خطط الشام - ج ١

محمّد كرد علي

خطط الشام - ج ١

المؤلف:

محمّد كرد علي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة النوري
الطبعة: ٢
الصفحات: ٢٨٨

على حين كانت اللغة اللاتينية تنتشر في أرجاء الغرب انتشارا هائلا.

وبعد انقراض دولة الحثيين في القرن الثامن قبل الميلاد عم اسم آرام بلاد الشام ، فأصبح القسم الأكبر منها يسمى آرام ، وسكانها يدعون بالآراميين وهم الذين اختطوا حلب أو حلبون وعادت اللغة الآرامية الى شيوعها في جهات حلب تمازجها اللهجة البابلية بدليل ما يشاهد في أرجائها من أعلام الأمكنة التي ما زالت تلفظ على أصلها بالفتح الى اليوم ، وسادت اللغة اليونانية بظهور الدولة السلوقية وكانت لغة الخاصة والعلماء ورجال الدولة. ولما تقلص ظلها عادت السريانية الى ازدهارها يخالطها فرعها التدمري الذي انتشر إذ ذاك في سورية الشمالية على عهد سيادة تدمر في صدر النصرانية. ومن الأقلام التي بقيت في لبنان الكتابة الكرشونية وهي عربية بأحرف سريانية وقد كتب كثير من كتب الموارنة بالكرشوني.

انتشار العربية :

هذا ما كان من أمر اللغات السامية واللاتينية واليونانية في الشام. أما اللغة العربية فكان يتكلم بها قبل الفتح الإسلامي بزمان طويل لما ثبت من انتشار الغسانيين والتنوخيين والنبطيين والسبأيين وغيرهم في الشمال والجنوب وكانت حوران والبلقاء والشراة من الأصقاع التي سبقت غيرها في هذه السبيل. بدليل ما يشاهد من أسماء بعض قراها العربية مثل جرش ، جاسم ، تبنة ، أذرعات ، أذرع ، محجة ، السويداء ، البتراء ، نجران ، القسطل ، القناطر ، الحفير ، الخ وذلك لأن هذه الأقاليم الثلاثة كانت أقرب الى الاتصال بالعرب من الجنوب. وكان السابقين الى نشر العربية في ديارنا الوثنيون من العرب أولا ثم نصارى العرب ويرجع اليهم الفضل في نشرها بادىء الأمر ، فلم تلبث اللغة ستين أو سبعين سنة للفتح الإسلامي أن عم انتشارها في الشام ونقلت الدواوين زمن عبد الملك من اليونانية الى العربية ونازعت اللغة العربية السريانية فبذتها على صورة مدهشة ، وإن كان الضعف قد دب في هذه قبل الإسلام. وتغلبت العربية لغناها وسلاستها وضبط قواعدها وشدة احتياج الناس إليها في مصالحهم. قال ابن خلدون : ولما

٤١

هجر الدين اللغات الأعجمية وكان لسان القائمين بالدولة الإسلامية عربيا هجرت كلها في جميع ممالكها ، لأن الناس تبع للسلطان وعلى دينه فصار استعمال اللسان العربي من شعائر الإسلام وطاعة العرب. وهجر الأمم لغاتهم وألسنتهم في جميع الأمصار والممالك وصار اللسان العربي لسانهم حتى رسخ ذلك لغة في جميع أمصارهم وصارت الألسنة الأعجمية دخيلة فيها وغريبة اه.

العربية لغة كاملة وفصاحة الشام :

يقول رنان : من أغرب ما وقع في تاريخ البشر ، وصعب حلّ سره ، انتشار اللغة العربية. فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادىء بدء فبدت فجأة على غاية الكمال ، سلسلة غنية وأي غنى ، متقنة بحيث أنها من ذلك العهد الى يومنا هذا لم يدخل عليها أدنى تعديل مهم ، فليس لها طفولة ولا شيخوخة ، ظهرت لأول أمرها تامة ، ولا أدري إذا كان وقع مثل ذلك للغة من لغات الأرض دون أن تدخل في أطوار وأدوار مختلفة. قال : وما عهدت فتوح قط أعظم من انبساط ظلّ العربية ولا أشد سرعة منها ، فإن العربية ولا جدال قد عمت أجزاء كبرى من العالم ، لم ينازعها الشرف في كونها لغة عامة أو لسان فكر ديني أو سياسي أسمى من اختلافات العناصر إلا لغتان اللاتينية واليونانية ، ولكن أين مجال هاتين اللغتين في السعة من الأقطار التي عم انتشار اللغة العربية فيها.

قلنا : وربما ذهب الشام بفضل هذا الشرف الأعظم ، ولعله سبق العراق ومصر في الأخذ بمذاهب العرب. لقرب أهلها من خطط العرب ولا سيما أهل الحجاز وبعدهم عن بلاد العجم ، حتى إن كتّاب الدولة الأموية استعملوا من الألفاظ العربية الفحلة والمتينة الجزلة ما لم تستعمل مثله الدولة العباسية ، لأن كتّاب الدولة الأموية قصدوا ما شاكل زمانهم الذي استفاضت فيه علوم العرب ولغاتها حتى عدت في جملة الفضائل التي يثابر على اقتنائها. وليست استفاضة لغة العرب في العراق كاستفاضتها في أرض الحجاز والشام. وقال اليزه ركلو : إن أهل دمشق أكثر السوريين عراقة في

٤٢

العربية وذلك لعلاقتهم المتصلة بالتجارة مع مكة واللهجة العربية فيها أجمل من سائر لهجات الشام. وكان محمد عبده يقول : إن الفصح في لغة الشام أوفر مما هي في لهجة مصر.

كيف انتشرت العربية :

وإذا أردنا استقراء الطرق في نشر العربية في الشام لم نرها حاربت لغة القطر الأصلية على رسوخها فيها ، بل سارت في نشرها سير تعقل ، وراعى دعاتها سنن الطبيعة والنشوء ، وعملت قاعدة الانتخاب الطبيعي عملها في اللغة كما عملت في العناصر ، فبقي ما هو مفيد للناس في مصالحهم على اختلاف نحلهم ومللهم. ومنذ عدل في القرن الأول عن اللغة الرومية في الدواوين لم تبرح جميع الحكومات التي تعاقبت على هذه الديار تستعمل اللغة العربية في مفاوضاتها وسجلاتها ، على أن منها الكردي والتركي والشركسي إلا الدولة العثمانية في آخر عهدها فإنها ألغت الديوان العربي من مراكز الحكومات السورية والفلسطينية واكتفت بالدواوين التركية ، وعلى كثرة عنايتها بلغتها في الثمانين سنة الأخيرة لم توفق الى نشرها إلا بين الموظفين فقط ، فكان شأنها هنا شأنها في رومانيا وصربيا وبلغاريا ويونان والبانيا ، أمتد سلطانها عليها قرونا ومع هذا لم تستطع نشر لغتها بين سكانها اللهم إلا بعض ألفاظ شاعت في المصطلحات اليومية. والعرب أجدر من غيرهم بأن يحرصوا على لسانهم وهو لسان مدنية ودين معا ، وأن لا يتخذوا عنه بديلا وهو متأصل في هذه الديار قبل الإسلام.

اللغة الصفوية :

الى الجنوب الشرقي من دمشق في مدخل بادية الشام حول الصقع البركاني المسمى بالصفا ، يعثر الباحث على كتابات كثيرة زبرت على الصخر البركاني والشعب الذي خط هذه الكتابات في القرون الأولى للميلاد هو من أصل عربي ، ولغته من اللهجات العربية ، وخطه من فصيلة خطوط ديار العرب الجنوبية. وبفضل هذه الكتابات تعرف إحدى اللغات التي كان

٤٣

يتكلم بها في بادية الشام قبل الإسلام ، ونقف على مقام رحالة من العرب كانوا على وشك أن ينتقلوا الى اتخاذ البيوت وعيش الحضارة في الشام.أما الصفويون فلم يكونوا أول من قصد الى أرض الميعاد ولا آخرهم ، بل هم وحدهم الذين عرفناهم قبل أن يتحولوا تحولا كليا أي عند ما كان لهم لسانهم وخطهم وأربابهم وعاداتهم. فمن الخطإ الاعتقاد بأن دخول العناصر العربية الى الشام يرجع فقط الى الفتح الإسلامي واختراق المسلمين صفوف الروم في وقعة اليرموك ومهاجمتهم الشام ، ثم انتشارهم في الشرق حتى أواسط آسيا ، وفي الغرب حتى أقاصي شمالي إفريقية ثم الى اسبانيا. هذا الهجوم قد دل على بلوغ دولة العرب غاية مجدها ، فإذا ظهر أن الفتح الإسلامي قد كان من الحوادث الشاذة فهو في الحقيقة نتيجة حركة عادية طبيعية نشأت من اختلاط العرب على الدوام بسكان الحضر ودخولهم أصقاعهم ، هذا رأي دوسو وقال : لا ينبغي أن يفهم من لفظة العرب سكان جزيرة العرب فقط بل إنه يتناول أهل الظعن الذين يطوفون أواسط جزيرة العرب وشمالها وجميع بادية الشام.

الصليبيون ولغاتهم والعربية ولبنان :

وما برحت العربية تتأصل القرن بعد القرن في هذا القطر ، حتى كانت الحروب الصليبية فخشي عليها أن تنازعها الأولية لغات الصليبيين ، خصوصا بعد أن طال مقامهم في أنطاكية والساحل نحو قرنين يتكلمون بلهجات مختلفة أهمها الطليانية والافرنسية. بيد أن اللغة الفرنسية كانت لغة جميع الغربيين النازلين في الشرق ، وكان معظم فرسان الصليبيين من الفرنسيين ومنهم جميع الأسر الحاكمة في الشام ، على أن بعض أمراء الإفرنج من الصليبيين كانوا تعلموا اللغة العربية ومنهم صاحب قلعة الشقيف ، وجاء منهم من ضرب النقود بالعربية مثل أصحاب عكا وصور وبيروت وطرابلس ورسموا عليها حروفا كوفية على شبه النقود الإسلامية ، مع رموز نصرانية كالصليب وآيات من الكتاب المقدس. وأصبح نساؤهم ينتقبن كالمسلمات ويلبسن ثياب المسلمات مثلما كان رجالهن يلبسون ثياب الوطنيين.

٤٤

ثم إن بعض أنحاء لبنان قد تأخرت في التعرب بجملتها حتى القرن الرابع عشر للميلاد فيما قيل ، وقلّ انتشار العربية في أعالي لبنان وظلّ السكان في عدة قرى يتكلمون بالسريانية وذلك لقلة المخطوطات العربية ولا سيما بين الموارنة. وكان أهل بشرّي وحصرون والقرى المجاورة لهما الى قبيل مئة سنة يتكلمون بالسريانية ، كما بقيت الى اليوم ثلاث قرى في جبل قلمون أي سنير وهي جبعدين ومعلولا وبخعة يتكلم المسلمون من أهلها والمسيحيون مع العربية باللغة السريانية ، وسريانيتهم أفصح من السريانية العامة اليوم في آثور والجزيرة والعراق على ما قاله العارفون.

اللغة التركية :

وبينا كان جبل لبنان الشرقي والغربي يحفظان في مغاورهما بقايا اللغة السريانية التي انحصرت في الأديار والبيع ، بعد أن انهزمت أمام العربية ، كانت بعض أرجاء جبال اللكام وما اليها تؤوي من اللغات اللغة التركية او التركمانية. وعند ما رحل الأشرف قايتباي سنة ٨٨٢ ه‍ من مصر الى أقصى الشام كان الأهلون من اللاذقية الى البيرة (بيره جك) يتكلمون بالتركية. قال مؤلف رحلته : وأهل البيرة يتحدثون بالعربي اللطيف أكثر من التركي بخلاف ما تقدم من البلاد ، فإنه من حين توجهنا من اللاذقية والى البيرة لم يكن كلامهم إلا التركي.

ولم نعرف العهد الذي انتشرت فيه التركية في الحدود الشمالية من الشام معرفة أكيدة، والمتكلمون بالعربية في بعض الجهات أكثر من المتكلمين بالتركية. ومن شأن أقاليم التخوم على الأغلب أن تتكلم بلغتين ومنهم من يتكلم بثلاث. ونزول الأتراك في جزء صغير من شمالي الشام أقدم من زمن العثمانيين وربما كانوا من زمن السلجوقيين والأتابكيين. ومدينة حلب برزخ بين الديار العربية والديار التركية. وعلى نحو أربعين كيلومترا من شمالي حلب يقلّ المتكلمون بالعربية وتصبح الأقاليم الى التركية أقرب وتتكلم بعض قرى كليس بالعربية والتركية والكردية ، وجميع السكان عرب من شرق حلب وغربها ، ما عدا بعض قرى من عمل حارم فسكانها من

٤٥

الشركس. وسكان العمق أكراد. وفي قضاء الباب قليل من التركمان والأتراك والأكراد والشركس. وأهل قضاء منبج شركس وفيهم عرب ، وتغلب التركية على أهل عمل الإسكندرونة. ومن أهل أنطاكية من يتكلم بالتركية ومنهم من يتكلم بالعربية. فيصح أن يقال فيهم : إن تركيهم تعرب وعربيهم تترك. وبعض أهالي قضاء بيلان (بغراس) يتكلمون بالتركية وكذلك ناحية أردو ، والعربية غالبة عليهم ، يتكلم نحو نصف سكان مدينة أنطاكية بالتركية ولكن أصولهم عربية على الأكثر وثمانون في المئة من أهل عملها هم عرب لسانا وجنسا ، وهكذا يقال في بيلان وكليس وأردو ، ولا يمكن أن نثبت بإحصاء صحيح أن الأتراك يؤلفون في الشام كتلة واحدة ووسطا واحدا كما أن التركمان والشراكسة والطاغستان والششن والبشناق والأكراد والمغاربة لم يؤلفوا شيئا من ذلك ، وتراهم يتمازجون كلهم بالبوتقة العربية ويندمجون في العرب. شأن سكان فرنسا والمانيا وايطاليا وغيرها من الممالك التي كانت جامعتها لسانها ، ولا يزالون في الحدود وأواسط القطر يتكلمون بغير لغة الدولة التي يظلهم علمها.

السواد الأعظم والعربية :

ليست العبرة ببقعة مخصوصة وإنما هي بمجموع القطر الذي يراد أن تعزى اليه جنسية أو قومية معروفة وإلا فقد لزم من ذلك أن تعد ولاية أذنة اليوم أو جزء عظيم منها عربية لأن نحو مئة الف من سكانها عرب بأصولهم ، ولسانهم عربي على تأصل الدول التركية والتركمانية في صقعهم ، وهم في بعض الأنحاء المتاخمة للشام من جبال اللكام يؤلفون أكثرية السكان. وإذا كان يغلب على بعض سكان الجهة الشمالية من الشام التكلم بلغات متعددة فإن ذلك نتيجة طوارىء تاريخية ودولية ، بل نتيجة حكم الغالب على المغلوب وميل هذا الى التشبه بغالبه. ومن الثابت أن سكان الحدود آخذون أنفسهم بحكم الضرورة بتعلم لغات السكان المجاورين ليتمكنوا من التفاهم وإياهم في المصالح المشتركة المتبادلة ولا سيما الاقتصادي منها كما هو المشاهد في كل مملكة من الممالك. وما الترك في أنطاكية وإسكندرونة إلا مهاجرون

٤٦

مثل مهاجرة السوريين في نيويورك وسان باولو ومن يحاول أن يلبس أنطاكية والإسكندرونة ثوبا تركيا هو كالواقف أمام البداهة ، والأولى أن ينظر إذ ذاك الى عرب مرسين وطرسوس ويردوهما الى الشام. وما هما من حيث الجغرافية واللسان إلا شاميتان. وبعد فإذا أردنا أن نحصي المتكلمين فقط بغير اللغة العربية في الشام بحدوده الطبيعية لا نراهم يزيدون على ستمائة الف من عناصر مختلفة وسط سكان يربي عددهم على سبعة ملايين. والعربية مع هذا تأخذهم فتعربهم وأكثريتهم يهود ثم أرمن وسريان والباقون مسلمون يرون تعلم العربية فرض عين عليهم أو نصارى من أصول عربية يحرصون على لغتهم كما يحرص المسلمون عليها.

رسوخ اللغة :

إذا عرفت هذا فقد ساغ لك أن تقول : إن اللغة العربية دخلت واسعة النطاق الى الشام من الجنوب منذ خمسة وعشرين الى ثلاثين قرنا وزادت بالإسلام رسوخا وانتشارا. ولم يمض القرن الأول حتى استعربت وامتزج العرب الفاتحون والمهاجرون بالسكان من السريان فأصبحوا أكثرية مع الزمن وغلبت على الكافة الصبغة العربية غلبة الانكليزية على أهل كندا والولايات المتحدة الأميركية في القرون الأخيرة. وما أهل كندا وأميركا الشمالية إلا مهاجرة من انكلترا وفرنسا والمانيا وايطاليا وهولاندة واسبانيا والمجر وروسيا وغيرهم من الأمم غدوا أمير كانا بقوميتهم انكليزا بلغتهم ومناحيهم. وليس في الأرض فيما نعلم صقع تكوّن أهله من عنصر واحد وخلا من عناصر دخيلة امتزجت فيه ، بل إن الأمم الكبرى في الغرب وهي خمس أمم أو ست مؤلفة من بضعة أجناس من الناس جمعتها لغة واحدة ، وليس عمر أقدم لسان من ألسنة العالم المتمدن اليوم أكثر من عشرة الى اثني عشر قرنا ، على حين أن عمر العربية في الشام أكثر من ذلك بضعفين على أقل تقدير. وكلما دخل هذا الجسم جسم جديد تلقح به وأدغم في مجموعه فزاده قوة ومضاء.

لم ترسخ اللغتان اليونانية واللاتينية في هذه الديار رسوخ السريانية أولا

٤٧

والعربية ثانيا ، وذلك لأن اليونان والرومان كانوا فيها مستعمرين ولم يكونوا من أهلها كما كان السريان. ومن أجل هذا لم يؤثر حكم الروم والرومان هنا على طول عهدهما في قلب لغة السكان ، بل تعلمها بعض أفراد كما يتعلم بعضنا التركية والفرنسية والانكليرية وغيرها من اللغات التي حكم أهلها الشام أو كانت لنا بأربابها علاقة تجارية أو سياسية أو علمية ، بل كما كان بعضهم يتعلم في القرن الماضي اللغة الطليانية لقلة مدارسنا ومدارس الأمم الأخرى يومئذ.

الشاميون أمة واحدة لسانهم العربية فقط :

قلنا من محاضرة في سكان الشام ولغاته : مهما قيل في كثرة عدد المتكلمين بالفرنسية في بيروت وبالعبرية في القدس وبالتركية في حلب ، ومهما اختلفت درجة العواطف من حيث حب العربية ، فالبلاد عربية صرفة والسكان عرب مهما ضعفوا وضعفت مشخصاتهم. ولا ينسبون الى غير أمهم ولا يدعون إلا لآبائهم. يقولون : إن من تعلم لغة قوم أحبهم فما أحرى أن يحب المرء أولا أرضا أنبتته ، وأهلا تجمعه وإياهم جامعة الوطن والجنس واللسان. نحن في الشام أمة واحدة مهما حاول المحاولون أن يجعلوا بيننا فروقا. والمذاهب ما كانت ولن تكون معيارا في هذا الباب. الماروني والكاثوليكي والأرثوذكسي والإنجيلي والعلوي والإسماعيلي والعبري وغيرهم تربطنا بهم رابطة أجمع من كل الروابط ، رابطة المصلحة الواحدة والوطن المشترك ، وقرابة الجنس وأواصر اللغة.

إن كنت أحب بيتي فما أولاني أن أحب سكانه. إن كنت لا أرى عدتي في شدتي ، غير أمتي ، فما أحراني أن أرعى ذمامها ، وأحمي مشخصاتها ، وأول المشخصات في شعب هو لغته. ومعظم الأمم الحديثة تكونت تحت رايتها ، وسادت وشادت بتأثيرها. من اللغات يا قوم ما لا ينطق به أكثر من بضعة ملايين كالدانيمركية والسويدية والفنلندية ، مع هذا تجد بين أبنائها ـ من الصلات على اختلاف في المذهب ـ ومن التناغي بحب قوميتهم ما لا يقلّ عن تغالي الانكليزي والالماني والفرنسي والطلياني

٤٨

والسلافي بحب لغته وقوميته وهو ابن أمة عظيمة.

ليست العربية من اللغات الميتة حتى يزهد بعض أبنائها فيها. بل هي لغة سبعين مليونا من البشر نازلين في أجمل أقطار الأرض في إفريقية وآسيا ، ولسان ديني لثلثمائة وخمسين مليونا من المسلمين. ولسنا معاشر أهلها دون ارقى أمم الحضارة الحديثة بعقولنا وذكائنا فتاريخنا موضع الدهشة على توالي الأحقاب ، وإنا إذا عرانا بعض الضعف فقصرنا عن اللحاق بالسابقين ، لا نلبث بتماسكنا وتفانينا بحب قوميتنا ولغتنا أن نساوي غيرنا قريبا. وكم من أمم عراها أكثر مما عرانا من ضعف الملكات ، وضياع المقدسات والمشخصات ، فنفضت عنها غبار الخمول يوم صحت إرادتها على أن لا تموت بصنعها ، وقامت تجادل وتجالد في معترك المدنية فأتت بالعجب العجاب.

نحن أهل الشام أمة واحدة ، ولا خير لأبناء الوطن الواحد إلا من أنفسهم. فقد نزح عنا منذ سبعين سنة الى أميركا وغيرها نحو مليون من أبنائنا وما زلنا معاشر السواد الأعظم هنا نهتم لهم أكثر من اهتمامنا لأمة لا تربطنا بها جامعة اللسان والجنس. وهم على شاكلتنا يهتمون ببلادهم ولغتهم وما يقوّمها. وما ننس لا ننس يوم كانت اللغة العربية يحفظ تراثها في الأعصر الأخيرة في بيع لبنان وأدياره ، أكثر من حفظه في جوامع دمشق وحلب ومدارسهما ، ويوم كان في اللبنانيين الغيورون على مجدها العالمون بما يصلحها الساعون الى نشرها.

لا يفلح قوم لا يتساندون. وكل شعب وضع قوميته في الذروة العليا من الكرامة يوقّر ويبجّل. ومن لي يوم الكريهة غير حمى أخي وجاري ألجأ اليه. المرء كثير بأخيه ، ولن تضام أمة عرفت نفسها. نحن عرب قبل أن نكون مسيحيين ومسلمين ، نحن شاميون قبل أن نكون أمويين وعباسيين وسلجوقيين وعثمانيين.

سعادتنا مناط الاحتفاظ بأصولنا ، ولا تمثلنا إلا قوميتنا ، وأعظم قوة لها لغتنا ، والسلام.

٤٩

تاريخ الشام

قبل الإسلام

أول شعب غزا الشام والحثيون والكنعانيون :

ذكر أهل الأخبار والسير أن الشام كانت يوم عرف تاريخها مغشاة بالأشجار ، ولا سيما في اللبنانين الغربي والشرقي ، فجاءها من بلاد أشور رعاة نزلوا القسم الشمالي منها وما زالوا يتقدمون في فتوحهم حتى بلغوا معظم سواحل الشام واستولوا على عكا. وانقسم هؤلاء الرعاة واسمهم عمو أي الشعب الى قسمين : قسم أقام على تربية الماشية في السهول ، واحترف القسم الآخر بالاحتطاب في الجبال ، أو بالصيد على شواطىء البحر وضفاف الأنهار ، وقيل : إن ذلك كان في القرن السادس عشر قبل الميلاد ولعله يرد الى أكثر من خمسة آلاف سنة ، ولم يعرف من كان سكان القطر يومئذ. والغالب أن من أقدم الشعوب التي استولت على الشام الحثيين في الشمال والكنعانيين في الجنوب. والحثيون لم يعرف عنهم إلا أنهم كانوا وراء جبال طوروس بادىء بدء يسكنون الحوض الأعلى من نهري الفرات وقزل ايرمق خضعوا أولا للكلدانيين ، ثم توسعوا في ملكهم ، واستولوا بقيادة ملكهم سابا لولو على الشمال ، وامتدوا الى وادي العاصي فاستصفوه برمته ، وبنوا مدنا مثل كركميش (جرابلس) على الفرات وقادس على العاصي ، وربما كانت مدينة حلب أيضا من بنائهم. وفي رسائل تل العمارنة التي وجدت في صعيد مصر بيان واف في الجملة لحالة هذه الدولة الحثية

٥٠

التي حاربت فراعنة مصر أربع عشرة سنة فلم يظفر بهم الفراعنة حتى جاء ستي الثاني فحاربهم وقهرهم.

كان الكنعانيون ينزلون في جنوب الشام وفي وسطه. ونسبتهم لكنعان جد القبائل التي سكنت غربي الأردن ، قتل الإسرائيليون أكثرهم واستعبدوا معظم من لم يقتل منهم. وكانت حدود أرض كنعان الأصلية من مدخل حماة شمالي لبنان الى البادية ، ولم تمتد الى ساحل البحر لأن الفلسطينيين ما زالوا الى أن انقرضوا يسكنون ذلك الساحل ، وقد سكن أرض كنعان عدة أسباط ورد ذكرهم في التوراة كالحثيين واليبوسيين والأموريين والجرجاشيين والحويين والفرزيين والعرقيين والسينيين والارواديين والصماريين والحماثيين. وكان في أرض كنعان ١١٨ أو ١١٩ مدينة ورد ذكرها في جدول عثر عليه في هيكل الكرنك من صعيد مصر يظن أنها المدن التي افتتحها تحوتمس الثالث من ملوك الفراعنة قبل أيام يشوع.

وفي معجم لاروس أن أرض كنعان أو بلاد كنعان يحدها من الغرب البحر المتوسط ، ومن الشرق نهر الأردن ، ومن الشمال خط آخذ من الأردن الى البحر ، ومن الجنوب خط يسير من البحر الميت الى البحر المتوسط. وفي التوراة أن المولى تعالى وعد بني إسرائيل بهذه الأرض ومن ذلك جاء اسمها أرض الموعد. وفي أسفار موسى وسفر يشوع أن بني إسرائيل استولوا دفعة واحدة على هذه الأرض بقيادة يشوع ، ولكن تبين من الوثائق التي عثر عليها أن الأمر لم يكن كذلك وأن فتح أرض كنعان لم يكن بهذه السرعة تاما كاملا على ما جاء في التوراة ، فقد تمكن بنو إسرائيل من الاستقرار بصورة دائمة بالحرب والحيلة على هذه الأرض التي كان يسكنها قبائل مستضعفة من اليبوسيين والجرجاشيين والفرزيين وغيرهم من أصل كنعاني أو أموري حتى خراب مملكة يهوذا على أيدي الكنعانيين في سنة ٥٨٨ ق. م.

تعدد الحكام والحكومات :

وعلى كثرة عناية علماء النصرانية بتاريخ الأرض المقدسة أو فلسطين أو

٥١

أرض إسرائيل أو أرض الموعد لم يبرح تاريخها غامضا بعض الشيء لقلة المصادر التي يركن إليها وأكثرها أشبه بتقاليد وأساطير منها بتاريخ. وهكذا يقال فيما عرف من تاريخ وسط هذا القطر وشماله في العهد القديم. وكان أكثر إماراته مستقلا متعاديا شأن الشطر الجنوبي منها. وإذا لم تكن البلاد كما قال بوست تحت حكم القضاة والملوك حكومة واحدة كثرت فيها التغيرات وتعددت القضاة كشمشون وجدعون ويفتاح الى أن اجتمعت كلمة شعب إسرائيل على إقامة ملك ، ولما انقضى ملك سليمان وقام ابنه رحبعام انقسمت المملكة الى مملكتين مملكة إسرائيل ومملكة يهوذا ، وبعد أن تقلبت الأحوال على هاتين المملكتين أخذتا بالانحطاط الى أن سبى الأشوريون الإسرائيليين والبابليون يهوذا. وجملة الزمن الذي مضى من ملك داود الى سبي بابل نحو خمسمائة سنة.

الفراعنة والأشوريون :

كانت الشام بين عاملين بل بين سلطانين قويين العامل ، الأول دولة الأشوريين والبابليين إذا قويت إحداهما يمتد سلطانها على الشام أو تكتفي من أهله بالجزية وتجنيد بعضهم. وإذا كانت القوة لفراعنة مصر حكموا الشام أو اقتنعوا من سكانها بالجزية وبعض الجند. وقد ظلت الشام تابعة لمصر وأحيانا كانت تبعيتها اسمية نحو أربعة قرون. فقد فتحها تحوتمس الأول وتحوتمس الثالث ، وفي أيام تحوتمس الأول تجلت حدود الشام على الفرات. وظل الشام في حكم الفراعنة الى عهد رعمسيس الخامس. ولما خلص من المصريين داهمه الأشوريون فاستولوا عليه واعترف الشام كله بسلطة أشور وتجلت سلطة الشام على عهد تغلت فلاسر ، وكان المصريون يحتلون بعض القلاع مثل غزة ومجدو (تل المتسلم) في الداخل وجبيل وصيدا في الساحل على ما ثبت ذلك بالآثار.

كان الفراعنة على الأرجح يداهمون الشام من طريق صحراء التيه والجفار لقلة سفنهم بسبب قلة الأشجار عندهم كما هي قليلة في وادي دجلة والفرات ، وربما كان وجود الأشجار في الشام من جملة الأسباب التي حملت

٥٢

أهل بابل وأشور ومصر على مد سلطانهم على الشام. قال أحد الباحثين : كانت الشام في الألف الثالثة قبل المسيح يقطنها خليط من سكان ساميين وهم العموريون والحثيون وهم غير ساميين فهجموا على بابل. وفي أوائل الألف الثانية هجم الساميون من سكان الشام وربما كان بإيعاز الحثيين على مصر وحكموها ، وهذا العهد هو عهد الرعاة (الهيكسوس). وما برح ملوك الأشوريين والكلدانيين في القرون الأخيرة يحسنون صلاتهم مع الفراعنة ويرضون بسلطانهم الضئيل على الشام ، حتى ثارت الفتن في مصر فاغتنم ولاة الشام من عمال الفراعنة هذه الفرصة وخرجوا عن الطاعة ، وجمع أحد رؤساء الحثيين قبائله وأسس دولة قوية الشكيمة وقاتل المصريين ، فلم يكتب لرعمسيس الأول وستي الأول من الأسرة التاسعة عشرة تقويض دعائم تلك الدولة ، بل إن رعمسيس الثاني المعروف عند اليونان باسم سيزوستريس اضطر بعد حرب عشرين سنة الى الرضا بما وقع وعامل ختسارو أمير الحثيين معاملة الأكفاء والأقران. ومن ذلك الحين زال حكم مصر عن فينيقية والشام الجنوبي وقامت في الشمال دولة مستقلة فاصلة بين مصر وأشور ، وكان ذلك في حدود سنة ١٣٥٠ ق. م ..

ضعفت دولة الحثيين وعادت أشور تقوى بملوكها على الأطراف أمثال سالامنزار وتغلت فلاسر وسنحاريب يغيرون على الشام فيلقى منهم المصائب وكانوا يريدون إخضاعه ليكون لهم مجازا الى الاستيلاء على تجارة مصر والحبشة وليبيا (طرابلس وبرقة) والبحر الأحمر والمتوسط. ولما سقطت نينوى سنة ٦٠٥ ق. م. وفي رواية سنة ٦١٢ باستيلاء ملوك المملكة الكنعانية الثانية خضع الشام زمنا قليلا للفراعنة ثم عاد بعد انهزام نيخو وخلفائه الى سلطة ملوك بابل ، وكان العهد الكنعاني عهد الخراب والدمار لأن بخت نصر ملك الكلدان فعل في بيت المقدس (٥٨٦ ق. م.) أفعالا مدهشة من الهمجية وأجلى بني إسرائيل الى بابل. ولما غلب بخت نصر فرعون مصر على كركميش استولى على كل ما كان لهذا الملك بين النهرين والشام وأخذ أورشليم وسبى بعض أهلها وساق الأسرى الى بابل من اليهودية وفينيقية وسورية ومصر. واليهودية اسم جزء من فلسطين سكنه الراجعون من

٥٣

سبي بابل وسميت في العهد القديم يهوذا ، وفي العهد الجديد قد تطلق اليهودية على جميع فلسطين وعلى بعض أرجاء شرقي الأردن ، ويرى المحققون أن اليهودية كانت تشتمل غربي الأردن وجنوبي السامرة.

الفينيقيون واستقلالهم التجاري :

ولم تكن مملكة إسرائيل بعمرانها وقوتها مثل مملكه فينيقية الصغيرة التى قامت في أرض الشام واشتهرت أكثر من غيرها من الدول الشامية ، لأنها كانت دولة بحرية على جانب من الحضارة المقتبسة عن المصريين والأشوريين والبابليين ، ومعرفة زائد ، بطرق البحار والتجارة في القاصية ، فكان الفينيقيون في عهد عظمتهم كالبنادقة في القرون الوسطى ببحريتهم واتساع تجارتهم ، أو البريطانيين في القرنين الأخيرين بأساطيلهم وتجاراتهم ، مع مراعاة النسبة بين الأقطار والعصور.

والفينيقيون من القبائل السامية التي نزلت أرض آرام أي الشام ، وإقليمهم ضيق النطاق طوله خمسون فرسخا وعرضه من ثمانية الى عشرة فراسخ بين بحر الشام وأعلى سلسلة في جبل لبنان ، وتدخل فيه صور وصيدا وأرواد وجبيل وبيروت ، ومنهم من أدخل فيه البترون وطرابلس. ولم تكن فينيقية مملكة قائمة برأسها بل كان لكل ناحية مدينة صغيرة تستقل بها ، ولها مجالس وملك تحكم نفسها بنفسها ، وتبعث بنوابها الى أعظم مدينة فينيقية لفض المصالح المشتركة. وكانت صور محط رحال النواب منذ القرن الثالث عشر ، ولما لم يكن الفينيقيون أمة حربية خضعوا لسطوة الفاتحين من المصريين والأشوريين والبابليين والفرس وأدوا اليهم الجزية عن يد وهم صاغرون.

هذا رأي سنوبوس وقال مسبيرو : إن تحوتمس الثالث تعب في إخضاع بعض الفينيقيين وقد استكانت مدائن الوسط والجنوب وهي جبيل وبيروت وصيدون وصور من غير قتال ، وأخلص أهلها الطاعة لمواليهم الأجانب الى ما بعد رعمسيس الثاني وكان هذا عين الحكمة والصواب. فقد ترتب على رضاهم بالعبودية أن توصلوا الى احتكار جميع تجارة مصر مع أمم آسيا والبحر المتوسط ثم نالوا استقلالهم في أواسط القرن الثاني عشر قبل

٥٤

الميلاد لما كفّ فراعنة مصر عنهم. ولكن حدث في حدود سنة ١٢١٠ ق. م أن أقلع من عسقلان أسطول فلسطيني ولقي أسطول صيدا فدمره فانتقلت العظمة الى صور. ولما ملكها حيرام الأول (من سنة ٩٨٠ ـ ٩٤٦ ق. م) عقد مع داود وسليمان علاقات عادت على مملكته بالثروة والرخاء.

قال : ثم ظهر الأشوريون على الفينيقيين ورضيت صور بدفع الجزية لهم ، ثم قام ملكها إيلولي (من سنة ٧٢٨ الى سنة ٦٩٢) فحارب شلمناصر الثاني وسرجون وسنحاريب حروبا انتهت بهلاكه وانقراض دولته ، فتبعت فينيقية الأشوريين ، ولما سقطت نينوى عاد اليها استقلالها ففازت من دفاع بخت نصر بمعاونة الفراعنة الصاويين ، واحتملت الحصار ثلاث عشرة سنة وحدثت في فينيقية ثورات في أوقات مختلفة فقمعت وفي سنة ٥٥٧ أعيدت للكلدانيين ، ولما خربت بابل سنة ٥٣٨ دخلت صور في قبضة الفرس من غير حرب ولا قتال. ومن أهم الأسباب التي حالت دون الفينيقيين وتأسيس مملكة ضخمة مؤلفة أولا من جميع أصقاع الشام ثم من الأقطار المجاورة صعوبة التوغل في الديار الشامية لما فيها من العقاب والشعاب ، وهم في قلة وغيرهم في كثرة ، فصرفوا نظرهم الى البحار وكانوا أعظم تجار وسفّار.

حروب الفرس والإسكندر :

تخلصت الشام من عوامل كثيرة كانت تتنازعها ، منها ما هو داخلي كالفتن الأهلية والحروب الداخلية. ومنها ما هو خارجي كأن يحكمها المصريون تارة والأشوريون او البابليون أخرى ، ولما تراجعت هذه الأمم قامت دولة الفرس فاستولت على الشام وكانت دمشق وحماة وارفاد أهم مدنها. ولما فتحها تغلت فلاسر سنة ٧٣٣ ق. م عاد الفرس ففتحوها على عهد كسرى.

وعلى عهد دارا من ملوك الفرس جعلت صيدا عاصمة القطر وما برح في قبضة الفرس الى سنة ٣٣٣ وقد اجتاز به الإسكندر المكدوني بعد أن قرض مملكة فارس وأباد بين الإسكندرونة وجبال اللكام (امانوس) جيش دارا ملك الفرس وأخرب مدينة صور بعد أن حاصرها سبعة أشهر (٣٣٢). وكان بخت نصر حاصرها ثلاث عشرة سنة (٥٨٦ ـ ٥٧٣) ولم يستطع

٥٥

فتحها. واستبسل الصيداويون وعرضوا أنفسهم للهلاك مرات في حصار الإسكندر صور ، وعمل الإسكندر سدا وبدونه كان يتعذر الدنو من البلد لبعدها عن اليابسة ، وبعث السامريون له بثمانية آلاف رجل نجدة ، وأبى اليهود الخضوع له بادىء بدء. وفي سنة ٣٥١ ق. م خربت صيدا عقيب انتقاضها على ملك فارس وقتل وحرق فيها أربعون ألف نسمة.

ولما انخذل دارا في وقعة ايسوس على خليج الإسكندرونة الى الشمال منها ، وقع الرعب في قلوب الفينيقيين والسوريين فدان أكثرهم للإسكندر طائعين ، ولما وصل الى جبيل تلقاه أهلها بالبشر والحفاوة. وكان الإسكندر قد أرسل برمنيون الى دمشق ليستحوذ على خزائن دارا التي أرسلها اليها لما سار الى قيليقية لحرب الإسكندر فاستولى عليها وكان فيها من الذهب والفضة والآنية والحلي والحلل الثمينة ما لا يعد ولا يوصف ، فضلا عما كان لبعض أعيان الفرس في دمشق من المتاع والأموال. وخربت الديار التي استولى عليها الإسكندر بأيدي الفرس ، وكان من عادتهم أن يحرقوا المدن والقرى قبل أن تسقط في أيدي عدوهم.

دولة السلاقسة وملك الأرمن :

ولما هلك الإسكندر اقتسم المملكة قواده الأربعة المعروفون بالسلاقسة فكانت الشام من حصة سلوقس. وكان من أشهر مدن مملكته أنطاكية التي جعلها عاصمته وسلوقية (السويدية) وأفامية (قلعة المضيق) واللاذقية. واستولى بطلميوس والي مصر من دولة البطالسة على أرض اليهودية وفينيقية وجزيرة قبرس والمدن الساجلية من الشام. وفتح انتيغونس من خلفاء الإسكندر صور ويافا وغزة ، ولم يفتح صور إلا بعد حصارها خمسة عشر شهرا. تعاصت عليه مع أنه لم يكن مضى على فتحها سوى تسع عشرة سنة ، فأعادها أهلها الى حصانتها الأولى وعادت قطب التجارة في الشرق والغرب. وجدّ بطلميوس في صنع أسطول له في جبيل وطرابلس. وجرت وقعة مهمة بين بطلميوس وسلوقس وبين ديمتريوس انجلت عن خمسة آلاف قتيل وثمانية آلاف أسير من جيش ديمتريوس ، ولما رأى بطلميوس أن ليس

٥٦

في قدرته محاربة انتيغونس عاد الى مصر وهدم قلاع عكا ويافا والسامرة.

كانت الدولة السلوقية اليونانية دولة حرب ونزاع ، فغدت الشام في حالة بؤس ونحس، رومية تطالبها ببسط سلطانها عليها ، ومصر تحاربها لتضمها اليها ، وأهل فارس يجتاحونها ، حتى قررت لهم السيادة الإسمية عليها ، فمنيت الشام بضعف الحال وقلة الرجال ، وضاق ذرع الشاميين بالحروب المتصلة بين ملوكهم من اليونان وعسفهم وإعناتهم وانقساماتهم وقتلهم أولادهم وأبناءهم وإخوتهم ، فعزموا أن يختاروا ملكا عليهم من الأجانب فكتبوا الى تغران ملك ارمينية وأرسلوا اليه وفدا يفضون اليه بما عزموا عليه ويكاشفونه في قبوله ، فأجابهم الى طلبتهم وأتى الشام سنة ٨٣ ق. م ولبس تاج ملكها واستمر ملكه فيها ثماني عشرة سنة الى أن جاءها الرومان سنة ٦٥ ق. م واستخلصوها منه.

دولة الرومان :

كان بومبيوس أول قائد روماني استولى على الشام وجعله ولاية رومانية وجعل أنطاكية عاصمتها. ولم تنجح الشام لقربها من البارثيين على نحو ما كان من سائر أقطار المملكة الرومانية. ثم انفصلت مدة عن رومية أعطاها أنطونيوس الى أحد أولاد الملكة كلوبطرا ، وعادت فضمت الى مملكة الرومان على عهد الامبراطور أغسطس ، وتنقلت بها الأحوال الإدارية على عهد الامبراطورين فيسباسين وأدريانوس. ولم تكد تطمئن من ناحية البارثيين بفضل الوقائع التي كتب فيها النصر للقائدين تراجان وسبتيم سيفير وانتظمت حالها وانبسط ظل عمرانها وقام منها امبراطرة شاميون قبضوا على قياد المملكة الرومانية من عهد الأمبراطور سبتيم سيفير الى إسكندر سيفير حتى كان من عهد تأسيس مملكة الفرس الثانية على انقاض مملكة البارثيين ما جلب المصائب والنوائب لو لم يقم امثال القواد أدريانوس وديوكلسيانوس ويوستنيانوس ويردوا تلك الغارات.

ذكر مومسن أن البدو واليهود والنبطيين كانوا على عهد بومبيوس الروماني أصحاب السلطان في الشام ، فإن الصحاري الرملية الجافة التي

٥٧

لا تسكن من حدود شبه جزيرة العرب آخذة في الغرب الى جبال الشام والشواطىء الواقعة من الجهة الشرقية الى البادية من الفرات الأسفل المخصبة. هذه الصحراء لم تبرح موطن أبناء إسماعيل العرب ، ينصبون فيها خيامهم ويرعون أنعامهم ويطاردون على خيولهم المطهمة القبائل المعادية لهم أو يغزون التجار الآتين مع القوافل. ولما كان الملك تيغران قد أخذ بأيدي أبناء البادية لحاجته اليهم في التجارة اهتبلوا الغرة في هذا الاضطراب الذي جعل أمور الشام فوضى ليتوسعوا في الشمال ، وكان للقبائل القريبة من الشام ممن كانوا على شيء من الحضارة القدح المعلّى في هذا الشأن.

وكان زعماء قبائل البادية أشبه بعصابات منفردة يساوون أبناء البادية ويفوقونهم في قطع الطرق والإضرار بالسابلة. وهكذا شأن بطلميوس بن مينوس ، وربما كان أقوى هؤلاء اللصوص وأغنى أهل عصره. وكان يحكم إقليم الإيطوريين ، أي الجبليين ، وهي كور الدروز اليوم في أودية جبل لبنان ، وحكمه نافذ من الشطوط الى بعلبك ، وهكذا حال ديونيزوس وكنيراس صاحبي مدينتي طرابلس وجبيل. ومثل ذلك كان شأن اليهودي سيلاس في قلعته على مقربة من أفامية على العاصي.

مملكة يهودا وانقراض اليهود :

حاول اليهود في جنوبي الشام توطيد سلطانهم السياسي ، فأنشأ المكابيون وهم يهود يحترمون عبادتهم ويقدسونها ، حتى توصلوا بذلك الى إنشاء مملكة وراثية ، جمعت الى الرئاسة الدينية الرئاسة الدنيوية ، ثم فتحوا كورا في الشمال والشرق والجنوب. ولما مات الشجاع جاني الكسندر سنة ٦٧٥ كانت مملكة يهودا ممتدة نحو الجنوب الى جميع أرض الفلسطينيين حتى التخوم المصرية ، ونحو الجنوب الشرقي الى مملكة النبطيين في البتراء ، والى الجنوب الى ما وراء السامرة والمدن العشر الى بحيرة طبرية. فكانت الشواطىء بأيدي اليهود من جبل الكرمل الى العريش وفي جملتها مملكة غزة. وكانت عسقلان مدينة حرة. وأصبحت مملكة اليهود مرافىء حرة للصوص البحار بعد أن كانت مفصولة عنها فيما غبر من الأيام.

٥٨

ولذلك اضطهد الرومان اليهود كثيرا فنالهم في أيام هيرودس من الاضطهاد وإهراق الدماء ما نالهم ، وفي أيام فلورس الوالي الروماني لحقهم في كثير من مدن فلسطين ضروب الأذى والقتل. ونكل السوريون باليهود عملا بإشارة الوالي الروماني. وأحرق الرومان أورشليم ودمروا المدن وسبوا اليهود وثار هؤلاء على الرومان سنة ١٣٢ فقتل الرومان منهم ٥٨٠ ألفا وأحرقوا ودمروا تسعمائة قرية عدا الحصون ، وأسروا كثيرا منهم بعثوا بهم الى رومية حتى انقطعت شأفتهم من فلسطين مدة خمسة عشر قرنا.

قالوا : لما دخل المسلمون أرض اليهودية لم يجدوا يهودا لأن حروب فسباسين وتيطس وتراجان وأدريانوس واضطهادات ملوك النصرانية لم تترك حجرا على حجر من اليهودية السياسية والوثنية ، أمعنوا في القضاء عليها وذروا رمادها في الرياح الأربعة ، ففقدت في فلسطين جميع التقاليد اليهودية وجماع اليهود الذين تراهم هم من الطراء على فلسطين مؤخرا نزلوها بعد أن بادوا منها مدة خمسة عشر قرنا.

الإيطوريون والنبطيون :

ذكر مومسن في كلامه على الاضطرابات والمنافسات بين الرؤساء في الشام أن المدن الكبرى مثل أنطاكية والسويدية ودمشق هي التي كان ينالها الأذى من جراء ذلك ، فيصاب الزراع بزراعتهم ، والتجار بتجارتهم البرية والبحرية. ولا يستطيع سكان جبيل وبيروت حماية حقولهم وسفنهم من هجمات الإيطوريين وكانوا استولوا على اللبنانين الشرقي والغربي ونزلوا فينيقية وجعلوا عين جر (عنجر) عاصمتهم الأولى ، ثم اتخذوا طرابلس عاصمتهم الأخرى ، وغدوا يطيلون أيدي التعدي على البر والبحر من حصونهم العالية. ويحاول سكان دمشق أن يدفعوا عن أنفسهم عادية الإيطوريين والبطالسة ، وذلك بخضوعهم لملوك القاصية مثل النبطيين واليهود. وتدخل سامسيكراموس وازيوس في أنطاكية في الخلافات المدنية بين الوطنيين فأصبحت هذه المدينة اليونانية عاصمة أمير عربي.

خضع سكان دمشق للنبطيين أصحاب البتراء أو سلع لأنهم أصبحوا

٥٩

أصحاب الحول والطول في الشام ومصر لما دب فيهما من الضعف نحو سنة ١١٠ الى ١٢٠ ق. م. بالحروب المتأصلة. وقد كان النبط يغيرون على أرض مصر والشام بعصاباتهم فحاربوا الأدوميين وأسسوا ملكا بالبتراء. ولم تبرح دمشق ملكا للنبطيين والأولى أن يقال : إن هذه المدينة أعطاها كاليجولا الروماني الى الحارث صاحب البتراء (٨٥ ق. م) وتراجع أمر النبطيين بسرعة على عهد مالتوس الثاني نحو سنة ٤٨ الى ٧٠ ق. م فأضاعوا دمشق. ثم فقد النبطيون استقلالهم في سنة ١٠٥ م عقيب حملة كرنيليوس بالما حاكم الشام الذي استولى على البتراء ، وأصبحت جرش الى سنة ١٦٢ خاضعة لولاية الشام ثم للبتراء ، ثم ضمت فينيقية الى الشام. وكانت لمملكة النبط القديمة بلدتان مهمتان بصرى والبتراء.

وروى بعضهم أن بومبيوس لما فتح الشام واستولى على دمشق وما جاورها أبقى لهذه العاصمة بعض استقلالها وكذلك لبصرى وجرش وعمّان ، وبعد فتح البتراء وجعلها ولاية رومانية غدت بصرى عاصمة حوران مقر الفيلق فعمرت الأقاليم وكانت ميدان السلب والنهب من قبل ، وازدانت المدن بآثار تدهش خرائبها وأطلالها. وغزا أنطوخيوس النبطيين سنة ١٣٢ ق. م فلم ينل منهم ثم حاصرهم ديمتريوس.

كانت مملكة النبط على عهد المكابيين ممتدة بين فلسطين وخليج العقبة ووادي الحجر والبحر الرومي ، وهي عبارة عن مملكة أدوم قديما ويسميها اليونان مملكة العرب الحجرية وعاصمتها مدينة سلع أو البتراء في وادي موسى ، وسماها بعضهم مدينة الرقيم ظنا منه بأنها مدينة أصحاب الكهف. واسم البتراء أقرب الى الاسم الذي عرفها به اليونان وإن كانت البتراء على ما ورد من وصفها في كتب العرب هي في أرض الحجاز. قامت هذه الدولة العربية على حين غفلة من دولة البطالسة والسلاقسة في مصر والشام وقوى سلطانها في القرن الثاني قبل الميلاد. ولقب الحارث الثالث نحو سنة ٨٥ بمحب اليونان وهو الذي فتح البقاع سنة ٨٥ واستولى الحارث الرابع على دمشق وفي أيامه حدث المصافّ الأول بينه وبين الرومان فاضطر الحارث أن يؤدي اليهم الجزية. واضطر النبطيون على عهد الامبراطور بومبيوس

٦٠