خطط الشام - ج ١

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ١

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٨٨

وأخلافة أن يقدموا جندا من أبنائهم الحين بعد الآخر لمعاونة الرومان وظلت مملكتهم حرة قوية. وأصبحت مملكة النبط ولاية مستقلة برأسها نحو سنة ٣٥٨ تحت اسم مملكة فلسطين أو فلسطين المسالمة. وحمل الإمبراطور تراجان على النبطيين فبدد شملهم وقضى على مدنيتهم سنة ١٠٦ م فاندمجوا في غيرهم وعدد ملوكهم أربعة عشر ملكا منهم من اسمه الحارث ومنهم عبادة ومنهم مالك وبينهم بعض الملكات من النساء.

دولة تدمر :

ولما تراجع أمر مملكة النبط في نحو منتصف القرن الثالث للمسيح ، لارتقاء مملكة تدمر ومملكة فارس اللتين نازعتاها التجارة ، أخذت تدمر ترتقي بتجارتها وأصبحت زمنا هي ومملكة النبط مركزي التجارة في الشام ونقطة اتصال الشرق بالغرب. وانضمت مملكة تدمر الى ممالك الرومان نحو السنة السادسة والثلاثين قبل الميلاد. وكان القائد مرقس أنطونيوس عائدا من حرب الملوك الأرشكيين ، فحاول الاستيلاء على تدمر فقاومه أهلها على الفرات وتغلبوا عليه. وبعد ذلك توطدت العلائق الحسنة بين تدمر ومملكة الرومان ونالت حقوق مستعمرة رومانية بفضل بعض امبراطرة الرومان.

ويرى رنزفال أن العهد الذي فيه ارتقت حاضرة رينب أي تدمر الى أوج التمدن هو نفس الزمن الذي به تواتر على عرش رومية بعض الملوك الشرقيين كسبتيميوس ساويرس وإسكندر ساويرس وفيلبوس العربي ، فلا عجب إن جرأ أذينة الأول على خلع السلطة الرومانية وإقامة دولة مستقلة تضم البادية وديار العرب الشمالية. وكان هذا الرجل ابن خيران ابن وهبلات بن نصور من بني السميدع انتهز الفرصة وادعى الملك سنة ٢٥٠ م فقتله القيصر الروماني. وحارب أذينة وأخلافه الفرس غير مرة كانوا فيها يستظهرون عليهم ويحرزون رضا الامبراطورية الرومانية.

ولقد خرج على أذينة قائد روماني اسمه كياتوس فحاصره أذينة في حمص ، فلما ضاقت به الحال خانه قائده كاليستوس وقتله ، ففتحت أبواب حمص ثم قتل كاليستوس ، فأقر إمبراطور الرومان لأذينة بحق الرئاسة ودعاه

٦١

امبراطورا على جميع أنحاء المشرق أي على الشام والجزيرة وآسيا الصغرى خلا بعض نواح في الشام ، ودعي ملك الروم. وأول ما سعى له القضاء على الاضطهاد الذي أصاب النصارى في بعض مدن الشام كأنطاكية وحمص ودمشق وقيسارية ، فأطلق الحرية الدينية لكل الطوائف ، وأوعز الى الوثنيين ألا يتعرضوا للنصارى في قضاء فروض عبادتهم ، ورخص لهم في إقامة البيع والكنائس ، وأدب العصاة من بقايا جيوش كاليستوس وكانوا انتشروا في الأرجاء وعكروا صفوها باعتداءاتهم. وقاتل ملك الفرس مرة ثالثة وظفر به ثم قتل بيد ابن اخيه معنّى مع ابنه هيروديس وبويع لمعنى. إلا أن أهالي حمص ثاروا به بعد أيام وقتلوه.

زينب أو زنوبيا أو الزباء :

وكانت زينب او الزباء او زنوبيا زوجة أذينة الثاني ، فولدت له ثلاثة أولاد أكبرهم وهبلات ثم خيران ثم تيم الله ، فلما قتل أذينة أخذت زوجته بأزمة الملك بالنيابة عن وهبلات بكرها ، وكان لها مجلس شيوخ ترجع الى رأيه ولها من الحلم وحسن الإدارة والسياسة والكرم ما عدت به من أعظم الملوك والملكات. وكانت نفسها تحدثها على ما يقال بالاستيلاء على المملكة الرومانية. وعقدت مع سابور ملك الفرس معاهدة وكان يخشى بأسها. وغصت عاصمتها بأجناس الشعوب والعناصر وكان سوادهم الأعظم من العرب والنبط.

وكان بنو السميدع يسكنون بادية الشام في أوائل النصرانية ولهم دولة في تدمر ونواحيها ، كما كانت دولة النبطيين في شرقي جنوب الشام. فظهر بنو غسان بعد خراب سد مأرب وسيل العرم ، واستولوا على أرجاء فلسطين ودمشق ، وكانت سبقتهم قبيلة بني سليح من قضاعة وسكنت البلقاء فانتشروا في القطر أواخر القرن الثاني للمسيح. وفي خلال تلك المدة قدمت فرقة من بني لخم الى جنوبي فلسطين وامتدوا في غربي بحيرة لوط ، وبرز قوم من مضر يعرفون ببني كلب امتدوا من أنحاء الحجاز الى جنوبي الشام

٦٢

ونزلوا في جوار دومة الجندل (الجوف) فأذعنت بقايا هذه القبائل لزينب فاستأجرتهم وأدخلتهم في جملة جيشها. وخاف غاليانس قيصر عادية زينب وقد أصبحت محبوبة من الشعوب فوجه جيشا لقتالها فغلبه جيشها وانهزم فلّ الجيش الروماني. ثم حدثتها نفسها أن تستولي على مملكة بيثينية فقهرتها وبلغت خلقيدونة فدعا سكانها القيصر اوريليانس الى نصرتهم ففاجأ التدمريين في بيثينية نحو ٢٧١ ـ ٢٧٢ فطردهم عنها ، ثم واصل فتوحاته فتغلب على غلاطية وقبادوقية حتى بلغ مدينة أنقرة ففتحت له أبوابها.

وكانت زينب في سنة ٢٧١ أمدت عاملها فيرموس على مصر بالقائد زبدا لصد هجمات الرومان الذين قدموا مصر بقيادة بروبس ، فنشب بين الفريقين قتال انهزم فيه التدمريون تاركين مصر الى الأبد ، وعاد زبدا مع بقايا عسكره. وكانت زينب أعدت جيوشها لمقاتلة الرومان وقسمتها ثلاثة أقسام بقيادة زبدا وزباي. وجهت القسم الاول الى طريق حلب ، والثاني الى طريق حمص ، والثالث الى القريتين وهي تتقدمهم بنفسها. وجاءها جيش الرومان من الشمال ففتحوا مدينة طيانة ومدائن جبال طوروس حتى قربوا من أنطاكية ، فأمرت زينب قوادها أن يناوشوا الرومان القتال فشتت عساكرها عسكر الرومان في الوقعة الأولى ، ثم ارتد عسكر الرومان على التدمريين فكسروهم ، فملك اوريليانوس أنطاكية وذهبت زينب الى حمص فتأثرها الجيش الروماني ففتح في طريقه عدة مدن على ضفة العاصي مثل أفاميا وشيزر (لاريسا) والرستن وبلغ ربض حمص.

واستعدت زينب لقتال القائد الروماني في سبعين ألفا ، وكان عدد جيشه أقلّ من جيشها إلا أنه أكثر مرانا على الحرب وأسرع في الكر والفر. فانكسر جيش زينب كسرة عظيمة واستولى على حمص. فلم يسع زينب إلا أن تسرع الى تدمر للدفاع عنها ، وخف اوريليانس الى حصار تدمر. وتخلى عن نصرتها حلفاؤها من الفرس والأرمن والعرب ثم وقعت زينب في قبضة القيصر الروماني ، وفتح التدمريون أبواب مدينتهم للرومان في في أول سنة ٢٧٣ ، فوضع اوريليانس حامية قليلة وأخذ معه زينب وأسرى التدمريين الى آسيا الصغرى ، فبلغه في طريقه الى رومية أن التدمريين ثاروا

٦٣

بالحامية التي خلفها عندهم فكرّ راجعا عليهم وأعمل السيف فيهم أياما وقوض الأبنية والهياكل ودك الأسوار والقلاع ، فخربت تدمر خرابا لم تنتعش منه.

آخر عهد الرومانيين وسياستهم :

كثرت الفتن على عهد دولة السلاقسة خلفاء الإسكندر واستقلت فلسطين في عهد المكابيين (١٤٣ ق. م) لاشتغال السلاقسة بحروبهم. وامتد سلطانها من البحر المتوسط الى الفرات. واحتفظت بحريتها حتى تدخّل بالأمر القائد بومبيوس الروماني وبسط سلطان دولته سنة ٦٣ ق. م ولما أراد الرومان إضافة فلسطين الى ولاية الشام الرومانية ثار اليهود فأدى ذلك الى حصار بيت المقدس وخراب معبد سليمان على يد تيتوس سنة ٦٦ ب. م وثار اليهود في فلسطين بقيادة باركوخبا (١٣٢ ـ ١٣٥ م) فحاربهم ادريانوس الروماني وأخضعهم بعد حرب هائلة قتل فيها قائدهم ، وأصبحت سورية ولاية رومانية سنة ٦٤ ولما وقعت الفتن بين اليهود والرومانيين في فلسطين سنة ٦٦ لم يبق من مملكة اغريبا وهي الجولان أحد من أهلها. لان اغريبا مضى لزيارة غلوس والي سورية في قيسارية وأناب عنه رجلا اسمه فاروس ، فأتى اليه وجهاء بعض المدن من اليهود يسألونه أن يرسل اليهم جنودا يسهرون على راحتهم ، فبدلا من أن يحسن ملتقاهم بعث قوما قتلوهم ليلا عن آخرهم. ثم لم يدع جورا ولا اعتسافا إلا وأقدم عليه. ولما بلغت اغريبا أخبار ظلمه عزله ولم يقتله لاتصال نسبه بأحد ملوك العرب.

وزحف غلوس الى زابلون ففر أهلها الى الجبال فانتهبها وأحرق بيوتها التي لم تكن أبنية صور وصيدا وبيروت أحسن منها ، ونهب وأحرق القرى المجاورة لها وعاد الى عكا ، فنشط اليهود لعودته وطاردوا السوريين فقتلوا منهم ألفي رجل أكثرهم من بيروت ، ثم سار غلوس الى قيسارية وأرسل كتائب من جيشه الى يافا فباغتوا أهلها وقتلوهم عن آخرهم ونهبوا المدينة وأحرقوها وكان عدد القتلى ثمانية آلاف وأربعمائة.

وأرسل غلوس أيضا حملة الى السامرة قتلت كثيرين من أهلها ثم

٦٤

أرسل فريقا آخر الى الجليل ففتحت مدينة صفورية (صافوريس) أبوابها لجنود الرومانيين واقتدى بها غيرها من المدن ، واعتزل المشاغبون في جبل عرقون المقابل لصفورية ، فسار إليهم الجند فظهروا عليهم وقتلوا منهم أكثر من مائتي رجل ، وأحدقوا بالجبل من كل جهة فقتلوا منهم نحو ألف إنسان ثم أحرق أفيق (فقوعة) والفولة والقرى المجاورة لها.

وتسلسلت هذه الوقائع الرومانية في هذا القطر ، فسار فسبسيان الروماني الى الكرك (تاريكا) فقتل منهم وانهزم كثيرون في سفنهم وأبعدوا في بحيرة لوط فكان عدد القتلى من اليهود في البحر والمدينة ستة آلاف وخمسمائة رجل. وبعد أن قهر الرومانيون كرك وجفت ـ وجفت غربي قانا الجليل على مقربة من جبل كوكب كاران ـ استسلمت باقي المدن وهلك من أهل كامالا شرقي البحيرة خمسة آلاف ، ثم خضعت بعض مدن فلسطين وقتل في القدس ثمانية آلاف وخمسمائة سنة ٦٨ وجعلت القدس مستعمرة رومانية (١٣٦) باسم ايليا كابيتولينا ، ثم انقضت قرون في سلام على الجملة ، ولم يدخل الشام في حرب خارجية.

كانت معاملة الرومان للشاميين بادىء بدء عادلة حسنة مع ما كانت عليه مملكتهم في داخليتها من المشاغب والمتاعب. ولما شاخت دولتهم انقلبت الى أتعس مما كانت عليه من الرق والعبودية. ولم تضف رومية بلاد الشام إليها مباشرة ، ولم يصبح سكانها وطنيين رومانيين ، ولا أرضهم أرضا رومانية ، وظلوا غرباء ورعايا وكثيرا ما كانوا يبيعون أبناءهم ليوفوا ما عليهم من الأموال. وقد كثرت المظالم والسخرات والرقيق وبهذه الأيدي عمر الرومان ما عمروا من المعاهد والمصانع في الشام.

وفي سنة ٥٤٠ جاء ملك الفرس خسرو الأول واسمه عند العرب أنو شروان في جيوشه الضخمة ودخل الشام وظلّ فيه ثلاث سنين ، وطرد بليزير الروماني الفرس سنة ٥٤٢ وعادوا إليها بعد وفاة يوستنيانوس بزعامة خسرو الثاني ، والتحم القتال مع ملوك الساسانيين وطردهم الامبراطور هرقل

٦٥

الى ما وراء عبر الفرات. وفي هذه الحقبة خربت أنطاكية بفتح الفرس لها وقتلهم أهلها. وكانت مدة ثمانية قرون من قبل مهد المدنية الشرقية.

حكم الرومان الشام سبعمائة سنة كانت فيه ميدانا للنزاع والشقاق والاستبداد والأنانية وقتل الأنفس. وحكم اليونان الشام ٢٦٩ سنة سادت في عهدهم الحروب الطاحنة والمظالم وظهرت المطامع اليونانية بأعظم مظاهرها وكان حكمهم من أشد الويلات وأشأم النكبات على الشاميين في التاريخ العام : نرى العوامل الرومانية والبيزنطية قد أثرت في عرب الشام أخلاف العمالقة القدماء ، وكانوا يتقوون كل مدة بمن يهاجر إليهم من اليمن والحجاز ، فكانت المملكة الرومانية محتاجة لمعاونتهم سواء كان ذلك لحرب أبناء جنسهم النازلين على ضفاف الفرات ، أو لإملاء فراغ الشام وكان يتهدده البارثيون ثم الفرس. ومعلوم كيف قاومت أرملة أذينة واسمها زينب أو زنوبيا القوى الرومانية في الشرق. ولما انحلت مملكة تدمر عهدت الامبراطورية الرومانية الى أسر أخرى بالحكم في تلك الأرجاء وثبتت الإمارة في الغساسنة. ودامت فيهم ثلاثة قرون. ودان رؤساء الغسانيين بالنصرانية فاشتركوا في حرب فارس من القرن الرابع الى القرن السادس ، وكان أحدهم الحارث الخامس من قوام مقام القائد بليزير في حملة آسيا.

بنو غسان والعرب في الشام :

اختلفت روايات مؤرخي العرب في بني غسان وكانوا أقيالا وعمالا لملوك البيزنطيين في هذه الديار. وقد عهد إليهم الدفاع عن تخوم الشام من اعتداء الفرس ورد غارات اللخميين أصحاب الحيرة. وكانت سلطة الغسانيين كما قال شلفير تتناول الولاية العربية (أو معظم اقليم حوران والبلقاء وفينيقية ولبنان وفلسطين.) وقال حمزة الأصفهاني وأبو الفداء : إن عدد ملوك الغسانيين في الشام أحد وثلاثون ملكا على حين لم يبلغ عددهم في أكثر من عشرة في رواية ابن قتيبة والمسعودي. ويقول الأصفهاني إن الحارث بن جبلة هو من أشهر ملوكهم لم يطل حكمه أكثر من عشر سنين ، ويقول مؤرخو الروم : إنه حكم نحو أربعين سنة وهو المحقق. وكان

٦٦

للغسانيين تمدن فاقوا به اللخميين لاختلاطهم بالروم البيزنطيين. ولم تكن لهم عاصمة معينة بل كانوا ينزلون الجولان والسويداء والجابية وجلّق. وكان الغسانيون يؤدون الجزية عند ما هاجروا من اليمن الى الشام الى رؤساء الأسباط من الرومان ، ثم امتنعوا من أدائها عند ما نالوا من الضجاعم واستولوا على الأمر دونهم ، فاضطر الروم أن يقروا الغسانيين على أمرهم لحاجتهم اليهم في رد عادية اللخميين سكان الحيرة. وربما كان ذلك في أواخر القرن الخامس للميلاد.

وفي سنة ٥٢٩ عهد الامبراطور يوستنيانوس الى الحارث بن جبلة ـ وكان الحرث يدين بالنصرانية على مذهب القائلين بطبيعة واحدة في المسيح متحمسا لهذا المعتقد ذابا عنه ـ بزعامة جميع القبائل العربية في الشام ونال لقب رئيس الأسباط وبطريق. وكان هذا اللقب في مملكة البيزنطيين إذ ذاك أرقى لقب بعد الإمبراطور. و. في تلك السنة اشترك مع البيزنطيين في قمع ثورة السامريين وانقضى معظم عهده في حروب المنذر الثالث ملك الحيرة ، وفي سنة ٥٢٨ تغلب على المنذر ، وبعد نحو عشر سنين أصبحت المنافسة بينه وبين المناذرة على أتمها بسبب أراضي التخوم الواقعة بين دمشق وتدمر الى الرصافة وكان كل واحد منهما يدعيها. قال هوار : إن الحارث الغساني كسر المنذر ملك الحيرة سنة ٥٢٨ وإنه لما كان والي فلسطين اشترك في إعادة السامريين الى الطاعة فوهبه يوستنيانوس لقب الملك ليقضي على العرب الذين كانوا إقطاعا لملوك الساسانيين من الفرس ، وكان كثيرا ما يجتاز دجلة ويخرب المعمور ويحمي قبائل العرب النازلة في برية تدمر من اعتداء المناذرة. وكانوا يحاولون أن يأخذوا منهم الجزية وحاربهم على الطريق الحربي الذي كان ممتدا من دمشق الى تدمر.

حارب الحارث مع الرومان في العراق ، ثم حارب المنذر الحارث وأسر ابنه وقدمه ضحية للعزّى. وفي سنة ٥٥٤ ظفر الحارث بالمنذر في جهات قنسرين فهلك المنذر في المعركة. وخلف الحارث ابنه المنذر وتغلب على العرب الفرس الذين هاجموا منازل الغسانيين وظفر بملكهم قابوس في عين أباغ على الأغلب. وحاول ملك الروم قتل المنذر فرفع لواء العصيان ثلاث

٦٧

سنين ، ولما عصى العرب والفرس على بيزنطية اضطرت هذه أن تعقد الصلح مع المنذر ، ثم حمل هذا الى القسطنطينية أسيرا وانقطعت الأموال التي كانت تعطيها له مملكة الروم فثار أولاده الأربعة بقيادة النعمان بكر أولاد الحارث وهاجموا أراضي الروم وخربوا فيها ، فأخذ النعمان أسيرا أيضا. ولكن الفوضى انتشرت في بادية الشام وأخذت كل قبيلة تختار لها زعيما خاصا وهواهم مع الفرس. ولما سقطت دمشق والقدس في يد ملك الفرس كسرى ابرويز (٦١٣ ـ ٦١٤) انهارت مملكة الغسانيين. وقيل : إن جبلة بن الأيهم كان آخر ملوكهم. هذا ما يعرف عن الغسانيين في الجملة نقلا عمن حقق أمرهم من مؤلفي الغرب.

ولما حاصر كسرى مدينة القسطنطينة خلت أرض الشام من جند الروم. وكان في مدينة صور أربعة آلاف يهودي فكتبوا الى إخوانهم ببيت المقدس وقبرس ودمشق وجبل الجليل وطبرية أن يجتمعوا كلهم في عيد فصح النصارى ليقتلوهم بصور ، ويصعدوا الى بيت المقدس فيقتلوا كل نصراني بها ويغلبوا على المدينة ، فبلغ الخبر بطريق صور فأخذ اليهود وقيدهم وسجنهم وأغلق أبواب صور وصير عليها المنجنيقات والعرادات ، فلما كانت ليلة الفصح اجتمع اليهود من كل بلد الى صور وكانوا زهاء عشرين ألف رجل ، فحاربوهم حربا شديدة من فوق الحصون ، فهدم اليهود كل كنيسة كانت خارج صور فكانوا كلما هدموا كنيسة أخرج أهل صور من اليهود المقيدين عندهم مائة رجل وأوقفوهم على الحصن وضربوا أعناقهم ورموا برؤوسهم الى خارج ، فضربوا أعناق ألفي رجل ثم انهزم اليهود.

كنا نحب التوسع في سرد وقائع تلك الدول لو لا الخوف من نقل ما لا يقره المحققون. والتعرض للمجهولات يؤدي الى السقوط في غلطات ومتناقضات. ولعل بحث علماء العاديات يوصلهم الى اكتشاف ما كان مجهولا من تاريخ هذه الديار التي طالما شرقت بدماء الغالبين والمغلوبين وسارت على أديمها دول كان الناس في ظلها ظالمين ومظلومين ، وقتل أهلها بالألوف والمئين في سبيل شهوات الفاتحين.

٦٨

الشام في الإسلام

«من سنة ٥ الى سنة ١٨ للهجرة»

حالة الشام قبيل الفتح :

دعا الداعي الى الإسلام في جزيرة العرب وكثر من دانوا به ، فكان الشام من أول الأقطار المجاورة للحجاز التي فكر الرسول العربي (عليه الصلاة والسلام) في فتحها لنشر كلمة التوحيد ، وكانت تحت حكم الرومان منذ سبعة قرون ، وملكها صاحب مملكة بيزنطية أو مملكة الروم الشرقية ويعرف عند العرب باسم هرقل. وكان سكان هذه الديار من سريان وعرب وروم وفرس أصحاب علاقات مع الحجاز بالتجارة ، كما كانت علائق عرب الحجاز في الجاهلية (١) كثيرة جدا بأهل هذا القطر ، وأهم ما كان يرجى منه تيسير الفتح أن كانت قبائل عربية كثيرة تنزل الشام وتشارك دولة الروم في الأحكام ، وأشهرها غسان في الجنوب وتنوخ في الشمال وتغلب في الشرق. وكانت هذه القبائل العربية دانت بالنصرانية وتركت عبادة الأصنام والأوثان. فقويت الروابط بينها وبين البيزنطيين فكانوا يؤدون لزعمائهم الرواتب ليقفوا في وجه البادية في الجنوب حتى لا يهاجموا الشام ، وفي وجه الفرس في الشرق حتى لا يهددوا آسيا الصغرى.

__________________

(١) الجاهلية هي الحال التي كان عليها العرب زمن الفترة قبل الإسلام ، والإسلام من حين انتشر وشاع في الناس وذلك قبل هجرة الرسول الى المدينة بنحو ست سنين.

٦٩

وكان الفرس قبل الهجرة النبوية بثماني سنين فتحوا الشام (سنة ٦١٣ ـ ٦١٤ م) فدافع هرقل عنها سنة ٦٢٦ وانتصر على كسرى ولكنه فقد بانونيا ودلماسيا من أجزاء مملكته ، سقطتا في أيدي الخرواتيين والصربيين وخوى نجم المملكة وساء طالعها وظهرت عليها أعراض الانحطاط ، فارتأى هرقل أن يلقي بقياده الى البطريرك سرجيوس القائل بطبيعة واحدة ومشيئة واحدة في المسيح (عليه الصلاة والسلام). وكانت النصرانية تشعبت الى مذاهب مختلفة كنحلة النساطرة واليعاقبة ، ويكره جميع أرباب هذه المذاهب حكومة الروم وكانت تضطهدهم باسم المذهب الأرثوذكسي وعداوتهم لها تزيد على الأيام تأصلا.

كانت مصر والشام من جملة الأقطار التي تحاول الانفصال عن بيزنطية وشغل الامبراطور وشعبه بالمسائل الدينية والخلافات المذهبية ، فأخذ ينظر الى غارات العرب نظر العاجز الضعيف ، وزاده ضعفا شيخوخته واستسلامه لرجال الدين ، مع أنه كان على ضعف إرادته شجاعا عاملا بعيد النظر. وما حال ملك ينخر جسمه سوس الفساد في الداخل ، وهل لمن ضعف جسمه واختلت قواه أن يرسل نظره الى القاصية فيتقيها وهو على اتقاء ما لديه من المنهكات أعجز؟ فلا عجب أن أصبحت أحوال الشام من أشد ما يكون ملاءمة لفتوح العرب في تلك الحقبة من الزمن ، وأسباب الظفر موفورة لهم من كل وجه.

هذا وخزائن هرقل فارغة ، ومرتبات الأمير الغساني التي كانت الدولة تجريها عليه منقطعة. والنفوس في الشام مستاءة من المظالم والمغارم ، سئمت الحروب والغارات وهي عرضة لمطامع الفرس أو سوء إدارة الروم ، والناس يتحدثون بقرب انفراج الأزمة على أيدي الفاتحين من العرب ، وكان يبلغهم من أخبار عدلهم ما تثلج له الصدور ، وتود لو ترى قبل ساعة طلعة الدولة الجديدة التي أتت من الأعمال ما صعب على الفاتحين أن يأتوا مثله في باب العدل والرحمة والتسامح.

٧٠

صلح دومة الجندل وغزوة ذات السلاسل

ومؤتة والجرباء وأذرح ومقنا وجيش أسامة :

لما انتشر الإسلام في جزيرة العرب حجازها ويمنها ونجدها أخذ الرسول يغزو الروم في الشام غزوات قليلة ويرسل سرايا ضئيلة تزيد بحسب الحاجة حتى يتعرف المسلمون طرق الشام وأمصاره ويسبروا غور الروم واستعدادهم. وكانت أول غزواته على رأس تسعة وأربعين شهرا من مهاجره. بلغه أن بدومة الجندل جمعا كثيرا وأنهم يظلمون من مرّ بهم من الضافطة(١) وأنهم يريدون أن يدنوا من المدينة وهي طرف من أفواه الشام ، بينها وبين دمشق خمس ليال ، وبينها وبين المدينة خمس عشرة أو ست عشرة ليلة. فندب رسول الله الناس واستخلف على المدينة وخرج في ألف من المسلمين فكان يسير الليل ويكمن النهار ، ومعه دليل له من بني عذرة فأخذ نعمهم وشاءهم ورجع لم يلق كيدا.

وفي سنة ست ندب الرسول عبد الرحمن بن عوف الى دومة الجندل وقال له : إن استجابوا لك فتزوج ابنة ملكهم ، فدعاهم الى الإسلام فأسلم الأصبغ بن عمرو الكلبي ، وكان نصرانيا وكان رأسهم ، وأسلم معه ناس كثير من قومه ، وأقام من أقام على إعطاء الجزية ، وتزوج عبد الرحمن بتماضر بنت الأصبغ. وكان صاحب دومة أكيدر بن عبد الملك في طاعة هرقل ملك الروم يعترض سفر المدينة وتجارهم ، فصالحه الرسول على الجزية على كل حالم في أرضه دينارا وكتب له ولأهل دومة كتابا وهو :

«بسم الله الرحمن الرحيم» : من محمد رسول الله لأكيدر دومة حين أجاب الى الإسلام وخلع الأنداد والأصنام مع خالد بن الوليد سيف الله في دومة الجندل وأكنافها أن لنا الضاحية (٢) من الضّحل والبور والمعامي وأغفال الأرض والحلقة والسلاح والحافر والحصن ، ولكم الضامنة من النخل

__________________

(١) الضافطة : الذين يجلبون الميرة والطعام.

(٢) الضاحي : البارز. والضحل : الماء القليل. والبور : الأرض التي لم تستخرج. والمعامي : الأرض المجهولة. والأغفال : التي لا آثار فيها. والحلقة : الدروع. والحافر : الخيل والبراذين والبغسال ـ

٧١

والمعين من المعمور ، لا تعدل سارحتكم ، ولا تعدّ فاردتكم ، ولا يحظر النبات ، تقيمون الصلاة لوقتها ، وتؤتون الزكاة لحقها ، عليكم بذلك عهد الله والميثاق ، ولكم به الصدق والوفاء ، شهد الله ومن حضر من المسلمين».

وأرسل الرسول كتبا الى هرقل والحارث بن أبي شمر يدعوهما إلى الإسلام وهذا نص الكتاب الذي بعث به مع دحية الكلبي على يد عظيم بصرى ليدفعه الى هرقل وهو بالشام على ما جاء في الصحاح : «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله الى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، وإن توليت فإن عليك إثم الإريسيين (١). ويا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد الا الله ولا نشرك به شيئا ، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون» اه. وكتب الرسول الى الحارث بن أبي شمر الغساني أمير دمشق وبعث إليه بشجاع بن وهب. وكان فروة بن عمرو الجذامي عاملا لقيصر على عمّان من أرض البلقاء قد أسلم وأنفله الى الرسول رجلا يقال له مسعود بن سعد من قومه ، وأهدى الرسول بغلة يقال لها فضة وحماره يعفور وفرسا يقال له الظرب وأثوابا من كتان وقباء من سندس مخرّصا (٢) بالذهب ، فقبل رسول الله كتابه وهديته وكتب إليه جواب كتابه

__________________

ـ والحمير. والحصن : دومة الجندل. والضامنة : النخل الذي معهم في الحصن. والمعين : الماء الدائم. وقوله : لا تعدل سارحتكم اي لا يصدقها المصدق (اي الذي يعدها ويأخذ صدقتها والمصدق عامل الزكاة الذي يستوفيها من أربابها صدقهم يصدقهم فهو مصدق) إلا في مراعيها ومواضعها ولا يحشرها. وقوله : لا تعد فاردتكم اي لا تضم الفاردة الى غيرها ثم يصدق الجميع فيجمع بين متفرق الصدقة.

(١) الأريسيون : الفلاحون وقيل : الأتباع.

(٢) الخرص : بالضم ويكسر : حلقة الذهب والفضة.

٧٢

وأجاز رسوله مسعودا بأثنتي عشرة أوقية ونش (١) وبلغ قيصر إسلام فروة ابن عمرو فحبسه حتى مات فلما مات صلبوه ـ قاله ابن سعد.

وفي السنة الثامنة للهجرة بعث الرسول سرية كعب بن عمير الغفاري الى ذات أطلاح من ناحية الشام وهي وراء وادي القرى بين تبوك وأذرعات وكان ينزلها قوم من قضاعة ، ورأسهم رجل يقال له سدوس ، فخرج في خمسة عشر رجلا فوجد جمعا ، كثيرا فدعاهم الى الإسلام فأبوا أن يجيبوا وقتلوا أصحاب كعب جميعا ، وتحامل رجل منهم حتى بلغ المدينة. وفي هذه السنة استنفر الرسول الناس الى الشام فكانت غزوة ذات السلاسل ، والسلاسل ماء بأرض جذام ـ فوجه عمرو بن العاص في ثلثمائة مقاتل ثم استمده فأمده بأبي عبيدة بن الجراح على المهاجرين والأنصار فيهم أبو بكر وعمر في مائتين فكان جميعهم خمسمائة ، والغالب أنهم رجعوا من هذه الغزاة على غير جدوى.

ومن السرايا التي أرسلت الى الشام سرية زيد بن حارثة الى جذام بحسمى وراء وادي القرى مما يلي فلسطين من أرض الشام. وسببها أن دحية بن خليفة الكلبي كان أقبل من عند قيصر وقد أجاره وكساه فسلبه أهل حسمى ، فغزاهم زيد بن حارثة ثم ردّ الرسول عليهم أسلابهم. وفي تلك السنة بعث الرسول جيشا مؤلفا من ثلاثة آلاف مقاتل بلغوا تخوم البلقاء فلقيتهم جموع هرقل ومعهم العرب المتنصرة بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف ، فانحاز المسلمون الى قرية يقال لها مؤتة وجعلوا على ميمنتهم رجلا من عذرة يقال له قطبة بن قتادة ، وعلى ميسرتهم رجلا من الأنصار يقال له عبادة بن مالك ، فلقيتهم الروم في جمع عظيم فقتل من الأمراء زيد ابن حارثة ، ثم جعفر بن أبي طالب ، ثم عبد الله بن رواحة ، فلما فجع المسلمون بثلاثة قواد عظام منهم ، وكان خالد بن الوليد من القواد في ذاك الجيش ،

__________________

(١) النش : وزن نواة من ذهب وقيل : هو وزن عشرين درهما وقيل : خمسة دراهم وقيل : هو ربع أوقية ، والأوقية: أربعون درهما ونش الشيء نصفه (اللسان) ومنه الحديث أن النبي لم يصدق امرأة من نسائه أكثر من اثنتي عشرة أوقية ونش الاوقية : أربعون والنش : عشرون فيكون المجموع خمسمائة درهم.

٧٣

رأى المصلحة أن يعود الى المدينة بمن معه. وكان سبب هذه الغزوة أن النبي بعث الحارث بن عمير رسولا الى ملك بصرى عاصمة حوران بكتاب كما بعث الى سائر الملوك ، فلما نزل بمؤتة عرض له عمرو بن شرحبيل الغساني فقتله ، ولم يقتل لرسول الله رسول غيره. وقيل : إن هرقل نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم وانضمت اليه المستعربة من لخم وجذام وبلقين وبهراء وبلي في مائة ألف منهم.

كانت أخبار الشام عند أهل المدينة كل يوم لكثرة من يرد عليهم من الأنباط (١) فقدمت عليهم قادمة فذكروا أن الروم قد جمعت جموعا كثيرة بالشام ، وأن هرقل صاحب الروم قد رزق أصحابه لسنة ، واستنفر العرب المتنصرة فأجلبت معه لخم وجذام وغسان وعاملة وبهراء وكلب وسليح وتنوخ من عرب الشام (٢) وزحفوا وقدموا مقدماتهم الى البلقاء وعسكروا بها ، وتخلف هرقل بحمص وضرب الروم على العرب الضاحية البعوث. فرأى الرسول إن لم يبدإ الروم القتال بدأوه به ، فأعلم في سنة تسع بالتجهيز لغزو الروم والطلب بدم جعفر بن أبي طالب الذي استشهد في مؤتة في السنة الفائتة. وكان الرسول إذا أراد غزوة ورّى بغيرها إلا في هذه ، لقوة العدو وبعد الطريق والجدب والحر والناس في عسرة. وكان معه ثلاثون ألفا ، والخيل عشرة آلاف ، والجمال اثنا عشر ألفا ، ولقي الجيش حرا وعطشا. وقد أنفق أبو بكر الصديق في تجهيز هذا الجيش جميع ماله ، وأنفق عثمان بن عفان نفقة عظيمة.

خرج المسلمون في غزوة تبوك الرجلان والثلاثة على بعير ، وخرجوا في حر شديد فأصابهم يوما عطش شديد حتى جعلوا ينحرون إبلهم فيعصرون أكراشها ويشربون ماءها ، فكان ذلك عشرة من الماء وعسرة من الظهر وعسرة من النفقة ولذلك سمي جيش العسرة.

__________________

(١) كان الأنباط يقدمون كثيرا الى المدينة في الجاهلية والإسلام يحملون الزيت والدرمك. والدرمك دقيق الحواري.

(٢) ذكر الثقات أنه كان لسبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان واسمه عبد شمس صاحب اليمن عشرة أولاد ، وسكن الشام منهم أربعة وهم لخم وغسان وجذام وعاملة.

٧٤

وبلغ الجيش الحجر أرض ثمود فنهاهم الرسول عن مائة ، ووصلوا تبوك فأقام بها عشرين ليلة ، وسميت هذه الغزوة غزوة تبوك ، ولم يلق المسلمون في هذه المعركة كيدا. وأتى يحنة بن رؤبة أسقف أيلة على البحر الأحمر فصالحه الرسول على الجزية. وكتب له كتابا صورته :

«بسم الله الرحمن الرحيم : هذا أمنة من الله ومحمد النبي ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة أساقفهم وسائرهم في البر والبحر ، لهم ذمة الله وذمة النبي ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر ، فمن أحدث منهم حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه وإنه طيب لمن أخذه من الناس. وإنه لا يحل أن يمنعوا ما يريدونه ولا طريقا يريدونه من بر او بحر. هذا كتاب جهيم بن الصلت وشرحبيل بن حسنة بإذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان ذلك في سنة تسع من الهجرة».

وصالح الرسول أهل جرباء وأذرح من أرض الشراة ، صالح أهل أذرح على مائة دينار، وصالح أهل مقنا على مقربة من أيلة على ثلاثمائة دينار على ربع عروكهم (١) وغزولهم وربع كراعهم (٢) وحلقتهم وعلى ربع ثمارهم وكانوا يهودا ، وكتب إليهم هذا الكتاب : «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله الى بني حبيبة وأهل مقنا سلم أنتم فإنه أنزل عليّ أنكم راجعون الى قريتكم ، فإذا جاءكم كتابي هذا فإنكم آمنون ولكم ذمة الله وذمة رسوله ، وإن رسول الله قد غفر لكم ذنوبكم وكل دم اتبعتم به لا شريك لكم في قريتكم إلا رسول الله أو رسول رسول الله ، وإنه لا ظلم عليكم ولا عدوان ، وإن رسول الله يجيركم مما يجير به نفسه فإن لرسول الله بزتكم ورقيقكم والكراع والحلقة إلا ما عفا عنه رسول الله أو رسول رسول الله ، وأن عليكم بعد ذلك ربع ما أخرجت نخيلكم وربع ما صادت عروككم وربع ما اغتزلت نساؤكم وانكم قد ثريتم بعد ذلكم ورفعكم رسول الله عن كل جزية وسخرة ، فإن سمعتم وأطعتم فعلى رسول الله أن يكرم

__________________

(١) العروك : الخشب يصطاد عليه.

(٢) كراعهم : خيلهم.

٧٥

كريمكم ويعفو عن مسيئكم ، ومن ائتمر في بني حبيبة وأهل مقنا من المسلمين خيرا فهو خير له ، ومن أطلعهم بشر فهو شر له ، وليس عليكم أمير إلا من أنفسكم أو من أهل بيت رسول الله وكتب علي بن أبي طالب في سنة ٩.

وفي السنة الحادية عشرة ضرب الرسول على الناس بعثا الى الشام أيضا وأمر عليه أسامة بن زيد ندبه الى البلقاء وأذرعات ومؤتة ثائرا بأبيه ولأسامة يومئذ ثماني عشرة سنة. وفي رواية أن الرسول أمره أن يوطىء الخيل تخوم البلقاء والداروم ، وأن يبلغ يبنى وأشدود من أرض فلسطين ، وقيل : أمر أن يوطىء من آبل الزيت بالأردن من مشارف الشام ، ودعا الرسول عليه‌السلام أسامة بن زيد فقال : «سر الى موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل ، فقد وليتك هذا الجيش فاغر صباحا على أهل يبنى وحرّق عليهم ، وأسرع السير تسبق الأخبار ، فإن ظفرك الله فأقلل اللبث فيهم وخذ معك الأدلاء وقدم العيون والطلائع أمامك». وبينا الناس يتأهبون للغزاة ابتدأ الرسول شكواه التي قبضه الله عزوجل فيها. وكان يقول في علته : جهزوا جيش أسامة. ثم سار أسامة الى يبنى فشنّ عليها الغارة وقتل قاتل أبيه ولم يصب أحد من المسلمين. وبلغ هرقل وهو بحمص ما صنع أسامة فبعث رابطة يكونون بالبلقاء ، فلم تزل هناك حتى قدمت البعوث الى الشام في خلافة أبي بكر وعمر.

فأول غزوات الشام دومة الجندل والثانية مؤتة والثالثة ذات السلاسل والرابعة تبوك والخامسة آبل الزيت وجملة غزواتهم سبع غزوات. وكلها مقدمات لفتح هذا القطر وأمر قطعي من صاحب الرسالة الى أصحابه بأن يكملوا العمل الذي وضع أساسه بنفسه الشريفة. عن سلمة بن نفيل الحضرمي قال : فتح الله على رسول الله فتحا فأتيته فدنوت منه حتى كادت ثيابي تحس ثيابه فقلت : يا رسول الله سيبت الخيل وعطلوا السلاح وقال : قد نفيل وضعت الحرب أوزارها فقال رسول الله : كذبوا الآن جاء القتال الآن جاء القتال ، لا يزال الله يزيغ قلوب أقوام تقاتلونهم ويرزقكم الله عزوجل منهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك وعقر دار الإسلام بالشام.

٧٦

جيوش العرب وجيوش الروم نصيحة أبي بكر الصديق لقواده :

توفي الرسول عليه‌السلام فارتدت بعض قبائل العرب فقاتلهم أبو بكر الصديق حتى جمع شملهم بالإسلام فلما أمن من ناحيتهم كتب الى أهل مكة والطائف واليمن وجميع العرب بنجد والحجاز يستنفرهم للجهاد في الشام ، ويرغبهم فيه وفي غنائم الروم ، فسارع الناس إليه بين محتسب وطامع فعقد ثلاثة ألوية لثلاثة رجال ، وهم يزيد بن أبي سفيان وشرحبيل ابن حسنة وعمرو ابن العاص. وكان أبو بكر أمر عمرو بن العاص أن يسلك طريق أيلة عامدا لفلسطين. وأمر يزيد وشرحبيل أن يسلكا طريق تبوك ، فقصد الجيش فلسطين في الجنوب وقسم منه قلب الشام.

وكان العقد لكل أمير في بدء الأمر على ثلثة آلاف رجل فلم يزل أبو بكر يتبعهم بالإمداد حتى صار مع كل أمير سبعة آلاف وخمسمائة ثم تتام جمعهم بعد ذلك أربعة وعشرين ألفا. وكان جيش الروم أربعين ومائتي ألف منهم المسلسل للموت والمربوط بالعمائم والفرسان والرجالة ، جمعهم هرقل من أهل الشام والجزيرة وإرمينية ، وولى عليهم رجلا من خاصته وبعث على مقدمته جبلة بن الأيهم الغساني في مستعربة الشام. وأنجد أبو بكر جيوش الشام بخالد بن الوليد من العراق في تسعة وقيل في عشرة آلاف فصار المسلمون ستة وثلاثون ألفا وفي رواية ستة وأربعين ألفا. ويقول سيديليو : إن جيش العرب كان على أكثر تعديل مؤلفا من عشرين ألفا وجيش الروم من ستين ألفا. قال سعيد بن عبد العزيز : إن المسلمين يوم اليرموك كانوا أربعة وعشرين ألفا والروم عشرين ألفا ومائتي ألف عليهم ماهان وصقلان (سقلار).

ومهما كان من تقدير الجيشين فالعرب كانوا أقل من الروم : وتقدير مؤرخي العرب للجيش الإسلامي بستة وثلاثين ألفا ولجيش الروم بزهاء مائتي ألف أقرب الى الصحة ، وهو تقدير معقول لا سيما إذا عرف أنه كان سكان الشام إذ ذاك نحو سبعة ملايين ، وأن العرب على بعد الحجاز عن الشام لا يستطيعون أن يجهزوا أكثر من ذلك لأنهم كانوا يحاربون في جهات أخرى.

٧٧

ولما أنفذ أبو بكر الأمراء الى الشام كان فيما أوصى به يزيد بن أبي سفيان وهو مشيع له : إذا قدمت على أهل عملك فعدهم الخير وما بعده ، وإذا وعدت فأنجز ، ولا تكثر عليهم الكلام ، فإن بعضه ينسي بعضا ، وأصلح نفسك يصلح الناس لك ، وإذا قدم عليك رسل عدوك فأكرم مثواهم ، فإنه أول خيرك اليهم ، وأقلل حبسهم حتى يخرجوا وهم جاهلون بما عندك ، وامنع من قبلك من محادثتهم ، وكن أنت الذي تلي كلامهم ، ولا تجعل سرّك مع علانيتك فيمرج أمرك ، وإذا استشرت فاصدق الخبر تصدق لك المشورة ، ولا تكتم المستشار فتؤتى من قبل نفسك ، وإذا بلغتك عن العدو عورة فاكتمها حتى توافيها ، واستر في عسكرك الأخبار ، وأذك حراسك ، وأكثر مفاجأتهم في ليلك ونهارك ، واصدق اللقاء إذا لقيت ، ولا تجبن فيجبن من سواك.

وقد شيع أبو بكر يزيد بن أبي سفيان راجلا الى ما بعد ربض المدينة فقال له يزيد : إما أن تركب وإما أن أنزل. فقال : ما أنت بنازل وما أنا براكب. إني احتسب خطاي هذه في سبيل الله ثم قال : إنك ستجد قوما حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما حبسوا أنفسهم له يعني الرهبان. وستجد قوما فحصوا (١) عن أوساط رؤوسهم فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف. ثم قال : إني موصيك بعشر : لا تغدر ، ولا تمثّل ، ولا تقتل هرما ولا امرأة ولا وليدا ، ولا تعقرن شاة ولا بعيرا الا ما أكلتم ، ولا تحرقن نخلا ، ولا تخربن عامرا ، ولا تغلّ (٢) ولا تجبن.

وصل الجيش العربي الى مشارف الشام فنزل في آبل وزيزاء والقسطل ، وكان جيش الروم من دون زيزاء بثلث. وطلع ماهان قائد الروم وقدم قدامه الشمامسة والرهبان والقسيسين يحضون جيش الروم على القتال. وكان هرقل وهو من عظام القواد أدرك الخطر ورأى لما أتاه الخبر بقرب جيش العرب أن لا يقاتلهم وأن يصالحهم. وقال لقومه : فو الله لأن تعطوهم نصف ما أخرجت الشام وتأخذوا نصفا وتقرّ بكم جبال الروم خير لكم من

__________________

(١) حلقوا وسطها.

(٢) الغلول : الخيانة في المغنم.

٧٨

أن يغلبوكم على الشام ويشاركوكم في جبال الروم ، فلما رآهم يعصونه ويردون عليه بعث أخاه تيودورا وأمّر الأمراء.

مبدأ الحرب بين العرب والروم :

وأول وقعة كانت بين العرب والروم بقرية من قرى غزة يقال لها داثن (١٢ ه‍) كانت بينهم وبين بطريق غزة فاقتتلوا فيها قتالا شديدا فهزم الروم ، وتوجه يزيد بن أبي سفيان في طلب ذلك البطريق فبلغه أن بالعربة من أرض فلسطين جمعا للروم فأوقع بهم وقتل عظيمهم ، وانتهى إليه أن ستة من قواد الروم نزلوا العربة في ثلاثة آلاف فسار إليهم المسلمون في كثف منهم فهزموهم ، وقتل أحد القواد فصار الروم الى الدّبة فهزمهم المسلمون وغنموا غنما حسنا. وأول صلح كان بالشام صلح مآب. مرّ أبو عبيدة بهم في طريقه فقاتلوه ، ثم سألوه الصلح فصالحهم ، وقالوا : إن أول حرب كانت بالشام بعد سرية أسامة بالعربة ثم أتوا داثن ثم كانت مرج الصفّر ، وأول مدينة فتحت بصرى قصبة حوران.

لما سار خالد بن الوليد من العراق مددا للمسلمين في الشام وقد ضاق المسلمون فيه لكثرة جيوش الروم فتح في طريقه ما اجتاز به من شرق الشام ، مثل أرك ودومة الجندل وقصم وتدمر والقريتين وحوّارين ومرج راهط ، ووجه أحد رجاله الى غوطة دمشق فأغار على قرى من قراها ، وصار خالد الى الثنية التي تعرف بثنية العقاب المشرفة على الغوطة ، فوقف عليها ساعة ناشرا رايته وهي راية كانت لرسول الله تسمى العقاب علما لها. والعرب تسمي الراية عقابا. وأغار على بني غسان في يوم فصحهم.

ثم سار خالد حتى انتهى الى المسلمين بقناة بصرى ، ويقال : إنه أتى الجابية من حوران وبها أبو عبيدة في جماعة من المسلمين فالتقيا ومضيا جميعا الى بصرى. ولما فتحت بصرى توجه أبو عبيدة بن الجراح في جماعة كثيفة فأتى مآب من أرض البلقاء ، وبها جمع العدو فافتتحها صلحا على مثل صلح بصرى ، ثم كانت وقعة أجنادين قرب القدس ، شهدها من الروم زهاء مئة ألف سرّب هرقل أكثرهم وتجمع باقوهم من النواحي

٧٩

فقتل المسلمون منهم مقتلة عظيمة. وقالوا : إن خالد بن الوليد لما جاء بصرى والمسلمون نزول عليها ضايق أهلها حتى صالحهم على أن يؤدوا عن كل حالم دينارا وجريب حنطة. وافتتح المسلمون جميع أرض حوران وغلبوا عليها وقتئذ وذلك في سنة ١٣.

وقعة اليرموك :

أهم وقائع العرب في الشام التي انهزم فيها الروم شر هزيمة ولحق فلّهم بالشمال وقعة اليرموك ـ واليرموك نهر ـ فهي الوقعة الفاصلة التي هان بها الاستيلاء بعد ذلك على القدس ودمشق وما إليها ، ثم على حمص وحماة وحلب وما إليها من البلدان ، وظهر فيها النبوغ العربي في الحرب بأجلى مظاهره. وتبين أن تلك الأمة الفقيرة بمالها ، ليست فقيرة بعقل رجالها. وقرأ العرب على الروم يومئذ درسا من مضائهم وحسن بلائهم ، وأروهم راموزا من تضامنهم واستماتتهم ، وأتوهم بمثال من طيب أخلاقهم وجودة فطرهم ، خلافا لما كان عليه أعداؤهم من الانقسام وتشتت الأهواء والخصام.

«لما قدم خالد بن الوليد مددا للمسلمين في اليرموك وجد العرب يقاتلون الروم متساندين كل أمير على جيش : أبو عبيدة على جيش ، ويزيد بن أبي سفيان على جيش ، وشرحبيل بن حسنة على جيش ، وعمرو بن العاص على جيش. فقال خالد : إن هذا اليوم من أيام الله لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي ، فأخلصوا لله جهادكم ، وتوجهوا الى الله بعملكم. فإن هذا يوم له ما بعده ، فلا تقاتلوا قوما على نظام وتعبئة وأنتم على تساند وانتشار ، فإن ذلك لا يحل ولا ينبغي ، وإن من وراءكم لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا. فاعملوا فيما لم تؤمروا به بالذي ترون أنه هو الرأي من واليكم. قالوا : فما الرأي؟ قال : إن الذي أنتم عليه أشد على المسلمين مما غشيهم وأنفع للمشركين من أمدادهم. ولقد علمت أن الدنيا فرقت بينكم والله ، فهلموا فلنتعاور الإمارة ، فليكن علينا بعضنا اليوم ، وبعضنا غدا ، والآخر بعد غد حتى يتأمر كلكم ، ودعوني اليوم عليكم. قالوا : نعم. فأمروه وهم يرون أنها كخرجاتهم ، فكان الفتح على يد خالد. وجاءه البريد يومئذ بموت

٨٠