجل فله دينار. وذكروا أن الخراب استولى على الأقطار الشمالية بسبب تقلقل أحوال ملوك مصر والشام ، والحروب الثائرة مع التتر من جهة ومع الفرنج من أخرى ، فكان الناس يرغبون في سكنى الجبال العالية الصعبة المسالك وقدم إلى جبل لبنان في ذلك الحين خلق كثير ومنهم أهل وادي التيم وخلا هذا الوادي من السكان خمسة أعوام ولم يكن فيه بلد عامرا سوى حاصبيا وكذلك البقاع. ثم عاد الناس وعمروا بعض القرى في جبل حاصبيا فقط.

وفاة قلاوون وسلطنة ابنه الأشرف خليل وإثخانه في فرنج الساحل :

توفي المنصور قلاوون (٦٨٩) وكان ملكا مهيبا حليما قليل سفك الدماء كثير العفو ، شجاعا أقام منار العدل وأحسن سياسة الملك أحسن قيام وفتح الفتوح الجليلة التي لم يجسر أحد من الملوك مثل صلاح الدين وغيره على مثلها وهو الذي وطد حكم المماليك على الشام وأصلح كما في المعلمة الإسلامية بالتدريج ما أحدث المغول فيه من التخريب ، وقام بأعمال مهمة من مثل ترميم قلعة حلب وبعلبك ودمشق. وهو الوحيد من ملوك المماليك الذين تسلسل الملك في أعقابهم وألفوا دولة فإن أعقابه حكموا إلى سنة (٧٨٣ ه‍ ١٣٨٢ م) خمسة بطون. وقد عقد معاهدات مع الدول التي يخشى بأسها ويمكن الانتفاع بحسن الصلات معها ، مثل المعاهدة التجارية مع جمهورية جنوة ومعاهدة دفاعية مع الملكين الفونس ملك قشتاله وجاك ملك صقلية. وعقدت هدنة بين الملك المنصور قلاوون الصالحي وولده الملك الصالح علي ولي عهده وبين حكام الفرنج بعكا وما معها من بلاد سواحل الشام في شهور سنة اثنتين وثمانين وستمائة وهي يومئذ بأيديهم لمدة عشر سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام وعشر

١٢١

ساعات على أن لا يكون للفرنج من البلاد والمناصفات إلا ما شرح في هذه الهدنة وعين فيها من البلاد ، وعلى أن الفرنج لا يجددون في غير عكا وعثليث وصيدا مما هو خارج عن أسوار هذه الجهات الثلاث المذكورات لا قلعة ولا برجا ولا حصنا ولا مستجدا. ومما جاء فيها أن شواني السلطان وولده إذا عمرت وخرجت لا تتعرض بأذية إلى البلاد الساحلية وإن انكسر شيء من هذه الشواني في مينا من مواني البلاد التي انعقدت عليها الهدنة وسواحلها فإن كانت قاصدة من له مع مملكة عكا ومقدمي بيوتها عهد فيلزم كفيل المملكة بعكا ومقدمي البيوت بحفظها وتمكين رجالها من الزوادة وإصلاح ما انكسر منها والعود إلى البلاد الإسلامية ، ومتى تحرك أحد من ملوك الفرنجة وغيرهم من جوّا البحر لقصد الحضور لمضرة السلطان وولده في بلادهما المتفقة عليها هذه الهدنة فيلزم نائب المملكة والمقدمين بعكا أن يعرفوا السلطان وولده بحركتهم قبل وصولهم إلى البلاد الإسلامية الداخلة في هذه الهدنة لمدة شهرين وإذا قصد البلاد الشامية عدو من التتر وغيرهم في البر وأغارت العساكر الإسلامية من قدام العدو ووصل العدو إلى القرب من البلاد الساحلية الداخلة في هذه الهدنة وقصدوها بمضرة فيكتب إلى كفيل المملكة بعكا والمقدمين بها أن يدرأوا عن بيوتهم ورعيتهم وبلادهم بما تصل قدرتهم إليه. وإن حصل جفل من البلاد الإسلامية إلى البلاد الساحلية الداخلة في هذه الهدنة فيلزم كفيل المملكة بعكا والمقدمين بها حفظهم والدفع عنهم ومنع من يقصدهم بضرر ويكونون آمنين مطمئنين بما معهم.

وعقد الملك المنصور قلاوون صاحب الديار المصرية ودمشق وحلب مع الأشكري صاحب القسطنطينية سنة (٦٨٠) هدنة على أن لا يحارب أحدهما الآخر ويرعيا التجار في بلادهما. وكانت سفراؤه تغدو وتروح إلى أمبراطور بيزنطية والأمبراطور رودولف دي هابسبورغ وملك اليمن وأمير سيلان وغيرهم من أمراء الشرق. ولهذا السلطان آثار جليلة في العمران في القدس ودمشق وغيرهما من ربوع الشام تدل على بعد نظره وحبه للمصالح.

وجلس في السلطنة بعد قلاوون ابنه الأشرف صلاح الدين خليل وسار على قدم أبيه في جهاد الصليبيين. وكان أول عمل اتجهت إليه همته بعد أن قدم تجار الفرنج إلى عكا وقتلوا من كان بها من المسلمين (٦٨٩) أن نهض

١٢٢

من مصر لفتح عكا بالعساكر المصرية والشامية فهرب جماعة من أهلها من الفرنج في المراكب لما هاجمها المسلمون كما فعلوا في طرابلس على عهد والده واستنزل الأشرف جميع من عصى بالأبرجة التي كانت داخل البلد ، وهي بمنزلة قلاع دخلها عالم عظيم من الفرنج وتحصنوا بها فاستنزلهم السلطان وأمر بضرب أعناقهم عن آخرهم حول عكا ، ثم أمر بالمدينة فهدمت إلى الأرض ودكها دكا. وكانت كما قال الذهبي من أحسن المدائن بالعمارة والبناء الفاخر فلما فتحها الأشرف وهدم سورها هرب أهل المدينة منها وصارت خرابا ، وصار الناس من حينئذ ينقلون منها الرخام الملون مدة طويلة. ومما وجد مكتوبا على باب كنيسة من كنائس عكا أبيات لابن ضامر الضبع :

أم الكنائس إن تكن عبثت بكم

أيدي الحوادث أو تغير حال

فلطال ما سجدت على أبوابكم

شمّ الأنوف جحاجح أبطال

صبرا على هذا المصاب فإنه

يوم بيوم والحروب سجال

ولما فتحت عكا رعب الفرنج في الساحل فأخلوا صيدا فأخربها السلطان وجزيرتها وقلعتها الجنوبية والشمالية. واستولى على بيروت فهدم سورها ودك قلعتها وكانت حصينة جدا واستولى على صور وكان أهلها مثل سائر الساحل. وكذلك عثليث وكانوا أوقدوا فيها النار. وسلمت أنطرطوس بالأمان وطرد السلطان الفرنج من جبيل وهدمها ودك قلعتها. وهربوا من أنفة والبترون وصرفند وإسكندرونة بالقرب من عكا وذلك في مدة سبعة وأربعين يوما وكان فتحا مبينا.

خرب الساحل كما رأيت بهذه الضربة الأخيرة ولكن استقلت الشام ونجت من بقايا الصليبيين الذين كانوا ينغصون عيش الدولة والأمة ، ولا يؤخذ على الأشرف استئصاله شأفة أعدائه وإهلاكه لهم عن آخرهم ، فقد كان على الصليبيين بعد وقعة حطين وفتح القدس أن يغادروا القطر جملة واحدة وظنوا تسامح صلاح الدين يوسف معهم يومئذ ضعفا وأدرك كل من تولى زعامة الشام بعده أنه يستحيل الخلاص من الفرنج إلا بإفنائهم ، وآخر الدواء الكي.

الحملة الصليبية السابعة وانتهاء الحروب الصليبية :

دخلت الجيوش الصليبية الشام سنة (٤٩١) وخرج منها آخر المنهزمين سنة

١٢٣

(٦٩٠) أي إنهم ظلوا مئتي سنة يحاربون الشام ومصر. تعاقبت فيهما عدة دول إسلامية على البلاد ، وكلها حاربت هؤلاء الدخلاء بما وسعها أن تحارب ، وربما قتل من الفريقين خلال ذينك القرنين ما لا يقل عن بضعة ملايين من الأنفس ، ولو لم تنقطع الرغبات في الغرب وتبطل النجدات بل الحملات الكبرى التي أصبح الباباوات والملوك يوجهونها في وجهات أخرى لقتال المسلمين لطال أمدها أكثر مما طال.

قلنا : إن الحملة الصليبية السادسة كانت بقيادة الأمير فريدريك الثاني ، وهي الحملة التي عقدت معاهدة مع ملك مصر والشام تنازل فيها هذا عن القدس وبيت لحم والناصرة عشر سنين ، فلما انتهت المدة عادت القدس إلى المسلمين وعندها عمد سان لوي ملك فرنسا أن يسترجعه منهم ، وكان السبب في تأليف الحملة الصليبية السابعة والثامنة. جاء في الأولى إلى دمياط وانهزم مع جيشه هزيمة فاضحة في المنصورة بمصر وأسر هو وجميع من معه من الرجال وعدتهم ثلاثون ألفا ، فاضطر أن يدفع فدية عظيمة عن نفسه وعن جماعته ثم عاد إلى فرنسا فزين له أخوه أن يغزو تونس ومنها يذهب ليفتح مصر والشام فهلك في تونس بالطاعون (١٢٧٠ م) وبذلك انتهت الحروب الصليبية. نشأت في فرنسا وانتهت بفشل ملكها ثم بهلاكه.

ولقد عدّ الفرنج من الفوائد التي جنوها من الحروب الصليبية أنهم أوقفوا سير المسلمين عن التقدم ، وتعلم ملايين منهم أمورا ما كانوا يحلمون بوجودها ، وأخذوا عن الروم والعرب ما كان عندهم من أسباب المدنية التي لم يكن للفرنج عهد بها. فإن كثيرا من أصناف البقول نقلوها إلى أوروبا وشاعت هناك ولم تكن تعهد عندهم ، وقد تعلم صناعة الورق رجلان إفرنسيان كانا أسيرين في دمشق ، وأدخلا صناعته إلى فرنسا ، فكان للشام على فرنسا هذا الفضل ، ومنها شاع صنعه في سائر ممالك الغرب ، وتعلموا صنع الأقمشة الدمشقية والسيوف وغيرها من الصنائع الجميلة.

قال مكسيم پتي في تاريخ الشعوب العام أثناء كلامه على إخفاق الحملة الصليبية الأولى ما تعريبه : لئن كان الصليبيون متحمسين تحمسا دينيا فقد كان ينقص هذه الستمائة ألف رجل وحدة القيادة والتجانس والامتزاج ،

١٢٤

وما كان لنواب البابا أدنى سلطة أدبية ولم تكن وحدة الغاية المراد بلوغها لتحول دون ظهور المطامع والمنافسات والدسائس. ويضاف إلى هذا السبب في الضعف أسباب أخرى مادية وهي صعوبة الطريق وقلة أسباب التموين وتدني القوى الحربية بسبب تفوق الجيوش في المدن المفتوحة أو رجوع بعض الصليبيين إلى الغرب إلى ما هنالك من قحط وأوبئة وخسائر في الحرب. وقال في الحملة الصليبية الثانية : إن قلة إيمان الكسيس وصعوبة التموين وقلة المؤنة جعلت الحملة شؤمى فقتل الثلاثمائة والخمسون ألف رجل الذين كانت تتألف منهم قتلا ذريعا في مريسوان واركلي.

ومع كثرة ما بذله أخلاف صلاح الدين من الجهد في قتال الصليبيين أمثال العادل والكامل وبيبرس وقلاوون وابنه صلاح الدين خليل ، فإن الصليبيين كان يتعذر القضاء عليهم في الشام لو لم ينقطع المدد عنهم من البحر وتنصرف وجهة الصليبيين إلى قتال العرب في الأندلس. وفي الحق أن تلك الحملات الصليبية كانت شعبة من شعب الجنون فقدت فيها أوروبا أكثر مما ربحت من الأنفس والأموال. وما يدرينا أن تتقدم دولة السلاجقة في آسيا الصغرى على سمت الشمال وتقضي على مملكة الروم البيزنطية ثم تتقدم في فتوحها إلى أوروبا لو لم يشتغل ملوك المسلمين بهذه الحملة قرنين كاملين. وكانت الشام من جملة ممالك السلجوقيين وربما تبعتها مصر ففتحها صلاح الدين أو غيره باسمهم بدلا من أن يفتحها باسم نور الدين ، وما نور الدين إلا صنيعة السلاجقة ، وما جده وأبوه إلا عاملان من عمالهم.

شغلت أوروبا بمسألة إنقاذ القبر المقدس من أيدي المسلمين قرنين ، وتطوعت شعوبها في هذه السبيل ، ومن الأمم من لم ينلها إلا قتل رجالها وذهاب أموالها وكان الرابح على الأكثر أهل إيطاليا فإنهم حاربوا حربا تجارية ربحوا من سفنهم وتجارتهم وخصوصا البنادقة والجنويون والبيسيون. أما الألمان والبريطانيون والفرنسيون والهولانديون والسويسريون والنروجيون فإنهم خسروا خسارة كبيرة.

ساق الفرنج إلى الحروب الصليبية الدين والتجارة فلما فترت نغمة الدين بهلاك من كانوا يحسنون هناك الضرب على أوتارها ، ولم ير التجار في هذا

١٢٥

الشرق ما يكفي لسد نهمتهم وأيقنوا أن الأمر يطول إذا أرادوا القضاء على جميع الممالك الإسلامية في آسيا فترت هممهم بالطبع ، لكن الشام بعد ذلك وإن كانت الدول الأتابكية والنورية والصلاحية ودولة بيبرس وقلاوون وابنه يعمدون حالا إلى ترميم ما خربه الأعداء لإيقانهم أنها بلادهم ولا بدلهم من دفع أعدائهم عنها ، وأنهم يسترجعونها لا محالة وسيدالون منهم ، مهما طال مقام من استصفوا بعض السواحل وبيت المقدس فكان الأمر كما اعتقدوا.

وكلما طال احتلال الصليبيين كانت الأمة تستمرئ طعم الموت لطردهم ، وكلما رأت من ملك أو أمير تغاضيا عنهم أو اتقاء عاديتهم بالمعاهدات والمهادنات كانت تستهين به وتدعو أن لا تدوم أيامه. وعلى ما بذل الصليبيون من استمالة جيرانهم ما عدّهم هؤلاء قط إلا غاصبين أرضهم ، دخلاء على الملك الإسلامي. ولو لم يؤسس الدولة في الشام ومصر ملك عاقل عادل مثل نور الدين ويتم عمله عاقل عادل من طرازه أي صلاح الدين لما تمّ الفتح الأخير على يد الأشرف خليل ، ولما تمم أخلافه بعده الخطة المرسومة. ولو كان الملك لا يوسد إلا للكفاة من أبناء الملك أو لأكبرهم سنا ، ولو لم يكن شجر الخلاف بين آل أيوب ، لضرب الصليبيون الضربة القاضية الأخيرة بعد مهلك صلاح الدين بعشر أو بعشرين سنة على الأكثر ، إذ كان يتأتى للمسلمين أن يجمعوا قواهم بعد فشل جيش صلاح الدين على عكا بما جاء الصليبيين من النجدات العظيمة في البحر. ولكن مات صلاح الدين قبل أن يطبق خطته ، وشغل أخوه وأولاده بالتنازع على الملك ، وعدوا الهدنة الطبيعية التي مضت بين أخذ عكا واستلام القدس ثانية من المسلمين نعمة عليهم لتشبع نفس كل طامع منهم بالملك والسلطان ، وغفلوا عن أعدائهم الذين لم يكد يغفل عنهم نور الدين وصلاح الدين سنة واحدة إلا ريثما يجمعان قواهما ، وقد كانا لهذا الغرض يصانعان ملوك الأطراف ليسيروا معهما على قتال الأعداء ، أما أخلافهم فكانت سياستهم في الأكثر موجهة إلى اختراع الطرق لقضاء بعضهم على بعض ، أو لاستئثار قويهم بملك مصر أو دمشق أو حلب أو الكرك والشوبك أو ماردين أو خلاط ، فشغلوا بداخليتهم أكثر من اشتغالهم بأمور الجهاد وهي أهمّ وأعظم ، هذا وأكثر أولئك الملوك كانوا قد تشبعت نفوسهم بالتربية العالية والعلم والأدب الغزير ،

١٢٦

وكانوا على معرفة تامة بفتح المعاقل والحصون ، ومعرفة بعلل الحروب وقواعد السلم ، وإعطاء العهد وعقد الهدنة والصلح ، ورثوها واقتبسوها من أخلاق البانيين لمجدهم نور الدين وصنيعته صلاح الدين.

ومما أخر القضاء عشرات من السنين على بقايا الصليبيين في الساحل ظهور التتر في القطر بعد قضائهم في منتصف القرن السابع على الخلافة العباسية ، فأصبحت الشام بين عدوين أتى الأول من الغرب فأقام وطال مقامه ، وجاءها الثاني من الشرق ، والشر قد يأتي من الشرق ، فكان يخرب في أصقاعها ويغنم ويقتل ثم يذهب ثم يعاودها. ولكن ما حدث من حروب الخوارزمية ثم أخلاف هولاكو في هذا القطر يعدّ مناوشات إذا قيس بالحروب والخراب الذي حدث بعد ذلك فأهلك الأخضر واليابس ، وغدا القطر غرض النابل ، وفريسة الصائل.

وفي التاريخ العام أنه كان من نتائج الحروب الصليبية إذا صرف النظر عمن هلك فيها من ملايين الخلق ، إحداث إمارات كاثوليكية في الشرق انتزعت من المسلمين والبيزنطيين واحتلها فرسان فرنسيون وتجار طليان. وقد طرد هؤلاء الأوروبيون لقلتهم بدون أن يتركوا سوى آثار معاقلهم في المواني وعلى صخور يونان والشام ، ولكن هيأ الصليبيون لنصارى أوربا أن يكونوا على صلات متصلة مع الشرق مدة قرنين اه قلنا : وهذه النتيجة من ربط الصلات مع الشرق كان يتأتى لأوروبا الحصول عليها بدون إهراق هذه الدماء وإتلاف الأموال العظيمة وغرس البغضاء في نفوس من نزلوا عليهم.

وفي تاريخ الشعوب العام أن من جملة فوائد الحروب الصليبية أنها أوقفت سير المسلمين نحو أوروبا ، وقربت بين شعوب أوروبا وجمعتهم تحت لواء واحد وأشعرت قلوبهم حب الوحدة الأدبية وساعدت على إيجاد فكرة أوربية. وأخذ المسلمون والنصارى يعرف كل منهم الآخر ويعرفون كيف يحترم بعضهم بعضا ، وعقدت بينهم المعاهدات والصلات خلال المهادنات والانقطاع عن استعمال السلاح. وقد جهز ريشاردوس فئة من العرب جعلهم فرسانا ، وعقد أنكحة بين الطائفتين ودخل التسامح المتبادل في الأخلاق. وما خلت الصناعات والهندسة والفنون والأزياء واللباس والفنون الحزبية من تأثيرات الشرق وقد دخلت المدنية الشرقية في مدنية الغرب دون أن تستغرقها أه.

١٢٧

وفي تاريخ فلسطين أن من أضرار الحروب الصليبية في الشام إيقاد جذوة التعصب الديني بين المسلمين والمسيحيين ، ورأى هؤلاء أن مسلمي العرب أحسنوا إليهم يوم الفتح أكثر مما رأوا من هؤلاء الفرنج الذين أنكروا أبناء دينهم. ومنها تخريب البلدان وقطع الأشجار حتى زادت الأسعار ستة أضعاف ما كانت عليه ومنها تلطيخ الدين المسيحي والازدراء بتعاليمه ، لأن مسيحيي الصليبيين كانوا أبعد الناس عن دينهم. وقد أجمع المؤرخون على أن المسلمين تقيدوا بالفضائل الدينية وراعوا المصلحة الإنسانية أكثر من الفرنج الناكثي العهود والقاتلي الأسرى ، والذين أفحشوا في سفك الدماء لما دخلوا القدس وحقروا الديانة المسيحية اه.

لا جرم أن الصليبيين افتضحوا في هذا الشرق بأخلاقهم وقلة معرفتهم ، وعرفوا بعد أن أخفقت الحملة الثامنة واصطلموا من الساحل مبلغ قوة أعدائهم ، وأنهم في أرضهم ، وهم يحتاجون إلى الرحيل أشهرا في البر وفي البحر. وذكر ميشو أن الفرنسيس والنور مانديين وسائر شعوب شمالي أوروبا المتوحشة في القرن الثاني عشر للميلاد كانوا في حالة البداوة وهذا ما ساعدهم على إعلان الحروب الصليبية في الشرق ، فلما نشأت المدنية الحديثة في القرن السادس عشر وتسربت أولا إلى الملوك أصبحوا لا يرون الاغتراب عن أوطانهم ولا الشعوب أن تفارق مساقط رؤوسها ، وعمت الصناعات وحسنت الزراعة وانتشر العلم ، وغدا ذكرى كل مدينة وكل أسرة وتقاليد كل شعب وقطر والألقاب والامتيازات والحقوق المستحصلة والأمل في تنميتها ، كل ذلك قد غيّر من أخلاق الفرنج وبدل من ميلهم لحياة التنقل والارتحال وجعلها صلات تربطهم بالوطن. وقد كتب التوفيق للملاحة في القرن التالي واكتشفت أميركا واجتاز الملاحون رأس الرجاء الصالح فنشأ من هذه الاكتشافات تبدل كثير في التجارة ، وأخذت الأفكار تتجه وجهة جديدة وأنشأت المضاربات الصناعية التي كانت قائمة بالحروب الصليبية تسير نحو أميركا والهند الشرقية ، ففتحت أمام الغربيين ممالك كبرى وأقطار غنية تسد مطامعهم وتشبع نهمة التائقين إلى المجد والثروة والوقائع. فأنست حوادث العالم الجديد ما في الشرق من عجائب اه.

١٢٨

هذا ما قاله مؤرخ ثقة من مؤرخيهم في القرن الماضي ، وإليك ما قاله أديب كبير من أدبائهم المحدثين كلود فارير : «في سنة (٧٣٢) للميلاد حدثت فاجعة ربما كانت من أشأم الفجائع التي انقضت على الإنسانية في القرون الوسطى ، فغمرت العالم الغربي مدة سبعة أو ثمانية قرون إن لم نقل أكثر في طبقة عميقة من التوحش ، لم تبدأ بالتبدد إلا على عهد النهضة ، وكاد عهد الإصلاح يعيدها إلى كثافتها الأولى ، وهذه الفاجعة هي التي أريد أن أمقت حتى ذكراها ، وأعني بها الغلبة المكروهة التي ظفر فيها على مقربة من بواتيه برابرة المحاربين من الفرنج بقيادة الكارولنجي شارل مارتل على كتائب العرب والبربر ممن لم يحسن الخليفة عبد الرحمن جمعهم على ما يقتضي من الكثرة فانهزموا راجعين أدراجهم».

«في ذلك اليوم المشئوم تراجعت المدنية ثمانية قرون إلى الوراء ، ويكفي المرء أن يطوف في حدائق الأندلس أو بين العاديات التي لا تزال تأخذ بالأبصار مما يبدو من عواصم السحر والخيال إشبيلية وغرناطة وقرطبة وطليطله ليشاهد والألم الغريب آخذ منه ما عساها أن تكون بلادنا الفرنسية لو أنقذها الإسلام الصناعي الفلسفي السلمي المتسامح ـ والإسلام مجموعة كل هذا ـ من الأهاويل التي لا أسماء لها ، وكان منها أن أنتجت خراب غاليا القديمة التي استعبدها أولا لصوص أوسترازيا ثم اقتطع جزءا منها قرصان النورمانديين ثم تجزأت وتمزقت وغرقت في دماء ودموع ، وفرغت من الرجال بما انبعث في أرجائها من الدعوة للحروب ، ثم انتفخت بالجثت بما دهمها من الحروب الخارجية والأهلية الكثيرة ، حدث ذلك على حين كان العالم الإسلامي من نهر الوادي الكبير إلى نهر السند يزهر كل الإزهار في ظل السلام تحت أعلام أربع دولات سعيدة : الأموية والعباسية والسلجوقية والعثمانية»

١٢٩

دولة المماليك

«من سنة ٦٩٠ الى ٧٩٠»

فتوح أرمينية وعصيان الموارنة بعوامل صليبية :

أصبحت مصر والشام بعد انقضاض الصليبيين من السواحل ، ووضع السيف في بقاياهم ، واعتصام جزء قليل منهم بالموارنة في لبنان مملكة واحدة لا يتخللها أرض لغير مالكها ، ولا ينازعها سلطان من غير المسلمين ، وأصبحت حوادثها وطنية محلية يدور محورها على الاستئثار بالملك ، والذهاب بفضل السبق ، والتفكر فيما يدفع العوادي عن حدود القطر أو يوسعها إلى المدى المقدّر لها ، وبعد أن كانت الشام مصدر الأعمال والسياسة نازعتها مصر في هذا الشأن ، فابتلع القطر المصري الشام وعده كما كان زمن الفاطميين جزءا متمما لمصر لا قطرا مستقلا بنفسه وسياسته. أي إن القوة أصبحت بعد عهد العادل تستمد في الشام من مصر لأنها مقر السلطان ، ومصر بين أقطار تحيط بها الصحاري من أطرافها ، لا سبيل كل حين إلى غزوها كما تغزى الشام من أطرافها الأربعة ، وليس في أمراء برقة وطرابلس وتونس والنوبة والسودان والحبشان من يستطيع أن يغزو مصر ويحلم بفتحها ، ولذلك كانت الشام بعد عهد الأمويين أشبه بإمارة سلطانها الأكبر في مصر ويتولاها نائبه أو نوابه.

ولم يكتب للشام أن تصبح دار ملك بعد عهد الدولتين النورية والصلاحية ، وكان أهم عدو مجاور لها صاحب سيس ، فإن الأرمن كانوا قد جمعوا شملهم بعد أن قضت على سلطانهم الدولة الأيوبية ، وانتزعت منهم خلاط أوائل

١٣٠

القرن السابع ، وكانت خلاط قاعدة أرمينية الوسطى أخذها بنو أيوب لمكانهم فيها من عصبية الأكراد ، وهي قسم من أرمينية الكبرى وقاعدتها سيس ، وقد ذهب الملك الأشرف سنة (٦٩١) في عساكره المصرية والشامية وقصد قلعة الروم وهي على جانب الفرات يقيم بها خليفة الأرمن كيتاغيكوس فأخذه ومن معه أسرى ، ورمّ ما تخرب من تلك القلعة الحصينة.

تقدم أن فرنج الساحل لما أصابتهم الضربة القاضية اعتصم بعضهم بأهل جبل لبنان ونزلوا عليهم ، وعاد آخرون إلى بلادهم في المراكب ، وقد أثار هذا القسم اللاجئ إلى لبنان في نفوس بعض أهله فكرة العصيان فعصوا ، فتوجست دولة الأشرف منهم خيفة فأرسلت عليهم حملة من دمشق (٦٩١) بقيادة بدر الدين بيدرا ، فسار إلى جبل كسروان في العسكر وعدة من الأمراء فانحل عزمه لما تمكن الكسروانيون من بعض العساكر في تلك الجبال ونالوا منهم ، وعاد العسكر شبه المكسور وحصل لأهل الجبل الطمع والقوة ، فأطلق محابيس لهم بدمشق من أرباب الجرائم العظيمة ، وحصل لهم من جميع المقاصد ما لم يكن في حسابهم. قال مغلطاي : وكل ذلك من الطمع وسوء التدبير.

وفي كتاب الهدنة التي عقدت بين الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن الملك المنصور سيف الدين قلاوون صاحب الديار المصرية والبلاد الشامية بين حاكم الريدارغون صاحب برشلونة من بلاد الأندلس وأخويه دون وفلدريك ودون بيدرو وبين صهريه دون شانجه ملك قشتالة وطليطلة وليون وبلنسية وقرطبة وأشبيليه ومرسية وجيان والغرب الكفيل بمملكته أرغون وبرتقال دون ألفونس ملك برتغال في تاريخ (٦٩٢) أمر الملك دون حاكم وأخويه وصهريه يفسح كل منهم لأهل بلاده وغيرهم من الفرنج أنهم يجلبون من الثغور الآسيوية الحديد والبياض والخشب وغير ذلك. وأن سائر أصناف البضائع المتأخرة على اختلافها تستمر على حكم الضرائب المستقرة في الديوان المعمور.

وجاء الأشرف (٦٩٢) لتجهيز العسكر لقصد سيس فوردت عليه رسل صاحبها يطلب الصلح ورضا السلطان عليهم ، فرضي على أن يسلموا لنواب

١٣١

السلطان ثلاث قلاع وهي : بهسنى ومرعش وتل حمدون. وكانت بهسنى قلعة حصينة في فم الدربند وباب حلب ، فلما انتقلت من أيدي المسلمين إلى أيدي الأرمن وقت مجيء التتر كان منها على المسلمين أذى ، فلما فتح السلطان قلعة الروم وأخذ خليفة الأرمن حصل للأرمن خوف عظيم فصانعوا عن أنفسهم بهذه القلاع. قال مغلطاي : ورسم السلطان في هذه السنة للأمير عز الدين الأفرم بأن يسافر إلى الشوبك وأن يخرب قلعتها فراجعه في إبقائها فنهره فسافر وأخربها وكان هذا غاية الخطإ وسوء التدبير فإن هذا الملك كان طالعه يقتضي الخراب فإنه أخرب في قلعة الجبل أكثر بنيانها ، وكذلك في قلعة دمشق أخرب قاعات كثيرة وبظاهر دمشق من حد الميدان إلى تحت القلعة ، وكان على يده خراب جميع الساحل وتعطلت بلاده من جميع الأصناف التي تجلب من البحر وبقيت الشام معطلة. قلنا: ولكن هذا السلطان وأبوه دفعا الصليبيين عن القطر واجتثا أصولهم وفروعهم وأدخلاه في عهدهما في دور عز وقوة ووحدة حقيقية. واتسعت مملكة قلاوون حتى خطب باسمه في إفريقية (تونس) قال ابن إياس : وكان من أجل الملوك قدرا وأعظمهم نهيا وأمرا وأكثرهم معروفا وبرا ، وقد جبلت القلوب على محبته سرا وجهرا اه. وقد خلف آثارا مهمة ومصانع خالدة في مصر وبعض الشام تدل على ذوق وحسن هندسة ، وتسلسل الملك في أولاده وأحفاده لأن الرعية كانت تحبه فأحبت آل بيته ، وخفت وطأة المماليك في أيامه ثم عادت تدريجيا إلى القوة والعرامة.

اغتيل (٦٩٣) الأشرف صلاح الدين خليل بيد بعض أعيان الدولة بمصر واتفق قاتلوه على سلطنة بيدرا وتلقب بالقاهر ، ثم اتفق الحزب القوي منهم فبايعوا للناصر ولد المنصور ثم تغلب (٦٩٤) زين الدين كتبغا نائب السلطنة على سرير المملكة ، واستحلف الناس على ذلك وخطب له بمصر والشام ، ونقشت السكة باسمه وجعل الناصر في قلعة الجبل وحجب الناس عنه فتزعزعت أعصاب المملكة لهذه الحوادث المشئومة التي تورث النفوس كآبة وأعمال الناس فتورا.

ولما عاد العادل كتبغا من دمشق إلى مصر بالعساكر (٦٩٦) ووصل إلى نهر العوجا تفرقت مماليكه وغيرهم فركب حسام الدين لاجين المنصوري نائب

١٣٢

الملك العادل كتبغا ومعه فريق من الأمراء فهرب كتبغا إلى دمشق ودخل قلعتها واهتم في جمع العساكر والتأهب لقتال لاجين فلم يوافقه عسكر دمشق ورأى منهم التخاذل فخلع نفسه من السلطنة وأرسل إلى لاجين يطلب منه الأمان وموضعا يأوي إليه فأعطاه صرخد. وأما حسام الدين لاجين فإنه لما هزم العادل كتبغا نزل بدهليزه على نهر العوجا واجتمع معه الأمراء الذين وافقوه على ذلك ، وشرطوا عليه شروطا التزمها ، منها أن لا ينفرد عنهم برأي ولا يسلط مماليكه عليهم كما فعل بهم كتبغا. فأجابهم لاجين إلى ذلك وحلف لهم فعند ذلك حلفوا له وبايعوه بالسلطنة ولقب بالملك المنصور حسام الدين لاجين المنصوري ، ورحل بالعساكر إلى الديار المصرية ، وأرسل إلى دمشق سيف الدين قبجق المنصوري وجعله نائب السلطنة بالشام.

ومن أهم ما وقع من الحوادث في عهد هذا الملك دخول غازان من أحفاد هولاكو (٦٩٦) دمشق ثم ارتجاعه عنها بعد أن بذل له أهلها مالا عظيما. ثم تجريد السلطان العسكر الكثيف من مصر والشام (٦٩٧) لشن الغارات على سيس فضاقت على الأرمن الأرض بما رحبت وهلكوا من كثرة ما قتل المسلمون منهم ، وغنموا حتى اضطر ملكهم أن يبذل الطاعة لصاحب مصر والشام ، والإجابة إلى ما يرسم به سلطان الإسلام ، وإلى الاعتراف بأنه نائب السلطان في بلاده فطلب منه العسكر أن يكون نهر جيحان حدا بين المسلمين والأرمن ، وأن يسلم كل ما هو جنوبي نهر جيحان من الحصون والمدن ، فأجاب عظيمهم إلى ذلك وأخذ حموص وتل حمدون وسرفندكار ومرعش وحجر شغلان وغيرها من الحصون والقلاع. وفي سنة ٦٩٧ أيضا وفد أحد مقدمي المغول إلى المنصور لاجين وطلب نجدة ليعود إلى الروم فجرد معهم من حلب عسكرا مقدمهم بكتمر الجلمي ، وساروا مع المقدم سلامش المغولي حتى تجاوزوا بلد سيس فخرجت عليهم التتر واقتتلوا معهم ، فقتل الجلمي وجماعة من العسكر الإسلامي وهرب الباقون.

وفي سنة (٦٩٨) وحشت نفوس الدولة مما يأتيه منكوتمر من إمساك الكبار وسقي بعضهم ، وذهب نائب دمشق قبجق بالعساكر فنزلوا بأرض حمص وهناك بكتمر السلحدار بطائفة من المصريين فتكلموا في مصلحتهم ، وأن

١٣٣

منكوتمر لا يفتر عنهم فاتفقوا على المسير إلى غازان ملك التتر لعلمهم بإسلامه فسارا إلى حمص ونزلا بخواصهما ، فأخذا على ناحية سلمية وعديا الفرات فلم يكن بعد عشرة أيام من مسيرهم إلا وقد جاء البريد بقتل المنصور حسام الدين لاجين المنصوري وقتل منكوتمر نائبه وعلم الأمراء المخامرون بقتلهما ، فاتفق رأي أرباب الدولة في مصر على إعادة الناصر محمد إلى مملكته فجيء به من الكرك وجلس على سرير سلطنته للمرة الثانية. ووصلت هذه السنة إلى بيروت مراكب كثيرة وهي ثلاثون بطسة وفي كل واحدة سبعمائة مقاتل من الفرنج للطلوع إلى الساحل والإغارة على ديار المسلمين فأصابتهم عاصفة أغرقت سفنهم ورجع الباقون خائبين.

وقائع التتر :

لم تكد نازلة الصليبيين تنحسم حتى كان المصاف العظيم بين المسلمين والتتر في سنة (٦٩٩) فسار غازان بن أرغون خان بن هولاكو بن تولي بن جنكير خان ، بجموع عظيمة من التتر والكرج والمزندة وغيرهم وعبر الفرات ووصل بجموعه إلى حلب ثم إلى حماة ونزل على وادي مجمع المروج ، وسارت العساكر صحبة الناصر إلى جهة المجمع ، وكان سلار والجاشنكير متغلبين على المملكة فداخل الأمراء الطمع ولم يكملوا عدة جندهم فنقص العسكر كثيرا مع سوء التدبير ونحو ذلك من الأمور الفاسدة التي أوجبت هزيمة العسكر. والتقوا بالقرب من مجمع المروج شرقي حمص فولت ميمنة المسلمين ثم الميسرة وثبت القلب وأحاطت به التتر وجرى بينهم قتال عظيم وتأخر السلطان إلى جهة حمص ، فولت العساكر الإسلامية تبتدر الطريق وتمت بهم الهزيمة إلى ديار مصر وانهزم السلطان إلى نحو بعلبك بعد أن تلاقى عسكر مصر وعسكر التتر على مرج راهط تحت جبل غباغب جنوبي دمشق ووقعت بينهما وقعة عظيمة. وكان مع العسكر المصري من العسكر الشامي وعربان من جبل نابلس نحو مائتي ألف إنسان في بعض الروايات ومع غازان مثل ذلك أو أكثر.

تتبع التتر المنهزمين من المسلمين في وقعة مجمع المروج حتى بلغوا دمشق واستولوا عليها ونهبوا ضياعها وسبوا أهلها ، وساروا في أثر الجفّال إلى غزة

١٣٤

والقدس والكرك. ولما استولى غازان على دمشق أخذ سيف الدين قبجق الأمان لأهلها ولغيرهم منه. وكانت قلعة دمشق عصت على غازان فحاصرها وكان الأمير بها أرجواش المنصوري فقام في حفظها أتم قيام وصبر على الحصار ولم يسلمها ـ هذا ما قاله أبو الفداء وابن إياس. ووصف مغلطاي ما حلّ بدمشق وضواحيها من التتر وما جرى على العساكر المصرية والشامية ، وما تمّ من تخريب الدور والمساكن بظاهر دمشق مثل الصالحية والحواضر البرانية من العقيبة والشاغور وقصر حجاج وحكر السماق وقد خرّب منها واستبيح ما لم يصبه الحريق من الأماكن قال : إنهم أسروا من الصالحية نحو أربعة آلاف نسمة وقتلوا نحو ثلاثمائة أو أربعمائة أكثرهم في التعذيب على المال. ودام التتر نحو أربعة أشهر. وكان عدد من دخلوا دمشق من التتر أربعة آلاف مقاتل. وقد احترقت أماكن حول قلعة دمشق منها دار الحديث الأشرفية وما قبالتها إلى العادلية الصغرى والعادلية الكبرى وأحرقت دار السعادة وكانت مقر نواب السلطنة وما حولها ، واحتاط التتر بهذه النواحي والأماكن التي لم يصل إليها الحريق فنهبت ونقضت أخشابها ، وقلع ما فيها من الرخام وأخذ ما فيها من الأثاث ، وكذلك فعل بجميع الصالحية.

وعقيب أن تم كل هذا الحيف جاء رسول التتر إلى دمشق بالأمان ومما شرطه في تقليده وكان مكتوبا بالعربية ، أن لا يتعرضوا لأحد من أهل الأديان على اختلاف أديانهم من اليهود والنصارى والصابئة ، فإنهم إنما يبذلون الجزية عنهم من الوظائف الشرعية. وقال صاحب التتر : إنه حارب حكام مصر والشام لأنهم خارجون عن طريق الدين غير متمسكين بأحكام الإسلام ، ناقضون لعهودهم ، حالفون بالأيمان الفاجرة ، ليس لديهم وفاء ولا ذمام ، وشاع من شعارهم الحيف على الرعية ، ومدّ الأيدي العادية إلى حريمهم وأموالهم ، والتخطي عن جادة العدل والإنصاف. قال مغلطاي : إنه حمل إلى خزانة غازان ثلاثة آلاف ألف دينار وستمائة ألف دينار سوى ما لحق من التراسيم (المقررات) والبراطيل والاستخراج لغيره من الأمراء والوزراء وغير ذلك. وقال الصفدي : وإلى شيخ الشيوخ الذي نزل بالعادلية ما قيمته ستمائة ألف درهم وإلى الأصيل بن نصير الدين الطوسي مائة ألف درهم.

١٣٥

ولعلي الأوتاري الدمشقي في هذه الموقعة من قصيدة :

أحسن الله يا دمشق عزاك

في مغانيك يا عماد البلاد

وبرستاق نيربيك مع المز

ة مع رونق بذاك الوادي

وبأنس بقاسيون وناس

أصبحوا مغنما لأهل الفساد

طرقتهم حوادث الدهر بالقت

ل ونهب الأموال والأولاد

وبنات محجبات عن الشم

س تناءت بهن أيدي الأعادي

وقصور مشيدات تقضت

في ذراها الأيام كالأعياد

وبيوت فيها التلاوة والذك

ر وعالي الحديث بالإسناد

حرقوها وخربوها وبادت

بقضاء الإله رب العباد

وكذا شارع العقيبة والقص

ر وشاغورها وذاك النادي

أقام غازان بمرج الزنبقية من ضواحي دمشق. ثم عاد إلى بلاده تبريز وقرر في دمشق قبجق ولم يستفد إلا التخريب وقتل بعض جيشه وجيشي مصر والشام ، فلما بلغ العساكر مسير غازان عن الشام خرجوا من مصر وخرج السلطان إلى الصالحية ، ثم اتفق الحال على مقام السلطان بالديار المصرية ومسير سلار وبيبرس الجاشنكير بالعساكر إلى الشام فسارا بالعساكر ، وكان قبجق وبكتمر والالبكي قد كاتبوا المسلمين في الباطن وصاروا معهم ، فلما خرجت العساكر من مصر هرب قبجق ومن معه من دمشق وفارقوا التتر وساروا إلى مصر ، وبلغ التتر بدمشق ذلك فخافوا وساروا من وقتهم إلى الشرق ، ورتب جمال الدين أقوش الأفرم في نيابة السلطنة بدمشق ، وأقر سنقر في نيابة السلطنة بحلب ، وقطلوبك في نيابة السلطنة بالساحل والحصون ، والأمير كتبغا زين الدين المنصوري بحماة. وسار جمال الدين أقوش من دمشق وصحبته من الرجالة والفلاحين جمع كثير إلى جبال كسروان لقتال أهلها عقوبة لهم عما قدمت أيديهم مما كانوا فعلوه مع المسلمين وأخذ عددهم ، فدخل الكسروانيون تحت الطاعة وقرر عليهم جملة مستكثرة من المال فالتزموا به وحملوه وأقطعت ديارهم وأراضيهم.

وكان الأرمن لما وصل غازان بجموع المغول إلى الشام طمعوا في الأرجاء التي افتتحها المسلمون منهم وعجز المسلمون عن حفظها ، فتركها الذين بها من

١٣٦

العسكر والرجالة فاستولى الأرمن عليها ، ولم يبق مع المسلمين من تلك القلاع غير قلعة حجر شغلان ، واستولى الأرمن على غيرها من الحصون والعمالات التي كانت جنوبي نهر جيحان ، فجردت مصر والشام عسكرا إلى سيس ونهبت وخربت. وعاد المغول فجرد صاحبهم غازان (٧٠٠) مرة ثانية عسكرا على الشام بدعوى أن عساكر صاحب مصر والشام أغارت على ماردين وبلادها فطرقت القطر على حين غفلة من أهلها وهتكوا المحارم فأتاه أهل ماردين وما إليها مستصرخين ملهوفين فحركته الحمية الإسلامية ـ وكان دان بالإسلام حديثا ـ فلاقى العسكر وفرق شملهم ، وسبب رحيله المرة الأولى عن الشام أن الرعية تضررت بمقامه لكثرة جيوشه ومشاركتهم الرعية في الشراب والطعام ، فرحل وترك عندهم من يحرسهم من تعدي بعضهم على بعض ويحفظ الشام من أعدائه المتقدمين وأكراده المتمردين.

ولما عبر المغول الفرات في المرة الثانية جفل الناس منهم ، ودخلوا حلب وعاثوا في أرجائها ، وسار نائب السلطنة بحلب إلى حماة ووصلت العساكر من دمشق واجتمعوا بظاهر حماة وأقام المغول بأرجاء سرمين والمعرة وتيزين والعمق وجبال أنطاكية وجبل السماق ينهبون ويقتلون ، وسار السلطان من مصر بالعساكر المصرية ووصل إلى نهر العوجا فلم يمكنه اطراد السير لكثرة الأمطار والأوحال فرجع إلى مصر. وأقام المغول يتنقلون في الديار الحلبية نحو ثلاثة أشهر ثم عادوا إلى مواطنهم. والمغول هم والتتر شيء واحد والتتر صنف من أمم المغول. فقول المؤرخين المغول أو التتر من الألفاظ المترادفة تقريبا.

وفي سنة (٧٠٢) فتحت جزيرة أرواد وهي ليعقوب الطرطوسي وكان اجتمع فيها جمع كثير من الفرنج وبنوا فيها سورا وتحصنوا وكانوا يطلعون منها ويقطعون الطريق على المسلمين المترددين في ذلك الساحل ، فأقلع أسطول من مصر فجرى بين الفرنج والمسلمين قتال شديد انتصر فيه المسلمون وملكوا الجزيرة وقتلوا وأسروا جميع أهلها وخربوا أسوارها ، وكان القتلى نحوا من ألفين والأسرى نحو خمسمائة. وفي هذه السنة نزلت الفرنج على نهر الدامور بين صيدا وبيروت ، ورفعت الشكايات إلى نائب دمشق الأفرم في الجرديين

١٣٧

والكسروانيين ـ وكانوا أعوانا للفرنج والحكومة في دمشق تعمل جهدها لمنع الفرنج عن الاجتماع بأهل كسروان ـ فحشدت جيوش الشام لمقاتلتهم ، فحمل الكسروانيون على الجيش الشامي فقتلوا أكثره وغنموا أمتعتهم وسلاحهم ، وأخذوا أربعة آلاف رأس من خيلهم وقدمت الأكراد لنجدتهم ، فصدهم كمينان في الفدار والمدفور فلم يخلص منهم إلا القليل وخربوا بعض الغرب ، وكان أمراء الغرب التنوخيون مع جيش دمشق فعاد الجرديون فغزوا عين صوفر وشليخ وعين زيتونة وبحطوش وغيرها. ويقول صالح بن يحيى : إن السبب في قتالهم أن الهاربين من وجه التتر من العسكر (٦٩٩) حصل لهم أذية من المفسدين وخصوصا من أهل كسروان وجزّين وأكثرهم أذية للهاربين أهل كسروان فإنهم بلغوا إلى أن أمسكوا بعضا منهم وباعوهم للفرنج ، وأما السلب والقتل فكان كثيرا إلى أن عاملت الدولة الكسروانيين بما تقدم.

وفي هذه السنة عاودت التتر قصد الشام وساروا إلى الفرات وأقاموا عليها مدة في أزوارها وسار منهم عشرة آلاف فارس ، وكانوا كلهم نحوا من خمسين ألفا عليهم خطلوشاه نائب غازان ، وأغاروا على أحد أرجاء القريتين وكانت العساكر قد تجمعت في حماة بقيادة أسندمر الكرجي نائب السلطنة بالساحل ومعاونة عسكر حلب وحماة فاقتتلوا مع التتر في الكوم قريب من عرض بين تدمر والرصافة فانهزم التتر وقتلوا عن آخرهم ، وكان المسلمون ألفا وخمسمائة فارس والتتر ثلاثة أضعافهم.

ثم سار التتر بجموعهم العظيمة صحبة قطلوشاه نائب غازان بعد كسرتهم على الكوم ووصلوا إلى حماة فاندفعت العساكر الذين كانوا بها بين أيديهم ، واجتمعت عساكر مصر والشام بمرج الزنبقية ثم ساروا إلى مرج الصفّر لما قاربهم التتر وبقي العسكر منتظرين وصول الناصر ، وسارت التتر إلى دمشق طالبين العسكر ووصلوا إليهم عند شقحب بطرف مرج الصفّر فالتقى الفريقان واشتد القتال فانهزم التتر ولحق المسلمون أثر المنهزمين إلى القريتين يقتلون فيهم ويأسرون. ووصل التتر إلى الفرات وهو في قوة زيادته فلم يقدروا على العبور والذي عبر فيها هلك ، فساروا على جانبها إلى بغداد فانقطع أكثرهم على شاطئ الفرات ، وأخذ العرب منهم جماعة كثيرة ورجع غازان من حلب

١٣٨

في ضيق صدر من كسرة أصحابه وتمزقهم لبعد المسافة وتخطف أهل الحصون لهم. قال شرف الدين الوحيد في انتصار التترمرة وكسرتهم تارة أخرى.

وجاءت ملوك المغل كالرمل كثرة

وقد ملكت سهل البسيطة والوعرا

فأنصفت الأيام في الحكم بيننا

فكانت له الأولى وكانت لنا الأخرى

وقال شمس الدين السيطي :

يا مرج صفر بيضت الوجوه كما

فعلت من قبل والإسلام يؤتنف

أزهر روضك أزهى عند نفحته

أم يانعات رؤوس فيك تقتطف

غدران أرضك قد أضحت لواردها

ممزوجة بمياه المغل تغترف

دارت عليهم من الشجعان دائرة

فما نجا سالم منهم وقد زحفوا

ونكسوا منهم الأعلام فانهزموا

ونكصوهم على الأعلام فانقصفوا

ففي جماجمهم بيض الظبا زبر

وفي كلاكلهم سمر القنا قصف

فروا من السيف ملعونين حيث سروا

وقتلوا في البراري حيثما ثقفوا

فما استقام لهم في (أعوج) نهج

ولا أجارهم من (مانع) كنف

غزوة الأرمن والكسروانيين وتزعزع السلطنة :

ولما ارتاح ذهن صاحب مصر والشام من التتر عاد فجرد عسكرا من مصر وحماة وحلب (٧٠٣) ودخلوا سيس وحاصروا تل حمدون وفتحوها بالأمان وارتجعوها من الأرمن وهدموها إلى الأرض. ووقع الاتفاق مع صاحب سيس على أن يكون للمسلمين من نهر جيحان إلى حلب وللأرمن حد النهروان. وكان من نتائج معاونة التنوخيين في غرب لبنان لجيش دمشق على قتال الكسروانيين أن تأصلت العداوة بين الفريقين حتى إذا كانت سنة (٧٠٤) أرسل أقوش الأفرم نائب دمشق إلى الجبليين والكسروانيين الشريف زين الدين عدنان ، يأمرهم أن يصلحوا شؤونهم مع التنوخية ويدخلوا في طاعتهم ، ثم أرسل إليهم الإمام ابن تيمية في صحبة بهاء الدين قراقوش فلم يحصل اتفاق ، فأفتى العلماء حينئذ بنهب ديارهم بسبب استمرارهم على العصيان وإبائهم الدخول في الطاعة ، وفي الدر المنظوم أن أقوش فتح كسروان من جهتها الشمالية ولذلك دعيت فتوحا وقال آخر : إن الأفرم جمع رجال الدروز (٧٠٦)

١٣٩

وكانوا عشرة أمراء بعشرة آلاف مقاتل والتقت الجموع عند عين صوفر وجرى بينهم قتال عظيم وكانت الدائرة على الأمراء فهربوا بحرمهم وأولادهم وأموالهم ونحو ثلاثمائة نفس منرجالهم واجتمعوا في الغار غربي كسروان المعروف بغار تيبية فوق أنطلياس فدافعوا عن أنفسهم ، ولم يقدر الجيش أن ينال منهم. ثم بذلوا لهم الأمان فلم يخرجوا فأمر نائب دمشق أن يبنوا على الغار سدا من الحجر والكلس وهالوا عليه تلا من التراب وجعلوا قطلوبك حارسا عليهم مدة أربعين يوما حتى هلكوا داخل الغار ، ثم أحاط العسكر بتلك الجبال ووطئوا أرضا لم يكن أهلها يظنون أن أحدا من خلق الله يصل إليها ، فخربوا القرى وقطعوا الكروم وهدموا البيع وقتلوا وأسروا جميع من صادفوا من الدروز والكسروانيين وغيرهم فذلت تلك الجبال المنيعة بعد عزتها.

ويقول مؤرخو لبنان : إن الأفرم في هذه الحملة كان في خمسين ألف فارس وراجل. ويقول أبو الفداء وابن الوردي : إن هذه الحملة (٧٠٥) كانت على بلاد الظنّينين (١) وغيرهم من المارقين عن الطاعة وكانوا يتخطفون المسلمين ويبيعونهم من أعدائهم ويقطعون الطرق. وفي تاريخ بيروت أن سيف الدين أسندمر نائب طرابلس كان نسب إلى مباطنة الكسروانيين فأفحش فيهم القتل لينفي عنه هذه التهمة اللاحقة به وأن الكسروانيين بادوا وتشتتوا وأقطع هذا النائب بعضهم أملاكا من حلقة طرابلس وجازى بعضهم بالرواتب.

وفي سنة (٧٠٥) أرسل نائب السلطنة بحلب مع طشتمر مملوكه في عسكر حلب للإغارة على سيس أيضا ، وكان ضعيف العقل قليل التدبير ، ففرّط في حفظ العسكر ولم يكشف أخبار العدو واستهان بهم ، فجمع صاحب سيس جموعا كثيرة من التتر وانضمت إليهم الأرمن والفرنج ووصلوا على غرة إلى طشتمر فالتقوا بالقرب من أياس فلم يكن للحلبيين قدرة بمن جاءهم فتولوا يبتدرون الطريق. وتمكنت التتر والأرمن منهم فقتلوا وأسروا غالبهم واختفى من سلم في تلك الجبال.

__________________

(١) جبال الظنين على ما في تاريخ بيروت هو الجبل الذي يعرف اليوم بجبل الضنية قرب عكار.

١٤٠