خطط الشام - ج ١

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ١

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٨٨

أبي بكر وخلافة عمر وتأمير أبي عبيدة على الشام كله وعزل خالد ، فأخذ الكتاب منه وتركه في كنانته ووكل به من يمنعه أن يخبر الناس من الأمر لئلا يضعفوا. وهزم الروم وقتل منهم على الواقوصة (١) ما يزيد على مئة ألف ثم دخل على أبي عبيدة وسلم عليه بالإمارة ، وكانت من أعظم فتوح المسلمين وباب ما جاء بعدها من الفتوح ، لأن الروم كانوا قد بلغوا في الاحتشاد فلما كسروا ضعفوا ودخلتهم هيبة».

وفي كتاب أبي حذيفة أن المسلمين أوقعوا بالروم يوما باليرموك فشد خالد في سرعان(٢) الناس وشدّ المسلمون معه يقتلون كل قتلة ، فركب بعضهم بعضا حتى انتهى الى أعلى مكان مشرف على أهوية (٣) فأخذوا يتساقطون فيها وهم لا يبصرون. وهو يوم ذو ضباب ـ وفي رواية ثارت فيه الرياح الهوج ـ وقيل : كان ذلك بالليل وكان آخرهم لا يعلم بما صار إليه الذي قبله حتى سقط فيها ثمانون ألفا فما أحصوا إلا بالقضيب ، وسميت هذه الأهوية بالواقوصة من يومئذ لأنهم واقصوا فيها أي اقتربوا ، فلما أصبح المسلمون ولم يروا أعداءهم ظنوا أنهم قد كمنوا لهم حتى أخبروا بأمرهم.

وقال سعيد بن بطريق : بلغ ماهان قائد الروم أن العرب قد خرجوا من طبرية يريدون دمشق ، فجمع عسكره وخرج منها وسار يومين حتى نزل على واد كبير يقال له وادي الرماد ، ويقال للموضع الجولان ويعرف بالياقوصة ، وصير الوادي بينه وبين العرب شبيه الخندق وأقاموا أياما والعرب بحذائهم. وبعد أيام خرج منصور العامل من دمشق يريد عسكر ماهان ومعه مال قد جباه من دمشق بالمشاعل ، فلما قربوا من العسكر ضربوا وبوّقوا وصاحوا ، وكان ذلك من منصور مكيدة ، فلما نظر الروم الى المشاعل

__________________

(١) الواقوصة : نجد من الأرض يطل على وادي اليرموك من جهة محطة وادي خالد وذكرها ابن البطريق بلفظ الياقوصة.

(٢) أوائلهم.

(٣) الأهوية كالهاوية كل فارغ.

٨١

خلفهم وسمعوا صوت الطبول والبوقات ، توهموا أن العرب قد جاءوهم من خلفهم وكبسوهم فوقعت فيهم الهزيمة فسقطوا كلهم في ذلك الوادي أعني وادي الرماد ، وهو واد عظيم كبير فماتوا ولم يتخلص منهم إلا نفر قليل ، ومنهم من هرب الى مواضع شتى ، ومنهم من تراجع الى دمشق ، ومنهم من هرب إلى بيت المقدس ، ومنهم من هرب الى قيسارية اه.

وشهد اليرموك ألف صحابي منهم نحو من مائة من أهل بدر ، وتهافت في الواقوصة من الروم عشرون ومائة ألف ، ثمانون ألف مقرّن وأربعون ألف مطلق سوى من قتل في المعركة من الخيل والرجل. ويقول الطبري : إن قتلى اليرموك من الروم سبعون ألفا ، وزعم بعض المؤرخين أن جيش الروم تكامل يوم اليرموك أربعمائة ألف.

فتح فحل وأجنادين وبيسان :

ذكروا أن أول كتاب كتبه عمر حين ولى أبا عبيدة الشام : أوصيك بتقوى الله الذي يبقى ويفنى ما سواه ، الذي هدانا من الضلالة ، وأخرجنا من الظلمات الى النور ، وقد استعملتك على جند خالد بن الوليد ، فقم بأمرهم الذي يحق عليك. لا تقدم المسلمين الى هلكة رجاء غنيمة ، ولا تنزلهم منزلا قبل أن تستريده لهم وتعلم كيف مأتاه ، ولا تبعث سريّة إلا في كثف (١) من الناس ، وإياك وإلقاء المسلمين في الهلكة ، وقد ابتلاك الله بي وابتلاني بك ، فغمّض بصرك عن الدنيا ، وأله قلبك عنها ، إياك أن تهلكك كما أهلكت من كان قبلك ، فقد رأيت مصارعهم اه.

توفي أبو بكر الصديق قبل فتح اليرموك بعشر ليال وبعد أن أصيبت الروم بالهزيمة القاطعة على اليرموك ، كانت وقعة فحل من الأردن بعد خلافة عمر بن الخطاب بخمسة أشهر ، ولما انتصر المسلمون على اليرموك كان هرقل في البيت المقدس ، جاءها للاحتفال بتخليص الصليب الذي استرده قبل ذلك

__________________

(١) الكثف : الجماعة

٨٢

فصار الى أنطاكية واستنفر الروم وأهل الجزيرة وبعث عليهم رجالا من خاصته وثقاته فلقوا المسلمين بفحل فقاتلوهم أشد قتال وأبرحه حتى ظهروا عليهم ، وقتل بطريقهم وزهاء عشرة آلاف معه وتفرق الباقون في مدن الشام ولحق بعضهم بهرقل.

ولما سار المسلمون بعد أن فرغوا من أجنادين الى فحل نزلت الروم بيسان فبثقوا أنهارها وفي أرض سبخة (١) فكانت وحلا ، ونزلوا فحل وبيسان ، فلما غشيها المسلمون ولم يعلموا بما صنعت الروم وحلت خيولهم ، ولقوا فيها عناء ثم سلموا. وسميت بيسان ذات الردغة (٢) لما لقي المسلمون فيها ، ثم نهضوا الى الروم وهم بفحل فاقتتلوا فهزمت الروم ودخل المسلمون فحل ولحقت رافضة الروم بدمشق ، فكانت وقعة فحل في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة. قال الطبري : «كان الروم في فحل بعد أن رحلت حيارى لا يعرفون مأخذهم ، فأسلمتهم هزيمتهم وصيرتهم الى الوحل فركبوه ولحق أوائل المسلمين بهم وقد وحلوا فركبوهم وما يمنعون يد لامس فوخزوهم بالرماح ، فكانت الهزيمة في فحل ، وكان مقتلهم في الرّداغ فأصيب الثمانون ألفا لم يفلت منهم إلا الشريد. وكان الله يصنع للمسلمين وهم كارهون : كرهوا البثوق فكانت عونا لهم على عدوهم ، وأناة من الله ليزدادوا بصيرة وجدا».

الأردن وفلسطين وجبل اللكام :

افتتح شرحبيل بن حسنة الأردن عنوة ما خلا طبرية فإن أهلها صالحوه على أنصاف منازلهم وكنائسهم ، وفتحت جميع مدن الأردن وحصونها على مثل صلح طبرية فتحا يسيرا بغير قتال ، ففتح بيسان وسوسية وأفيق وجرش وبيت رأس وقدس والجولان ، وغلب على سواد الأردن وجميع أرضها وعلى صفورية وعكا وصور ، وبفتح هذين الثغرين من الساحل

__________________

(١) السبخة : أرض ذات نز وملح.

(٢) الردغة : الوحل.

٨٣

انقطع ما بين الروم في إيلياء وبين خط رجعتهم من البر مع أنطاكية وما وراءها من الدروب. وصالح أبو عبيدة السامرة بالأردن وكانوا عيونا وأدلاء للمسلمين ، كما صالح الجراجمة في جبل اللّكام بين بياس وبوقا على أن يكونوا أعوانا للمسلمين وعيونا ومسالح (١) في جبل اللّكام ، وفتح عمرو ابن العاص غزة ثم سبسطية ونابلس ولدّ ويبنى وعمواس وبيت جبرين ويافا ورفح ، وظلت القدس وقيسارية محاصرتين ، ولم تفتح القدس إلا سنة خمس عشرة أي بعد فتح دمشق بسنة ونيف ، وطلب أهله من أبي عبيدة أن يصالحهم على صلح أهل مدن الشام وأن يكون المتولي للعقد عمر بن الخطاب ، فكتب إليه بذلك فسار عن المدينة وخرج صفرونيوس بطريق بيت المقدس الى عمر بن الخطاب فأعطاه عمر أمانا وكتب لكل كورة كتابا واحدا ما خلا أهل إيلياء. وهذا نص عهد أهل إيلياء :

«بسم الله الرحمن الرحيم» : هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان ، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها ، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقض منها ولا من حيّزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم ، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود. وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن ، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوت (اللصوص) ، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم ، ومن أقام منهم فهو آمن ، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية ، ومن شاء سار مع الروم ، ومن شاء رجع الى أهله ، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم ، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية. شهد على ذلك خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية ابن أبي سفيان وكتب وحضر سنة ١٥.

__________________

(١) المسالح : جمع مسلحة وهي الحامية المسلحة.

٨٤

وكتب عمر الى أهل لدّ ومن دخل معهم من أهل فلسطين أجمعين مثل شروط أهل إيلياء. واختلف القوم في صلح بيت المقدس فقالوا صالح اليهود وقالوا النصارى ، والمجمع عليه أنه صالح النصارى. وفي كتاب عمر صراحة في ذلك. واشترط فيه إخراج الروم الذين ليسوا من أبناء القطر الأصليين. وأتاه جبلة بن الأيهم رأس بني غسان وكان هذا أسلم ثم ارتد وقاتل المسلمين مع الروم فقال له : تأخذ مني الصدقة كما تصنع العرب قال : بل الجزية وإلا فالحق بمن هو على دينك. فخرج في ثلاثين ألفا من قومه حتى لحق بأرض الروم ، وندم عمر على ما كان منه في أمره.

فتح دمشق والأحكام العسكرية :

كتب عمر الى أبي عبيدة وكان كتب اليه في أمر الشام : أما بعد فابدأوا بدمشق وانهدوا لها فإنها حصن الشام وبيت ملكهم. وبعد أن تم للمسلمين ما أرادوا من هزيمة الروم على اليرموك جمعت الروم جمعا عظيما وأمدهم هرقل بمدد فلقيهم المسلمون بمرج الصّفّر بين دمشق والجولان وهم متوجهون الى دمشق ، وذلك لهلال المحرم سنة ١٠ فاقتتلوا قتالا شديدا وجرح من المسلمين زهاء أربعة آلاف ، وولى الروم مفلولين لا يلوون على شيء حتى أتوا دمشق وبيت المقدس. ولما فرغ المسلمون من قتال من اجتمع لهم بالمرج رجعوا الى مدينة دمشق فأخذوا الغوطة وكنائسها عنوة ، ونازلوا دمشق وحاصروها من الباب الشرقي وباب توما وباب الفراديس وباب الجابية والباب الصغير وفتح نصفها عنوة والنصف الآخر صلحا ، فأجراها عمر كلها صلحا. وكتب أهل دمشق كتابا لأبي عبيدة هو هذا :

«بسم الله الرحمن الرحيم» : هذا كتاب لأبي عبيدة بن الجراح ممن أقام بدمشق وأرضها وأرض الشام من الأعاجم ، إنك حين قدمت بلادنا سألناك الأمان على أنفسنا وأهل ملتنا ، وإنا اشترطنا لك أن لا نحدث في مدينة دمشق ولا فيما حولها كنيسة ولا ديرا ولا قلاية ولا صومعة

٨٥

راهب ، ولا نجدد ما خرب من كنائسنا ولا شيئا منها مما كان في خطط المسلمين ، ولا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار ، وأن نوسع أبوابها للمارة وأبناء السبيل ، ولا نؤوي فيها ولا في منازلنا جاسوسا ، ولا نكتم على من غش المسلمين ، وعلى أن لا نضرب بنواقيسنا إلا ضربا خفيفا في جوف كنائسنا ، ولا نظهر الصليب عليها ، ولا نرفع أصواتنا في صلاتنا وقراءتنا في كنائسنا ، ولا نخرج صليبنا ولا كتابنا ولا نخرج باعوثا ولا شعانين ، ولا نرفع أصواتنا بموتانا ، ولا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين ، ولا نجاورهم بالخنازير ولا نبيع الخمور ، ولا نظهر شركا في نادي المسلمين ، ولا نرغب مسلما في ديننا ، ولا ندعو إليه أحدا وعلى أن لا نتخذ شيئا من الرقيق الذي جرت عليه سهام المسلمين ، ولا نمنع أحدا من قرابتنا إن أرادوا الدخول في الإسلام ، وأن نلزم ديننا حيثما كنا ولا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا في مراكبهم ، ولا نتكلم بكلامهم ولا نتسمى بأسمائهم وأن نجز مقادم رؤوسنا ونفرق نواصينا ونشد الزنانير على أوساطنا ، وأن لا ننقش في خواتيمنا بالعربية ولا نركب السروج ، ولا نتخذ شيئا من السلاح ، ولا نجعله في بيوتنا ولا نتقلد السيوف ، وأن نوقر المسلمين في مجالسهم ونرشدهم للطريق ، ونقوم لهم من المجالس إذا أرادوها ، ولا نطلع عليهم في منازلهم ، ولا نعلم أولادنا القرآن ولا نشارك أحدا من المسلمين إلا أن يكون للمسلم أمر التجارة ، وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل من أوسط ما نجد ، ونطعمه فيها ثلاثة أيام ، وعلينا أن لا نشتم مسلما ، ومن ضرب مسلما فقد خلع عهده. ضمنا ذلك على أنفسنا وذرارينا وأرواحنا ومساكننا ، وإن نحن غيرنا أو خالفنا عما اشترطنا لك وقبلنا الأمان عليه فلا ذمة لنا ، وقد حل لك منا ما حلّ من أهل المعاندة والشقاق. على ذلك أعطينا الأمان لأنفسنا وأهل ملتنا فأقرونا في بلادكم التي ورثكم الله إياها. شهد الله على ما شرطنا لكم على أنفسنا وكفى به شهيدا.

وكتب عمر بن الخطاب على النصارى كتابا في هذا المعنى أيضا وهذان

٨٦

الكتابان هما من قبيل ما يقرره الفاتحون من الأحكام العسكرية أو الإدارة العرفية كما يسمونها اليوم وهي كما لا يخفى تختلف باختلاف الأمم والحالات وليست أصلا من أصول الدين لا يجوز تبديله.

وهذا نص العهد الذي أعطاه خالد بن الوليد قبل أن يعلم بما صار إليه حال المسلمين في الشق الآخر من المدينة مدينة دمشق :

«بسم الله الرحمن الرحيم» : هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق إذ دخلها ، أعطاهم أمانا على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وسور مدينتهم لا يهدم ولا يسكن شيء من دورهم ، لهم بذلك عهد الله وذمة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والخلفاء والمؤمنين لا يعرض لهم إلا بخير إذا أعطوا الجزية.

وذكر الطبري أن أبا عبيدة بن الجراح دخل دمشق في سنة ١٤ فشتى بها ، فلما ضاقت الروم سار هرقل بهم حتى نزل أنطاكية ومعه من المستعربة لخم وجذام وبلقين وبلي وعاملة ، ومن تلك القبائل من قضاعة وغسان بشر كثير ، ومعه من أهل إرمينية مثل ذلك ، وبعث الصقلار خصيا له فسار بمائة ألف مقاتل معه ، من أهل إرمينية اثنا عشر ألفا ومعه من المستعربة من غسان وتلك القبائل من قضاعة اثنا عشر ألفا عليهم جبلة بن الأيهم الغساني وسائرهم من الروم. وسار اليهم المسلمون وهم أربعة وعشرون ألفا عليهم أبو عبيدة بن الجراح فالتقوا باليرموك في ١٢ رجب سنة ١٥ (٢٠ آب ٦٣٦) فاقتتل الناس قتالا شديدا. وتدل عبارة الطبري على أن فتح دمشق كان قبل فتح اليرموك والمعقول المعول عليه أن فتح اليرموك كان قبل فتح دمشق.

فتح حمص وشيزر والمعرة وبعلبك وصيدا وبيروت وجبيل وعرقة :

وبينا المسلمون على حصار دمشق ، وقد حوصرت ستة أشهر ، أقبلت خيل من عقبة السليمة مخمرة بالحرير فثار إليهم المسلمون فالتقوا فيما بين بيت لهيا قرب دومة والعقبة التي أقبلوا منها ، فهزموهم وطردوهم الى أبواب حمص ، فلما رأى أهل حمص ذلك ظنوا أنهم فتحوا دمشق فقال

٨٧

لهم أهل حمص : إنا نصالحكم على ما صالحتم عليه أهل دمشق ففعلوا ، ولما فرغ أبو عبيدة من دمشق سار الى حمص فاستقراها وأجرى صلحها على مثل صلح بعلبك ، ثم مضى نحو حماة فتلقاه أهلها مذعنين ، فمضى نحو شيزر وبلغت خيله الزراعة والقسطل.

ومر أبو عبيدة بمعرة النعمان فخرج أهلها يقلسون (يلعبون) بين يديه ثم اتى فامية (قلعة المضيق) ففعل أهلها مثل ذلك ، وبعث خالد بن الوليد الى البقاع ففتحه بالسيف ، وبعث سرية فالتقوا مع الروم بعين ميسنون وعلى الروم رجل يقال له سنان تحدر على المسلمين من عقبة بيروت ، فقتل منهم يومئذ جماعة من الشهداء ، فكانوا يسمون عين ميسنون عين الشهداء. واستخلف أبو عبيدة على دمشق يزيد بن أبي سفيان شقيق معاوية كما وعده بها الصديق ، فسار يزيد الى صيدا وبيروت وجبيل وعرقة ففتحها فتحا يسيرا ، وبعث يزيد دحية بن خليفة الى تدمر في سرية ليمهدوا أمرها ، وبعث أبا الزهر القشيري الى البثنية وحوران فصالح أهلهما.

قنسرين وحلب وأنطاكية وكور الشمال :

وسار أبو عبيدة الى قنّسرين فصالحه أهلها على مثل صلح حمص ، وغلب المسلمون على أرضها وقراها ، ثم سار الى حلب وحاصرها ففتحها ، وبعث أبو عبيدة بعد فتح حمص خالد بن الوليد الى قنسرين فلما نزل بالحاضر زحف اليهم الروم وعليهم ميناس ، وهو رأس الروم وأعظمهم فيهم بعد هرقل ، فالتقوا بالحاضر فقتل ميناس ومن معه مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها. فأما الروم فماتوا على دمه حتى لم يبق منهم أحد ، وأما أهل الحاضر فأرسلوا الى خالد أنهم عرب ، وأنهم إنما حشروا ولم يكن من رأيهم حربه فقبل منهم وتركهم.

وسار أبو عبيدة الى أنطاكية وقد لحق بها خلق من أهل جند قنسرين ، فلما صار بمهروبة قريب فرسخين من أنطاكية لقيه جمع للعدو ففضهم وألجأهم الى المدينة فحاصرها ، ثمّ صالحه أهلها على الجزية والجلاء فجلا بعضهم وأقام بعضهم. ووجه أبو عبيدة ميسرة بن مسروق العبسي الى

٨٨

درب بغراس (بيلان) فلقي جمعا للروم ومعهم مستعربة من غسان وتنوخ يريدون اللحاق بهرقل فأوقع بهم وقتل منهم مقتلة عظيمة. وبلغ أبا عبيدة أن جمعا للروم بين معرة مصرين وحلب فلقيهم وقتل عدة بطارقة وفض ذلك الجيش ، وفتح معرة مصرين على مثل صلح حلب ، وجالت خيوله فبلغت بوقا وفتحت قرى الجومة وسرمين ومرتحوان وتيزين وعزاز وصالحوا أهل دير طبايا ودير الفسيلة؟ على أن يضيفوا من مرّ بهم من المسلمين ، وأتاه نصارى خناصرة في سيف البادية فصالحهم ، وفتح أبو عبيدة جميع أرض قنسرين وأنطاكية واللاذقية. وورد عبادة بن الصامت السواحل ففتح مدينة تعرف ببلدة على فرسخين من جبلة وانطرطوس ومرقبة وبانياس ، ثم صالح أبو عبيدة أهل قورس وبث خيله فغلب على جميع أرض قورس الى آخر حد نقابلس ، وفتح منبج ودلوك ورعبان وعراجين وبالس وقاصرين ، وبلغ أبو عبيدة الفرات واشترط على أهل رعبان ودلوك أن يبحثوا عن أخبار الروم ويكاتبوا بها المسلمين.

وقعة مرج الروم وقيسارية :

وفي سنة خمس عشرة كانت الوقعة بمرج الروم ، وكان من ذلك أن أبا عبيدة خرج بخالد بن الوليد من فحل الى حمص ، وانصرف بمن أضيف إليهم من اليرموك فنزلوا جميعا على ذي الكلاع ، وقد بلغ الخبر هرقل فبعث تيودرا البطريق حتى نزل بمرج دمشق وغربها ، فنزل أبو عبيدة بمرج الروم فنازله يوم نزل عليه شنس الرومي في مثل خيل تيودرا إمدادا ليتودرا وردءا لأهل حمص فنزل في عسكر على حدة ، فلما كان من الليل أصبحت الأرض من تيودرا بلاقع ، وكان خالد بإزائه وأبو عبيدة بإزاء شنس ، وأتى خالدا الخبر أن تيودرا قد رحل الى دمشق فأجمع رأيه ورأي أبي عبيدة أن يتبعه خالد وهم يقتتلون ، فأخذهم من خلفهم فقتلوا من بين أيديهم ومن خلفهم ، فأناموهم ولم يفلت منهم إلا الشريد ، فأصاب المسلمون ما شاؤوا من ظهر وأداة وثياب. وناهد (١) أبو عبيدة بعد خروج

__________________

(١) نهد لعدوه : صمد له.

٨٩

خالد في إثر تيودرا وشنس وامتلأ المرج من قتلاهم فأنتنت منهم الأرض وهرب من هرب منهم فلم يفلتهم وركب أكتافهم (١) الى حمص.

هكذا تم فتح الشام على هذا الوجه المحكم في ثلاث سنين ولم تعص إلا قيسارية فإن معاوية فتحها سنة ١٩ بعد أن حوصرت نحو سبع سنين ، وكان أهلها يزاحفون معاوية وجعلوا لا يزاحفونه مرة إلا هزمهم وردهم إلى حصنهم ، ثم زاحفوه آخر ذلك وخرجوا من صياصيهم فاقتتلوا في حفيظة واستماتة فبلغت قتلاهم في المعركة ثمانين ألفا وكملها في هزيمتهم مائة ألف (الطبري). وكانت قيسارية من أعيان أمهات المدن قيل كان مقاتلة الروم الذين يرزقون فيها مائة ألف ، وسامرتها ثمانون ألفا ، ويهودها مائة ألف (ياقوت). وكان كتاب عمر الى معاوية : أما بعد فإني قد وليتك قيسارية فسر إليها واستنصر عليهم وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله ، الله ربنا وثقتنا ورجاؤنا ومولانا ، نعم المولى ونعم النصير.

ومن المدن التي امتنعت وحوصرت زمنا طويلا مدينة عسقلان ، كتب عمر بن الخطاب الى معاوية يأمره بتتبع ما بقي من فلسطين ففتح عسقلان سنة ٢٣ ه‍ صلحا بعد كيد. ويقال : إن عمرو بن العاص كان فتحها ثم نقض أهلها وأمدّهم الروم ، ففتحها معاوية وأسكنها الروابط ووكل بها الحفظة.

سر نجاح المسلمين وقتال نسائهم يوم اليرموك :

بمثل تلك الجيوش القليلة التي ظهرت على جيوش الروم ومن والاهم فتح العرب هذا القطر العزيز ، وكانت قوتهم في معظم الوقائع على نسبة واحد الى ثلاثة أو أربعة من قوة أعدائهم بعد أن قطعوا بوادي الحجاز والعراق والشام على جمالهم وخيولهم ، قليل عتادهم ، جليل جهادهم. وساروا في فلوات لا ماء فيها يستقون منه ، ولا مراعي يرعون فيها أنعامهم ، ولا ميرة يمتارونها ، وكل ما لديهم من الماديات قليل ضئيل ، ولكن معنوياتهم كانت فوق معنويات من رحلوا إليهم وكان كل فرد من

__________________

(١) أقفيتهم.

٩٠

أفراد جيوشهم يعتقد بأنه إن مات مات شهيدا ، وإن عاش عاش سعيدا.

أما الروم فكانوا على كثرة جيوشهم ، ووفرة أسبابهم من المؤن والذخائر في أرض عامرة هي وما وراءها الى أرض الروم ، والنجدات تأتيهم أرسالا على أيسر سبيل ، ومع هذا فقد كثرت هزائمهم وعد قتلاهم بالألوف وقتلى العرب بالمئات ، وتركوا أرضا عرفوا معالمها ومجاهلها فلم تغن عنهم كثرتهم ولا وفرة أسبابهم ، فقهروا وغلبوا على أمرهم ، وهاموا على رؤوسهم لا يلويهم شيء ، وذلك لأنهم كانوا متفسخين مشتة أهواؤهم ، والناس هنا قد يئسوا من عدل الرومان في أواخر أيامهم حتى إنهم لما طلبوا مالا من منصور عامل هرقل بدمشق لاستئجار رجال يحاربون المسلمين نادى بأن ليس لديه مال ، ليسمع الناس وييأسوا ويفتح السبيل للمسلمين. وكان هرقل كتب الى منصور هذا أن يمسك عليه الرجال بالمال فأبى منصور وقال : إن الملك غير محتاج إلى هذا العسكر العظيم ، وإن العرب قوم غزاة ، وهذا العسكر يحتاج الى مال كثير وليس بدمشق مال عظيم. قال ابن بطريق : أراد بذلك أن يسمع الرجال أن ليس بدمشق مال يعطيهم فيتفرقوا ويسلّم دمشق الى المسلمين.

ولعل لتأليف جيش الروم ، وكان مؤلفا من أجناس وأخلاط دخلا في الهزيمة ، وربما كان رجال الدين من الروم في دمشق يوم الفتح العربي مستائين من القواعد التي سنها هرقل ليضع حدا للمنازعات الدينية ، ولعلهم عاونوا على تسليم دمشق للعرب أو تركوا المسائل تجري في أعنتها. ولكن من المحقق أن العرب المتنصرة في الشام عادوا بعد أن صاروا مع الروم فانضموا الى العرب المسلمين وأخذتهم النّعرة الجنسية فغلّبوها على النّعرة الدينية وأصبحوا للمسلمين عيونا على الروم وأن اليهود والسامرة كانوا مع المسلمين الفاتحين. قال هوار : توصل الامبراطور أن يجمع في حمص ثمانين ألف مقاتل نصفهم من جنده والنصف الآخر من معاونين أرمن ، وكانت النجدات تتوالى عليه إلا أن الشقاق الداخلي كان يمزق أحشاء الجيش الروماني ، وقد شغب الجنود من الأرمن وطلبوا أن يكون ماهان امبراطورا قبيل وقعة اليرموك.

٩١

لا جرم أن سلاح الروم كان أمضى من سلاح العرب ، ونظامهم الظاهري كان أجلى. قال سيديليو : كان جيش الروم يفوق جيش العرب بلباسه ، وخبرة ضباطه ، ونوع سلاحه ، وغنى دور صناعاته ومناعة حصونه ، وسهولة المواصلات والتموين عليه. والروم يعرفون الخطط ويمسكون البحر ولهم من ورائهم ولايات مأهولة مخصبة. أما العرب فكانوا جاهلين معدمين ليس لهم شيء من الأسباب المادية ، ولا يحسنون من ضروب الحرب غير حروب العصابات على أصول البادية ، وقد يعمدون الى الفرار أحيانا ، ويرى جيشهم لأول وهلة كأنه عصابات مجموعة كيفما اتفق : الفرسان وسط المشاة ، ومن الجنود من يسترون بعض أجسامهم ومنهم العراة. وسلاح كل واحد كما يحب من قوس الى حربة أو دبوس وسيف ورمح. قال : ووجه الغرابة أن يضيف العرب الى المفاداة احترام النظام يضاف إليهما عظمة العواطف ، وهم طالما وصموا بأنهم متوحشون ظلما وتعنتا.

قلنا : وهكذا كان شأن العرب في سائر فتوحاتهم في آسيا وإفريقيا وأوروبا ، كانت معنوياتهم في كل مكان أرقى من معنويات من غلبوهم على أمرهم ، ودون ماديات أمم كانت راسخة القدم في أرضها ، عزيزة السلطان في ربوعها ، وحاجياتها منها على طرف الثّمام تأتيها بدون تعمل كثير. وكان العرب يتبلغون ودوابهم بميسور العيش. حتى إن خالد بن الوليد لما سار في جيشه من العراق الى الشام من طريق البرية لتخرج من وراء جموع الروم لأنه كان يرى أنه إذا استقبلها حبسته عن غياث المسلمين ، سقى الجمال مرتين لقلة الماء في الطريق ، فكلما نزل منزلا نحر وجعل أكراشها على النار وشرب القوم.

ومن أعظم العوامل في غلبة المسلمين خوف الهزيمة من الزحف ، وكانت الهزيمة أو التخلف عن الجهاد من أعظم العار ، بل من الكبائر التي لا يرحم فاعلها. فقد ذكروا أن فلّ جيش مؤتة لما رجع الى المدينة جعل الناس يحثون عليهم التراب ويقولون : يا فرّار فررتم في سبيل الله. فقال النبي (عليه الصلاة والسلام) : ليسوا بالفرار ولكنهم الكرّار إن شاء

٩٢

الله. هذا وكان في جملة أولئك الفرار خالد بن الوليد سيف الله وعن رأيه رجع الجيش.

وكان للنساء يد طولى في نصرة العرب. فقد تطوع أبو سفيان بن حرب في حرب الشام وكانت له تجارات وأملاك في الجاهلية ، وله قرية في البلقاء اسمها نقنّس. وكان شيخ مكة بل شيخ تجار قريش ورئيسهم ، ومن أعظم أهل الرأي والمكانة فيهم ، وهو كابنه معاوية من المؤلفة قلوبهم ثم حسن إسلامهما ، وقد حارب الرسول كثيرا وقال له الرسول يوم أسلم في فتح مكة سنة ثمان للهجرة : «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن». وجاء الشام في الإسلام في مشيخة من قريش يحارب تحت راية ابنه يزيد وكان له ولابنيه يزيد ومعاوية بل ولجماعة من أسرته بل للنساء منهن اليد الطولى والكعب المعلى في فتح الشام.

ومما قاله أبو سفيان للنساء اللاتي مع المسلمين ، وكان كثير من المهاجرات حضرن يومئذ مع أزواجهن وأبنائهن ، وقد أجلسهن خلف صفوف المسلمين فأمر بالحجارة فألقيت بين أيديهن : لا يرجع إليكن أحد من المسلمين إلا رميتموه بهذه الحجارة وقلتن له : من يرجوكم بعد الفرار عن الإسلام وأهله وعن النساء وهم أمام العدو. ولما حمي الوطيس واستقبل النساء سرعان من انهزم من المسلمين معهن بعمد البيوت أو عمد الفساطيط وأخذن يضربن وجوههم ويرمين بالحجارة ويقلن : أين أين عز الإسلام والأمهات والأزواج. ولقد قاتل بعض النساء بالفعل يوم اليرموك مثل جويرية ابنة أبي سفيان وكانت مع زوجها. قال البلاذري : وقاتل يوم اليرموك نساء المسلمين قتالا شديدا وفيهن هند بنت عتبة أم معاوية بن أبي سفيان. وقال الطبري : وقاتل نساء من نساء قريش يوم اليرموك بالسيوف حتى سابقن الرجال منهن أم حكيم بنت الحارث بن هشام.

وصف رومي العرب ، وكان أسيرا في أيديهم فأفلت ، وسأله هرقل عنهم فقال : «أخبرني عن هؤلاء القوم ، فقال : أحدثك كأنك تنظر إليهم «فرسان بالنهار ، رهبان بالليل ، ما يأكلون في ذمتهم إلا بثمن ،

٩٣

ولا يدخلون إلا بسلام ، يقفون على من حاربهم حتى يأتوا عليه. فقال : لئن كنت صدقتني ليرثنّ ما تحت قدميّ هاتين».

ولما انتصر المسلمون بفحل وقدم المنهزمون من الروم على هرقل بأنطاكية دعا رجالا منهم فأدخلهم عليه فقال : حدثوني ويحكم عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم أليسوا بشرا مثلكم؟ قالوا : بلى. قال : فأنتم أكثر أو هم؟ قالوا : بل نحن. قال : فما بالكم؟ فسكتوا ، فقام شيخ منهم وقال : ألا أخبرك إنهم إذا حملوا صبروا ولم يكذبوا ، وإذا حملنا لم نصبر ونكذب ، وهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويرون أن قتلاهم في الجنة وأحياءهم فائزون بالغنيمة والأجر. فقال : يا شيخ لقد صدقتني ولأخرجن من هذه القرية ومالي في صحبتكم من حاجة ، ولا في قتال القوم من أرب. فقال ذلك الشيخ : أنشدك الله أن تدع سورية جنة الدنيا للعرب وتخرج منها ولم تعذر. وما زال به حتى ثناه الى المقام وأرسل الى رومية وقسطنطينية وإرمينية وجمع الجيوش وقاتل العرب.

وبعث أخو ملك الروم لما تراءى العسكران في اليرموك رجلا عربيا من قضاعة وقال له : ادخل في هؤلاء القوم فأقم فيهم يوما وليلة ثم ائتني بخبرهم فدخل في الناس رجل عربي لا ينكر فأقام فيهم ثم أتاه فقال : ما وراءك قال : هم رهبان بالليل فرسان بالنهار ، لو سرق ابن ملكهم قطعوا يده ، ولو زنى رجموه إقامة للحد. فقال صاحب جيش الروم : لئن كنت صادقا لبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها.

ومما أعانهم على تأييد سلطانهم تسامحهم مع أهل الذمة وحمايتهم لهم ؛ فكانوا كأنهم بين أهلهم وعشيرتهم ، لا يرهبون من وراءهم كما أنهم لم يرهبوا من أمامهم. روى البلاذري أن هرقل لما جمع للمسلمين الجموع وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ردّوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج وقالوا : قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم ، فقال أهل حمص : لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم ، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم

٩٤

ونهض اليهود فقالوا : والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص إلا أن نغلب ونجهد.

قال غستاف لبون : لما دخلت العرب الشام كانت رومانية منذ نحو سبعمائة سنة ، فأبانوا عن تسامح مع كل مدن الشام ولذلك رضي السكان بسلطتهم مختارين ، وانتهت بهم الحال أن اطرحوا النصرانية وقبلوا دين الفاتحين وتعلموا لسانهم. وقال دي توري : إن الخطر الذي اندفع عن الشام من جهة الفرس على يد الإمبراطور هرقل عاد فداهمها من جهة جزيرة العرب ، ولكنه خطر كانت فيه سلامتها من الانحلال والاضمحلال ، وذلك أن العرب هاجمتها وقد أصبح العرب أمة برسولهم فزعزعوا أركان المملكة الرومانية. وفي سنة ٦٣٦ فتحت دمشق وبعد سنتين فتحت القدس ولم تدخل سنة ٦٣٩ حتى فتح الشام كله ، وساد فيه السلام بدل الخصام ، فمن آمن عصم دمه وماله ، ومن لم يؤمن دفع الجزية واعتصم في الجبال فتركه الفاتحون وشأنه اه.

وداع صاحب الروم وآخر سهم في كنانتهم :

لما دخل اليأس على هرقل من الشام سار عنه الى القسطنطينية من الرّها فالتفت الى الشام عند مسيره وهو على نشز وقال : «السلام عليك يا سورية سلام لا اجتماع بعده ، ولا يعود إليك رومي بعدها إلا خائفا حتى يولد الولد المشؤوم وليته لم يولد فما أجل نفعه وأمرّ فتنته على الروم». ولم يفسر المؤرخون الذين نقلوا عبارة هرقل هذه معنى «الولد المشؤوم» وقيل : إنه قال باليونانية «سوزه سورية» أي كوني بسلام. وقد أخذ هرقل أهل الحصون التي بين الإسكندرونة وطرسوس معه لئلا يسير المسلمون في عمارة ما بين أنطاكية وأرض الروم ، وشعث الحصون فكان المسلمون لا يجدون بها أحدا.

وفي سنة ١٧ قصدت الروم أبا عبيدة بحمص فضم أبو عبيدة إليه مسالحه وعسكروا بفناء حمص ، وأقبل خالد من قنسرين حتى انضم إليهم فيمن انضم من أمراء المسالح ، وكتب أبو عبيدة الى عمر بخروج الروم عليه

٩٥

وشغلهم أجناد الشام عنه ، وقد كان عمر اتخذ في كل مصر على قدره خيولا من فضول أموال المسلمين عدة لكون إن كان. فكان بالكوفة أربعة آلاف فرس ، فلما وقع الخبر لعمر كتب بأن يسرح الجند منها الى الشام مددا لأبي عبيدة. ولما أحيط بالمسلمين جمع أبو عبيدة الناس فحمد الله وأثنى عليه وقال : أيها الناس إن هذا يوم له ما بعده أما من حيي منكم فإنه يصفو له ملكه وقراره ، وأما من مات منكم فإنها الشهادة. فأحسنوا بالله الظن ولا يكرّهن اليكم الموت أمر اقترفه أحدكم دون الشرك ، توبوا الى الله وتعرضوا للشهادة فإني أشهد ، وليس أوان الكذب ، أني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. وكأنما كان في الناس عقل تنشطت ، فخرج بهم وخالد على الميمنة وعباس على الميسرة وأبو عبيدة في القلب وعلى باب المدينة معاذ بن جبل فاحتلدوا بها ، فإنهم كذلك إذ قدم القعقاع متعجلا في مائة وانهزم أهل قنسرين بالروم ، فاجتمع القلب والميمنة على قلبهم ، وقد انكسر أحد جناحيه وأوعبوا المدد ، فما أفلت منهم مخبر ، وذهبت الميسرة على وجهها ، وكان آخر من أصيب منهم بمرج الديباج انتهوا إليه فكسروا سلاحهم وألقوا يلامقهم (١) تخفيفا فأصيبوا وتغنّموا. ولما ظفر المسلمون جمعهم أبو عبيدة فخطبهم وقال : لا تتكلوا ولا تزهدوا في الدرجات فلو علمت أنه يبقى منا أحد لم أحدثكم بهذا الحديث.

منزلة أبي عبيدة وبعد نظر عمر :

توفي أبو عبيدة في طاعون عمواس سنة ١٩ وكان من أعماله في الشام وعدله ما حببه الى الروم حتى إنهم لما فتحوا له باب الجابية بدمشق سنة أربع عشرة للهجرة ودخل خالد بن الوليد من الباب الشرقي عنوة ، قال خالد لأبي عبيدة : اسبهم فإني دخلت وشرحبيل بن حسنة عنوة ، فأبى أبو عبيدة. ولذلك كان الروم يميلون الى أبي عبيدة دون خالد

__________________

(١) يلامقهم : قفاطينهم.

٩٦

ابن الوليد. ولما طعن أبو عبيدة بالأردن دعا من حضره من المسلمين فقال : إني موصيكم بوصية إن قبلتموها لن تزالوا بخير : أقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وصوموا شهر رمضان ، وتصدقوا وحجوا واعتمروا ، وتواصوا ، وانصحوا لأمرائكم ، ولا تغشوهم ، ولا تلهكم الدنيا ، فإن امرأ لو عمر ألف حول ما كان له بد من أن يصير الى مصرعي هذا الذي ترون ، إن الله تعالى كتب الموت على بني آدم فهم ميتون ، وأكيسهم أطوعهم لربه ، وأعملهم ليوم معاده والسلام عليكم ورحمة الله. يا معاذ ابن جبل صلّ بالناس ومات رضي‌الله‌عنه. وكان عهد بولاية دمشق لسعيد العدوي وسويد الفهري وكلهم من الصحابة الكرام. وكان عياض ابن غنم مع ابن عمه أبي عبيدة بن الجراح في الشام ، فلما توفي أبو عبيدة استخلفه بالشام فأقره عمر بن الخطاب وقال : لا أغير أميرا أمّره أبو عبيدة.

ولما ولى أبو عبيدة معاذا قام هذا في الناس فقال : أيها الناس توبوا الى الله من ذنوبكم توبة نصوحا ، فإن عبدا لا يلقى الله تعالى إلا تائبا من ذنبه إلا كان حقا على الله أن يغفر له ، من كان عليه دين فليقضه ، فإن العبد مرتهن بدينه ، ومن أصبح منكم مهاجرا أخاه فليلقه فليصالحه ، ولا ينبغي لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ، والخطب العظيم أنكم أيها المسلمون قد فجعتم برجل ما أزعم أني رأيت عبدا أبر صدرا ، وأبعد من الغائلة ، ولا أشد حبا للعامة ، ولا أنصح للعامة منه ، فترحموا عليه رحمه‌الله تعالى ، واحضروا الصلاة عليه.

وأقام معاذ على إمرته ولم تطل مدته حتى مات في طاعون عمواس في هذه السنة واستخلف معاذ عمرو بن العاص. ولما قدم عمر الى الشام بالجابية أمر عمرو بن العاص بالمسير الى مصر ، وبقي الشام ليزيد بن أبي سفيان ، ولم يطل أمد ولايته طويلا حتى هلك في طاعون عمواس أيضا. وعمواس من الرملة على أربعة أميال مما يلي بيت المقدس. والطاعون الذي عرفت به مات به خمسة وعشرون ألفا وطمع العدو في الشام بسببه.

وأبو عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة كان عظيما بإخلاصه للإسلام ،

٩٧

عظيما بنفسه وعدله وشجاعته ، والشام مدين لفضله بفتحه وتمهيد أموره. ذكر أهل الأخبار عن عائشة أنها قالت : سمعت أبا بكر يقول : لما كان يوم أحد ورمي رسول الله في وجهه حتى دخلت في وجنتيه حلقتان من المغفر فأقبلت أسعى إلى رسول الله وإنسان قد أقبل من قبل المشرق يطير طيرانا فقلت : اللهم اجعله طاعة حتى توافينا الى رسول الله ، فإذا أبو عبيدة ابن الجراح قد بدرني فقال : أسألك بالله يا أبا بكر ألا تركتني فأنزعه من وجنة رسول الله قال أبو بكر : فتركته فأخذ أبو عبيدة بثنيته إحدى حلقتي المغفر فنزعها وسقط على ظهره وسقطت ثنية أبي عبيدة ، ثم أخذ الحلقة الأخرى بثنيته الأخرى فسقطت ، فكان أبو عبيدة في الناس أثرم.

هذا مثال من قوة نفس أبي عبيدة وحبه لرسول الله. شهد أبو عبيدة واسمه عامر بن عبد الله بدرا وأحدا وثبت يوم أحد مع الرسول حين انهزم الناس وولوا ، وشهد الخندق والمشاهد كلها مع رسول الله وكان من علية أصحابه. طلب أهل نجران من الرسول أن يبعث معهم رجلا أمينا. قال : لأبعثن إليكم رجلا أمينا حقّ أمين حقّ أمين حقّ أمين قالها ثلاثا : فبعث أبا عبيدة. قال أبو عبيدة وهو أمير على الشام : يا أيها الناس إني امرؤ من قريش وما منكم من أحد أحمر ولا أسود يفضلني بتقوى إلا وددت أني في مسلاخه (١). قال عمر بن الخطاب لجلسائه : تمنوا فتمنوا فقال عمر بن الخطاب : لكني أتمنى بيتا ممتلئا رجالا مثل أبي عبيدة بن الجراح قال سفيان فقال له رجل : وما ألوت الإسلام فقال : ذاك الذي أردت. وقال عمر بن الخطاب : لو أدركت أبا عبيدة بن الجراح لاستخلفته وما شاورت ، فإن سئلت عنه قلت : استخلفت أمين الله وأمين رسوله ، وفي رواية لو سألني عنه ربي لقلت سمعت نبيك يقول : هو أمين هذه الأمة ، وقال عمر : لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية حولا ، فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع دوني ، أما عمالهم فلا يرفعونها وأما هم فلا يصلون اليّ ، فأسير الى الشام فأقيم شهرين وبالجزيرة شهرين وبمصر

__________________

(١) المسلاخ : الجلد ، ومن المجاز فلان حمار في مسلاخ انسان.

٩٨

شهرين وبالبحرين شهرين وبالكوفة شهرين وبالبصرة شهرين. وكان عماله على مثاله من العدل والزهد وحب الحق. قالوا : إنه ولى سعيد بن عامر ابن حذيم حمص وكان لا يقبض رزقه وعطاءه ، ولما قدم عمر حمص أمر أن يكتبوا له فقراءهم فرفع الكتاب اليه فإذا فيه سعيد بن عامر ، فبكى عمر ثم عدّ ألف دينار فصرّها وبعث بها إليه فبكى سعيد وانتحب ثم اعترض جيشا من جيوش المسلمين فأعطاهم إياها ، ولامته زوجته على عمله وقالت : لو كنت حبست منها شيئا نستعين به فلم يلتفت الى قولها.

بمثل هؤلاء النوابغ المخلصين فتحت الأمصار وتمهدت ، ودخل الناس في الإسلام أفواجا. وبمثل هذه الأمانة والعدل والإحسان استمال العرب القلوب فأصبح أعداؤهم أولياءهم ، بعد أن شاهدوا عيانا ما انطوت عليه تلك النفوس الكبيرة. قالوا : إن الأقطار الحارة ضنينة بالنوابغ العاملين فأكذب العرب في هذا المثال من فتوحهم ذاك النظر بمن أخرجوا من رجالاتهم الذين أدهشوا ، على قلتهم وفقرهم ، العالم المعروف إذ ذاك بشجاعتهم وصبرهم ، وقناعتهم وإخلاصهم ، وتوجيه قوى الصغير والكبير منهم الى مقصد واحد ، أي إنهم كانوا موحّدين في عقائدهم ، موحّدين في مقاصدهم ، وهذا غريب من نصف أميين ليس لهم في المدنية قدم راسخة.

٩٩

الدولة الأموية

«من سنة ١٨ الى ١٣٢»

إمارة معاوية بن أبي سفيان :

لما هلك يزيد بن أبي سفيان والي دمشق سنة ١٨ ولى عمر بن الخطاب أخاه معاوية بن أبي سفيان فلم يزل واليا لعمر حتى قتل عمر. ثم ولاه عثمان بن عفان وأقرّ عمال عمر على الشام ، فلما مات عبد الرحمن بن علقمة الكناني وكان على فلسطين ضم عمله الى معاوية. وكان عمير بن سعيد الأنصاري في سنة ٢١ على دمشق والبثنية وحوران وحمص وقنسرين والجزيرة ، ومعاوية على البلقاء والأردن وفلسطين والسواحل وأنطاكية ومعرة مصرين وقليقية ، ثم جعل عمير في سنة ٢٣ على حمص ومعاوية على دمشق ، ثم تولى عمير بن سعيد حمص وقنسرين ، وعلقمة بن مجزّز فلسطين ، وعمير بن سعيد هو الذي قال على منبر حمص : ألا إن الإسلام حائط منيع وباب وثيق ، فحائط الإسلام العدل وبابه الحق ، فإذا نقض الحائط وحطم الباب استفتح الإسلام ، فلا يزال الإسلام منيعا ما اشتد السلطان وليس شدة السلطان قتلا بالسيف ولا ضربا بالسوط ، ولكن قضاء بالحق وأخذا بالعدل.

اجتمع الشام على معاوية لسنتين من إمارة عثمان ، أي في السنة الخامسة والعشرين للهجرة أضاف عثمان الى معاوية حمص وحماة وقنسرين والعواصم وفلسطين مع دمشق ورزقه ألف دينار كل شهر.

وبعث معاوية عمرو بن العاص الى مصر ومعه أهل دمشق عليهم يزيد

١٠٠